النساء في تشرين.. أكنا "راديكاليات" بما يكفي؟
01 تشرين الأول 2022
دفعت النساء في تظاهرات تشرين إلى أدوار ثانويّة بشكل تلقائي تماهياً مع الأدوار التي تربى عليها الذكور والأناث، أجّلن أجنداتهن وقضاياهن، وكان هذا خطأ وعلينا الآن مراجعته
السماعة أمامي والنساء إلى جانبي وخلفي. الخيمة فوقي، والكاميرات حولي. الشمس تضرب رؤوسنا بأشعتها القويّة، والصوت القوي الغاضب المبحوح يخرج من حلقي. كنا نترحم على شهداء انتفاضة تشرين، ونطالب بمحاسبة القتلة والفاسدين، وتشريع قانون العنف الأسري عسى أن نحمي نساءنا من عذاب كونهن إناثاً فحسب.
كان ذلك في الأوّل من تشرين الأول عام 2020، وسط ساحة التظاهرات في مدينة الكوت. كانت تلك اللحظة وساماً لم يفارق صدري، لكنها أيضاً وصمة لم تفارق جبيني.
عُدت إلى المنزل ولاقى البيان الذي ألقيته في الساحة صدى واسعاً أدى إلى غضب في واسط، مدينتي. لم يلاقِ أي بيان قبله هذا الهجوم، إذ نعتنا نحن المتظاهرات بالعاهرات، بنات الخيم، سافلات.. وأوصاف لم أسمعها من قبل. امتد الهجوم ليطال عائلتي ويصل إلى مسامعهم.
اضطررت، بعد ذلك، إلى مواجهة أخي الذي كان يشاهد سمعتي كامرأة تنهار أمامه. قال “وإن كان معك الحق لكنك امرأة في هذا المجتمع”، ثم أكمل “النساء لا يمتلكن صلاحية اعطاء آرائهن السياسية فضلاً عن التعبير عنها على العلن”.
الحال، لأنني امرأة، فأن الحديث في السياسة يندرج تحت شعار “المسترجلة” أو الراغبة في الظهور، أو التي تريد إبراز نفسها ذكية.
والآن، مع حلول الذكرى الثالثة لتشرين، أريد استعادة كلّ تلك المسيرة. أريد أن أنزع عنها القدسيّة، وأضعها على طاولة التشريح وانتقدها. كما أني أريد العودة إلى الواقع والإشارة إلى أننا توهمنا بعض الإنجازات التي لا وجود لها. أود العودة إلى أخي، والمجتمع، والأشخاص الذين رافقوني طيلة الاحتجاجات.. أن أقف أمامهم جميعاً وأقول: صمتنا عن قضايا ما كان يجب السكوت عنها!
تشرين في ذكراها الثالثة
نادت تشرين بالحريات، والعلمانية، والدعوة إلى إسقاط النظام، واستبداله بنظام يؤمن بحقوق الإنسان والتساوي. ومن أكثر المدائح التي نالها الحراك هو الوجود النسوي داخلها.
بعد نحو عامين ونصف، جرت مقارنات بين تظاهرات تشرين، والتظاهرات التي قادتها قوى الإسلام السياسي بعدها، وعدّ غياب صوت نسوي بين جمهور الأحزاب مَثلبة.
في الواقع، هذا صحيح.
لكن وجودنا كنساء، في ساحات التظاهر أيام تشرين، فيه أيضاً الكثير من المثالب والإخفاقات. كان يمكن لمس الذكورية في التعامل معنا نحن اللواتي جئنا إلى الساحات للمطالبة بحقوقنا وحقوق المجتمع ككل. سيثير هذا الرأي حفيظة الكثيرات والكثيرين، لكن عدم قوله والاستمرار بتأجيله يعني لنا، نحن النساء، تأجيل حياتنا ومطالبنا ومستقبلنا ودورنا.
لقد شاركت المرأة العراقية في التظاهرات بدءاً من يوم 25 تشرين الأول 2019. حضرت بوصفها متظاهرة تطالب بحقها كمواطنة. لكن بعد مضي فترة، وتحول الساحات إلى مآوٍ وأوطان مصغرة، أخذ وجود المرأة يُحدّد بكونها مسعفة ومساعِدة وطباخة إلخ.
أما رأيها ومطالبها، فلم يكن على سُلِّم الأولويات.
كانت لحظات نادرة وقليلة تلك التي شاركت فيها النساء في صناعة منعطفات التظاهرات، أو اطلاق البيانات، أو تحديد الانسحاب والتقدم. ولنتذكّر الآن، بأنه تقريباً لم يكن أي بيان صادر من ساحات تشرين شاركت في كتابته نساء، وإن شاركن، فإن صوتهن كان منخفضاً.
دفعت النساء، والحال هذه، إلى أدوار ثانويّة بشكل تلقائي تماهياً مع الأدوار التي تربى عليها الذكور والإناث على حدّ سواء. الرجال أشدّاء، يعرفون التحرّكات والمطالب، أما النساء فثانويات، لا باع لهن في السياسة. جديدات على التظاهر، وحقوقهن أصغر من مطالب المواطنة الكبيرة المرفوعة على اللافتات والمُذاعة عبر مكبرات صوت خيام الاعتصام..
كانت هذه النظرة شائعة بين عدد كبير من أصدقائنا ومن رافقنا في التظاهرات، أما بالنسبة لخصومنا: فكنا “عاهرات” فحسب.
على سبيل المثال، أُطلق على الرجال المتظاهرين تسميات “أبناء السفارات” أو “الجوكرية”، وذلك لوصفهم بـ”العمالة” للولايات المتحدّة الأمريكية. أما النساء فلسن سوى بنات مكان مستتر يُعتقد أن الجنس هو العامل الأكثر توفراً فيه، هي الخيم التي آوتنا في ساحات الاحتجاج.
لم يكنّ تابعات لدولة تملك أجندات تريد تدمير العراق -كما وصم الرجال- بل كن أدوات جنسية مركونة في الخيم. إنها نظرة موجودة منذ القدم، وهي أيضاً نظرة من عمق تقاليدنا، ولذلك كان متوقعاً، بين النساء، أن يتم وصمهن بهذه الاتهامات من خصومهن في السلطة والمقربين منها. نعرف هؤلاء ونناضل ضدّهم منذ أكثر من عقدين، لكن ماذا عن حلفائنا، أولئك الذين تختلط أصواتنا بأصواتهم، ومطالبنا بمطالبهم، وأحلامنا بأحلامهم؟
في الأشهر القليلة الماضية، كُشف عن محادثة سرية بين مجموعة من ناشطي ساحة التحرير ببغداد، وقد عبر كل فرد عن عدد النساء اللواتي استطاع “اصطيادهن” في التظاهرات.
ظهرت المحادثات واختفت ولم يجر نقاشها، ذلك رغم أن بعض المتحدثين ناشطون معروفون، وكان يجب وضعهم أمام أفعالهم، وإدانتهم ومحاسبتهم علانية، بل وإبعادهم عن الواجهة.
لكن الحديث عن المرأة وحقوقها وحريّتها لطالما كانت قضايا مؤجلة. قضايا المرأة ثانوية، ولا يجب الالتفات إليها إلا بعد الوصول إلى نظام سياسي نزيه، وسلطة عادلة. وكأن الشأن النسوي قضيّة تافهة لا تستحق النظر إليها في ظل مشاكل الدولة والمواطنة والذكور الكبيرة.
النساء والأحزاب التشرينية
لكننا، كنساء، كنا أيضاً مُشاركات في تأجيل قضايانا وحياتنا. ففور اندلاع تظاهرات تشرين، كنا نتحاور على مجموعة (غروب) نسوية في واتساب. كنا نناقش ما يحدث داخل ساحات التظاهر وطرق المساعدة التي يجب تقديمها. ومع توالي الأيام كانت هناك تصرفات غير مقبولة تظهر وضحاياها النساء، لكن، وفي ظاهرة عجيبة، اتفقت النساء فيما بينهن على عدم إظهار أي جانب سيئ لما يحدث احتراماً لشهداء تشرين. كنت أنا إحدى تلك النسوة.
هذا التأجيل، تحوّل إلى مُعطى.
فمع انتقال التظاهرات إلى مرحلة التنظيم السياسي، كان من المتوقع أن تشغل المرأة مكانها السياسي الذي استحقته، لكن هذا لم يحدث أيضاً. ما جرى في ساحات التظاهر والاعتصام، تفاقم في الاجتماعات الحزبيّة والسياسية.
في حوار مع الأحزاب الناشئة التي كنت أجريها لصالح بحث لمؤسسة دولية، عبرت لي إحدى العضوات المنسحبات من حزب تشريني عن مدى شعورها بالاضطهاد داخل الحزب. كان، على حد قولها، يُقال عنها بين زملائها أنها “مرا” تقليلاً من قيمتها، وتحقيراً لآرائها السياسية، وذلك رغم امتلاكها لقاعدة جماهيرية كبيرة وتأييد عالٍ من سكّان محافظتها.
لم تكن هذه المرأة استثناء، إذ أن نساء أُخريات انسحبن من أحزاب تشرينية نتيجة “التعامل السيئ من رجال الحزب”. رجال كان لمطالبتهم بالحريات والمساواة دور في فوزهم بالانتخابات.
ولأذكر هنا رئيس حركة امتداد علاء الركابي قبل دخوله إلى البرلمان بـ”التكتك”، قال مُطمئِناً جمهوره “حتى نسوانا زلم”. هذه لم تكن أقلّ من إهانة، وعدم فهم، وحتّى تخلف كبير في العمل السياسي وفي فهم تشرين ومُرادها.
أما النائب والمحامي باسم خشان، وهو أيضاً يصدِّر نفسه كمدني وعلماني، فقد ردّ على أحد منتقديه بالقول: “إذا مرتك عدها شي آني حاضر”، وهو تلويح جنسي مُباشر ضد زوجة الرجل التي لم تكن لها أي علاقة في الأساس بالحوار.
هذه الحوادث تكشف أن الإساءات الصادرة عن بعض أفراد الأحزاب أو نواب في البرلمان او بعض الشباب، تكشف لنا حقيقة مهمة، وهي أن المرأة العراقية في مشاركتها السياسيّة لم تكن رايدكالية بما يكفي لفرض رأيها وخطابها ومطالبها. إن تأجيل القضايا النسوية حتّى الوصول إلى الهدف لم يعن إلا تأجيلاً لحياتنا، أو تجميدها إلى حين.
لكن الآن، وأنا أنظر إلى تلك الأيام العاصفة، أقول: كان علينا فرض أجندتنا وأصواتنا وجعلها حاضرة في البيانات والساحات. كان علينا عدم قبول التراتبية التي صنعتها تراكمات اجتماعية تاريخية تحل الرجل في المرتبة الأولى، والمرأة بعده. إن قضايا المرأة وحقوقها، ومطالب المساواة وفرض الأجندات النسوية، يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع قضايا المواطنة وحصر السلاح بيد الدولة وإقرار القوانين العادلة.
القضايا النسوية لا تقلّ أهميّة عن أي قضايا أخرى، وربما حتّى قبل حلّها، لا يمكن الوصول إلى حلول أخرى ذات بُعد وطني.
عليه، فإن تقدّم المرأة أصبح متوقفاً على مدى قدرتها على الوقوف بوجه كل فرد يحاول تهميش دورها السياسي والثوري، حتى لو تشابه معها في أرضية مشتركة من المطالب.
كما أن المكاسب التي تستحقها المرأة ليست فضل، بل هي نتاج مخاض طويل خاضته نساء قبلها وحافظت هي على استمراره، علاوة على أن دخول المرأة إلى عالم السياسة كامرأة، وليست إكمالاً لعدد او حاملة لعقل ذكوري، هي الخطوة الأولى نحو تحقيق عالم يكون لمفهوم المساواة أرضاً صلبة لتطبيقه. والأهم من كل هذا، هو أن تشرين ليست ملكاً لنوع اجتماعي، بل هي نقطة تحول نصحح عبرها أخطاءنا، وننبري للدفاع عنها وننتقد كل من يحاول أن ينزع عنها مطالبها.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
السماعة أمامي والنساء إلى جانبي وخلفي. الخيمة فوقي، والكاميرات حولي. الشمس تضرب رؤوسنا بأشعتها القويّة، والصوت القوي الغاضب المبحوح يخرج من حلقي. كنا نترحم على شهداء انتفاضة تشرين، ونطالب بمحاسبة القتلة والفاسدين، وتشريع قانون العنف الأسري عسى أن نحمي نساءنا من عذاب كونهن إناثاً فحسب.
كان ذلك في الأوّل من تشرين الأول عام 2020، وسط ساحة التظاهرات في مدينة الكوت. كانت تلك اللحظة وساماً لم يفارق صدري، لكنها أيضاً وصمة لم تفارق جبيني.
عُدت إلى المنزل ولاقى البيان الذي ألقيته في الساحة صدى واسعاً أدى إلى غضب في واسط، مدينتي. لم يلاقِ أي بيان قبله هذا الهجوم، إذ نعتنا نحن المتظاهرات بالعاهرات، بنات الخيم، سافلات.. وأوصاف لم أسمعها من قبل. امتد الهجوم ليطال عائلتي ويصل إلى مسامعهم.
اضطررت، بعد ذلك، إلى مواجهة أخي الذي كان يشاهد سمعتي كامرأة تنهار أمامه. قال “وإن كان معك الحق لكنك امرأة في هذا المجتمع”، ثم أكمل “النساء لا يمتلكن صلاحية اعطاء آرائهن السياسية فضلاً عن التعبير عنها على العلن”.
الحال، لأنني امرأة، فأن الحديث في السياسة يندرج تحت شعار “المسترجلة” أو الراغبة في الظهور، أو التي تريد إبراز نفسها ذكية.
والآن، مع حلول الذكرى الثالثة لتشرين، أريد استعادة كلّ تلك المسيرة. أريد أن أنزع عنها القدسيّة، وأضعها على طاولة التشريح وانتقدها. كما أني أريد العودة إلى الواقع والإشارة إلى أننا توهمنا بعض الإنجازات التي لا وجود لها. أود العودة إلى أخي، والمجتمع، والأشخاص الذين رافقوني طيلة الاحتجاجات.. أن أقف أمامهم جميعاً وأقول: صمتنا عن قضايا ما كان يجب السكوت عنها!
تشرين في ذكراها الثالثة
نادت تشرين بالحريات، والعلمانية، والدعوة إلى إسقاط النظام، واستبداله بنظام يؤمن بحقوق الإنسان والتساوي. ومن أكثر المدائح التي نالها الحراك هو الوجود النسوي داخلها.
بعد نحو عامين ونصف، جرت مقارنات بين تظاهرات تشرين، والتظاهرات التي قادتها قوى الإسلام السياسي بعدها، وعدّ غياب صوت نسوي بين جمهور الأحزاب مَثلبة.
في الواقع، هذا صحيح.
لكن وجودنا كنساء، في ساحات التظاهر أيام تشرين، فيه أيضاً الكثير من المثالب والإخفاقات. كان يمكن لمس الذكورية في التعامل معنا نحن اللواتي جئنا إلى الساحات للمطالبة بحقوقنا وحقوق المجتمع ككل. سيثير هذا الرأي حفيظة الكثيرات والكثيرين، لكن عدم قوله والاستمرار بتأجيله يعني لنا، نحن النساء، تأجيل حياتنا ومطالبنا ومستقبلنا ودورنا.
لقد شاركت المرأة العراقية في التظاهرات بدءاً من يوم 25 تشرين الأول 2019. حضرت بوصفها متظاهرة تطالب بحقها كمواطنة. لكن بعد مضي فترة، وتحول الساحات إلى مآوٍ وأوطان مصغرة، أخذ وجود المرأة يُحدّد بكونها مسعفة ومساعِدة وطباخة إلخ.
أما رأيها ومطالبها، فلم يكن على سُلِّم الأولويات.
كانت لحظات نادرة وقليلة تلك التي شاركت فيها النساء في صناعة منعطفات التظاهرات، أو اطلاق البيانات، أو تحديد الانسحاب والتقدم. ولنتذكّر الآن، بأنه تقريباً لم يكن أي بيان صادر من ساحات تشرين شاركت في كتابته نساء، وإن شاركن، فإن صوتهن كان منخفضاً.
دفعت النساء، والحال هذه، إلى أدوار ثانويّة بشكل تلقائي تماهياً مع الأدوار التي تربى عليها الذكور والإناث على حدّ سواء. الرجال أشدّاء، يعرفون التحرّكات والمطالب، أما النساء فثانويات، لا باع لهن في السياسة. جديدات على التظاهر، وحقوقهن أصغر من مطالب المواطنة الكبيرة المرفوعة على اللافتات والمُذاعة عبر مكبرات صوت خيام الاعتصام..
كانت هذه النظرة شائعة بين عدد كبير من أصدقائنا ومن رافقنا في التظاهرات، أما بالنسبة لخصومنا: فكنا “عاهرات” فحسب.
على سبيل المثال، أُطلق على الرجال المتظاهرين تسميات “أبناء السفارات” أو “الجوكرية”، وذلك لوصفهم بـ”العمالة” للولايات المتحدّة الأمريكية. أما النساء فلسن سوى بنات مكان مستتر يُعتقد أن الجنس هو العامل الأكثر توفراً فيه، هي الخيم التي آوتنا في ساحات الاحتجاج.
لم يكنّ تابعات لدولة تملك أجندات تريد تدمير العراق -كما وصم الرجال- بل كن أدوات جنسية مركونة في الخيم. إنها نظرة موجودة منذ القدم، وهي أيضاً نظرة من عمق تقاليدنا، ولذلك كان متوقعاً، بين النساء، أن يتم وصمهن بهذه الاتهامات من خصومهن في السلطة والمقربين منها. نعرف هؤلاء ونناضل ضدّهم منذ أكثر من عقدين، لكن ماذا عن حلفائنا، أولئك الذين تختلط أصواتنا بأصواتهم، ومطالبنا بمطالبهم، وأحلامنا بأحلامهم؟
في الأشهر القليلة الماضية، كُشف عن محادثة سرية بين مجموعة من ناشطي ساحة التحرير ببغداد، وقد عبر كل فرد عن عدد النساء اللواتي استطاع “اصطيادهن” في التظاهرات.
ظهرت المحادثات واختفت ولم يجر نقاشها، ذلك رغم أن بعض المتحدثين ناشطون معروفون، وكان يجب وضعهم أمام أفعالهم، وإدانتهم ومحاسبتهم علانية، بل وإبعادهم عن الواجهة.
لكن الحديث عن المرأة وحقوقها وحريّتها لطالما كانت قضايا مؤجلة. قضايا المرأة ثانوية، ولا يجب الالتفات إليها إلا بعد الوصول إلى نظام سياسي نزيه، وسلطة عادلة. وكأن الشأن النسوي قضيّة تافهة لا تستحق النظر إليها في ظل مشاكل الدولة والمواطنة والذكور الكبيرة.
النساء والأحزاب التشرينية
لكننا، كنساء، كنا أيضاً مُشاركات في تأجيل قضايانا وحياتنا. ففور اندلاع تظاهرات تشرين، كنا نتحاور على مجموعة (غروب) نسوية في واتساب. كنا نناقش ما يحدث داخل ساحات التظاهر وطرق المساعدة التي يجب تقديمها. ومع توالي الأيام كانت هناك تصرفات غير مقبولة تظهر وضحاياها النساء، لكن، وفي ظاهرة عجيبة، اتفقت النساء فيما بينهن على عدم إظهار أي جانب سيئ لما يحدث احتراماً لشهداء تشرين. كنت أنا إحدى تلك النسوة.
هذا التأجيل، تحوّل إلى مُعطى.
فمع انتقال التظاهرات إلى مرحلة التنظيم السياسي، كان من المتوقع أن تشغل المرأة مكانها السياسي الذي استحقته، لكن هذا لم يحدث أيضاً. ما جرى في ساحات التظاهر والاعتصام، تفاقم في الاجتماعات الحزبيّة والسياسية.
في حوار مع الأحزاب الناشئة التي كنت أجريها لصالح بحث لمؤسسة دولية، عبرت لي إحدى العضوات المنسحبات من حزب تشريني عن مدى شعورها بالاضطهاد داخل الحزب. كان، على حد قولها، يُقال عنها بين زملائها أنها “مرا” تقليلاً من قيمتها، وتحقيراً لآرائها السياسية، وذلك رغم امتلاكها لقاعدة جماهيرية كبيرة وتأييد عالٍ من سكّان محافظتها.
لم تكن هذه المرأة استثناء، إذ أن نساء أُخريات انسحبن من أحزاب تشرينية نتيجة “التعامل السيئ من رجال الحزب”. رجال كان لمطالبتهم بالحريات والمساواة دور في فوزهم بالانتخابات.
ولأذكر هنا رئيس حركة امتداد علاء الركابي قبل دخوله إلى البرلمان بـ”التكتك”، قال مُطمئِناً جمهوره “حتى نسوانا زلم”. هذه لم تكن أقلّ من إهانة، وعدم فهم، وحتّى تخلف كبير في العمل السياسي وفي فهم تشرين ومُرادها.
أما النائب والمحامي باسم خشان، وهو أيضاً يصدِّر نفسه كمدني وعلماني، فقد ردّ على أحد منتقديه بالقول: “إذا مرتك عدها شي آني حاضر”، وهو تلويح جنسي مُباشر ضد زوجة الرجل التي لم تكن لها أي علاقة في الأساس بالحوار.
هذه الحوادث تكشف أن الإساءات الصادرة عن بعض أفراد الأحزاب أو نواب في البرلمان او بعض الشباب، تكشف لنا حقيقة مهمة، وهي أن المرأة العراقية في مشاركتها السياسيّة لم تكن رايدكالية بما يكفي لفرض رأيها وخطابها ومطالبها. إن تأجيل القضايا النسوية حتّى الوصول إلى الهدف لم يعن إلا تأجيلاً لحياتنا، أو تجميدها إلى حين.
لكن الآن، وأنا أنظر إلى تلك الأيام العاصفة، أقول: كان علينا فرض أجندتنا وأصواتنا وجعلها حاضرة في البيانات والساحات. كان علينا عدم قبول التراتبية التي صنعتها تراكمات اجتماعية تاريخية تحل الرجل في المرتبة الأولى، والمرأة بعده. إن قضايا المرأة وحقوقها، ومطالب المساواة وفرض الأجندات النسوية، يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع قضايا المواطنة وحصر السلاح بيد الدولة وإقرار القوانين العادلة.
القضايا النسوية لا تقلّ أهميّة عن أي قضايا أخرى، وربما حتّى قبل حلّها، لا يمكن الوصول إلى حلول أخرى ذات بُعد وطني.
عليه، فإن تقدّم المرأة أصبح متوقفاً على مدى قدرتها على الوقوف بوجه كل فرد يحاول تهميش دورها السياسي والثوري، حتى لو تشابه معها في أرضية مشتركة من المطالب.
كما أن المكاسب التي تستحقها المرأة ليست فضل، بل هي نتاج مخاض طويل خاضته نساء قبلها وحافظت هي على استمراره، علاوة على أن دخول المرأة إلى عالم السياسة كامرأة، وليست إكمالاً لعدد او حاملة لعقل ذكوري، هي الخطوة الأولى نحو تحقيق عالم يكون لمفهوم المساواة أرضاً صلبة لتطبيقه. والأهم من كل هذا، هو أن تشرين ليست ملكاً لنوع اجتماعي، بل هي نقطة تحول نصحح عبرها أخطاءنا، وننبري للدفاع عنها وننتقد كل من يحاول أن ينزع عنها مطالبها.