الضمان الأخير لمنع الديكتاتورية في العراق

مصطفى سعدون

01 أكتوبر 2022

خشية القادة السياسيين العراقيين من الغرب والدول المدافعة عن الديمقراطية هي من تسمح بالهامش المتاح حالياً من حرية الكلمة في العراق.. آن الوقت لإحداث تغيير يجعل الحق الطبيعي في الرأي غير مهدد.

تعتبر حرية التعبير واحدة من ركائز وجود النظام السياسي الحالي في العراق، فيما لم يكن ممكناً للعراقيين ممارسة حقهم في حُرية التعبير على مدى ربع قرن تقريباً، قبل الغزو الأمريكي للعراق الذي تشكّل على أساسه النظام الحالي، خاصة أولئك الذين كانوا يعيشون تحت سياط حزب البعث داخل البلاد.

يتفاخر هذا النظام بمساحة “حرية التعبير” في العراق عندما يلتقي قادته والمدافعون عنه بمسؤولي دول أوروبية أو الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والدول المدافعة عن الديموقراطية وحقوق الإنسان.

يصورون للعالم أنهم أعطوا للعراقيين شيئاً مكتسباً، وليس حقاً من حقوق الإنسان المتجذرة والمتأصلة بأي شخص منذ لحظة ولادته.

ومع هذا التفاخر الذي قد يكون على مضض، إلا أن مؤسسات الدولة التي أنتجها هذا النظام ومن شكّله وقاده، تعاملت مع حرية التعبير على أنها حق مراقب من دول دعمت وساندت هذا النظام، لذا هم يخشون الغرب وليس إيماناً منهم بضرورة أن تكون حرية التعبير مُصانة.

أشّرت مساعي تشريع القوانين المرتبطة بحرية التعبير خلال الدورات البرلمانية السابقة، عدم إيمان أغلب الموجودين في العملية السياسية الحالية بحرية التعبير، وحاولوا قدر الإمكان التعامل معها على أنها مفروضة عليهم من الخارج.

فمثلاً، حاولوا مرات عديدة تشريع قوانين تُقيّد الحُريات، بينما كُنّا نسعى نحن في المجتمع المدني لتنظيمها، وهو ما عرقل تشريع قوانين مهمة مثل “قانون الحصول على المعلومات”، و”حرية التعبير والتظاهر السلمي”.

لم يحصل العراقيون بعد عام 2003 على شيء يُميز مرحلتهم الحالية عن تلك التي كانت في ظل نظام حزب البعث، سوى حرية تعبير لطالما أريد لها أن تتقيد بسلوكيات وإجراءات وقوانين من قبل الفاعلين في النظام السياسي الحالي.

وكان الدستور العراقي قد نصّ منذ نصف قرن، وتحديداً عام 1925 على حرية التعبير، وجاء في المادة 12 من الباب الأول: “للعراقيين حرية إبداء الرأي، والنشر، والاجتماع، وتأليف الجمعيات، والانضمام إليها، ضمن حدود القانون”.

كما نص عليها الدستور العراقي النافذ في مادته الـ38 وبفقراتها الثلاث بشكل واضح وصريح: “تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون”.

لا يُمكن الحديث عن شيء اسمه حرية التعبير بين عام 1979 – 2003 وهي الأعوام التي حكم فيها صدام حسين العراق. بسبب حرية التعبير التي لم يقتنع بها حسين ولا نظامه وحزبه، دُفن وأعدم واعتقل وهاجر عشرات الآلاف من العراقيين.

دخل حق حرية التعبير في الفترة الأخيرة في أخطر مراحله بعد عام 2003، وهذا الدخول نتيجة طبيعية لـ”ازدياد نفوذ أعداء حرية الصحافة” وفقاً لتقرير المرصد العراقي لحقوق الإنسان الذي أصدره في الثالث من أيار 2022.

خلال تموز الماضي، على سبيل المثال، واجهت مجموعة صحافيين دعاوى قضائية وتهديدات بسبب آرائهم ومواقفهم التي لا تنسجم مع آراء ومواقف اللاعبين الأساسيين في مؤسسات الدولة، أو في نظامها السياسي.

يعتبر البعض من الصحافيين أن العامين الأخيرين هما الأكثر تقييداً أو تهديداً للصحافيين وحريتهم في التعبير نتيجة للضغوطات التي تعرضوا لها من أطراف حكومية وسياسية وجماعات مسلحة. وبالطبع لا يقتصر ذلك على الصحافيين فحسب، بل يطال النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان والمدونين أيضاً.

أزمة كبيرة فجرتها بعض القضايا بين الصحافيين ومجلس القضاء الأعلى في العراق، واستغلت سياسياً من قبل أطراف فاعلة، في محاولة لخلق فجوة بين القضاء الذي يُعوّل عليه الصحافيون والمدافعون عن حقوق الإنسان باعتباره آخر ما تبقى من مؤسسات الدولة، ومجموعة من أصحاب الرأي البارزين.

هذه الفجوة التي بدأت ورُدمت سريعاً بحوارات ونقاشات بين مجموعة من الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان مع مجلس القضاء الأعلى، كانت حافزاً للذهاب باتجاه تشريع قوانين تنظم الحريات ولا تُقيدها، بالإضافة إلى تعديل قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969.

لم يكن مجلس القضاء الأعلى صائباً عندما أراد لنفسه في لحظة ما أن يكون جزءاً من صراع موجود حالياً بين الصحافيين وأطراف فاعلة في المشهد العراقي، لكنه تدارك ذلك سريعاً وأكد في أكثر من مناسبة وقوفه إلى جانب الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.

أنتجت الفوضى الإعلامية في العراق صورة نمطية عن الصحافيين في البلاد، وراح البعض يعتبر كل المنتقدين والمعبرين عن آرائهم، جزءاً من منظومة ابتزاز تنقل خدماتها بين الأحزاب السياسية. هذه الصور الكثير منها غير الصحيحة بالعموم، تحتاج إلى من يكسرها من خلال قانون يُنظّم العمل الإعلامي، شرط ألا يمسّ ويحدّ من حرية التعبير.

لا يمكن التغاضي عن استغلال بعض من يُصنفون أنفسهم “ًصحافيين أو نشطاء أو كتّاب” حرية التعبير لاستهداف شخصيات أو مؤسسات أو لاتخاذها ذريعة للابتزاز مثلما نشهد بين فترة وأخرى، لكن ذلك لا يعني أن المشكلة في الحق، بل بمن يُفترض أن يُمارس حقه دون التجاوز على حقوق الآخرين.

اليوم، ومع اضطراب علاقة الصحافيين والدولة، صرنا بحاجة إلى حوارات ونقاشات معمقة للذهاب باتجاه نقطة تفصل بين حرية التعبير والتشهير والتسقيط. قد لا يكون الوصول إلى هذه النقطة سهلاً على السياسيين والمتنفذين في الدولة، لكنه سيكون بصالحهم، وصالح الصحافيين والجميع.

ضمان حرية التعبير، يعني ضماناً لمنع خلق ديكتاتوريات ومستبدين جُدد في عراق يُفترض أن يكون ديموقراطياً في الشعارات والواقع.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويب؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تعتبر حرية التعبير واحدة من ركائز وجود النظام السياسي الحالي في العراق، فيما لم يكن ممكناً للعراقيين ممارسة حقهم في حُرية التعبير على مدى ربع قرن تقريباً، قبل الغزو الأمريكي للعراق الذي تشكّل على أساسه النظام الحالي، خاصة أولئك الذين كانوا يعيشون تحت سياط حزب البعث داخل البلاد.

يتفاخر هذا النظام بمساحة “حرية التعبير” في العراق عندما يلتقي قادته والمدافعون عنه بمسؤولي دول أوروبية أو الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والدول المدافعة عن الديموقراطية وحقوق الإنسان.

يصورون للعالم أنهم أعطوا للعراقيين شيئاً مكتسباً، وليس حقاً من حقوق الإنسان المتجذرة والمتأصلة بأي شخص منذ لحظة ولادته.

ومع هذا التفاخر الذي قد يكون على مضض، إلا أن مؤسسات الدولة التي أنتجها هذا النظام ومن شكّله وقاده، تعاملت مع حرية التعبير على أنها حق مراقب من دول دعمت وساندت هذا النظام، لذا هم يخشون الغرب وليس إيماناً منهم بضرورة أن تكون حرية التعبير مُصانة.

أشّرت مساعي تشريع القوانين المرتبطة بحرية التعبير خلال الدورات البرلمانية السابقة، عدم إيمان أغلب الموجودين في العملية السياسية الحالية بحرية التعبير، وحاولوا قدر الإمكان التعامل معها على أنها مفروضة عليهم من الخارج.

فمثلاً، حاولوا مرات عديدة تشريع قوانين تُقيّد الحُريات، بينما كُنّا نسعى نحن في المجتمع المدني لتنظيمها، وهو ما عرقل تشريع قوانين مهمة مثل “قانون الحصول على المعلومات”، و”حرية التعبير والتظاهر السلمي”.

لم يحصل العراقيون بعد عام 2003 على شيء يُميز مرحلتهم الحالية عن تلك التي كانت في ظل نظام حزب البعث، سوى حرية تعبير لطالما أريد لها أن تتقيد بسلوكيات وإجراءات وقوانين من قبل الفاعلين في النظام السياسي الحالي.

وكان الدستور العراقي قد نصّ منذ نصف قرن، وتحديداً عام 1925 على حرية التعبير، وجاء في المادة 12 من الباب الأول: “للعراقيين حرية إبداء الرأي، والنشر، والاجتماع، وتأليف الجمعيات، والانضمام إليها، ضمن حدود القانون”.

كما نص عليها الدستور العراقي النافذ في مادته الـ38 وبفقراتها الثلاث بشكل واضح وصريح: “تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون”.

لا يُمكن الحديث عن شيء اسمه حرية التعبير بين عام 1979 – 2003 وهي الأعوام التي حكم فيها صدام حسين العراق. بسبب حرية التعبير التي لم يقتنع بها حسين ولا نظامه وحزبه، دُفن وأعدم واعتقل وهاجر عشرات الآلاف من العراقيين.

دخل حق حرية التعبير في الفترة الأخيرة في أخطر مراحله بعد عام 2003، وهذا الدخول نتيجة طبيعية لـ”ازدياد نفوذ أعداء حرية الصحافة” وفقاً لتقرير المرصد العراقي لحقوق الإنسان الذي أصدره في الثالث من أيار 2022.

خلال تموز الماضي، على سبيل المثال، واجهت مجموعة صحافيين دعاوى قضائية وتهديدات بسبب آرائهم ومواقفهم التي لا تنسجم مع آراء ومواقف اللاعبين الأساسيين في مؤسسات الدولة، أو في نظامها السياسي.

يعتبر البعض من الصحافيين أن العامين الأخيرين هما الأكثر تقييداً أو تهديداً للصحافيين وحريتهم في التعبير نتيجة للضغوطات التي تعرضوا لها من أطراف حكومية وسياسية وجماعات مسلحة. وبالطبع لا يقتصر ذلك على الصحافيين فحسب، بل يطال النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان والمدونين أيضاً.

أزمة كبيرة فجرتها بعض القضايا بين الصحافيين ومجلس القضاء الأعلى في العراق، واستغلت سياسياً من قبل أطراف فاعلة، في محاولة لخلق فجوة بين القضاء الذي يُعوّل عليه الصحافيون والمدافعون عن حقوق الإنسان باعتباره آخر ما تبقى من مؤسسات الدولة، ومجموعة من أصحاب الرأي البارزين.

هذه الفجوة التي بدأت ورُدمت سريعاً بحوارات ونقاشات بين مجموعة من الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان مع مجلس القضاء الأعلى، كانت حافزاً للذهاب باتجاه تشريع قوانين تنظم الحريات ولا تُقيدها، بالإضافة إلى تعديل قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969.

لم يكن مجلس القضاء الأعلى صائباً عندما أراد لنفسه في لحظة ما أن يكون جزءاً من صراع موجود حالياً بين الصحافيين وأطراف فاعلة في المشهد العراقي، لكنه تدارك ذلك سريعاً وأكد في أكثر من مناسبة وقوفه إلى جانب الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.

أنتجت الفوضى الإعلامية في العراق صورة نمطية عن الصحافيين في البلاد، وراح البعض يعتبر كل المنتقدين والمعبرين عن آرائهم، جزءاً من منظومة ابتزاز تنقل خدماتها بين الأحزاب السياسية. هذه الصور الكثير منها غير الصحيحة بالعموم، تحتاج إلى من يكسرها من خلال قانون يُنظّم العمل الإعلامي، شرط ألا يمسّ ويحدّ من حرية التعبير.

لا يمكن التغاضي عن استغلال بعض من يُصنفون أنفسهم “ًصحافيين أو نشطاء أو كتّاب” حرية التعبير لاستهداف شخصيات أو مؤسسات أو لاتخاذها ذريعة للابتزاز مثلما نشهد بين فترة وأخرى، لكن ذلك لا يعني أن المشكلة في الحق، بل بمن يُفترض أن يُمارس حقه دون التجاوز على حقوق الآخرين.

اليوم، ومع اضطراب علاقة الصحافيين والدولة، صرنا بحاجة إلى حوارات ونقاشات معمقة للذهاب باتجاه نقطة تفصل بين حرية التعبير والتشهير والتسقيط. قد لا يكون الوصول إلى هذه النقطة سهلاً على السياسيين والمتنفذين في الدولة، لكنه سيكون بصالحهم، وصالح الصحافيين والجميع.

ضمان حرية التعبير، يعني ضماناً لمنع خلق ديكتاتوريات ومستبدين جُدد في عراق يُفترض أن يكون ديموقراطياً في الشعارات والواقع.