"جربنا كل المياه".. هل انتهت حلول إنتاج الأسماك في العراق؟

نشوى نعيم

30 تشرين الأول 2025

صياد في الأهوار، ثم مربي أسماك في بحيرات الطين، واليوم يتمنى أن يتحول إلى الأقفاص العائمة والأنظمة المغلقة، لكن لا مياه تكفي.. هل انتهت حلول إنتاج الأسماك في العراق؟

حين جفّت مياه هور الحويزة عام 2020، أدرك أبو فضل أن أيامه كصياد قد انتهت. الرجل الذي كان يعود كل مساء بقارب محمّل بالسمك الحُر، وجد نفسه مضطراً إلى حفر بحيرات طينية في أرضه اليابسة، علّه يعوّض ما خسره من رزق.

سنوات قليلة مضت وهو يستزرع الأسماك، قبل أن تداهمه قرارات الردم، فتتحول البحيرات إلى ركام. واليوم، بينما ينظر وغيره من الصيادين إلى مشاريع الأقفاص العائمة والأنظمة المغلقة التي تروّج لها الحكومة، يتساءل الكثير منهم: هل بقي للأسماك في العراق مستقبل، أم أن المياه نفدت ومعها آخر الحلول؟

المرحلة الأولى: الصيد الحر في الأهوار

حتى وقت قريب، كان الصيد الحر في الأهوار المصدر الأهم للأسماك في جنوب العراق. أبو فضل يروي أنه قبل أقل من عقد كان يخرج يومياً ليصطاد ما يقارب 50 كيلوغراماً من الأسماك من هور الحويزة، يبيعها في علوات العمارة لتتوزع بعدها إلى محافظات أخرى. تلك الكمية كانت تكفي لإعالة أسرته وتغطية نفقات معيشته.

لكن مع جفاف الأهوار، انتهت مرحلة كاملة من تاريخ الصيد الحر، فالمياه التي كانت تغذي الزوارق والشباك اختفت، ومعها مصدر رزق آلاف العائلات.

لم يكن أبو فضل وحده، إذ إن مئات الصيادين اضطروا إلى هجر القوارب والانتقال إلى أعمال بديلة، بعضهم حاول الزراعة في أراضٍ عطشى، وآخرون تركوا المهنة نهائياً.

يقول أبو فضل: “أنا ابن الريف… إذا ممنوع أصيد وممنوع أزرع شلون أعيش؟”

الأهوار التي كانت مصدراً للسمك الحر بأنواعه، والأنهار التي كانت تعيش فيها الأسماك في العراق، بدأت تجف وتتحوّل إلى أراضٍ قاحلة، فخاض الصيادون ومربو الأسماك رحلة جديدة.

المرحلة الثانية: البحيرات الطينية

بعد جفاف الأهوار، وجد مربّو الأسماك أنفسهم بلا بدائل، وعندها برزت فكرة البحيرات الطينية، وهي حفر واسعة في الأراضي الزراعية غير الصالحة للزراعة، تُملأ بمياه البزل أو فروع الأنهار، وتُزرع فيها إصبعيات السمك.

وزارة الموارد المائية شجّعت بشكل غير مباشر هذه التجربة في البداية، فمنحت استثناءات وتأجيلات، وأغمضت عينها لسنوات عن توسّعها. ومع الوقت، تحوّلت البحيرات إلى حلّ عملي أنقذ آلاف العائلات، وأصبحت مصدراً رئيسياً للأسماك في الجنوب.

أبو فضل حوّل أرضه العاجزة عن الزراعة إلى بحيرات طينية، فوصل إنتاجه في بعض المواسم إلى 80 طناً. لكن مع بدء حملات الردم، لم يبقَ له سوى خمسة أطنان فقط، وخسر نحو عشرة ملايين دينار.

سيف (38 عاماً) استثمر 65 دونماً، وتمكّن من إنتاج نحو 100 طن في موسم واحد من البحيرات المستزرعة. لكن قوة أمنية، بالتعاون مع وزارة الموارد المائية، داهمت بحيراته وصادرت مضخاته ومحولاته الكهربائية، وقلّصت مشروعه إلى عشرة دونمات فقط.

أما أبو نوح (52 عاماً) فخسر كل شيء بعد أن دمّرت قوة أمنية مليوناً ومئة ألف فقسة سمك في بحيراته عام 2024. “أبويه شاف الفقس طالع أبيض على الشط… وقع بجلطة ولهسه بالمستشفى”.

جانب من عمليات هدم بحيرات الأسماك المغلقة. المصدر: وزارة الموارد المائية.

ولم يتوقف الضرر عند هذا الحد، فالعاملون مع أبي نوح، الذين وثّقوا عملية الردم بالمقاطع المصورة، اعتُقلوا وزُجّوا في السجن.

يوضح أبو نوح، الذي يمتهن تربية الإصبعيات منذ 25 عاماً أن هذا النوع من التربية لا يمكن أن يكون إلا في البحيرات الطينية، خصوصاً في قضاء المحاويل ببابل، حيث تشكّل الأرض حاضنة طبيعية للفقس ونمو الإصبعيات، متسائلاً: “منين نجيب سمج نربيه بالمغلق إذا هما دمروا الفقس؟”

بحسب الجمعية العراقية لمنتجي الأسماك، بلغت ذروة الإنتاج ما بين 2017 و2020 نحو مليون طن، جاء الجزء الأكبر منه من بحيرات غير مرخّصة تعتمد على مياه المبازل، بينما لم يتجاوز إنتاج البحيرات المرخصة 190 ألف طن.

لكن مع بدء الردم انهارت المنظومة، إذ انخفض الإنتاج إلى 84 ألف طن عام 2021، ثم 56 ألف طن عام 2023، قبل أن ينتعش قليلاً في 2024، ليصل إلى 100 ألف طن بعد أن مُنحت بحيرات عديدة استثناءات لمواصلة العمل.

ومع ذلك، يبقى الرقم أقل بكثير من الحاجة الحقيقية المقدرة بـ250 ألف طن سنوياً لتغطية محافظات وسط وجنوب العراق فقط.

في المقابل، وبسبب تراجع الأسماك المحلية، امتلأت الأسواق العراقية بأسماك الكارب الإيراني. يروي سيف: “الناس العاديّة ما تفرّق بسهولة، بس إحنا نعرف السمچ من طعمه”.

ولتغطية العجز، فُتح باب استيراد الأسماك الحية والمبرّدة والمجمّدة، وهو ما ساعد في الحفاظ على الأسعار ضمن نطاق مقبول، وبلغ حجم الاستيراد من إيران وحدها من أسماك الكارب الحية عام 2024 نحو 19 ألف طن.

من الحل إلى الأزمة

البحيرات الطينية التي وُلدت كحلّ مؤقت لمربي الأسماك ولسد الطلب عليها، تحوّلت إلى “ورطة” للمربين. وزارة الموارد المائية اعتبرتها استنزافاً للمياه وملوثة للبيئة، فأطلقت حملة وطنية لإزالتها منذ عام 2023، واشتدت الحملة خلال العام الجاري مع تراجع مخزون المياه إلى أدنى مستوياته.

أكثر من عشرة آلاف بحيرة أُزيلت في ذروة الموسم، من دون إنذار مسبق، ما أثار مواجهات بين المربين والقوات الأمنية، وصلت إلى حدّ رفع السلاح والاعتقالات الواسعة.

الوزارة تؤكد أن الهدف هو التوقف عن هذا النمط نهائياً والتحول إلى الاستزراع المغلق، لكن المربين يرون أنهم تُركوا بلا بدائل، وأن أرزاقهم انهارت في ليلة وضحاها.

المرحلة الثالثة: الأقفاص العائمة

بعد جفاف الأهوار وردم البحيرات، راود أبو فضل أملاً بالتحوّل إلى نظام الأقفاص العائمة، لكنه يعيش في مناطق تُعرف بـ”ذنائب النهر”، حيث لا مياه جارية كافية. يقول: “ما عدنا نهر جارٍ بميسان حتى نسوي أقفاص”.

في بابل، وجد كثير من المربين في الأقفاص العائمة خياراً بديلاً. أبو آية (48 عاماً) يروي تجربته منذ 2012، حين أنشأ أول مشروع له بإجازة رسمية من وزارة الزراعة. كان يدفع سنوياً نحو 15 مليون دينار لتجديد الإجازة، ويقول: “ما كان أحد يفكر بالعائم… هسه الأغلب يريد أقفاص”.

الأقفاص العائمة. المصدر: وزارة الزراعة.

يتكوّن القفص من هيكل حديدي مزوّد بعوّامات، وفي داخله شبك لحجز الأسماك. يُنزَّل القفص في النهر على عمق مترين تقريباً، فيما يبقى نصف متر منه فوق سطح الماء. أكبر الأقفاص قياسه 6×4 أمتار، ويتسع لنحو ألفي سمكة.

فترة التربية في الأقفاص تستمر قرابة خمسة أشهر، ثم يبدأ بعدها التسويق.

وتبلغ تكلفة إنشاء القفص الواحد نحو مليونين ونصف المليون دينار، دون احتساب الإصبعيات والأعلاف.

بدت الأقفاص أقل كلفة وأكثر مرونة من البحيرات الطينية، لكنها لم تخلُ من المخاطر، فالأمراض النهرية أودت بملايين الأسماك، مثل كارثة 2018، حين خسر أبو آية وحده نحو 400 مليون دينار.

يقدّر المربون أن من كل 100 ألف إصبعية لا ينجو سوى 20 ألفاً فقط، وهذا النزيف في الإنتاج يرفع أسعار الكيلوغرام من السمك من ثلاثة آلاف دينار إلى تسعة آلاف.

نموذج آخر من الأقفاص العائمة. المصدر: وزارة الزراعة.

وزارتا الموارد المائية والزراعة وضعتا شروطاً صارمة لإنشاء الأقفاص العائمة، وهي أن تكون المياه صالحة ونظيفة، وألا تؤثر الأقفاص على مجرى النهر، مع ترك مسافة كافية بين قفص وآخر.

لكن مع تراجع المناسيب وتلوث الأنهار، يبقى نظام الأقفاص عرضة للإزالة في أي لحظة.

المرحلة الرابعة: الأنظمة المغلقة

بعد انهيار الصيد الحر، وردم البحيرات، وتعثر الأقفاص، لم يبقَ سوى خيار واحد تتبناه الوزارات، ألا وهو الأنظمة المغلقة، وهي تقنية لا تُطرح كرفاهية، بل كضرورة في بلد يقترب من مرحلة الجفاف.

تدار الأنظمة المغلقة داخل أحواض بلاستيكية محكمة، يجري فيها التحكم بمستويات المياه والأوكسجين باستخدام فلاتر حديثة، تقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 90 بالمئة.

على سبيل المثال، البحيرة الطينية بمساحة ألف متر مربع لا تستوعب سوى ألف سمكة، بينما يمكن لحوض مغلق بمساحة 100 متر مربع أن يربي العدد نفسه.

الناشط البيئي رعد الأسدي يصف هذه الخطوة بأنها “حديثة وصديقة للبيئة”، لكنه يشير إلى أن إقناع المربين يحتاج إلى وقت طويل وحملات توعية منسقة.

الأنظمة المغلقة. المصدر: الكاتبة.

مدير الإرشاد الزراعي، منير العادلي، يعترف بأن الكلفة المالية هي العقبة الأكبر، إذ تحتاج الأنظمة إلى كهرباء دائمة، والأسماك المنتَجة أصغر حجماً (كيلوغرام أو أقل) فلا يفضلها المستهلك العراقي، كما أن الأسعار أعلى مقارنة بالأسماك المنتَجة في الأحواض الطينية.

وزارة الزراعة بدأت بتنظيم أنشطة توعوية في بابل وذي قار والبصرة، لكن ضعف الموازنات جعل هذه الجهود محدودة. حصة دائرة الإرشاد الزراعي لا تتجاوز 5 بالمئة من التخصيصات المالية للوزارة، وهي مبالغ لا تكفي حتى لإطلاق حملة توعية، وليس برنامج دعم شامل للمربين!

هناك محاولات لتوفير المعدات بالتعاون مع شركات القطاع الخاص، وتشجيع المربين على الحصول على قروض مصرفية بضمانات يسيرة، لكن التنفيذ على الأرض ما يزال محدوداً.

مدير الثروة الحيوانية، وليد محمد رزوقي، يضع الصورة في إطار أكثر قسوة، يقول: “إن العراق يقف اليوم على حافة الجفاف، الأولوية راح تكون لتوفير مياه الشرب، حتى لو تركنا الزراعة وتربية الحيوانات”.

وينهي: “إذا وصلنا لهالمرحلة (الجفاف)، البلد راح يعتمد على الاستيراد بالكامل”.

يختتم أبو فضل بأن الخوف والجزع يغلبان عليه، وسبل المعيشة تكاد تنفد، والغالبية تفكر بالهجرة: “ناس راحت للعمالة أو صارت سواق تك تك أو تاكسي، وبعضهم مشى يشتغل حتى بالممنوعات”.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

حين جفّت مياه هور الحويزة عام 2020، أدرك أبو فضل أن أيامه كصياد قد انتهت. الرجل الذي كان يعود كل مساء بقارب محمّل بالسمك الحُر، وجد نفسه مضطراً إلى حفر بحيرات طينية في أرضه اليابسة، علّه يعوّض ما خسره من رزق.

سنوات قليلة مضت وهو يستزرع الأسماك، قبل أن تداهمه قرارات الردم، فتتحول البحيرات إلى ركام. واليوم، بينما ينظر وغيره من الصيادين إلى مشاريع الأقفاص العائمة والأنظمة المغلقة التي تروّج لها الحكومة، يتساءل الكثير منهم: هل بقي للأسماك في العراق مستقبل، أم أن المياه نفدت ومعها آخر الحلول؟

المرحلة الأولى: الصيد الحر في الأهوار

حتى وقت قريب، كان الصيد الحر في الأهوار المصدر الأهم للأسماك في جنوب العراق. أبو فضل يروي أنه قبل أقل من عقد كان يخرج يومياً ليصطاد ما يقارب 50 كيلوغراماً من الأسماك من هور الحويزة، يبيعها في علوات العمارة لتتوزع بعدها إلى محافظات أخرى. تلك الكمية كانت تكفي لإعالة أسرته وتغطية نفقات معيشته.

لكن مع جفاف الأهوار، انتهت مرحلة كاملة من تاريخ الصيد الحر، فالمياه التي كانت تغذي الزوارق والشباك اختفت، ومعها مصدر رزق آلاف العائلات.

لم يكن أبو فضل وحده، إذ إن مئات الصيادين اضطروا إلى هجر القوارب والانتقال إلى أعمال بديلة، بعضهم حاول الزراعة في أراضٍ عطشى، وآخرون تركوا المهنة نهائياً.

يقول أبو فضل: “أنا ابن الريف… إذا ممنوع أصيد وممنوع أزرع شلون أعيش؟”

الأهوار التي كانت مصدراً للسمك الحر بأنواعه، والأنهار التي كانت تعيش فيها الأسماك في العراق، بدأت تجف وتتحوّل إلى أراضٍ قاحلة، فخاض الصيادون ومربو الأسماك رحلة جديدة.

المرحلة الثانية: البحيرات الطينية

بعد جفاف الأهوار، وجد مربّو الأسماك أنفسهم بلا بدائل، وعندها برزت فكرة البحيرات الطينية، وهي حفر واسعة في الأراضي الزراعية غير الصالحة للزراعة، تُملأ بمياه البزل أو فروع الأنهار، وتُزرع فيها إصبعيات السمك.

وزارة الموارد المائية شجّعت بشكل غير مباشر هذه التجربة في البداية، فمنحت استثناءات وتأجيلات، وأغمضت عينها لسنوات عن توسّعها. ومع الوقت، تحوّلت البحيرات إلى حلّ عملي أنقذ آلاف العائلات، وأصبحت مصدراً رئيسياً للأسماك في الجنوب.

أبو فضل حوّل أرضه العاجزة عن الزراعة إلى بحيرات طينية، فوصل إنتاجه في بعض المواسم إلى 80 طناً. لكن مع بدء حملات الردم، لم يبقَ له سوى خمسة أطنان فقط، وخسر نحو عشرة ملايين دينار.

سيف (38 عاماً) استثمر 65 دونماً، وتمكّن من إنتاج نحو 100 طن في موسم واحد من البحيرات المستزرعة. لكن قوة أمنية، بالتعاون مع وزارة الموارد المائية، داهمت بحيراته وصادرت مضخاته ومحولاته الكهربائية، وقلّصت مشروعه إلى عشرة دونمات فقط.

أما أبو نوح (52 عاماً) فخسر كل شيء بعد أن دمّرت قوة أمنية مليوناً ومئة ألف فقسة سمك في بحيراته عام 2024. “أبويه شاف الفقس طالع أبيض على الشط… وقع بجلطة ولهسه بالمستشفى”.

جانب من عمليات هدم بحيرات الأسماك المغلقة. المصدر: وزارة الموارد المائية.

ولم يتوقف الضرر عند هذا الحد، فالعاملون مع أبي نوح، الذين وثّقوا عملية الردم بالمقاطع المصورة، اعتُقلوا وزُجّوا في السجن.

يوضح أبو نوح، الذي يمتهن تربية الإصبعيات منذ 25 عاماً أن هذا النوع من التربية لا يمكن أن يكون إلا في البحيرات الطينية، خصوصاً في قضاء المحاويل ببابل، حيث تشكّل الأرض حاضنة طبيعية للفقس ونمو الإصبعيات، متسائلاً: “منين نجيب سمج نربيه بالمغلق إذا هما دمروا الفقس؟”

بحسب الجمعية العراقية لمنتجي الأسماك، بلغت ذروة الإنتاج ما بين 2017 و2020 نحو مليون طن، جاء الجزء الأكبر منه من بحيرات غير مرخّصة تعتمد على مياه المبازل، بينما لم يتجاوز إنتاج البحيرات المرخصة 190 ألف طن.

لكن مع بدء الردم انهارت المنظومة، إذ انخفض الإنتاج إلى 84 ألف طن عام 2021، ثم 56 ألف طن عام 2023، قبل أن ينتعش قليلاً في 2024، ليصل إلى 100 ألف طن بعد أن مُنحت بحيرات عديدة استثناءات لمواصلة العمل.

ومع ذلك، يبقى الرقم أقل بكثير من الحاجة الحقيقية المقدرة بـ250 ألف طن سنوياً لتغطية محافظات وسط وجنوب العراق فقط.

في المقابل، وبسبب تراجع الأسماك المحلية، امتلأت الأسواق العراقية بأسماك الكارب الإيراني. يروي سيف: “الناس العاديّة ما تفرّق بسهولة، بس إحنا نعرف السمچ من طعمه”.

ولتغطية العجز، فُتح باب استيراد الأسماك الحية والمبرّدة والمجمّدة، وهو ما ساعد في الحفاظ على الأسعار ضمن نطاق مقبول، وبلغ حجم الاستيراد من إيران وحدها من أسماك الكارب الحية عام 2024 نحو 19 ألف طن.

من الحل إلى الأزمة

البحيرات الطينية التي وُلدت كحلّ مؤقت لمربي الأسماك ولسد الطلب عليها، تحوّلت إلى “ورطة” للمربين. وزارة الموارد المائية اعتبرتها استنزافاً للمياه وملوثة للبيئة، فأطلقت حملة وطنية لإزالتها منذ عام 2023، واشتدت الحملة خلال العام الجاري مع تراجع مخزون المياه إلى أدنى مستوياته.

أكثر من عشرة آلاف بحيرة أُزيلت في ذروة الموسم، من دون إنذار مسبق، ما أثار مواجهات بين المربين والقوات الأمنية، وصلت إلى حدّ رفع السلاح والاعتقالات الواسعة.

الوزارة تؤكد أن الهدف هو التوقف عن هذا النمط نهائياً والتحول إلى الاستزراع المغلق، لكن المربين يرون أنهم تُركوا بلا بدائل، وأن أرزاقهم انهارت في ليلة وضحاها.

المرحلة الثالثة: الأقفاص العائمة

بعد جفاف الأهوار وردم البحيرات، راود أبو فضل أملاً بالتحوّل إلى نظام الأقفاص العائمة، لكنه يعيش في مناطق تُعرف بـ”ذنائب النهر”، حيث لا مياه جارية كافية. يقول: “ما عدنا نهر جارٍ بميسان حتى نسوي أقفاص”.

في بابل، وجد كثير من المربين في الأقفاص العائمة خياراً بديلاً. أبو آية (48 عاماً) يروي تجربته منذ 2012، حين أنشأ أول مشروع له بإجازة رسمية من وزارة الزراعة. كان يدفع سنوياً نحو 15 مليون دينار لتجديد الإجازة، ويقول: “ما كان أحد يفكر بالعائم… هسه الأغلب يريد أقفاص”.

الأقفاص العائمة. المصدر: وزارة الزراعة.

يتكوّن القفص من هيكل حديدي مزوّد بعوّامات، وفي داخله شبك لحجز الأسماك. يُنزَّل القفص في النهر على عمق مترين تقريباً، فيما يبقى نصف متر منه فوق سطح الماء. أكبر الأقفاص قياسه 6×4 أمتار، ويتسع لنحو ألفي سمكة.

فترة التربية في الأقفاص تستمر قرابة خمسة أشهر، ثم يبدأ بعدها التسويق.

وتبلغ تكلفة إنشاء القفص الواحد نحو مليونين ونصف المليون دينار، دون احتساب الإصبعيات والأعلاف.

بدت الأقفاص أقل كلفة وأكثر مرونة من البحيرات الطينية، لكنها لم تخلُ من المخاطر، فالأمراض النهرية أودت بملايين الأسماك، مثل كارثة 2018، حين خسر أبو آية وحده نحو 400 مليون دينار.

يقدّر المربون أن من كل 100 ألف إصبعية لا ينجو سوى 20 ألفاً فقط، وهذا النزيف في الإنتاج يرفع أسعار الكيلوغرام من السمك من ثلاثة آلاف دينار إلى تسعة آلاف.

نموذج آخر من الأقفاص العائمة. المصدر: وزارة الزراعة.

وزارتا الموارد المائية والزراعة وضعتا شروطاً صارمة لإنشاء الأقفاص العائمة، وهي أن تكون المياه صالحة ونظيفة، وألا تؤثر الأقفاص على مجرى النهر، مع ترك مسافة كافية بين قفص وآخر.

لكن مع تراجع المناسيب وتلوث الأنهار، يبقى نظام الأقفاص عرضة للإزالة في أي لحظة.

المرحلة الرابعة: الأنظمة المغلقة

بعد انهيار الصيد الحر، وردم البحيرات، وتعثر الأقفاص، لم يبقَ سوى خيار واحد تتبناه الوزارات، ألا وهو الأنظمة المغلقة، وهي تقنية لا تُطرح كرفاهية، بل كضرورة في بلد يقترب من مرحلة الجفاف.

تدار الأنظمة المغلقة داخل أحواض بلاستيكية محكمة، يجري فيها التحكم بمستويات المياه والأوكسجين باستخدام فلاتر حديثة، تقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 90 بالمئة.

على سبيل المثال، البحيرة الطينية بمساحة ألف متر مربع لا تستوعب سوى ألف سمكة، بينما يمكن لحوض مغلق بمساحة 100 متر مربع أن يربي العدد نفسه.

الناشط البيئي رعد الأسدي يصف هذه الخطوة بأنها “حديثة وصديقة للبيئة”، لكنه يشير إلى أن إقناع المربين يحتاج إلى وقت طويل وحملات توعية منسقة.

الأنظمة المغلقة. المصدر: الكاتبة.

مدير الإرشاد الزراعي، منير العادلي، يعترف بأن الكلفة المالية هي العقبة الأكبر، إذ تحتاج الأنظمة إلى كهرباء دائمة، والأسماك المنتَجة أصغر حجماً (كيلوغرام أو أقل) فلا يفضلها المستهلك العراقي، كما أن الأسعار أعلى مقارنة بالأسماك المنتَجة في الأحواض الطينية.

وزارة الزراعة بدأت بتنظيم أنشطة توعوية في بابل وذي قار والبصرة، لكن ضعف الموازنات جعل هذه الجهود محدودة. حصة دائرة الإرشاد الزراعي لا تتجاوز 5 بالمئة من التخصيصات المالية للوزارة، وهي مبالغ لا تكفي حتى لإطلاق حملة توعية، وليس برنامج دعم شامل للمربين!

هناك محاولات لتوفير المعدات بالتعاون مع شركات القطاع الخاص، وتشجيع المربين على الحصول على قروض مصرفية بضمانات يسيرة، لكن التنفيذ على الأرض ما يزال محدوداً.

مدير الثروة الحيوانية، وليد محمد رزوقي، يضع الصورة في إطار أكثر قسوة، يقول: “إن العراق يقف اليوم على حافة الجفاف، الأولوية راح تكون لتوفير مياه الشرب، حتى لو تركنا الزراعة وتربية الحيوانات”.

وينهي: “إذا وصلنا لهالمرحلة (الجفاف)، البلد راح يعتمد على الاستيراد بالكامل”.

يختتم أبو فضل بأن الخوف والجزع يغلبان عليه، وسبل المعيشة تكاد تنفد، والغالبية تفكر بالهجرة: “ناس راحت للعمالة أو صارت سواق تك تك أو تاكسي، وبعضهم مشى يشتغل حتى بالممنوعات”.