تفكيك وإعادة تعريف: لماذا لم ينجح مشروع العلمانيين في العراق؟ 

عبد الله ناهض

28 تشرين الأول 2025

هذا المقال يتتبع كيف تشكّل الخطاب العلماني والمدني في العراق بعد 2003، ومتى لمع نجمه، وكيف تراجع، ولماذا لم يستطع التحول إلى قوة سياسية مؤثرة… من مجلس الحكم إلى انتخابات 2025، ومن تحالفات مفاجئة إلى انقسامات متسارعة.

بعد سقوط النظام السابق على يد الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003، انكشف وعي العراقيين على مفاهيم وتعريفات وحركات مختلفة التسميات، مثل الديمقراطية والعلمانية والمدنية والتكنوقراط والمستقل وغيرها، لم تكن جديدة على مستوى التداول السياسي، إلّا أنها كانت جديدة فعلاً على العراقيين كممارسة بعد فترة حكم حزب البعث، الذي منع الحركات والأحزاب والحريات السياسية، وحكم البلاد بقبضة حديدية. 

 هبّت على العراقيين رياح هذه المسميات، ولم يُمنحوا المساحة والوقت الكافي لكي تترسخ في وعيهم وتفكيرهم. ساعد في ذلك الفشلُ الذي تراكم نتيجة التحديات الكبيرة التي واجهت العراق دفعة واحدة، وفشل قادته الجدد في إدارتها واحتوائها. 

ولعل سبباً مباشراً آخر أدى دوراً في تشويه هذه المصطلحات؛ وهو أن النظام السياسي الجديد قام على أساس المحاصصة والتوافقية والمذهبية التي وقفت حائلاً دون قيام حركات مدنية وعلمانية راسخة ومؤثرة، كما استُخدمَت هذه المصطلحات في غير محلّها أغلب الأحيان. 

مخاضات ما بعد التغيير  

بدأت العملية الأولى التي أسهمت في تشويه مفاهيم العلمانية والمدنية، أو الاستقلالية والتكنوقراطية مع مجلس الحكم العراقي(*)، إذ تم تعريف شخصيات سياسية، عرفت بكونها مدنية أو علمانية أو مستقلة أو تكنوقراطية، بأنها تقع ضمن خانة حصة المكون الشيعي أو السني، فـأحمد الجلبي، رئيس حزب المؤتمر الوطني العراقي، وإياد علاوي، رئيس حركة الوفاق الوطني العراقي، رغم أنهما علمانيا التوجه السياسي والفكري، تم تعريفهما بأنهما شيعيان عربيان، وشخصية مثل حميد مجيد موسى، رئيس الحزب الشيوعي العراقي، حُسب معهما على العرب الشيعة! وشخصيات مثل عدنان الباججي ونصير الجادرجي عُرِّفَت على أنها شخصيات عربية سنّية(2) رغم نشأتهم المدنية والعلمانية. وهذا يثير استفهامات عدّة حول النظام والشخصيات ذاتها: لماذا قبلت هذه الشخصيات بأن تعرف طائفياً بما يخالف توجهاتها الفكرية والسياسية؟ وأغلب الظن أن مفاعيل السلطة والنفوذ، والرغبة في المشاركة في المرحلة الجديدة من تاريخ العراق، أدى بها إلى القبول بذلك، وهو نوع من التنازل عن المتبنيات الحقيقية التي تؤمن بها هذه الشخصيات السياسية، ورأينا فيما بعد كيف أن معظم هذه الشخصيات تراجع، مع صعود متنامٍ للشخصيات والأحزاب السياسية المذهبية والدينية مثل حزب الدعوة، والحزب الإسلامي (السني)، والمجلس الأعلى، والتيار الصدري، والحزبين الكُرديين الاتحاد الوطني الكردستاني، والديمقراطي الكردستاني. 

في أول حكومة عراقية تشكلت بعد عام 2003، وهي حكومة إياد علاوي، كانت هنالك بعض الشخصيات التي تحسب على التكنوقراط، أو مستقلة وذات متبنيات علمانية ومدنية، وهذا رغم انتمائها الحزبي، مثل وزير الدفاع الأسبق حازم الشعلان، ووزير الكهرباء أيهم السامرائي، ووزير الثقافة مفيد الجزائري العضو في الحزب الشيوعي. أما بالنسبة لأول انتخابات نيابية عراقية، التي انبثقت عنها الجمعية الوطنية العراقية، سنجد أن الغالبية العظمى من المقاعد، التي عددها 275 مقعداً، ذهبت للائتلافات والأحزاب القائمة على أساس المذهب والقومية، في حين لم تنل حينها القائمة العراقية بزعامة علاوي رئيس الحكومة المؤقتة سوى 40 مقعداً، وهي كانت تضم خليطاً من أحزاب وتيارات أغلبها ذو توجه علماني، أما الحزب الشيوعي فقد تحصّل على مقعدين فقط. هذا على صعيد أهم القوى التي يفترض أنها علمانية، مدنية، مستقلة، تكنوقراط وفقاً للسياق العراقي. 

أما بالنسبة للحكومة العراقية الانتقالية برئاسة إبراهيم الجعفري، التي تشكّلت استناداً إلى مخرجات انتخابات الجمعية الوطنية العراقية، فضمت شخصيات توصف بكونها مدنية/ علمانية وأيضاً مستقلة وتكنوقراط، وهي كل من وزير المالية علي عبد الأمير علاوي، وأزهار الشيخلي التي اختيرت وزيرة الدولة لشؤون المرأة، ووزيرة الهجرة والمهجرين سهيلة عبد جعفر، وهي بعض الأمثلة على الشخصيات التي لم تكن حزبية حينها، إلّا أنها في الوقت ذاته صنفت مذهبياً. 

وإذا ما بحثنا في شخصيات الحكومة التي شكلها نوري المالكي عام 2006، سنجد من الشخصيات المستقلة والتكنوقراط وزير الدفاع الأسبق عبد القادر العبيدي، ووزير الداخلية جواد البولاني، الذي تسنم المنصب حينها بوصفه مستقلاً بعد أن انسحب من حزب المؤتمر الوطني الذي يتزعمه أحمد الجلبي، كما اختير رائد فهمي وزيراً للثقافة حينها، وهو سكرتير الحزب الشيوعي في الوقت الحالي. 

يُخلط أحياناً بين الانتماء السياسي والخبرة (التكنوقراط)، إذ عملت الأحزاب السياسية ذات الانتماء المذهبي على دعم مرشحين للوزارة من ضمن كوادرها، لكونهم “تكنوقراط” ويتمتعون بخبرة كبيرة في مجالهم، مثل وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبق، عبد ذياب العجيلي، الذي رُشح عن جبهة التوافق العراقية (السنية) وكان عضواً في الحزب الإسلامي العراقي. يُلاحَظ أنه حتى الشخصية “التكنوقراطية” والمستقلة التي تُرشح لتسنم منصب وزاري بحاجة إلى تزكية حزبية من قبل الأحزاب التي تهيمن على الوضع السياسي، وإلّا فلن تستطيع أن تتولى أي منصب.  

أمّا الانتخابات البرلمانية التي أُجريَت في عام 2010، فقد تصدّرتها القائمة العراقية بزعامة أياد علاوي بتحقيقها 91 مقعداً، والتي كانت تضم مزيجاً من أحزاب وتيارات عراقية مختلفة المشارب، يتبنى عدد من أعضائها “المدنية” و”العلمانية”. إلّا أنها تلاشت لأسباب داخلية وخارجية، فبالإضافة إلى عدم تجانسها، جاء قرار المحكمة الاتحادية القاضي بأن الكتلة النيابية الأكبر عدداً الواردة في المادة (76/ أولاً) من الدستور العراقي النافذ، هي تلك التي تتشكل بعد الانتخابات وليست الفائزة بها، محطماً آمال القائمة العراقية بتشكيل الحكومة. أما خارجياً، فكان للتحفظ والفيتو الإيراني دور مهم في عدم تشكيلها للحكومة. وهكذا تظافرت جملة من العوامل التي أدت إلى عدم نجاح “العراقية”، وتوجيه ضربة للقوى المدنية والعلمانية في العراق أثرت على مستقبلها السياسي. 

وربما كانت خارطة القوى السياسية المدنية والعلمانية فيها بعض الوضوح في المشاركة الانتخابية عام 2014، إذ حصدت القائمة العراقية بقيادة علّاوي 21 مقعداً، والتحالف المدني الديمقراطي ثلاثة مقاعد. وشهدت هذه الانتخابات تراجعاً ملحوظاً في عدد مقاعد العراقية، فضلاً عن استمرار هشاشة المدنية والعلمانية وتجارب المستقلين، فانعكس ذلك سلباً على تأثيرهم السياسي، وبقي تواجدهم شكلياً كأداة يلجأ إليها النظام السياسي في أوقات الأزمات وتزايد النقمة الشعبية، كما حصل في حكومة حيدر العبادي عام 2014، التي غلب عليها في البداية طابع المحاصصة والتوزيع المكوناتي، قبل إجراء بعض التعديلات نتيجة التظاهرات والضغوط السياسية الصدرية والشعبية، وشيوع مصطلح “التكنوقراط” الذي لم يغيّر لا هو ولا تغييرات التشكيلة الوزارية من واقع المعادلة السياسية المحاصصاتية شيئاً. 

ذوبان جدار الجليد بين الإسلاميين والمدنيين  

شهدت التحضيرات السياسية لانتخابات 2018، اختراقة لم تكن متوقعة على صعيد القوى المدنية والإسلامية، تمثلت بـ “تحالف سائرون”، الذي ضم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، والحزب الشيوعي العراقي، وأحزاباً أخرى علمانية ومدنية مثل حزب الاستقامة الوطني، وحزب التجمع الجمهوري العراقي، وحزب الترقي والإصلاح، وحزب الدولة العادلة، وحزب الشباب والتغيير. وكان الهدف الرئيس من التحالف حسب إعلانه هو الخروج عن المحاصصة والطائفية السياسية التي حكمت النظام السياسي العراقي بعد الاحتلال، فضلاً عن كسر الجمود والعداء المتبادل بين العلمانيين والإسلاميين. وبالفعل فاز التحالف في الانتخابات محققاً المركز الأول بـ54 مقعداً، إلّا أنه أيضاً لم يستطع تشكيل الحكومة، واضطر فيما بعد إلى القبول بمرشح التسوية عادل عبد المهدي، من أجل تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. تفكّك هذا التحالف فيما بعد، بحكم التناقضات الكبيرة بين الجانبين من الناحية الأيديولوجية والتوجهات السياسية، ساعد في ذلك تظاهرات تشرين 2019، ولا سيما بعد تخلي التيار الصدري عن دعم ساحات الاحتجاج والانسحاب منها، وذهابه باتجاه التسوية مع الفرقاء السياسيين، فضلاً عن رغبة الصدر الدائمة بالتفرد في القرار من دون الرجوع إلى حلفائه وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي. بالتالي يمكن القول إن هذا التحالف ولد ميتاً، لحجم الفروقات التي يصعب تقليصها بمجرد الاتفاق على “ثوابت وطنية”. 

زلزال تشرين يغير قواعد اللعبة: المستقلون في الواجهة 

خلت الحكومة من شخصيات مستقلة تكنوقراط أو علمانية، إلا من وزير الثقافة الاسبق عبد الامير الحمداني، المختص في علم الاثار والحضارات، والذي حسب استيزاره لمصلحة عصائب أهل الحق

لم تستمر حكومة عبد المهدي طويلاً، إذ بعد مرور عام واحد على تشكيل حكومته اندلعت مظاهرات احتجاجية ومطلبية في الأول من شهر تشرين الأول 2019، كان لتعامل الحكومة معها، وسقوط ضحايا بين المتظاهرين، دور في تفاقمها وتعقّد المشهد السياسي الحكومي. وقد وصلت مطالب المتظاهرين إلى حد المطالبة بإسقاط النظام، ووصلت معها البلاد إلى حالة من الشلل، فطالبت القوى الاحتجاجية باستقالة عبد المهدي، وضرورة محاسبته، وإصلاح النظام السياسي، فضلاً عن تشكيل حكومة مؤقتة مهمتها الإعداد لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وأن يقوم البرلمان بتشريع قانون انتخابي جديد يقوم على الدوائر المتعددة. وبعد تصاعد الاحتجاجات والاعتصامات في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، ومطالبة المرجعية العليا في النجف الحكومةَ بالاستقالة، أعلن عبد المهدي استقالته من الحكومة وقبلها البرلمان العراقي، ومن ثم خاطب رئيس الجمهورية السابق، برهم صالح، بضرورة تكليف شخصية أخرى لتشكيل الحكومة الجديدة. 

اختار النظام السياسي، وكنوع من امتصاص النقمة الشعبية والاحتجاجية، مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة التي يمكن وصفها بالانتقالية، مهمتها تهيئة البلاد للانتخابات البرلمانية المبكرة، بعد مخاض عسير استمر لسبعة أشهر عقب استقالة عبد المهدي، بسبب فشل التوافق بشأن ترشيح كل من محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي، ورفض مرشحين آخرين من قبل رئيس الجمهورية السابق برهم صالح. استقرت الاتفاقات على الكاظمي الذي كان يترأس جهاز المخابرات العراقي، إلّا أنه يُعتبر مستقلاً سياسياً وليس لديه انتماء حزبي أو طائفي، كما أنه يحسب على التيار المدني والعلماني أو الليبرالي. رغم أن التيار الاحتجاجي التشريني عدّ هذا الاختيار خارج رغبته، وأن السلطة لم تلبي مطالبه الحقيقية. ومع هذه التحديات حاول الكاظمي إيجاد توليفية حكومية متوازنة تلبي، قدر الإمكان، ضغط الشارع والقوى السياسي الحاكمة، إذ تم اختيار بعض الوزراء لكونهم مستقلين وتكنوقراط مثل وزيري الدفاع والداخلية، ووزير الثقافة الدكتور حسن ناظم، ووزير الشباب والرياضة عدنان درجال، ووزير المالية علي عبد الأمير علاوي، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور نبيل كاظم عباس، ووزير التخطيط منهل عزيز عبد الرحمن، وهكذا غلب على حكومة الكاظمي الطابع التكنوقراطي والمستقل وربما المدني والعلماني

ويبدو أن الفاعل السياسي المهيمن اختار حينها أن تكون حكومة الكاظمي بهذه الشاكلة، ليس إيماناً باستقلالية الوزراء ومدنيتهم وعلمانيتهم، بل كاستراتيجية مرحلية تهدف إلى تهدئة الشارع، ومن ثم العمل على تفكيك الكيان الاحتجاجي ترغيباً وترهيباً، وإقناع قطاع واسع من قادة الاحتجاج بأن المسار الوحيد لهم هو المشاركة في الانتخابات، ولكن من دون سؤال عن الآليات الديمقراطية الأخرى، أو من دون البحث في فساد النظام ومحاصصته. وهكذا بعد أن ذوت انتفاضة تشرين قرر العديد ممن شارك بها الذهاب نحو العمل السياسي المنظم، من خلال تشكيل الأحزاب السياسية، ومن ثم المشاركة في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت عام 2021، ولم يكن موقف حركات تشرين موحداً إزاء المشاركة، فجزء منها قرر المشاركة، وآخر قرر المقاطعة، وثالث انسحب من الساحة نهائياً. 

ومع ذلك، أسهمت انتخابات 2021، في إحداث فارق نوعي على صعيد النتائج، إذ تعرضت قوى الإطار التنسيقي لهزة وتراجع في النتائج وعدد المقاعد. بينما شهدنا صعوداً جيداً نسبياً لقوى الاحتجاج المدنية التي مثلت إحداها حركة امتداد، التي يتزعمها النائب علاء الركابي، الذي كان من الشخصيات البارزة في انتفاضة تشرين وتحديداً في محافظة ذي قار، وشخصيات أخرى مستقلة وممثلة للاحتجاج مثل النائب سجاد سالم، والنائب المستقل محمد عنوز الأكاديمي والمختص في القانون الدولي، إذ حصلت امتداد على تسعة مقاعد، وارتفع عددها إلى 15 مقعداً بعد انسحاب التيار الصدري. بالإضافة إلى قوى مستقلة أخرى إذ فاز 43 نائباً مستقلاً في هذه الانتخابات من بين 789 مرشحاً، وهذه من النتائج الفارقة التي أحدثها القانون الانتخابي الجديد، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هؤلاء ليسوا جميعهم يتمتعون بالاستقلال التام، فمنهم من ذوي الخلفيات العشائرية مثل مهيمن الحمداني، أو أنهم نواب ومسؤولون سابقون، أو أن بعضهم رشحوا بصفة مستقلة بدعم من الكتل السياسية المهيمنة، على أن ينضموا بعد الانتخابات إلى تلك الكتل، مثل وعد القدو، ومحمد المحمدي، وأسماء العاني(3). والغاية التي كانت وراء دعم المرشحين المستقلين من قبل بعض الكتل هي كسب الأصوات المتأرجحة الناقمة على الأحزاب التقليدية.  

على صعيد التحالفات والحركات المدنية، قررت حركة امتداد وحركات أخرى، مثل حركة نازل أخذ حقي الديمقراطية، ومنظمة الفاو زاخو، ومنظمة تشرين الوطنية، دخول السباق الانتخابي، بينما قررت قوى تشرينية أخرى مقاطعة الانتخابات لعدم توفر الظروف المناسبة، مثل البيت الوطني، وحركة 25 أكتوبر، والبيت العراقي، وتنظيم القوى المعارضة، وتجمع الرقابة الشعبية. 

أما بالنسبة لانتخابات مجالس المحافظات التي أجريت عام 2023، فقد أُقيمَت بمعية قانون سنت ليغو، باعتماد كل محافظة دائرة واحدة بدلاً من دوائر متعددة، كما تم اعتماده في انتخابات 2021 البرلمانية، ويعد هذا القانون ارتداداً على الإصلاحات التي طالبت بها تشرين، فقد تراجعت فيها حظوظ القوى المدنية قياساً بالانتخابات البرلمانية التي سبقتها، بل إن امتداد قررت عدم المشاركة بعد تفككها وفشلها البرلماني الذريع، واستشعارها خيبة أمل جمهورها الذي صوت لها. بينما قررت مجموعة من الأحزاب والحركات المدنية المناصرة لتشرين والمشاركة في انتفاضتها تشكيل تحالف قيم المدني، وهي التحالف الحزب الشيوعي العراقي، والتيار الاجتماعي الديمقراطي، والبيت الوطني، ونازل آخذ حقي، والحركة المدنية الوطنية، والجهات الفاعلة الأخرى التي انبثقت عن الاحتجاجات المناهضة للمؤسسة، ويعد النائب سجاد سالم أحد قادة التحالف فضلاً عن الدكتور علي الرفيعي. وحصل التحالف على ستة مقاعد في جميع المحافظات التي شارك فيها، وهي حصيلة متدنية جداً وتعكس خيبة أمل الجمهور من الحركات المدنية/ التشرينية. 

أين يقف العلمانيون والمدنيون والمستقلون والتكنوقراط في العراق؟ 

بعد هذا التتبع التأريخي للحركات والشخصيات السياسية العلمانية، المدنية، والمستقلة، والتكنوقراطية في الحياة السياسية العراقية بعد عام 2003، صار من الواضح أمامنا أن هذه المفاهيم ومن يتبناها يعانون من الهشاشة والإخفاق المستمر في الحالة العراقية، وذلك لأسباب منها ما يعود إلى أصحاب هذه المتبنيات، وأخرى تتعلق بالواقع الاجتماعي والسياسي العراقي وطبيعة النظام السياسي العراقي: 

الأسباب الداخلية 

  1. لا يوجد إيمان حقيقي بهذه المبادئ، وفي كثير من الأحيان يتم تبنيها من أجل الحصول على المكاسب السياسية، وبسبب ما تفرضه طبيعة المرحلة، كما حصل مع انتفاضة تشرين. 
  1. وجود شخصيات سببت أزمة داخل البيت العلماني والمدني وأسهمت في تشويهه، مثل فائق الشيخ علي، أو بعض الناشطين المدنيين الذين لا يفقهون العمل السياسي، ودخلوا في صراعات إعلامية مع القوى الأخرى التي عززت من الصورة السلبية المأخوذة عن هذه الحركات. 
  1. لم تختلف هذه الحركات بمختلف عناوينها عن بقية الحركات الإسلامية والدينية والقومية، من حيث مركزية السلطة الحزبية واستئثار القيادات بالقرار وانعدام الخيارات الديمقراطية داخلها. 
  1. الصراعات البينية والداخلية على الزعامة والقيادة، وتصدر المشهد بين أقطاب الحركة المدنية والعلمانية والمستقلين والتكنوقراط، فضلاً عن انعدام الموقف الموحد إزاء الوضع السياسي العراقي. 
  1. قبول أداء أدوار هامشية ضمن معادلة المحاصصة وتقاسم السلطة في العراق، وهذا كما يفترض لا يستقيم مع مبادئ العلمانية والمدنية الشائعة في الأعراف العراقية. 
  1. عدم قدرة هذه الحركات على الخروج من دائرة النخبوية وضيق دوائر انتشارها، وفشل محاولات كسب الطبقة الشعبية المتوسطة والفقيرة إلى جانبها وإقناعها بمشاريعها4

الأسباب الخارجية 

  1. المحاصصة والفساد والزبائنية التي تحكم النظام السياسي، وهيمنة فئة محددة على صنع القرار السياسي، تمثل عقبة أمام وجود تيارات وشخصيات علمانية ومدنية وتكنوقراطية ومستقلة. 
  1. لا تزال البيئة العراقية السياسية والاجتماعية ذات البعد الإسلامي تنظر بعين الريبة تجاه المفاهيم والحركات المدنية والعلمانية بوصفها معادية للدين الإسلامي، هذا الأمر أفقدها الزخم الاجتماعي والقاعدة الاجتماعية المطلوبة التي تجعل منها مشاريع سياسية راسخة، فضلاً عن أن بنية المجتمع العراقي القائمة على الأبوية والقرابة والعشائرية، لا تساعد على نجاح الاستقلالية والتكنوقراطية، فمعايير الولاء والانتماء مقدمة على جوانب الكفاءة والاستقلال. 
  1. اضطرّ السببان السابقان الحركاتِ السياسيةَ غير الإسلامية إلى ليّ عنق المتبنيات، ومحاولة إيجاد مقاربة لا تثير حفيظة المجتمع، ولهذا يتم استخدام مقاربة المدنية كنوع مخفف عن العلمانية، والتعبير عن موقف متصالح مع الدين والمذهب والطقوس. 

مع هذه التحديات، يقف العلمانيون، والمدنيون، والتكنوقراط، والمستقلون اليوم أمام مفترق طرق –إذا صح الوصف- فبعد جردة الحساب طوال السنوات الفائتة، ولا سيما بعد انتفاضة تشرين، التي أدت إلى ازدهار الحركة المدنية، أخفق ممثلو هذه الحركات في رسم الطريق الصحيح للمدنية والعلمانية في العراق.  

ولهذا تأتي انتخابات 11 تشرين الثاني  لعام 2025 البرلمانية في الوقت الذي تعاني فيه هذه الحركات تراجعاً كبيراً، كما أن بعض التجارب أسهمت في إيقاع الضرر بمعنى “الاستقلال السياسي” أو “المستقلون”، بسبب إخفاق تجربة المستقلين في برلمان 2021، وصار الكثير يتحسس من هذا المفهوم، ولا سيما مع ذهاب الكثير من البرلمانيين المستقلين نحو الأحزاب الحاكمة والمتنفذة السنية والشيعية، وحتى الذين صعدوا إلى البرلمان باسم المدنية والمدنيين مثل النائبة نور نافع، والنائب ضياء الهندي اللذين فازا ضمن حركة امتداد المدنية، ثم استقالا منها بعد ذلك بسبب خروقات قيادة الحركة وانتهاكها لمبادئ انتفاضة تشرين بحسب ادعائهما. إلّا أنهما اليوم مرشحان ضمن قائمة الإعمار والتنمية التي يتزعمها رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، الذي يُعَدُّ أحد سياسيي الطبقة التقليدية التي خرجت عليها انتفاضة تشرين، فضلاً عن وجود بعض أقطاب الجماعات المسلحة. 

بالإضافة إلى ذلك أعلنت حركات “نازل أخذ حقي” الديمقراطية، إحدى مخرجات انتفاضة تشرين، وحزب “أمارجي”، الذي يتبنى “الليبرالية المحافظة” حسب تصريح رئيسه قصي محبوبة، الذي يحتفظ بقربه من السلطة والنخبة الحاكمة، وعدم خروجه عن سرديات النظام السياسي الحاكم، وحزب مهنيون، أعلنوا الدخول في تحالف ثلاثي أطلقوا عليه “حلول“، والاشتراك في الانتخابات داخل ائتلاف الإعمار والتنمية. في وقت توزّع فيه باقي نواب حركة امتداد والمستقلين بين بقية الكتل السياسية، مثل دولة القانون، وتحالف عزم، وغيرهما من التحالفات. 

من جانب آخر، شكّلت مجموعة من القوى المدنية تحالف “البديل” برئاسة عدنان الزرفي، الذي يضم قوى الحزب الشيوعي، وحزب الاستقلال، والبيت الوطني، وتحالف الاقتصاد العراقي/ اقتصاديون، وحركة كفى، وتحالف المستقلين، وحزب الريادة العراقي، والحركة المدنية الوطنية، وتيار بناة العراق، وحركة المثقف العراقي، والتيار الديمقراطي، وحزب التجمع الجهوري العراقي، وحركة الوفاء العراقية. ويعرف التحالف نفسه بأنه “تحالف سياسي وطني، مدني، مستقل، إصلاحي، يضم نخبة من القوى الوطنية والمدنية والمستقلين وثوار تشرين، ويجتمع على رؤية مشتركة لإعادة بناء الدولة العراقية على أسس الكفاءة والنزاهة والعدالة الاجتماعية”. وأيضاً هنالك التحالف المدني الديمقراطي الذي أعلن عن مشاركته في الانتخابات المقبلة رافعاً شعار دولة مدنية – عدالة اجتماعية، يترأسه علي الرفيعي، ويضم بعض القوى مثل التيار الاجتماعي الديمقراطي، والمبادرة الوطنية موطني، والأفق المتجدد، هذا التحالف قريب من حركات الاحتجاج المدنية، ويضم نخبة واسعة من المدنيين والمستقلين والنخب وممثلي النقابات، وشاركت أقطابه ضمن انتفاضة تشرين، ويمثل معارضة مدنية للنظام السياسي تحاول التأثير سياسياً من خلال المشاركة المستمرة في الانتخابات. 

يلاحظ في تعريفات وخطاب هذه القوى وجود مصطلحَيْ “مدني”، و”مستقل”، وهما لفظان مكرران، ملفوفان بالضبابية وعدم وضوح الرؤية السياسية، فهما يريدان إيصال فكرة مفادها أن حاملها ليس منخرطاً في العملية السياسية “المتهمة والمشبوهة” أو أحزابها، لكنه في الحقيقة منخرط أو يسعى للانخراط في العمل السياسي الحزبي أو البرلماني أو الوزاري، ولا يعمل من يرفع هذه الشعارات في بيئة معزولة تماماً، ولا سيما إذا ما عرفنا أن السياسي يؤثر ويتأثر، وهذا هو أحد مسارات السياسة حيث لا تعمل بمعزل عن الآخرين. بالتالي صار مفهوم “المستقل” يشوبه الكثير من الشبهات، وأن الكثيرين استخدموه واجهة للترقي والصعود السياسي، ولا سيما في انتخابات 2021. 

ينسحب ذلك أيضاً على بقية المفاهيم (علمانيون، مدنيون، تكنوقراط)، التي يعتقد من يتبناها في العراق أن مجرد تبنيها يعني الحصول على صك الغفران والبراءة، وحيازة الأفضلية على حساب القوى الإسلامية والدينية، وأن المجتمع سيقف خلفه من دون أدنى تفكير، وهذا خطأ سياسي فادح، بالتالي هي مسميات أكثر من كونها مشاريع حقيقية، ولعل هذا من الأسباب الأخرى التي أدت إلى فشل هذه المشاريع. 

انتخابات 2025: الموجة الأخيرة 

أدى تضارب الرؤى تجاه الوضع السياسي العراقي، والضعف، وانعدام الخبرة السياسية من جانب الحركات السياسية المدينة، سواء السابقة أو تلك التي خرجت من تحت سقف تشرين، والفشل الذي واكب هذا التحول، وعدم قدرة الحركات الاحتجاجية على صنع أنموذج أو مشروع سياسي مستدام يمثل جمهورها ويجمعه، فضلاً عن فشل هذه الحركات في استقطاب كتلة واسعة من الشعب العراقي يمكن وصفها بـ “غير المكترثة”، والتي لا تشارك في أية فعالية سياسية أو انتخابية؛ أدى كل ذلك إلى استمرار إخفاق الحركات والشخصيات التي سارت على هذا الدرب. 

كما لم تكن “المدنية” و”العلمانية” أو “المستقل” و”التكنوقراط” في العراق مشاريع سياسية حقيقية ومستدامة، بل لحظات عابرة في عمر النظام والعمل السياسيّين في العراق، ولم تستطع ترسيخ جذورها في الواقع السياسي والشعبي العراقي، ولاحظنا ذلك في أكثر من تجربة، وما عملية إعادة إنتاج التحالفات وتبدلاتها المستمرة إلّا  دليل على مستوى التخبط الذي تعاني منه هذه القوى في العراق، إذ إن أول خطوات الرسوخ يتمثل في ديمومة المشروع، لا أن يتم في كل مرة إيجاد تشكيل جديد يُهدم ما إن تنتهي الانتخابات، بالتالي هي مشاريع انتخابية وليست “سياسية مستدامة” تعمل وتخطط للمستقبل. 

إزاء كل ما تقدم، يبدو أن حظوظ وفرص هذه القوى في انتخابات 2025 ستكون متدنية وضئيلة، ولن تستطيع الحفاظ على مكتسبات انتخابات 2021، وهذا الإخفاق أسبابه الرئيسة تعود إلى هذه القوى تحديداً، وفشلها في تحويل فرصة الانتخابات السابقة إلى مشروع سياسي راسخ ومستدام، فتعزّرت الرؤية التي تدعو إلى مقاطعة الانتخابات التي دعت إليها قوى مدنية أخرى مثل حزب الخط الوطني، ما يرجّح عدم تحقيق اختراق شبيه بالانتخابات البرلمانية السابقة، وتراجع هذه القوى المدنية إلى وضعها الذي سبق انتفاضة تشرين، والمتمثل في الحصول على عدد بسيط من المقاعد لن يتجاوز، في أحسن الأحوال، 10 مقاعد. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بعد سقوط النظام السابق على يد الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003، انكشف وعي العراقيين على مفاهيم وتعريفات وحركات مختلفة التسميات، مثل الديمقراطية والعلمانية والمدنية والتكنوقراط والمستقل وغيرها، لم تكن جديدة على مستوى التداول السياسي، إلّا أنها كانت جديدة فعلاً على العراقيين كممارسة بعد فترة حكم حزب البعث، الذي منع الحركات والأحزاب والحريات السياسية، وحكم البلاد بقبضة حديدية. 

 هبّت على العراقيين رياح هذه المسميات، ولم يُمنحوا المساحة والوقت الكافي لكي تترسخ في وعيهم وتفكيرهم. ساعد في ذلك الفشلُ الذي تراكم نتيجة التحديات الكبيرة التي واجهت العراق دفعة واحدة، وفشل قادته الجدد في إدارتها واحتوائها. 

ولعل سبباً مباشراً آخر أدى دوراً في تشويه هذه المصطلحات؛ وهو أن النظام السياسي الجديد قام على أساس المحاصصة والتوافقية والمذهبية التي وقفت حائلاً دون قيام حركات مدنية وعلمانية راسخة ومؤثرة، كما استُخدمَت هذه المصطلحات في غير محلّها أغلب الأحيان. 

مخاضات ما بعد التغيير  

بدأت العملية الأولى التي أسهمت في تشويه مفاهيم العلمانية والمدنية، أو الاستقلالية والتكنوقراطية مع مجلس الحكم العراقي(*)، إذ تم تعريف شخصيات سياسية، عرفت بكونها مدنية أو علمانية أو مستقلة أو تكنوقراطية، بأنها تقع ضمن خانة حصة المكون الشيعي أو السني، فـأحمد الجلبي، رئيس حزب المؤتمر الوطني العراقي، وإياد علاوي، رئيس حركة الوفاق الوطني العراقي، رغم أنهما علمانيا التوجه السياسي والفكري، تم تعريفهما بأنهما شيعيان عربيان، وشخصية مثل حميد مجيد موسى، رئيس الحزب الشيوعي العراقي، حُسب معهما على العرب الشيعة! وشخصيات مثل عدنان الباججي ونصير الجادرجي عُرِّفَت على أنها شخصيات عربية سنّية(2) رغم نشأتهم المدنية والعلمانية. وهذا يثير استفهامات عدّة حول النظام والشخصيات ذاتها: لماذا قبلت هذه الشخصيات بأن تعرف طائفياً بما يخالف توجهاتها الفكرية والسياسية؟ وأغلب الظن أن مفاعيل السلطة والنفوذ، والرغبة في المشاركة في المرحلة الجديدة من تاريخ العراق، أدى بها إلى القبول بذلك، وهو نوع من التنازل عن المتبنيات الحقيقية التي تؤمن بها هذه الشخصيات السياسية، ورأينا فيما بعد كيف أن معظم هذه الشخصيات تراجع، مع صعود متنامٍ للشخصيات والأحزاب السياسية المذهبية والدينية مثل حزب الدعوة، والحزب الإسلامي (السني)، والمجلس الأعلى، والتيار الصدري، والحزبين الكُرديين الاتحاد الوطني الكردستاني، والديمقراطي الكردستاني. 

في أول حكومة عراقية تشكلت بعد عام 2003، وهي حكومة إياد علاوي، كانت هنالك بعض الشخصيات التي تحسب على التكنوقراط، أو مستقلة وذات متبنيات علمانية ومدنية، وهذا رغم انتمائها الحزبي، مثل وزير الدفاع الأسبق حازم الشعلان، ووزير الكهرباء أيهم السامرائي، ووزير الثقافة مفيد الجزائري العضو في الحزب الشيوعي. أما بالنسبة لأول انتخابات نيابية عراقية، التي انبثقت عنها الجمعية الوطنية العراقية، سنجد أن الغالبية العظمى من المقاعد، التي عددها 275 مقعداً، ذهبت للائتلافات والأحزاب القائمة على أساس المذهب والقومية، في حين لم تنل حينها القائمة العراقية بزعامة علاوي رئيس الحكومة المؤقتة سوى 40 مقعداً، وهي كانت تضم خليطاً من أحزاب وتيارات أغلبها ذو توجه علماني، أما الحزب الشيوعي فقد تحصّل على مقعدين فقط. هذا على صعيد أهم القوى التي يفترض أنها علمانية، مدنية، مستقلة، تكنوقراط وفقاً للسياق العراقي. 

أما بالنسبة للحكومة العراقية الانتقالية برئاسة إبراهيم الجعفري، التي تشكّلت استناداً إلى مخرجات انتخابات الجمعية الوطنية العراقية، فضمت شخصيات توصف بكونها مدنية/ علمانية وأيضاً مستقلة وتكنوقراط، وهي كل من وزير المالية علي عبد الأمير علاوي، وأزهار الشيخلي التي اختيرت وزيرة الدولة لشؤون المرأة، ووزيرة الهجرة والمهجرين سهيلة عبد جعفر، وهي بعض الأمثلة على الشخصيات التي لم تكن حزبية حينها، إلّا أنها في الوقت ذاته صنفت مذهبياً. 

وإذا ما بحثنا في شخصيات الحكومة التي شكلها نوري المالكي عام 2006، سنجد من الشخصيات المستقلة والتكنوقراط وزير الدفاع الأسبق عبد القادر العبيدي، ووزير الداخلية جواد البولاني، الذي تسنم المنصب حينها بوصفه مستقلاً بعد أن انسحب من حزب المؤتمر الوطني الذي يتزعمه أحمد الجلبي، كما اختير رائد فهمي وزيراً للثقافة حينها، وهو سكرتير الحزب الشيوعي في الوقت الحالي. 

يُخلط أحياناً بين الانتماء السياسي والخبرة (التكنوقراط)، إذ عملت الأحزاب السياسية ذات الانتماء المذهبي على دعم مرشحين للوزارة من ضمن كوادرها، لكونهم “تكنوقراط” ويتمتعون بخبرة كبيرة في مجالهم، مثل وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبق، عبد ذياب العجيلي، الذي رُشح عن جبهة التوافق العراقية (السنية) وكان عضواً في الحزب الإسلامي العراقي. يُلاحَظ أنه حتى الشخصية “التكنوقراطية” والمستقلة التي تُرشح لتسنم منصب وزاري بحاجة إلى تزكية حزبية من قبل الأحزاب التي تهيمن على الوضع السياسي، وإلّا فلن تستطيع أن تتولى أي منصب.  

أمّا الانتخابات البرلمانية التي أُجريَت في عام 2010، فقد تصدّرتها القائمة العراقية بزعامة أياد علاوي بتحقيقها 91 مقعداً، والتي كانت تضم مزيجاً من أحزاب وتيارات عراقية مختلفة المشارب، يتبنى عدد من أعضائها “المدنية” و”العلمانية”. إلّا أنها تلاشت لأسباب داخلية وخارجية، فبالإضافة إلى عدم تجانسها، جاء قرار المحكمة الاتحادية القاضي بأن الكتلة النيابية الأكبر عدداً الواردة في المادة (76/ أولاً) من الدستور العراقي النافذ، هي تلك التي تتشكل بعد الانتخابات وليست الفائزة بها، محطماً آمال القائمة العراقية بتشكيل الحكومة. أما خارجياً، فكان للتحفظ والفيتو الإيراني دور مهم في عدم تشكيلها للحكومة. وهكذا تظافرت جملة من العوامل التي أدت إلى عدم نجاح “العراقية”، وتوجيه ضربة للقوى المدنية والعلمانية في العراق أثرت على مستقبلها السياسي. 

وربما كانت خارطة القوى السياسية المدنية والعلمانية فيها بعض الوضوح في المشاركة الانتخابية عام 2014، إذ حصدت القائمة العراقية بقيادة علّاوي 21 مقعداً، والتحالف المدني الديمقراطي ثلاثة مقاعد. وشهدت هذه الانتخابات تراجعاً ملحوظاً في عدد مقاعد العراقية، فضلاً عن استمرار هشاشة المدنية والعلمانية وتجارب المستقلين، فانعكس ذلك سلباً على تأثيرهم السياسي، وبقي تواجدهم شكلياً كأداة يلجأ إليها النظام السياسي في أوقات الأزمات وتزايد النقمة الشعبية، كما حصل في حكومة حيدر العبادي عام 2014، التي غلب عليها في البداية طابع المحاصصة والتوزيع المكوناتي، قبل إجراء بعض التعديلات نتيجة التظاهرات والضغوط السياسية الصدرية والشعبية، وشيوع مصطلح “التكنوقراط” الذي لم يغيّر لا هو ولا تغييرات التشكيلة الوزارية من واقع المعادلة السياسية المحاصصاتية شيئاً. 

ذوبان جدار الجليد بين الإسلاميين والمدنيين  

شهدت التحضيرات السياسية لانتخابات 2018، اختراقة لم تكن متوقعة على صعيد القوى المدنية والإسلامية، تمثلت بـ “تحالف سائرون”، الذي ضم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، والحزب الشيوعي العراقي، وأحزاباً أخرى علمانية ومدنية مثل حزب الاستقامة الوطني، وحزب التجمع الجمهوري العراقي، وحزب الترقي والإصلاح، وحزب الدولة العادلة، وحزب الشباب والتغيير. وكان الهدف الرئيس من التحالف حسب إعلانه هو الخروج عن المحاصصة والطائفية السياسية التي حكمت النظام السياسي العراقي بعد الاحتلال، فضلاً عن كسر الجمود والعداء المتبادل بين العلمانيين والإسلاميين. وبالفعل فاز التحالف في الانتخابات محققاً المركز الأول بـ54 مقعداً، إلّا أنه أيضاً لم يستطع تشكيل الحكومة، واضطر فيما بعد إلى القبول بمرشح التسوية عادل عبد المهدي، من أجل تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. تفكّك هذا التحالف فيما بعد، بحكم التناقضات الكبيرة بين الجانبين من الناحية الأيديولوجية والتوجهات السياسية، ساعد في ذلك تظاهرات تشرين 2019، ولا سيما بعد تخلي التيار الصدري عن دعم ساحات الاحتجاج والانسحاب منها، وذهابه باتجاه التسوية مع الفرقاء السياسيين، فضلاً عن رغبة الصدر الدائمة بالتفرد في القرار من دون الرجوع إلى حلفائه وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي. بالتالي يمكن القول إن هذا التحالف ولد ميتاً، لحجم الفروقات التي يصعب تقليصها بمجرد الاتفاق على “ثوابت وطنية”. 

زلزال تشرين يغير قواعد اللعبة: المستقلون في الواجهة 

خلت الحكومة من شخصيات مستقلة تكنوقراط أو علمانية، إلا من وزير الثقافة الاسبق عبد الامير الحمداني، المختص في علم الاثار والحضارات، والذي حسب استيزاره لمصلحة عصائب أهل الحق

لم تستمر حكومة عبد المهدي طويلاً، إذ بعد مرور عام واحد على تشكيل حكومته اندلعت مظاهرات احتجاجية ومطلبية في الأول من شهر تشرين الأول 2019، كان لتعامل الحكومة معها، وسقوط ضحايا بين المتظاهرين، دور في تفاقمها وتعقّد المشهد السياسي الحكومي. وقد وصلت مطالب المتظاهرين إلى حد المطالبة بإسقاط النظام، ووصلت معها البلاد إلى حالة من الشلل، فطالبت القوى الاحتجاجية باستقالة عبد المهدي، وضرورة محاسبته، وإصلاح النظام السياسي، فضلاً عن تشكيل حكومة مؤقتة مهمتها الإعداد لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وأن يقوم البرلمان بتشريع قانون انتخابي جديد يقوم على الدوائر المتعددة. وبعد تصاعد الاحتجاجات والاعتصامات في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، ومطالبة المرجعية العليا في النجف الحكومةَ بالاستقالة، أعلن عبد المهدي استقالته من الحكومة وقبلها البرلمان العراقي، ومن ثم خاطب رئيس الجمهورية السابق، برهم صالح، بضرورة تكليف شخصية أخرى لتشكيل الحكومة الجديدة. 

اختار النظام السياسي، وكنوع من امتصاص النقمة الشعبية والاحتجاجية، مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة التي يمكن وصفها بالانتقالية، مهمتها تهيئة البلاد للانتخابات البرلمانية المبكرة، بعد مخاض عسير استمر لسبعة أشهر عقب استقالة عبد المهدي، بسبب فشل التوافق بشأن ترشيح كل من محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي، ورفض مرشحين آخرين من قبل رئيس الجمهورية السابق برهم صالح. استقرت الاتفاقات على الكاظمي الذي كان يترأس جهاز المخابرات العراقي، إلّا أنه يُعتبر مستقلاً سياسياً وليس لديه انتماء حزبي أو طائفي، كما أنه يحسب على التيار المدني والعلماني أو الليبرالي. رغم أن التيار الاحتجاجي التشريني عدّ هذا الاختيار خارج رغبته، وأن السلطة لم تلبي مطالبه الحقيقية. ومع هذه التحديات حاول الكاظمي إيجاد توليفية حكومية متوازنة تلبي، قدر الإمكان، ضغط الشارع والقوى السياسي الحاكمة، إذ تم اختيار بعض الوزراء لكونهم مستقلين وتكنوقراط مثل وزيري الدفاع والداخلية، ووزير الثقافة الدكتور حسن ناظم، ووزير الشباب والرياضة عدنان درجال، ووزير المالية علي عبد الأمير علاوي، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور نبيل كاظم عباس، ووزير التخطيط منهل عزيز عبد الرحمن، وهكذا غلب على حكومة الكاظمي الطابع التكنوقراطي والمستقل وربما المدني والعلماني

ويبدو أن الفاعل السياسي المهيمن اختار حينها أن تكون حكومة الكاظمي بهذه الشاكلة، ليس إيماناً باستقلالية الوزراء ومدنيتهم وعلمانيتهم، بل كاستراتيجية مرحلية تهدف إلى تهدئة الشارع، ومن ثم العمل على تفكيك الكيان الاحتجاجي ترغيباً وترهيباً، وإقناع قطاع واسع من قادة الاحتجاج بأن المسار الوحيد لهم هو المشاركة في الانتخابات، ولكن من دون سؤال عن الآليات الديمقراطية الأخرى، أو من دون البحث في فساد النظام ومحاصصته. وهكذا بعد أن ذوت انتفاضة تشرين قرر العديد ممن شارك بها الذهاب نحو العمل السياسي المنظم، من خلال تشكيل الأحزاب السياسية، ومن ثم المشاركة في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت عام 2021، ولم يكن موقف حركات تشرين موحداً إزاء المشاركة، فجزء منها قرر المشاركة، وآخر قرر المقاطعة، وثالث انسحب من الساحة نهائياً. 

ومع ذلك، أسهمت انتخابات 2021، في إحداث فارق نوعي على صعيد النتائج، إذ تعرضت قوى الإطار التنسيقي لهزة وتراجع في النتائج وعدد المقاعد. بينما شهدنا صعوداً جيداً نسبياً لقوى الاحتجاج المدنية التي مثلت إحداها حركة امتداد، التي يتزعمها النائب علاء الركابي، الذي كان من الشخصيات البارزة في انتفاضة تشرين وتحديداً في محافظة ذي قار، وشخصيات أخرى مستقلة وممثلة للاحتجاج مثل النائب سجاد سالم، والنائب المستقل محمد عنوز الأكاديمي والمختص في القانون الدولي، إذ حصلت امتداد على تسعة مقاعد، وارتفع عددها إلى 15 مقعداً بعد انسحاب التيار الصدري. بالإضافة إلى قوى مستقلة أخرى إذ فاز 43 نائباً مستقلاً في هذه الانتخابات من بين 789 مرشحاً، وهذه من النتائج الفارقة التي أحدثها القانون الانتخابي الجديد، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هؤلاء ليسوا جميعهم يتمتعون بالاستقلال التام، فمنهم من ذوي الخلفيات العشائرية مثل مهيمن الحمداني، أو أنهم نواب ومسؤولون سابقون، أو أن بعضهم رشحوا بصفة مستقلة بدعم من الكتل السياسية المهيمنة، على أن ينضموا بعد الانتخابات إلى تلك الكتل، مثل وعد القدو، ومحمد المحمدي، وأسماء العاني(3). والغاية التي كانت وراء دعم المرشحين المستقلين من قبل بعض الكتل هي كسب الأصوات المتأرجحة الناقمة على الأحزاب التقليدية.  

على صعيد التحالفات والحركات المدنية، قررت حركة امتداد وحركات أخرى، مثل حركة نازل أخذ حقي الديمقراطية، ومنظمة الفاو زاخو، ومنظمة تشرين الوطنية، دخول السباق الانتخابي، بينما قررت قوى تشرينية أخرى مقاطعة الانتخابات لعدم توفر الظروف المناسبة، مثل البيت الوطني، وحركة 25 أكتوبر، والبيت العراقي، وتنظيم القوى المعارضة، وتجمع الرقابة الشعبية. 

أما بالنسبة لانتخابات مجالس المحافظات التي أجريت عام 2023، فقد أُقيمَت بمعية قانون سنت ليغو، باعتماد كل محافظة دائرة واحدة بدلاً من دوائر متعددة، كما تم اعتماده في انتخابات 2021 البرلمانية، ويعد هذا القانون ارتداداً على الإصلاحات التي طالبت بها تشرين، فقد تراجعت فيها حظوظ القوى المدنية قياساً بالانتخابات البرلمانية التي سبقتها، بل إن امتداد قررت عدم المشاركة بعد تفككها وفشلها البرلماني الذريع، واستشعارها خيبة أمل جمهورها الذي صوت لها. بينما قررت مجموعة من الأحزاب والحركات المدنية المناصرة لتشرين والمشاركة في انتفاضتها تشكيل تحالف قيم المدني، وهي التحالف الحزب الشيوعي العراقي، والتيار الاجتماعي الديمقراطي، والبيت الوطني، ونازل آخذ حقي، والحركة المدنية الوطنية، والجهات الفاعلة الأخرى التي انبثقت عن الاحتجاجات المناهضة للمؤسسة، ويعد النائب سجاد سالم أحد قادة التحالف فضلاً عن الدكتور علي الرفيعي. وحصل التحالف على ستة مقاعد في جميع المحافظات التي شارك فيها، وهي حصيلة متدنية جداً وتعكس خيبة أمل الجمهور من الحركات المدنية/ التشرينية. 

أين يقف العلمانيون والمدنيون والمستقلون والتكنوقراط في العراق؟ 

بعد هذا التتبع التأريخي للحركات والشخصيات السياسية العلمانية، المدنية، والمستقلة، والتكنوقراطية في الحياة السياسية العراقية بعد عام 2003، صار من الواضح أمامنا أن هذه المفاهيم ومن يتبناها يعانون من الهشاشة والإخفاق المستمر في الحالة العراقية، وذلك لأسباب منها ما يعود إلى أصحاب هذه المتبنيات، وأخرى تتعلق بالواقع الاجتماعي والسياسي العراقي وطبيعة النظام السياسي العراقي: 

الأسباب الداخلية 

  1. لا يوجد إيمان حقيقي بهذه المبادئ، وفي كثير من الأحيان يتم تبنيها من أجل الحصول على المكاسب السياسية، وبسبب ما تفرضه طبيعة المرحلة، كما حصل مع انتفاضة تشرين. 
  1. وجود شخصيات سببت أزمة داخل البيت العلماني والمدني وأسهمت في تشويهه، مثل فائق الشيخ علي، أو بعض الناشطين المدنيين الذين لا يفقهون العمل السياسي، ودخلوا في صراعات إعلامية مع القوى الأخرى التي عززت من الصورة السلبية المأخوذة عن هذه الحركات. 
  1. لم تختلف هذه الحركات بمختلف عناوينها عن بقية الحركات الإسلامية والدينية والقومية، من حيث مركزية السلطة الحزبية واستئثار القيادات بالقرار وانعدام الخيارات الديمقراطية داخلها. 
  1. الصراعات البينية والداخلية على الزعامة والقيادة، وتصدر المشهد بين أقطاب الحركة المدنية والعلمانية والمستقلين والتكنوقراط، فضلاً عن انعدام الموقف الموحد إزاء الوضع السياسي العراقي. 
  1. قبول أداء أدوار هامشية ضمن معادلة المحاصصة وتقاسم السلطة في العراق، وهذا كما يفترض لا يستقيم مع مبادئ العلمانية والمدنية الشائعة في الأعراف العراقية. 
  1. عدم قدرة هذه الحركات على الخروج من دائرة النخبوية وضيق دوائر انتشارها، وفشل محاولات كسب الطبقة الشعبية المتوسطة والفقيرة إلى جانبها وإقناعها بمشاريعها4

الأسباب الخارجية 

  1. المحاصصة والفساد والزبائنية التي تحكم النظام السياسي، وهيمنة فئة محددة على صنع القرار السياسي، تمثل عقبة أمام وجود تيارات وشخصيات علمانية ومدنية وتكنوقراطية ومستقلة. 
  1. لا تزال البيئة العراقية السياسية والاجتماعية ذات البعد الإسلامي تنظر بعين الريبة تجاه المفاهيم والحركات المدنية والعلمانية بوصفها معادية للدين الإسلامي، هذا الأمر أفقدها الزخم الاجتماعي والقاعدة الاجتماعية المطلوبة التي تجعل منها مشاريع سياسية راسخة، فضلاً عن أن بنية المجتمع العراقي القائمة على الأبوية والقرابة والعشائرية، لا تساعد على نجاح الاستقلالية والتكنوقراطية، فمعايير الولاء والانتماء مقدمة على جوانب الكفاءة والاستقلال. 
  1. اضطرّ السببان السابقان الحركاتِ السياسيةَ غير الإسلامية إلى ليّ عنق المتبنيات، ومحاولة إيجاد مقاربة لا تثير حفيظة المجتمع، ولهذا يتم استخدام مقاربة المدنية كنوع مخفف عن العلمانية، والتعبير عن موقف متصالح مع الدين والمذهب والطقوس. 

مع هذه التحديات، يقف العلمانيون، والمدنيون، والتكنوقراط، والمستقلون اليوم أمام مفترق طرق –إذا صح الوصف- فبعد جردة الحساب طوال السنوات الفائتة، ولا سيما بعد انتفاضة تشرين، التي أدت إلى ازدهار الحركة المدنية، أخفق ممثلو هذه الحركات في رسم الطريق الصحيح للمدنية والعلمانية في العراق.  

ولهذا تأتي انتخابات 11 تشرين الثاني  لعام 2025 البرلمانية في الوقت الذي تعاني فيه هذه الحركات تراجعاً كبيراً، كما أن بعض التجارب أسهمت في إيقاع الضرر بمعنى “الاستقلال السياسي” أو “المستقلون”، بسبب إخفاق تجربة المستقلين في برلمان 2021، وصار الكثير يتحسس من هذا المفهوم، ولا سيما مع ذهاب الكثير من البرلمانيين المستقلين نحو الأحزاب الحاكمة والمتنفذة السنية والشيعية، وحتى الذين صعدوا إلى البرلمان باسم المدنية والمدنيين مثل النائبة نور نافع، والنائب ضياء الهندي اللذين فازا ضمن حركة امتداد المدنية، ثم استقالا منها بعد ذلك بسبب خروقات قيادة الحركة وانتهاكها لمبادئ انتفاضة تشرين بحسب ادعائهما. إلّا أنهما اليوم مرشحان ضمن قائمة الإعمار والتنمية التي يتزعمها رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، الذي يُعَدُّ أحد سياسيي الطبقة التقليدية التي خرجت عليها انتفاضة تشرين، فضلاً عن وجود بعض أقطاب الجماعات المسلحة. 

بالإضافة إلى ذلك أعلنت حركات “نازل أخذ حقي” الديمقراطية، إحدى مخرجات انتفاضة تشرين، وحزب “أمارجي”، الذي يتبنى “الليبرالية المحافظة” حسب تصريح رئيسه قصي محبوبة، الذي يحتفظ بقربه من السلطة والنخبة الحاكمة، وعدم خروجه عن سرديات النظام السياسي الحاكم، وحزب مهنيون، أعلنوا الدخول في تحالف ثلاثي أطلقوا عليه “حلول“، والاشتراك في الانتخابات داخل ائتلاف الإعمار والتنمية. في وقت توزّع فيه باقي نواب حركة امتداد والمستقلين بين بقية الكتل السياسية، مثل دولة القانون، وتحالف عزم، وغيرهما من التحالفات. 

من جانب آخر، شكّلت مجموعة من القوى المدنية تحالف “البديل” برئاسة عدنان الزرفي، الذي يضم قوى الحزب الشيوعي، وحزب الاستقلال، والبيت الوطني، وتحالف الاقتصاد العراقي/ اقتصاديون، وحركة كفى، وتحالف المستقلين، وحزب الريادة العراقي، والحركة المدنية الوطنية، وتيار بناة العراق، وحركة المثقف العراقي، والتيار الديمقراطي، وحزب التجمع الجهوري العراقي، وحركة الوفاء العراقية. ويعرف التحالف نفسه بأنه “تحالف سياسي وطني، مدني، مستقل، إصلاحي، يضم نخبة من القوى الوطنية والمدنية والمستقلين وثوار تشرين، ويجتمع على رؤية مشتركة لإعادة بناء الدولة العراقية على أسس الكفاءة والنزاهة والعدالة الاجتماعية”. وأيضاً هنالك التحالف المدني الديمقراطي الذي أعلن عن مشاركته في الانتخابات المقبلة رافعاً شعار دولة مدنية – عدالة اجتماعية، يترأسه علي الرفيعي، ويضم بعض القوى مثل التيار الاجتماعي الديمقراطي، والمبادرة الوطنية موطني، والأفق المتجدد، هذا التحالف قريب من حركات الاحتجاج المدنية، ويضم نخبة واسعة من المدنيين والمستقلين والنخب وممثلي النقابات، وشاركت أقطابه ضمن انتفاضة تشرين، ويمثل معارضة مدنية للنظام السياسي تحاول التأثير سياسياً من خلال المشاركة المستمرة في الانتخابات. 

يلاحظ في تعريفات وخطاب هذه القوى وجود مصطلحَيْ “مدني”، و”مستقل”، وهما لفظان مكرران، ملفوفان بالضبابية وعدم وضوح الرؤية السياسية، فهما يريدان إيصال فكرة مفادها أن حاملها ليس منخرطاً في العملية السياسية “المتهمة والمشبوهة” أو أحزابها، لكنه في الحقيقة منخرط أو يسعى للانخراط في العمل السياسي الحزبي أو البرلماني أو الوزاري، ولا يعمل من يرفع هذه الشعارات في بيئة معزولة تماماً، ولا سيما إذا ما عرفنا أن السياسي يؤثر ويتأثر، وهذا هو أحد مسارات السياسة حيث لا تعمل بمعزل عن الآخرين. بالتالي صار مفهوم “المستقل” يشوبه الكثير من الشبهات، وأن الكثيرين استخدموه واجهة للترقي والصعود السياسي، ولا سيما في انتخابات 2021. 

ينسحب ذلك أيضاً على بقية المفاهيم (علمانيون، مدنيون، تكنوقراط)، التي يعتقد من يتبناها في العراق أن مجرد تبنيها يعني الحصول على صك الغفران والبراءة، وحيازة الأفضلية على حساب القوى الإسلامية والدينية، وأن المجتمع سيقف خلفه من دون أدنى تفكير، وهذا خطأ سياسي فادح، بالتالي هي مسميات أكثر من كونها مشاريع حقيقية، ولعل هذا من الأسباب الأخرى التي أدت إلى فشل هذه المشاريع. 

انتخابات 2025: الموجة الأخيرة 

أدى تضارب الرؤى تجاه الوضع السياسي العراقي، والضعف، وانعدام الخبرة السياسية من جانب الحركات السياسية المدينة، سواء السابقة أو تلك التي خرجت من تحت سقف تشرين، والفشل الذي واكب هذا التحول، وعدم قدرة الحركات الاحتجاجية على صنع أنموذج أو مشروع سياسي مستدام يمثل جمهورها ويجمعه، فضلاً عن فشل هذه الحركات في استقطاب كتلة واسعة من الشعب العراقي يمكن وصفها بـ “غير المكترثة”، والتي لا تشارك في أية فعالية سياسية أو انتخابية؛ أدى كل ذلك إلى استمرار إخفاق الحركات والشخصيات التي سارت على هذا الدرب. 

كما لم تكن “المدنية” و”العلمانية” أو “المستقل” و”التكنوقراط” في العراق مشاريع سياسية حقيقية ومستدامة، بل لحظات عابرة في عمر النظام والعمل السياسيّين في العراق، ولم تستطع ترسيخ جذورها في الواقع السياسي والشعبي العراقي، ولاحظنا ذلك في أكثر من تجربة، وما عملية إعادة إنتاج التحالفات وتبدلاتها المستمرة إلّا  دليل على مستوى التخبط الذي تعاني منه هذه القوى في العراق، إذ إن أول خطوات الرسوخ يتمثل في ديمومة المشروع، لا أن يتم في كل مرة إيجاد تشكيل جديد يُهدم ما إن تنتهي الانتخابات، بالتالي هي مشاريع انتخابية وليست “سياسية مستدامة” تعمل وتخطط للمستقبل. 

إزاء كل ما تقدم، يبدو أن حظوظ وفرص هذه القوى في انتخابات 2025 ستكون متدنية وضئيلة، ولن تستطيع الحفاظ على مكتسبات انتخابات 2021، وهذا الإخفاق أسبابه الرئيسة تعود إلى هذه القوى تحديداً، وفشلها في تحويل فرصة الانتخابات السابقة إلى مشروع سياسي راسخ ومستدام، فتعزّرت الرؤية التي تدعو إلى مقاطعة الانتخابات التي دعت إليها قوى مدنية أخرى مثل حزب الخط الوطني، ما يرجّح عدم تحقيق اختراق شبيه بالانتخابات البرلمانية السابقة، وتراجع هذه القوى المدنية إلى وضعها الذي سبق انتفاضة تشرين، والمتمثل في الحصول على عدد بسيط من المقاعد لن يتجاوز، في أحسن الأحوال، 10 مقاعد.