خيارات العراقيين في انتخابات 2025: الغياب كاحتجاج والحضور كأمل والتردّد كحيرة
19 تشرين الأول 2025
بين من يرى في المقاطعة احتجاجاً، ومن يراهن على المشاركة كفرصة محدودة للتغيير، ومن يتردّد بينهما… يحلل هذا المقال، بواسطة استبيان ميداني، خيارات العراقيين الثلاثة في انتخابات تشرين الثاني..
يدخل العراق انتخابات 2025، مجدداً، في ظل حالة من الشك وانعدام الثقة. فبين من يرى في المقاطعة احتجاجاً على منظومة سياسية عاجزة عن الإصلاح، ومن يراهن على صناديق الاقتراع كوسيلة وحيدة لإحداث التغيير، ومن يقف في المنطقة الرمادية متردداً بين خيبات الماضي ومخاوف التكرار، ينقسم المزاج الانتخابي العام على نحو يعكس عمق الأزمة السياسية في البلاد.
لقد أظهرت الدورات السابقة أن المقاطعة، حين تبقى مشتّتة وفردية، لا تُضعف السلطة بقدر ما تمنحها فرصة لإعادة إنتاج نفسها، فيما لم تنجح المشاركة، من دون تنظيم سياسي واضح، في كسر احتكار القوى التقليدية أو تحويل الأصوات الجديدة إلى قوة قادرة على التأثير. ومع استمرار الأسباب التي تدفع إلى كلا الخيارين -من سطوة السلاح والمال السياسي، إلى غياب الضمانات الكافية لنزاهة الانتخابات- تبدو انتخابات 2025 اختباراً حقيقياً لقدرة المجتمع العراقي على تحويل الغضب إلى فعل سياسي منظم، وليس مجرد انكفاء أو تصويت بلا أثر.
ولفهم اتجاهات المقاطعة والمشاركة والتردّد قبيل الانتخابات البرلمانية السادسة، ولعدم الاكتفاء بالتحليل النظري، فقد أجرينا استبياناً بعنوان “المقاطعة أم المشاركة؟ ما الذي يقرّره العراقيون في انتخابات 2025؟” شمل 229 مشاركاً من المهتمين بالشأن السياسي. سعى الاستبيان إلى تتبّع دوافع المشاركة، وأسباب المقاطعة، والعوامل التي تؤدي إلى التردد بين الخيارين، وهدف إلى استكشاف الكتل الاجتماعية الأكثر ترجيحاً في الانتخابات المقبلة.
وعند سؤالهم عمّا ينوون فعله في الانتخابات القادمة، توزعت إجابات المستبينين إلى ثلاث فئات رئيسة، 36.2 بالمئة قالوا إنهم يعتزمون المشاركة في الانتخابات (83 شخصاً)، و43.2 بالمئة قالوا إنهم يخططون لمقاطعتها (99 شخصاً)، و20.5 بالمئة قالوا إنهم ما زالوا مترددين ولم يحسموا موقفهم بعد (47 شخصاً).
لا بد من المقاطعة
يدفع سوء الخدمات وغياب الشعور الدائم بالأمان شريحة واسعة من العراقيين إلى استرجاع حصيلة الدورات السابقة عند كل استحقاق انتخابي جديد، إذ يرون أن الواقع الراهن ليس سوى نتيجة مباشرة لصراعاتٍ سياسية مزمنة أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
من هنا، برزت دعواتُ المقاطعة التي ظهرت لأول مرة عام 2014، لكنها لم تُحقّق أثراً واسعاً آنذاك، حيث شارك نحو 60 بالمئة من الناخبين المؤهّلين بالاقتراع. غير أنّ هذه الدعوات تعمّقت في انتخابات 2018، فتراجعت نسبة المشاركة إلى نحو 44.5 بالمئة. ولم يكن ذلك بسبب المقاطعة وحدها، بل بفعل عوامل أخرى؛ منها تفكّك القوى الشيعية إلى قوائم متناحرة، مُنهية صورة “الكتلة الشيعية الواحدة” التي كانت تمنح العملية شيئاً من التماسك أمام الناخبين، وقانونٌ انتخابي مُفصَّل على مقاس الكتل التقليدية، ومفوضيةٌ خاضعةٌ لنفوذها، إلى جانب قناعةٍ متزايدةٍ بأن النتائج محسومةٌ سلفاً من خلال التزوير أو الصفقات. وحتى موقفُ المرجعية الدينية، الذي رفع الغطاء الإلزامي عن المشاركة، عزّز شعور الناخبين باللاجدوى. عند هذه اللحظة تحوّلت المقاطعة إلى ظاهرة معلنة، بوصفها احتجاجاً على عملية سياسية تبدو مُصمَّمةً لإعادة إنتاج نفسها مهما كانت خيارات الصناديق.
في ذلك الوقت، طُرحت المقاطعة بوصفها فعلاً لنزع الشرعية عن الحكومة المقبلة، وردّاً على ما عُدّ “عدم استقلالية مفوضية الانتخابات” بوصفها هيئةً خاضعةً لنفوذ أحزاب السلطة التقليدية. وقد تعزّزت هذه القناعة بتراكم إشكالاتٍ سابقة، أبرزُها ما حدث عام 2010، حين فاز إياد علاوي بالانتخابات لكن نوري المالكي احتفظ بمنصب رئاسة الوزراء، بعد ما وُصف حينها بـ”التفافٍ قانوني” على الدستور في تفسير “الكتلة الأكبر”، وهو ما رسّخ لدى شريحةٍ واسعةٍ من الناخبين شعوراً بأن نتائج التصويت لا تفضي بالضرورة إلى تداولٍ حقيقي للسلطة.
أمّا اليوم، فيستحضر المقاطعون ما يعدّونه “التفافاً ثانياً” على الدستور خلال انتخابات 2021، حين فازت الكتلة الصدرية وحاولت تشكيل حكومة أغلبية، لكن مشهد “الثلث المعطِّل”، وما تلاه من مواجهاتٍ مسلّحة داخل المنطقة الخضراء بين أنصار الصدر وجماعاتٍ من الحشد الشعبي، بدا لهم بمثابة الضربة القاضية لما تبقّى من الثقة بالنظام الانتخابي. وتتزايد اليوم دوافعُ المقاطعة بعد استبعاد مئات المرشحين (أكثر من 750) تحت ذرائع شملت الانتماء السابق لحزب البعث أو ملفاتٍ جنائيةٍ أو نزاهة أو حسن سيرة وسلوك؛ وهو إجراءٌ طال نوّاباً ووزراءَ ومحافظين حاليين وسابقين.
وبالنسبة لشرائح واسعة، لم يكن مسار الاستبعاد قانونيّاً بحتاً بقدر ما كان أداةً سياسية لتقليص المساحة التنافسية بين الخصوم، لاسيّما مع ما يُوصَف بالتخادم بين الجهات المعنية بالاستبعاد، مثل هيئة المساءلة والعدالة وهيئة النزاهة ودوائر التربية. بل إن قوائم المرشحين التي كانت تمرّ سابقاً على أربع جهات فقط، باتت اليوم تُعرَض على 13 جهة، من بينها “هيئة الحشد الشعبي”، في توسّعٍ يُنظر إليه كوسيلةٍ لتسييس عملية التصفية أكثر من كونه تدقيقاً قانونيّاً، وهو ما زاد ارتباك الناخبين وفقدانهم الثقة. ويُضاف إلى ذلك السلاح المنفلت لدى الأذرع الحزبية المسلحة، في انتهاكٍ صريحٍ لقانون الأحزاب ومعايير المفوضية.
وتتعزّز هذه القناعة أيضاً بسبب الواقع الأمني والخدمي المتردّي، وتجربة القوى التشرينية والنواب المستقلّين الذين تحوّل معظمهم لاحقاً إلى جزءٍ من أحزاب السلطة التقليدية؛ وهو ما سحب الثقة معنوياً من العملية الانتخابية ونزاهتها، وسحبها كذلك من المرشحين الذين رفعوا شعار الاستقلالية ثم انخرطوا في بنية القوى التي كانوا ينتقدونها.
رفضٌ لقواعد اللعبة
لا ينطلق المقاطعون من لامبالاة، بل من فقدان عميق للثقة بجدوى العملية الانتخابية برمّتها. أظهر الاستبيان الذي أجريناه أن 41.4 بالمئة يرفضون التصويت بسبب هيمنة السلاح والأحزاب التقليدية على الدولة، و33.3 بالمئة لأنهم فقدوا الثقة أصلاً بأن الانتخابات قادرة على التغيير، فيما رأى 15.2 بالمئة أنهم لا يجدون أي بديل سياسي يستحق الدعم، وأشار 10.1 بالمئة إلى ضعف البرامج وغياب الرؤى الجدية لدى المرشحين.
تلخّصت دوافع المقاطعة في شهادات المشاركين في الاستبيان بأشكال مختلفة. أحدهم قال إن قراره بالمقاطعة “تجنّبٌ لندمٍ كارثي أكثر منه أداةً للتغيير”، مؤكداً أنه “لن ينتخب أحداً حتى لو كان المرشّح أباه”، لأن خيبة الأمل قد تدفعه إلى “قطع الإصبع الذي صبغه بالحبر الانتخابي”. آخر عبّر عن دوافع المقاطعة بوضوح أشد، “ما دام السلاح المنفلت موجوداً بيد كل الطوائف، وما دام الإسلاميون في الحكم، فلن يتغيّر شيء”. فيما ربط ثالث موقفه ببنية الدولة نفسها، “السبب هو ذاته الذي دفع مقتدى الصدر للاعتزال، فما دامت هناك قوى مسلّحة أقوى من الدولة، فإن صناديق الاقتراع لن تصنع التغيير”.
جدوى المقاطعة
ورغم تمسكهم بموقفهم، فإن معظم المشاركين الذين يتبنون المقاطعة لا ينظرون إليها كخطة لإسقاط الطبقة الحاكمة، بل كرسالة احتجاجية رمزية. فقد قال 61 بالمئة منهم إنهم لا يرونها وسيلة ضغط حقيقية على السلطة، مقابل 39 بالمئة فقط يعتبرونها قادرة على تغيير النتائج إذا اتسعت قاعدتها.
الحال هذه، فإن المقاطعة هنا تبدو أشبه بانسحاب من عملية لا يثقون بقواعدها أكثر من كونها مشروعاً سياسياً بديلاً.
ورغم حسمهم الظاهري، لا تبدو المقاطعة خياراً مغلقاً تماماً. من بين 99 مقاطعاً، قال 50 منهم (50.5 بالمئة) إنهم قد يغيّرون موقفهم إذا تراجعت هيمنة السلاح والمال السياسي، و31 (31.1 بالمئة) إذا ظهرت قوى مدنية وطنية تمثلهم بصدق، و 30 (30.3 بالمئة) إذا ضُمنت نزاهة الانتخابات بآليات واضحة وشفافة، بينما قال 22 (22.2 بالمئة) فقط إن لا شيء قد يغيّر قرارهم بالمقاطعة.
تشير هذه المعطيات إلى أن المقاطعة ليست موقفاً أيديولوجياً صوانياً بقدر ما هي ردّ فعل على فقدان الثقة، يمكن أن يتغير إذا تبدّلت البيئة السياسية وأصبحت الانتخابات قابلة للتمثيل الفعلي. وفي هذا الإطار، تفرّق بعض النخب السياسية والثقافية بين مقاطعة سلبية تكتفي بالعزوف عن التصويت وترك الساحة خالية، وأخرى منظمة تقوم على بيان موحد تصدره قوى معارضة وتترافق مع خطوات احتجاجية لاحقة، مثل التحركات الميدانية أو المرافعات القانونية أو الحملات المجتمعية المستمرة، بما يجعلها وسيلة ضغط فاعلة لا مجرد انسحاب صامت. من هذا المنظور، لا تُعدّ المقاطعة غاية في حد ذاتها، بل أداة مشروطة بقدرتها على فرض واقع سياسي جديد أو سحب الشرعية من السلطة القائمة.
لا بد من المشاركة
على العكس من المقاطعين، يعتقدُ المشاركون أنّه لا سبيل للتغيير في العراق إلّا عبر صناديق الاقتراع، من خلال إضعاف نفوذ القوى التقليدية بواسطة دعم الأحزاب المدنية والعلمانية ذات المواقف الواضحة، التي أثبتت معارضتها لسلوك السلطة والتدخلات الخارجية خلال السنوات الماضية.
ويرى المتحمّسون للمشاركة أنّ تجربة انتخابات 2021 لا تصلح مقياساً لجدوى المشاركة، لأنّ معظم الأحزاب التشرينية التي ترشّحت آنذاك لم تكن تمتلك خبرة سياسية أو تنظيمية، ولم تتجاوز كونها ردَّ فعلٍ انتقل من ساحات الاحتجاج إلى البرلمان.
وتبرز حركة امتداد كمثالٍ واضح؛ إذ فازت بـ 16 مقعداً لكنها سرعان ما تفكّكت، وانتقل بعض نوابها إلى القوى التقليدية التي كان الشارع قد ثار ضدّها أصلاً؛ فالنائبة نيسان الزاير صارت اليوم مرشحةً مع ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، فيما اتجه كلٌّ من ضياء الهندي ونور نافع الجليحاوي إلى ائتلاف الإعمار والتنمية بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وهو ائتلاف يضم أسماءً ارتبطت بالمنظومة الحاكمة التي رفضتها احتجاجات تشرين. هذا التحوّل السريع أظهر بوضوحٍ غياب رؤية سياسية راسخة لدى هؤلاء النواب، وضعف الإيمان بفكرة المعارضة المدنية التي دخلوا البرلمان باسمها.
رغم ذلك، يرى الداعون إلى المشاركة أنّ انتخابات 2025 تختلف جوهرياً عن سابقاتها؛ فمعظم المرشحين العلمانيين المعروفين خاضوا دورةً برلمانية كاملة تحت رقابة الجمهور، وهو ما يمنح الناخب فرصةً للحكم على سلوكهم قبل منحه صوته. وتُجرى الانتخابات المقرّرة في 11 تشرين الثاني 2025، في ظلّ بروز تحالفات مدنية أوسع وأكثر تنظيماً، أبرزها تحالف البديل الذي يضم شبكة من المرشحين الليبراليين واليساريين، والتحالف المدني الديمقراطي، هذه التحالفات هي مظلّات للقوى والمستقلين المدنيين لم تكن متاحةً بالاتّساع نفسه عام 2021.
وصحيحٌ أنّ انتخابات 2021 شهدت نسبة مشاركةٍ رسمية تراوحت بين 41 و43 بالمئة من حملة بطاقة الناخب، وهي أقلّ بكثير إذا ما احتُسبت نسبة المؤهّلين جميعاً، لكنّها مع ذلك أفرزت أصواتاً معارضة داخل البرلمان إلى جانب كتلٍ داعمة للسلطة، وهو ما يراه المشاركون مؤشّراً على إمكان التغيير بالتراكم التدريجي.
في المقابل، يتخوّفون من أنّ استمرار العزوف سيُعيد إنتاج برلماناتٍ شبيهة بالدورة الحالية، التي وُصفت بأنّها من أسوأ الدورات منذ 2005، بعد أن بدأت بصعود نوّابٍ لم يفوزوا أصلاً بل دخلوا بدلاً من نوّاب التيار الصدري المنسحبين (73 نائباً).
وقد صوّت البرلمان الحالي على جملة قوانين مثيرةٍ للجدل، أبرزها تعديل قانون الأحوال الشخصية بما ينتقص من حقوق المرأة، وإقرار فكرة “التصويت بالسلة الواحدة” على عدة قوانين، وهي مخالفة للأسس الديمقراطية؛ إذ جرى تمرير قوانين حسّاسة دون تصويتٍ اسمي علني أو مع عدم اكتمالٍ إجرائيٍّ للنصاب في حالاتٍ عدّة، بما في ذلك تمرير قائمة تضم عشرات السفراء. بالنسبة للمشاركين، يعزّز ذلك ضرورة الدفع نحو برلمانٍ مختلف لا يشبه البرلمان الحالي، من خلال زيادة تمثيل القوى الوطنية والمعارضة، بدلاً من ترك الساحة فارغة لِتُحتكَر من قبل القوى التقليدية؛ فالمقاطعة لن تُنتج برلماناً أفضل من هذا.
التغيير من داخل اللعبة
لا ينظر المشاركون إلى التصويت كواجب روتيني، بل كأداة لمواجهة القوى التقليدية التي احتكرت السلطة لسنوات. أظهر الاستبيان أن 38.1 بالمئة منهم يهدفون إلى الحد من نفوذ هذه القوى، و32.1 بالمئة يسعون إلى إفساح المجال أمام قوى وشخصيات جديدة، بينما رأى 16.7 بالمئة أن المشاركة قد تتيح تغييرات جزئية في القوانين والسياسات. في المقابل، بدت الدوافع الشخصية أو المحلية هامشية جداً بنسبة 7.1 بالمئة، ما يعكس طابعاً سياسياً واضحاً في اختياراتهم.
في جانب المشاركة، قدّم بعض المشاركين في الاستبيان مبرراتهم التي تعكس تحوّلاً في المزاج السياسي تجاه صناديق الاقتراع. أحدهم لخّص دوافعه بالقول إن “فشل المقاطعة في إنتاج مشروع بديل دفعه هذه المرة إلى دعم من يملك صوتاً صريحاً في مواجهة السلاح والفساد والفوضى”، على أمل أن “يتحول هذا الصوت إلى أصوات قادرة على تمرير قوانين تتلاءم مع تطلعات العلمانيين في العراق”.
آخر رأى أن “المشاركة هي الخيار الأقرب لإحداث التغيير”، لأنها “تمثل أداة ضغط سلمية وشرعية بيد المواطنين”، معتبراً أن “المقاطعة تُفرغ الساحة من أصوات الإصلاح وتمنح القوى التقليدية الهيمنة دون رقابة”، وأن “التغيير لا يتحقق بالغياب، بل بالتصويت الواعي والمتابعة المستمرة”.
أما ثالث المشاركين، فاعتبر أن “المقاطعة كانت أحياناً خياراً مقنعاً، لكنها اليوم ضرب من الخيال”، مشيراً إلى أن “شخصيات ذات توجه علماني أثبتت تمثيلاً حقيقياً”، ما يجعله “يشعر بمسؤولية أخلاقية تدفعه إلى التصويت”، لأن “الطريق طويل ويحتاج إلى مشاركة فعّالة وعمل نيابي دؤوب لتجريد القوى التقليدية من أدواتها”.
ما الذي يطمحون لتحقيقه؟
لا يتوقع المشاركون انقلاباً جذرياً، بل ينظرون إلى التصويت كخطوة ضمن مسار طويل لبناء معارضة مدنية. من بين 83 مشاركاً، قال 43 منهم (51.8 بالمئة) إنهم يطمحون إلى خلق معارضة سياسية أقوى داخل البرلمان، و 38 (45.8 بالمئة) يرونه فرصة لتجربةٍ تمهّد لتغييرات أكبر لاحقاً، بينما يأمل 31 (37.3 بالمئة) في فتح المجال التدريجي للإصلاح السياسي.
الحماس للمشاركة، رغم قوّته، ليس مطلقاً ولا غير مشروط. فالإيمان بالتغيير التدريجي لا يعني الاستعداد لخوض معركة محسومة سلفاً أو اللعب وفق قواعد مختلّة بالكامل. كثير من المشاركين ربطوا قرارهم بوجود حد أدنى من الثقة في العملية الانتخابية ومخرجاتها، إذ رأى 27 منهم (32.5 بالمئة) أنهم سيقاطعون إذا جرى استبعاد المرشحين المدنيين والمعارضين، فيما أكّد 24 (28.9 بالمئة) أنهم لن يشاركوا إذا غاب المرشح الذي يمثلهم بصدق، وأشار 18 (21.7 بالمئة) إلى أن ارتفاع احتمالية التزوير قد يدفعهم للانسحاب، بينما رأى 13 (15.7 بالمئة) أن تصاعد نفوذ السلاح والمال السياسي سيكون سبباً كافياً للمقاطعة.
في المقابل، أبدى 30 مشاركاً (36.1 بالمئة) تمسكهم بخيار التصويت “مهما كانت الظروف”، ما يعكس وجود شريحة صغيرة لكنها صلبة ترى أن المشاركة بحد ذاتها فعل مقاومة سياسي يجب الاستمرار فيه حتى في أسوأ الظروف. إلا أن الصورة العامة تبقى أكثر هشاشة، فأي تراجع في الضمانات الانتخابية أو تضييق على المرشحين المستقلين أو اتساع لسطوة القوى المسلحة قد يُقوّض هذا المزاج المتفائل، ويعيد الاعتقاد بأن المقاطعة أداة ضغط أكثر جدوى من المشاركة في لعبة لا تُتيح تغييراً حقيقياً.
وماذا عن التردد؟
التردّدُ ليس خياراً واضحاً مثل المقاطعة أو المشاركة؛ بل هو مزيجٌ من ثلاثة مؤثرات: فقدان الثقة بالعملية الانتخابية، وغياب البدائل المقنعة، واللامبالاة السياسية التي رسّختها سنواتٌ من الخيبات.
غير أنّ أهمّ ما تكشفه هذه الحالة، أنّ التردّد لا يعني الحياد، إذ يكمنُ فيه استعدادٌ للانتقال نحو أحد الخيارين (المقاطعة أو المشاركة) متى توافر الدافع الكافي. ومع اقتراب موعد الاقتراع المقرَّر في 11 تشرين الثاني 2025، تعد هذه الفئة هدفاً مباشراً لمعظم الرسائل الانتخابية المكثّفة خلال الأسابيع القليلة السابقة للصمت الانتخابي.
وهنا يؤدي الإعلام دوراً حاسماً في دفع هذه الكتلة المتأرجحة. القنوات الحزبية توظّف أدواتها لإقناعهم بأنّ المشاركة ضرورةٌ لـ”حماية الاستقرار”، فيما تبني قوى معارِضة خطاباً يُبرز المقاطعة كفعل احتجاجي لنزع الشرعية عن السلطة. لكنّ التأثير الأبرز اليوم لا يأتي من الوسائط التقليدية بقدر ما يأتي من المؤثّرين والشخصيات العامّة التي تحظى بثقة هذه الفئة على منصّات التواصل؛ إذ تُختزل المواقف في رسائل قصيرة وعاطفية قادرة على حسم اتجاههم خلال أيّام.
وإلى جانب التأثير الخطابي، تستغلّ بعض الأحزاب التقليدية حالة التردّد من خلال وسائل مادية مباشرة قبيل الاقتراع؛ من توزيع مبالغ مالية أو سلالٍ غذائية وحاجاتٍ أساسية للفئات الفقيرة والمتردّدة، في محاولة لتحويل تردّدهم إلى أصواتٍ مضمونة. وتؤكّد المفوضية أنّ شراء الأصوات جريمة تُحال إلى القضاء وقد تفضي إلى إقصاء المرشّح وفرض عقوبات عليه، فضلاً عن الغرامات التنظيمية على مخالفات الدعاية والإنفاق. لكنّ واقع الميدان يجعل قرار هذه الفئة سريع التبدّل، وغالباً لا يستند إلى البرامج أو الرؤى بقدر ما يجتذبه من ينجح في مخاطبة مشاعرهم أو سدّ احتياجاتهم الآنية، ما يجعلهم الكتلة الأكثر قابليةً للاستمالة في أي موسم انتخابي.
وفي الواقع، يمثّل المترددون الفئة الأكثر هشاشة في المزاج الانتخابي، لأن مواقفهم قابلة للتبدّل سريعاً تبعاً للظروف والمؤثرات.
من بين 47 شخصاً من المستبينين كانوا في خانة المترددين، قال 31 منهم (65.9 بالمئة) إنهم لم يجدوا بعد مرشحاً يثقون بتمثيله لهم، وأشار 29 (61.7 بالمئة) إلى فقدان الثقة بالعملية الانتخابية برمّتها، بينما أشار 13 (27.7 بالمئة) إلى أن الإحباط والخوف من تكرار تجربة 2021 هما من أسباب ترددهم. هشاشتهم هنا لا تعني ضعف الرأي، بل تعكس أنهم أكثر عرضة للاستمالة أو الانسحاب، تبعاً لما تقدمه القوى السياسية أو يكشفه الواقع خلال فترة الانتخابات.
ما الذي قد يحسم موقفهم؟
يربط المترددون قرارهم بعوامل ملموسة قد تعيد ثقتهم بالعملية الانتخابية. إذ قال 34 بالمئة إنهم سيحسمون موقفهم إذا ظهرت قوى أو شخصيات جديدة تمثّلهم بوضوح، و27.7 بالمئة إذا ضُمنت نزاهة الانتخابات وآلياتها، و12.8 بالمئة إذا تراجع نفوذ السلاح والمال السياسي، و14.9 بالمئة ينتظرون برامج انتخابية واضحة قبل اتخاذ القرار، بينما قال 10.6 بالمئة فقط إنهم سيبقون مترددين حتى اللحظة الأخيرة، ما يعني أن الإشارات التي يترقبونها تتمثل في هذه الخطوات نفسها؛ فإن توفرت بشكل مطمئن مالوا إلى المشاركة، وإن غابت أو جاءت مخيّبة اتجهوا نحو المقاطعة.
رغم حيادهم الظاهري، تميل كفّة المترددين أكثر نحو المشاركة؛ إذ قال 63.8 بالمئة منهم إنهم سيرجّحون التصويت إذا حسموا موقفهم، مقابل 36.2 بالمئة قالوا إنهم سيميلون إلى المقاطعة. يظهر من إجاباتهم أن التردد ليس موقفاً أيديولوجياً راسخاً، بل حالة مؤقتة من فقدان الثقة بالعملية، يمكن أن تتحول بسهولة إلى مشاركة فاعلة أو انسحاب كامل، تبعاً لمدى قدرة القوى السياسية والإعلامية على كسب ثقتهم قبل يوم الاقتراع.
الخيارات الثلاثة
لم تُثمر المقاطعة المشتّتة في الدورات السابقة سوى فراغٍ استغلّته القوى التقليدية لإعادة إنتاج نفسها، لكن احتمال أن تتخذ المقاطعة هذه المرة طابعاً أكثر تنظيماً، خصوصاً مع انسحاب التيار الصدري الذي كان يشكّل ثقلاً انتخابياً كبيراً، يمنحها زخماً مختلفاً. فاليوم تلتقي عوامل عديدة لتغذية هذا الخيار، من سطوة السلاح والمال السياسي، إلى تسييس مفوضية الانتخابات وفقدان الثقة بمؤسسات الدولة، ما يجعل فكرة المقاطعة المنظمة احتمالاً قائماً لا يمكن تجاهله.
ومع ذلك، فإن المشاركة ما تزال تُقدَّم كخيار وحيد لانتزاع السياسة من الداخل. غير أن التجربة أظهرت أن الدخول إلى البرلمان لا يعني بالضرورة النجاح؛ فقد ابتُلعت قوى مدنية سابقة بسرعة داخل تحالفات السلطة. لذلك فإن المشاركة وحدها لا تكفي ما لم تُرفَق بعمل منظم وجهد دؤوب يحول دون تكرار الفشل. فالقوى المدنية الناشئة ما زالت تعاني من ضيق قاعدتها الشعبية واعتمادها على جمهور نخبوي محدود، وإذا لم تنجح في كسر حاجز العزوف وجذب الطبقات الوسطى والشباب المستقلين بخطاب عملي قريب من الشارع، ستبقى رهينة الحضور الإعلامي دون أن تتحول إلى ثقل انتخابي قادر على مواجهة القوى التقليدية.
تتقاطع الخيارات الثلاثة في الانتخابات البرلمانية المقبلة أكثر مما تتباين؛ فالمقاطعة المشتتة لا تُسقط المنظومة بل تمنحها فسحة لتعيد إنتاج نفسها، بينما المشاركة وحدها ليست ضمانة لبرلمان مختلف ما لم تتكئ على تنظيم ورقابة يحولان دون ابتلاع القوى المدنية من جديد. أما المترددون، فإن ما يعيق حسم موقفهم من سلاح منفلت وهيمنة حزبية وفقدان الثقة بالمؤسسات هو ذاته ما يدفع المقاطعين إلى الانسحاب.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
الحياة مع أفعى.. وصايا السيد دخيل للنجاة من الموت
13 نوفمبر 2025
صوتٌ بلا إرادة: كيف تتحكم العائلة والعشيرة بخيارات النساء الانتخابية؟
08 نوفمبر 2025
قواعد اللعبة القديمة ليست كافية: خريطة بالتحالفات الانتخابية قبل الاقتراع
07 نوفمبر 2025
من بريمر إلى السوداني.. "خلطة الفياض" السحرية للبقاء في المنصب
06 نوفمبر 2025
يدخل العراق انتخابات 2025، مجدداً، في ظل حالة من الشك وانعدام الثقة. فبين من يرى في المقاطعة احتجاجاً على منظومة سياسية عاجزة عن الإصلاح، ومن يراهن على صناديق الاقتراع كوسيلة وحيدة لإحداث التغيير، ومن يقف في المنطقة الرمادية متردداً بين خيبات الماضي ومخاوف التكرار، ينقسم المزاج الانتخابي العام على نحو يعكس عمق الأزمة السياسية في البلاد.
لقد أظهرت الدورات السابقة أن المقاطعة، حين تبقى مشتّتة وفردية، لا تُضعف السلطة بقدر ما تمنحها فرصة لإعادة إنتاج نفسها، فيما لم تنجح المشاركة، من دون تنظيم سياسي واضح، في كسر احتكار القوى التقليدية أو تحويل الأصوات الجديدة إلى قوة قادرة على التأثير. ومع استمرار الأسباب التي تدفع إلى كلا الخيارين -من سطوة السلاح والمال السياسي، إلى غياب الضمانات الكافية لنزاهة الانتخابات- تبدو انتخابات 2025 اختباراً حقيقياً لقدرة المجتمع العراقي على تحويل الغضب إلى فعل سياسي منظم، وليس مجرد انكفاء أو تصويت بلا أثر.
ولفهم اتجاهات المقاطعة والمشاركة والتردّد قبيل الانتخابات البرلمانية السادسة، ولعدم الاكتفاء بالتحليل النظري، فقد أجرينا استبياناً بعنوان “المقاطعة أم المشاركة؟ ما الذي يقرّره العراقيون في انتخابات 2025؟” شمل 229 مشاركاً من المهتمين بالشأن السياسي. سعى الاستبيان إلى تتبّع دوافع المشاركة، وأسباب المقاطعة، والعوامل التي تؤدي إلى التردد بين الخيارين، وهدف إلى استكشاف الكتل الاجتماعية الأكثر ترجيحاً في الانتخابات المقبلة.
وعند سؤالهم عمّا ينوون فعله في الانتخابات القادمة، توزعت إجابات المستبينين إلى ثلاث فئات رئيسة، 36.2 بالمئة قالوا إنهم يعتزمون المشاركة في الانتخابات (83 شخصاً)، و43.2 بالمئة قالوا إنهم يخططون لمقاطعتها (99 شخصاً)، و20.5 بالمئة قالوا إنهم ما زالوا مترددين ولم يحسموا موقفهم بعد (47 شخصاً).
لا بد من المقاطعة
يدفع سوء الخدمات وغياب الشعور الدائم بالأمان شريحة واسعة من العراقيين إلى استرجاع حصيلة الدورات السابقة عند كل استحقاق انتخابي جديد، إذ يرون أن الواقع الراهن ليس سوى نتيجة مباشرة لصراعاتٍ سياسية مزمنة أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
من هنا، برزت دعواتُ المقاطعة التي ظهرت لأول مرة عام 2014، لكنها لم تُحقّق أثراً واسعاً آنذاك، حيث شارك نحو 60 بالمئة من الناخبين المؤهّلين بالاقتراع. غير أنّ هذه الدعوات تعمّقت في انتخابات 2018، فتراجعت نسبة المشاركة إلى نحو 44.5 بالمئة. ولم يكن ذلك بسبب المقاطعة وحدها، بل بفعل عوامل أخرى؛ منها تفكّك القوى الشيعية إلى قوائم متناحرة، مُنهية صورة “الكتلة الشيعية الواحدة” التي كانت تمنح العملية شيئاً من التماسك أمام الناخبين، وقانونٌ انتخابي مُفصَّل على مقاس الكتل التقليدية، ومفوضيةٌ خاضعةٌ لنفوذها، إلى جانب قناعةٍ متزايدةٍ بأن النتائج محسومةٌ سلفاً من خلال التزوير أو الصفقات. وحتى موقفُ المرجعية الدينية، الذي رفع الغطاء الإلزامي عن المشاركة، عزّز شعور الناخبين باللاجدوى. عند هذه اللحظة تحوّلت المقاطعة إلى ظاهرة معلنة، بوصفها احتجاجاً على عملية سياسية تبدو مُصمَّمةً لإعادة إنتاج نفسها مهما كانت خيارات الصناديق.
في ذلك الوقت، طُرحت المقاطعة بوصفها فعلاً لنزع الشرعية عن الحكومة المقبلة، وردّاً على ما عُدّ “عدم استقلالية مفوضية الانتخابات” بوصفها هيئةً خاضعةً لنفوذ أحزاب السلطة التقليدية. وقد تعزّزت هذه القناعة بتراكم إشكالاتٍ سابقة، أبرزُها ما حدث عام 2010، حين فاز إياد علاوي بالانتخابات لكن نوري المالكي احتفظ بمنصب رئاسة الوزراء، بعد ما وُصف حينها بـ”التفافٍ قانوني” على الدستور في تفسير “الكتلة الأكبر”، وهو ما رسّخ لدى شريحةٍ واسعةٍ من الناخبين شعوراً بأن نتائج التصويت لا تفضي بالضرورة إلى تداولٍ حقيقي للسلطة.
أمّا اليوم، فيستحضر المقاطعون ما يعدّونه “التفافاً ثانياً” على الدستور خلال انتخابات 2021، حين فازت الكتلة الصدرية وحاولت تشكيل حكومة أغلبية، لكن مشهد “الثلث المعطِّل”، وما تلاه من مواجهاتٍ مسلّحة داخل المنطقة الخضراء بين أنصار الصدر وجماعاتٍ من الحشد الشعبي، بدا لهم بمثابة الضربة القاضية لما تبقّى من الثقة بالنظام الانتخابي. وتتزايد اليوم دوافعُ المقاطعة بعد استبعاد مئات المرشحين (أكثر من 750) تحت ذرائع شملت الانتماء السابق لحزب البعث أو ملفاتٍ جنائيةٍ أو نزاهة أو حسن سيرة وسلوك؛ وهو إجراءٌ طال نوّاباً ووزراءَ ومحافظين حاليين وسابقين.
وبالنسبة لشرائح واسعة، لم يكن مسار الاستبعاد قانونيّاً بحتاً بقدر ما كان أداةً سياسية لتقليص المساحة التنافسية بين الخصوم، لاسيّما مع ما يُوصَف بالتخادم بين الجهات المعنية بالاستبعاد، مثل هيئة المساءلة والعدالة وهيئة النزاهة ودوائر التربية. بل إن قوائم المرشحين التي كانت تمرّ سابقاً على أربع جهات فقط، باتت اليوم تُعرَض على 13 جهة، من بينها “هيئة الحشد الشعبي”، في توسّعٍ يُنظر إليه كوسيلةٍ لتسييس عملية التصفية أكثر من كونه تدقيقاً قانونيّاً، وهو ما زاد ارتباك الناخبين وفقدانهم الثقة. ويُضاف إلى ذلك السلاح المنفلت لدى الأذرع الحزبية المسلحة، في انتهاكٍ صريحٍ لقانون الأحزاب ومعايير المفوضية.
وتتعزّز هذه القناعة أيضاً بسبب الواقع الأمني والخدمي المتردّي، وتجربة القوى التشرينية والنواب المستقلّين الذين تحوّل معظمهم لاحقاً إلى جزءٍ من أحزاب السلطة التقليدية؛ وهو ما سحب الثقة معنوياً من العملية الانتخابية ونزاهتها، وسحبها كذلك من المرشحين الذين رفعوا شعار الاستقلالية ثم انخرطوا في بنية القوى التي كانوا ينتقدونها.
رفضٌ لقواعد اللعبة
لا ينطلق المقاطعون من لامبالاة، بل من فقدان عميق للثقة بجدوى العملية الانتخابية برمّتها. أظهر الاستبيان الذي أجريناه أن 41.4 بالمئة يرفضون التصويت بسبب هيمنة السلاح والأحزاب التقليدية على الدولة، و33.3 بالمئة لأنهم فقدوا الثقة أصلاً بأن الانتخابات قادرة على التغيير، فيما رأى 15.2 بالمئة أنهم لا يجدون أي بديل سياسي يستحق الدعم، وأشار 10.1 بالمئة إلى ضعف البرامج وغياب الرؤى الجدية لدى المرشحين.
تلخّصت دوافع المقاطعة في شهادات المشاركين في الاستبيان بأشكال مختلفة. أحدهم قال إن قراره بالمقاطعة “تجنّبٌ لندمٍ كارثي أكثر منه أداةً للتغيير”، مؤكداً أنه “لن ينتخب أحداً حتى لو كان المرشّح أباه”، لأن خيبة الأمل قد تدفعه إلى “قطع الإصبع الذي صبغه بالحبر الانتخابي”. آخر عبّر عن دوافع المقاطعة بوضوح أشد، “ما دام السلاح المنفلت موجوداً بيد كل الطوائف، وما دام الإسلاميون في الحكم، فلن يتغيّر شيء”. فيما ربط ثالث موقفه ببنية الدولة نفسها، “السبب هو ذاته الذي دفع مقتدى الصدر للاعتزال، فما دامت هناك قوى مسلّحة أقوى من الدولة، فإن صناديق الاقتراع لن تصنع التغيير”.
جدوى المقاطعة
ورغم تمسكهم بموقفهم، فإن معظم المشاركين الذين يتبنون المقاطعة لا ينظرون إليها كخطة لإسقاط الطبقة الحاكمة، بل كرسالة احتجاجية رمزية. فقد قال 61 بالمئة منهم إنهم لا يرونها وسيلة ضغط حقيقية على السلطة، مقابل 39 بالمئة فقط يعتبرونها قادرة على تغيير النتائج إذا اتسعت قاعدتها.
الحال هذه، فإن المقاطعة هنا تبدو أشبه بانسحاب من عملية لا يثقون بقواعدها أكثر من كونها مشروعاً سياسياً بديلاً.
ورغم حسمهم الظاهري، لا تبدو المقاطعة خياراً مغلقاً تماماً. من بين 99 مقاطعاً، قال 50 منهم (50.5 بالمئة) إنهم قد يغيّرون موقفهم إذا تراجعت هيمنة السلاح والمال السياسي، و31 (31.1 بالمئة) إذا ظهرت قوى مدنية وطنية تمثلهم بصدق، و 30 (30.3 بالمئة) إذا ضُمنت نزاهة الانتخابات بآليات واضحة وشفافة، بينما قال 22 (22.2 بالمئة) فقط إن لا شيء قد يغيّر قرارهم بالمقاطعة.
تشير هذه المعطيات إلى أن المقاطعة ليست موقفاً أيديولوجياً صوانياً بقدر ما هي ردّ فعل على فقدان الثقة، يمكن أن يتغير إذا تبدّلت البيئة السياسية وأصبحت الانتخابات قابلة للتمثيل الفعلي. وفي هذا الإطار، تفرّق بعض النخب السياسية والثقافية بين مقاطعة سلبية تكتفي بالعزوف عن التصويت وترك الساحة خالية، وأخرى منظمة تقوم على بيان موحد تصدره قوى معارضة وتترافق مع خطوات احتجاجية لاحقة، مثل التحركات الميدانية أو المرافعات القانونية أو الحملات المجتمعية المستمرة، بما يجعلها وسيلة ضغط فاعلة لا مجرد انسحاب صامت. من هذا المنظور، لا تُعدّ المقاطعة غاية في حد ذاتها، بل أداة مشروطة بقدرتها على فرض واقع سياسي جديد أو سحب الشرعية من السلطة القائمة.
لا بد من المشاركة
على العكس من المقاطعين، يعتقدُ المشاركون أنّه لا سبيل للتغيير في العراق إلّا عبر صناديق الاقتراع، من خلال إضعاف نفوذ القوى التقليدية بواسطة دعم الأحزاب المدنية والعلمانية ذات المواقف الواضحة، التي أثبتت معارضتها لسلوك السلطة والتدخلات الخارجية خلال السنوات الماضية.
ويرى المتحمّسون للمشاركة أنّ تجربة انتخابات 2021 لا تصلح مقياساً لجدوى المشاركة، لأنّ معظم الأحزاب التشرينية التي ترشّحت آنذاك لم تكن تمتلك خبرة سياسية أو تنظيمية، ولم تتجاوز كونها ردَّ فعلٍ انتقل من ساحات الاحتجاج إلى البرلمان.
وتبرز حركة امتداد كمثالٍ واضح؛ إذ فازت بـ 16 مقعداً لكنها سرعان ما تفكّكت، وانتقل بعض نوابها إلى القوى التقليدية التي كان الشارع قد ثار ضدّها أصلاً؛ فالنائبة نيسان الزاير صارت اليوم مرشحةً مع ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، فيما اتجه كلٌّ من ضياء الهندي ونور نافع الجليحاوي إلى ائتلاف الإعمار والتنمية بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وهو ائتلاف يضم أسماءً ارتبطت بالمنظومة الحاكمة التي رفضتها احتجاجات تشرين. هذا التحوّل السريع أظهر بوضوحٍ غياب رؤية سياسية راسخة لدى هؤلاء النواب، وضعف الإيمان بفكرة المعارضة المدنية التي دخلوا البرلمان باسمها.
رغم ذلك، يرى الداعون إلى المشاركة أنّ انتخابات 2025 تختلف جوهرياً عن سابقاتها؛ فمعظم المرشحين العلمانيين المعروفين خاضوا دورةً برلمانية كاملة تحت رقابة الجمهور، وهو ما يمنح الناخب فرصةً للحكم على سلوكهم قبل منحه صوته. وتُجرى الانتخابات المقرّرة في 11 تشرين الثاني 2025، في ظلّ بروز تحالفات مدنية أوسع وأكثر تنظيماً، أبرزها تحالف البديل الذي يضم شبكة من المرشحين الليبراليين واليساريين، والتحالف المدني الديمقراطي، هذه التحالفات هي مظلّات للقوى والمستقلين المدنيين لم تكن متاحةً بالاتّساع نفسه عام 2021.
وصحيحٌ أنّ انتخابات 2021 شهدت نسبة مشاركةٍ رسمية تراوحت بين 41 و43 بالمئة من حملة بطاقة الناخب، وهي أقلّ بكثير إذا ما احتُسبت نسبة المؤهّلين جميعاً، لكنّها مع ذلك أفرزت أصواتاً معارضة داخل البرلمان إلى جانب كتلٍ داعمة للسلطة، وهو ما يراه المشاركون مؤشّراً على إمكان التغيير بالتراكم التدريجي.
في المقابل، يتخوّفون من أنّ استمرار العزوف سيُعيد إنتاج برلماناتٍ شبيهة بالدورة الحالية، التي وُصفت بأنّها من أسوأ الدورات منذ 2005، بعد أن بدأت بصعود نوّابٍ لم يفوزوا أصلاً بل دخلوا بدلاً من نوّاب التيار الصدري المنسحبين (73 نائباً).
وقد صوّت البرلمان الحالي على جملة قوانين مثيرةٍ للجدل، أبرزها تعديل قانون الأحوال الشخصية بما ينتقص من حقوق المرأة، وإقرار فكرة “التصويت بالسلة الواحدة” على عدة قوانين، وهي مخالفة للأسس الديمقراطية؛ إذ جرى تمرير قوانين حسّاسة دون تصويتٍ اسمي علني أو مع عدم اكتمالٍ إجرائيٍّ للنصاب في حالاتٍ عدّة، بما في ذلك تمرير قائمة تضم عشرات السفراء. بالنسبة للمشاركين، يعزّز ذلك ضرورة الدفع نحو برلمانٍ مختلف لا يشبه البرلمان الحالي، من خلال زيادة تمثيل القوى الوطنية والمعارضة، بدلاً من ترك الساحة فارغة لِتُحتكَر من قبل القوى التقليدية؛ فالمقاطعة لن تُنتج برلماناً أفضل من هذا.
التغيير من داخل اللعبة
لا ينظر المشاركون إلى التصويت كواجب روتيني، بل كأداة لمواجهة القوى التقليدية التي احتكرت السلطة لسنوات. أظهر الاستبيان أن 38.1 بالمئة منهم يهدفون إلى الحد من نفوذ هذه القوى، و32.1 بالمئة يسعون إلى إفساح المجال أمام قوى وشخصيات جديدة، بينما رأى 16.7 بالمئة أن المشاركة قد تتيح تغييرات جزئية في القوانين والسياسات. في المقابل، بدت الدوافع الشخصية أو المحلية هامشية جداً بنسبة 7.1 بالمئة، ما يعكس طابعاً سياسياً واضحاً في اختياراتهم.
في جانب المشاركة، قدّم بعض المشاركين في الاستبيان مبرراتهم التي تعكس تحوّلاً في المزاج السياسي تجاه صناديق الاقتراع. أحدهم لخّص دوافعه بالقول إن “فشل المقاطعة في إنتاج مشروع بديل دفعه هذه المرة إلى دعم من يملك صوتاً صريحاً في مواجهة السلاح والفساد والفوضى”، على أمل أن “يتحول هذا الصوت إلى أصوات قادرة على تمرير قوانين تتلاءم مع تطلعات العلمانيين في العراق”.
آخر رأى أن “المشاركة هي الخيار الأقرب لإحداث التغيير”، لأنها “تمثل أداة ضغط سلمية وشرعية بيد المواطنين”، معتبراً أن “المقاطعة تُفرغ الساحة من أصوات الإصلاح وتمنح القوى التقليدية الهيمنة دون رقابة”، وأن “التغيير لا يتحقق بالغياب، بل بالتصويت الواعي والمتابعة المستمرة”.
أما ثالث المشاركين، فاعتبر أن “المقاطعة كانت أحياناً خياراً مقنعاً، لكنها اليوم ضرب من الخيال”، مشيراً إلى أن “شخصيات ذات توجه علماني أثبتت تمثيلاً حقيقياً”، ما يجعله “يشعر بمسؤولية أخلاقية تدفعه إلى التصويت”، لأن “الطريق طويل ويحتاج إلى مشاركة فعّالة وعمل نيابي دؤوب لتجريد القوى التقليدية من أدواتها”.
ما الذي يطمحون لتحقيقه؟
لا يتوقع المشاركون انقلاباً جذرياً، بل ينظرون إلى التصويت كخطوة ضمن مسار طويل لبناء معارضة مدنية. من بين 83 مشاركاً، قال 43 منهم (51.8 بالمئة) إنهم يطمحون إلى خلق معارضة سياسية أقوى داخل البرلمان، و 38 (45.8 بالمئة) يرونه فرصة لتجربةٍ تمهّد لتغييرات أكبر لاحقاً، بينما يأمل 31 (37.3 بالمئة) في فتح المجال التدريجي للإصلاح السياسي.
الحماس للمشاركة، رغم قوّته، ليس مطلقاً ولا غير مشروط. فالإيمان بالتغيير التدريجي لا يعني الاستعداد لخوض معركة محسومة سلفاً أو اللعب وفق قواعد مختلّة بالكامل. كثير من المشاركين ربطوا قرارهم بوجود حد أدنى من الثقة في العملية الانتخابية ومخرجاتها، إذ رأى 27 منهم (32.5 بالمئة) أنهم سيقاطعون إذا جرى استبعاد المرشحين المدنيين والمعارضين، فيما أكّد 24 (28.9 بالمئة) أنهم لن يشاركوا إذا غاب المرشح الذي يمثلهم بصدق، وأشار 18 (21.7 بالمئة) إلى أن ارتفاع احتمالية التزوير قد يدفعهم للانسحاب، بينما رأى 13 (15.7 بالمئة) أن تصاعد نفوذ السلاح والمال السياسي سيكون سبباً كافياً للمقاطعة.
في المقابل، أبدى 30 مشاركاً (36.1 بالمئة) تمسكهم بخيار التصويت “مهما كانت الظروف”، ما يعكس وجود شريحة صغيرة لكنها صلبة ترى أن المشاركة بحد ذاتها فعل مقاومة سياسي يجب الاستمرار فيه حتى في أسوأ الظروف. إلا أن الصورة العامة تبقى أكثر هشاشة، فأي تراجع في الضمانات الانتخابية أو تضييق على المرشحين المستقلين أو اتساع لسطوة القوى المسلحة قد يُقوّض هذا المزاج المتفائل، ويعيد الاعتقاد بأن المقاطعة أداة ضغط أكثر جدوى من المشاركة في لعبة لا تُتيح تغييراً حقيقياً.
وماذا عن التردد؟
التردّدُ ليس خياراً واضحاً مثل المقاطعة أو المشاركة؛ بل هو مزيجٌ من ثلاثة مؤثرات: فقدان الثقة بالعملية الانتخابية، وغياب البدائل المقنعة، واللامبالاة السياسية التي رسّختها سنواتٌ من الخيبات.
غير أنّ أهمّ ما تكشفه هذه الحالة، أنّ التردّد لا يعني الحياد، إذ يكمنُ فيه استعدادٌ للانتقال نحو أحد الخيارين (المقاطعة أو المشاركة) متى توافر الدافع الكافي. ومع اقتراب موعد الاقتراع المقرَّر في 11 تشرين الثاني 2025، تعد هذه الفئة هدفاً مباشراً لمعظم الرسائل الانتخابية المكثّفة خلال الأسابيع القليلة السابقة للصمت الانتخابي.
وهنا يؤدي الإعلام دوراً حاسماً في دفع هذه الكتلة المتأرجحة. القنوات الحزبية توظّف أدواتها لإقناعهم بأنّ المشاركة ضرورةٌ لـ”حماية الاستقرار”، فيما تبني قوى معارِضة خطاباً يُبرز المقاطعة كفعل احتجاجي لنزع الشرعية عن السلطة. لكنّ التأثير الأبرز اليوم لا يأتي من الوسائط التقليدية بقدر ما يأتي من المؤثّرين والشخصيات العامّة التي تحظى بثقة هذه الفئة على منصّات التواصل؛ إذ تُختزل المواقف في رسائل قصيرة وعاطفية قادرة على حسم اتجاههم خلال أيّام.
وإلى جانب التأثير الخطابي، تستغلّ بعض الأحزاب التقليدية حالة التردّد من خلال وسائل مادية مباشرة قبيل الاقتراع؛ من توزيع مبالغ مالية أو سلالٍ غذائية وحاجاتٍ أساسية للفئات الفقيرة والمتردّدة، في محاولة لتحويل تردّدهم إلى أصواتٍ مضمونة. وتؤكّد المفوضية أنّ شراء الأصوات جريمة تُحال إلى القضاء وقد تفضي إلى إقصاء المرشّح وفرض عقوبات عليه، فضلاً عن الغرامات التنظيمية على مخالفات الدعاية والإنفاق. لكنّ واقع الميدان يجعل قرار هذه الفئة سريع التبدّل، وغالباً لا يستند إلى البرامج أو الرؤى بقدر ما يجتذبه من ينجح في مخاطبة مشاعرهم أو سدّ احتياجاتهم الآنية، ما يجعلهم الكتلة الأكثر قابليةً للاستمالة في أي موسم انتخابي.
وفي الواقع، يمثّل المترددون الفئة الأكثر هشاشة في المزاج الانتخابي، لأن مواقفهم قابلة للتبدّل سريعاً تبعاً للظروف والمؤثرات.
من بين 47 شخصاً من المستبينين كانوا في خانة المترددين، قال 31 منهم (65.9 بالمئة) إنهم لم يجدوا بعد مرشحاً يثقون بتمثيله لهم، وأشار 29 (61.7 بالمئة) إلى فقدان الثقة بالعملية الانتخابية برمّتها، بينما أشار 13 (27.7 بالمئة) إلى أن الإحباط والخوف من تكرار تجربة 2021 هما من أسباب ترددهم. هشاشتهم هنا لا تعني ضعف الرأي، بل تعكس أنهم أكثر عرضة للاستمالة أو الانسحاب، تبعاً لما تقدمه القوى السياسية أو يكشفه الواقع خلال فترة الانتخابات.
ما الذي قد يحسم موقفهم؟
يربط المترددون قرارهم بعوامل ملموسة قد تعيد ثقتهم بالعملية الانتخابية. إذ قال 34 بالمئة إنهم سيحسمون موقفهم إذا ظهرت قوى أو شخصيات جديدة تمثّلهم بوضوح، و27.7 بالمئة إذا ضُمنت نزاهة الانتخابات وآلياتها، و12.8 بالمئة إذا تراجع نفوذ السلاح والمال السياسي، و14.9 بالمئة ينتظرون برامج انتخابية واضحة قبل اتخاذ القرار، بينما قال 10.6 بالمئة فقط إنهم سيبقون مترددين حتى اللحظة الأخيرة، ما يعني أن الإشارات التي يترقبونها تتمثل في هذه الخطوات نفسها؛ فإن توفرت بشكل مطمئن مالوا إلى المشاركة، وإن غابت أو جاءت مخيّبة اتجهوا نحو المقاطعة.
رغم حيادهم الظاهري، تميل كفّة المترددين أكثر نحو المشاركة؛ إذ قال 63.8 بالمئة منهم إنهم سيرجّحون التصويت إذا حسموا موقفهم، مقابل 36.2 بالمئة قالوا إنهم سيميلون إلى المقاطعة. يظهر من إجاباتهم أن التردد ليس موقفاً أيديولوجياً راسخاً، بل حالة مؤقتة من فقدان الثقة بالعملية، يمكن أن تتحول بسهولة إلى مشاركة فاعلة أو انسحاب كامل، تبعاً لمدى قدرة القوى السياسية والإعلامية على كسب ثقتهم قبل يوم الاقتراع.
الخيارات الثلاثة
لم تُثمر المقاطعة المشتّتة في الدورات السابقة سوى فراغٍ استغلّته القوى التقليدية لإعادة إنتاج نفسها، لكن احتمال أن تتخذ المقاطعة هذه المرة طابعاً أكثر تنظيماً، خصوصاً مع انسحاب التيار الصدري الذي كان يشكّل ثقلاً انتخابياً كبيراً، يمنحها زخماً مختلفاً. فاليوم تلتقي عوامل عديدة لتغذية هذا الخيار، من سطوة السلاح والمال السياسي، إلى تسييس مفوضية الانتخابات وفقدان الثقة بمؤسسات الدولة، ما يجعل فكرة المقاطعة المنظمة احتمالاً قائماً لا يمكن تجاهله.
ومع ذلك، فإن المشاركة ما تزال تُقدَّم كخيار وحيد لانتزاع السياسة من الداخل. غير أن التجربة أظهرت أن الدخول إلى البرلمان لا يعني بالضرورة النجاح؛ فقد ابتُلعت قوى مدنية سابقة بسرعة داخل تحالفات السلطة. لذلك فإن المشاركة وحدها لا تكفي ما لم تُرفَق بعمل منظم وجهد دؤوب يحول دون تكرار الفشل. فالقوى المدنية الناشئة ما زالت تعاني من ضيق قاعدتها الشعبية واعتمادها على جمهور نخبوي محدود، وإذا لم تنجح في كسر حاجز العزوف وجذب الطبقات الوسطى والشباب المستقلين بخطاب عملي قريب من الشارع، ستبقى رهينة الحضور الإعلامي دون أن تتحول إلى ثقل انتخابي قادر على مواجهة القوى التقليدية.
تتقاطع الخيارات الثلاثة في الانتخابات البرلمانية المقبلة أكثر مما تتباين؛ فالمقاطعة المشتتة لا تُسقط المنظومة بل تمنحها فسحة لتعيد إنتاج نفسها، بينما المشاركة وحدها ليست ضمانة لبرلمان مختلف ما لم تتكئ على تنظيم ورقابة يحولان دون ابتلاع القوى المدنية من جديد. أما المترددون، فإن ما يعيق حسم موقفهم من سلاح منفلت وهيمنة حزبية وفقدان الثقة بالمؤسسات هو ذاته ما يدفع المقاطعين إلى الانسحاب.