وجوه القابلات في العراق: من الأزقّة الشعبية إلى العيادات الخاصة
09 تشرين الأول 2025
هذا النص رحلة إلى عالم القابلات، يدخلنا الغرف الصغيرة حيث يصرخ الإنسان للمرة الأولى. عالم من الخبرة والجرأة محفوف بالمخاطر، بين إرث القابلات ودورهن في زمن الحرب وانهيار المشافي، وآخر تعليمات الوزارة لضبط المهنة..
في أحد أزقة حي الأورفلي المكتظ في بغداد، كانت النساء تتقاطرن إلى بيت “الجدّة” كلما حان موعد ولادة في الحي. الغرفة الصغيرة بالكاد تتسع للحاضرات، فيجلس بعضهن على الأرض ويتكئ البعض الآخر إلى الجدران.
تتصاعد في الجو روائح الشاي المغلي وصوت الدعوات والهمسات الممزوجة بالترقب. وما إن تخرج القابلة حاملة المولود أو المولودة حتى تعلو أصوات الزغاريد والتهاني، وبينما تُنثر الـ”واهلية” على رأس الجدة -القابلة- تضم الأم مولودها وسط دعوات الحاضرات بالصحة وطول العمر. مع أن بعض القابلات أشرن إلى أن أجورهن تقلّ عندما تكون المولودة أنثى.
في مثل هذا المشهد كانت طفولة أم زهراء (47 عاماً)، القابلة التي أصبحت لاحقاً عنواناً للخبرة والجرأة في مدينة الصدر، إحدى أكبر مدن العاصمة.
بدأت أم زهراء العمل في القبالة في سن مبكرة، فشعرت أنها بحاجة إلى قدر كبير من الجرأة لتُقدِم على مدّ يديها إلى أرحام النساء لإجراء فحوصات للحوامل أو لتوليدهن، وغالباً ما تواجه مواقف طارئة تستدعي منها اتخاذ قرارات سريعة، فضلاً عن تحمّلها مسؤولية حياة الأم والطفل معاً.
في تلك الأزقة المزدحمة، لم يكن وصول المرأة الحامل إلى المستشفى أمراً مألوفاً قبل جيلين، بل كانت الولادة شأناً منزلياً، تتولاه النساء في ساحة الدار أو حتى في حديقة البيت حين يضيق المكان.
نشأت أم زهراء في منزل تحوّل إلى مدرسة غير رسمية للقِبالة؛ إذ كانت والدتها وأخواتها يمارسن المهنة دون شهادات رسمية، ويورثن خبرتهن جيلاً بعد جيل. مع الوقت أصبحت أكثر تمكّناً من المهنة، وحين كانت أمها وأخواتها يغِبن عن المنزل لتلبية طلبات توليد في مناطق أخرى، وجدت نفسها مسؤولة وحدها عن استقبال عدة حالات يومياً، رغم أنها لم تكن قد تجاوزت مرحلة المراهقة بعد.
بين روتين المستشفيات الصارم، ودفء الرعاية التي تمنحها الجدّة، تواجه النساء مفارقة الولادة في العراق، تجذبهن الحميمية التي توفرها، ويخيفهن غياب التخصص، إذ قد تتعثر الولادة وتتعرض حياة الأم أو الجنين للخطر، ما يبرز الحاجة إلى الولادة في مستشفيات آمنة وتحت إشراف أطباء وطبيبات توليد، وخاصة في الأرياف والقرى حيث تغيب المستشفيات فتصبح القابلة، بغض النظر عن خبرتها أو كفاءتها أو تعقد الحالة الصحية، الخيار الوحيد للنساء الحوامل في هذه المناطق.
“دخلت عليها جدة”
يُعرّف الاتحاد الدولي للقابلات -وهو التعريف المعتمد من منظمة الصحة العالمية- القابلة بأنها “محترفة صحية ذات كفاءة ومسؤولية، تعمل في شراكة مع النساء، وتقدم الدعم اللازم والرعاية والمشورة أثناء الحمل والمخاض وفترة ما بعد الولادة، وتقوم بعمليات التوليد على مسؤوليتها وتوفر الرعاية للطفل. ويشمل عملها اتخاذ التدابير الوقائية، وتعزيز الولادة الطبيعية، والكشف عن المضاعفات عند الأم أو الطفل، وطلب المساعدة الطبية المناسبة عند الضرورة، وتنفيذ إجراءات الطوارئ عند الحاجة”.
شريطة أن تكون قد أكملت بنجاح برنامج تعليم القبالة المعترف به حسب الأصول في البلد الذي يوجد فيه، والذي يقوم على أساس الكفاءات الأساسية لممارسة القبالة، وإطار المعايير العالمية لتعليم القبالة، التي وضعتها اللجنة الدولية للقبالة.
في العراق، تحصل القابلة على إجازة مزاولة المهنة بعد اجتياز دورة تدريبية بالتعاون مع وزارة الصحة، تُمنح حصراً للمنتسبين إلى نقابة التمريض، وفق فراس الموسوي، نقيب التمريض.
ويُنظّم قانون مزاولة مهنتي التدريب والقبالة رقم 96 لسنة 2012 عمل القابلات، مقسماً إياهن إلى فئتين: الأكاديميات، ممن حصلن على شهادة من المعهد أو الكلية. والأهليات، وهنّ من حصلن على إذن مزاولة من وزارة الصحة قبل عام 2012 دون شهادة أكاديمية. تُجدَد رخصة مزاولة المهنة للقابلات الأكاديميات كل سنتين، وللأهليات كل سنة، بعد اجتياز دورة تدريبية قصيرة.
تنص المادة الخامسة من القانون على ضرورة خضوع من تمارس مهنة القبالة إلى تدريب محدد بحسب مستواها الدراسي، إذ يُشترط على الحاصلة على شهادة جامعية أولية في التمريض إكمال دورة تدريبية لمدة ستة أشهر، بينما تُلزم خريجات المعاهد التقنية الطبية أو إعداديات التمريض بإكمال دورة في القبالة والتوليد مدتها سنة واحد، بالإضافة إلى شروط أخرى عامة منصوص عليها في المادة الخامسة. كما تؤكد المادة التاسعة من القانون التزامات القابلة الأهلية المجازة، وفي مقدمتها الإبلاغ عن جميع حالات الولادة والوفاة، والتقيد بأخلاقيات المهنة وإرشاداتها، مع الامتناع عن إجراء الولادات العسرة أو الخطرة وإحالتها إلى المستشفيات، إضافة إلى حظر الإجهاض.
في عام 2020، صدر قانون نقابة التمريض رقم 8 الذي رسّخ استقلال النقابة إدارياً ومالياً، ومنحها شخصية معنوية، لصون تقاليد المهنة، والدفاع عن حقوق العاملين فيها، وتطوير معارفهم من خلال التدريب المستمر ورفع المستوى العلمي والمهني. حيث وفرت وزارة الصحة عبر مديرياتها في المحافظات دورات قصيرة لا تتجاوز مدتها شهراً واحداً، تتناول إرشادات متعلقة بالولادة المنزلية وأخلاقيات المهنة، ويُعدّ اجتياز هذه الدورات شرطاً أساسياً للحصول على إجازة العمل وتجديد الرخصة السنوية.
يشير الموسوي إلى أن هذه الآلية جاءت بعد تغير النظرة المجتمعية لمهنة التمريض والقبالة، التي أصبحت أكثر قبولاً بعد عام 2003. يؤكد النقيب أن مهنة التمريض والقبالة كانت تُقابل بالتحقير وتعاني من وصمة اجتماعية نتيجة طبيعة العمل، ما قلل أعداد الدارسين، حتى أن بعض العائلات كانت ترفض تزويج أبنائها من الممرضات والقابلات. لكن بعد سقوط نظام البعث، تغيّرت النظرة الاجتماعية تجاه المهنة تدريجياً، وازداد الإقبال على دراستها في المعاهد والكليات، وصولاً إلى الماجستير، بينما كانت “إعدادية التمريض” أقصى مؤهل يمكن الحصول عليه سابقاً في معظم محافظات العراق.
وبحسب الضوابط، يُسمح للقابلة الأهلية بإجراء الولادات الطبيعية فقط، ويُمنع عليها توليد الحامل لأول مرة. وتتابع النقابة، بالتعاون مع وزارة الصحة، القابلات غير المجازات، وتحيل المخالفات إلى القضاء بتهمة انتحال الصفة.
وفق تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، وتقارير منظمة الصحة العالمية، هناك نقص عالمي يقدّر بنحو مليون قابلة، أكثر من ثلثيه في الدول النامية ومتدنية الدخل. يمكن للقابلة المؤهلة وحدها توفير نحو 90 بالمئة من الرعاية الصحية الأساسية المطلوبة في مجالات الصحة الإنجابية وصحة الأم والطفل. وتشير هذه التقارير إلى أن العراق ضمن الدول ذات العجز الحاد في أعداد القابلات، حيث حل العراق في المرتبة 72 عالمياً من إجمالي 193 دولة من الدول الأكثر احتياجاً للممرضات والقابلات، خلال 2023، وفي المرتبة 11 عربياً، وفقاً لمجلة CEO WORLD، التي أشارت إلى أن العراق لديه 22.56 ممرضة وقابلة لكل 10 آلاف شخص.
ومع أن وزارة الصحة تحتفظ بقاعدة بيانات إحصائية للقابلات الحاصلات على إذن مزاولة في العراق، تتضمن أسماءهن ومواقعهن وحالة تراخيص المهنة، حيث يُطلب من كل قابلة التسجيل للحصول على ترخيص للعمل رسمياً، إلا أن قاعدة البيانات هذه غير متاحة للعامة، ولم نستطع الحصول على نسخة منها من أجل إعداد هذا التقرير.
أم زهراء التحقت بإعدادية التمريض في سن الـ 17، أي أنها تعدّ قابلة أهلية، كونها حصلت على إذن مزاولة من وزارة الصحة قبل عام 2012 دون الحصول على شهادة أكاديمية.
استمر تدريب أم زهراء لسنتين في إعدادية التمريض، وتلقت تعليماً نظرياً وعملياً مكثفاً لتأهيل الكوادر على رعاية النساء خلال فترة الحمل والولادة وما بعدها، حيث تدربت في مستشفى العلوية تحت إشراف طبيبات مختصات.
تستعيد أم زهراء سنواتها الأولى في المهنة، حيث تروي كيف أذهلت المدرسات والزميلات بمهاراتها وجرأتها في غرف التدريب.
“مرات أكو عمليات خياطة، و(هي إجراء طبي شائع بعد الولادة الطبيعية لعلاج أي تمزقات أو شقوق في منطقة العجان أو البطن وتساعد في التئام الجروح) يجوز تاخذ من الطبيبة ساعتين، أني أكملها بدقايق”.
اكتسبت أم زهراء خبرتها من خلال الممارسة، حيث باشرت عملها بصفتها قابلة المستشفى الذي تدربت فيه في بغداد بعد تخرجها من إعدادية القبالة مباشرة.
“كان الشغل مستمر، يعني يوم واحد بصالة الولادة من الليل للصبح بمعدل يوصل 100 ولادة، وهذا بعد تخرجي، عمري جان وقتها تقريبا 20 سنة”.
ومع ذلك، فهي تعرف أن هناك تفريق بينها وبين القابلة الأكاديمية، يمكن وصفه بـ”معركة القابلات الأهليات”، والتي تعتبرها أنها “أشد قسوة وخطورة” مما يعتقده الكثيرون، حيث ترى أن هناك “حملة تخويف ممنهجة” تستهدف القابلة غير الأكاديمية، يقودها أحياناً بعض طبيبات النسائية اللواتي يعتبرنها منافسة.
تستذكر أم زهراء كيف كانت عبارة “دخلت عليها جدة” تُدوَّن في السجلات الطبية للحوامل اللاتي زرن قابلة أهلية، لتصبح هذه العبارة لاحقاً بمثابة دليل إدانة ضد القابلة في حال حدوث مضاعفات، مما يخلي مسؤولية الطبيبة إلى حد ما. هذا الأمر فتح الباب أمام شكاوى قانونية وتهديدات مباشرة ضد القابلة عند وقوع أي مشكلة صحية أو وفاة الأم أو المولود في المستشفى. رغم ذلك، تؤكد أم زهراء أن القابلة ليست “عدوّة النظام الصحي”، بل يمكن أن تكون شريكة فاعلة للطبيبات إذا توفرت التشريعات المناسبة وتوقفت “ممارسات الإذلال” والانتقاص من مهنة القبالة.
في بداية طريقها في المهنة، كانت أم زهراء تعمل في القطاعين الحكومي والأهلي معاً، قبل أن تتمكن من افتتاح عيادتها الخاصة. اليوم، تدير أم زهراء خمس عيادات في أحياء شعبية متفرقة في بغداد، ولكن محظور عليها تقديم خدمات قبالة عديدة في عياداتها الخاصة.
“يسمحون لي بالمستشفى باستخدام موسعات الرحم وإبر الطلق الصناعي بدون إشراف طبيب مختص، بس يمنعونها عني بعياداتي المرخّصة. هذا التناقض في القانون أحياناً يعرض حياة مريضاتي للخطر، بس لازم أتبع القانون بكل الأحوال”. تنتقد أم زهراء السلطات بسبب منع القابلات من استخدام بعض الأدوات الطبية الأساسية في عياداتهن الخاصة، رغم السماح لهن باستخدامها داخل المستشفيات.
القابلة أم فلان
لم يعد اسم “أم علي” يتصدر لافتتها الصغيرة في قطاع خمسة بمدينة الصدر، فقد استُبدل بقرار رسمي إلى الاسم الحقيقي “نضال عباس”، القرار الذي فرضته النقابة استناداً إلى تعليمات وزارة الصحة قلب حياتها المهنية رأساً على عقب. تقول “الحي كله يعرفني بهذا الاسم، وحتى زميلاتي ما يعرفن اسمي الحقيقي، يقرؤون “نضال” عبالهم وحده غيري، بهذا القرار خسرنا نصف زبائننا”.
تواجه القابلة في كثير من الأحيان “الغضب العشائري” عند حدوث مضاعفات أو نتائج مؤسفة للولادة. هذا الأمر قد يعرضها للتهديد بالأسلحة، أو الابتزاز المالي، أو العنف الجسدي من قبل العائلات التي لا تدرك تعقيدات الحالات الطبية.
ولحماية نفسها، تلجأ العديد من القابلات إلى توثيق موافقات الأهل كتابياً، وتحضير ملفات طبية للحالة قبل الولادة.
تتذكر أم زهراء إحدى أصعب الحالات التي واجهتها، عندما اكتشفت أن الجنين قد توفي في رحم الأم. وبعد أن قامت بعملية تحفيز المخاض وأزالت الجنين والمشيمة، اتهمها الأهل بقتله عمداً وحاولوا ابتزازها، إلا أنها واجهتهم بإثبات معرفتهم المسبقة بوفاة الجنين، فتركوها وشأنها.
تواجه القابلات مسائل حساسة مثل طلبات الإجهاض وفحص العذرية، التي يصعب على الطبيبات القانونيات التعامل معها أحياناً. ترفض أم زهراء إجراء أي عملية إجهاض، لكنها تؤكد أن بعض القابلات الأخريات قد يقمن بذلك سراً مقابل مبالغ كبيرة.
تؤكد أم زهراء: “كلش هواي قابلات يسوون إجهاض بالسر”.
وفي حالات فحص العذرية، غالباً ما تتعامل أم زهراء مع الأمهات فقط دون إخبار رجال العائلة، خوفاً من تعرض الفتاة للقتل بداعي “غسل العار”.
تتحدث القابلة أم هاجر (50 عاماً، اسم مستعار) من النجف، عن قيامها بعمليات “ترقيع غشاء البكارة” سراً لمساعدة الأمهات وبناتهن، حسب قولها، والذي قد “ينقذ حياة البنية”، في بيئة محافظة وعشائرية تربط البكارة بالشرف.
كما ترفض طلبات الإجهاض التي تتلقاها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتوضح أن هذه الطلبات تأتي لأسباب مختلفة، يعود بعضها لأمهات لا يرغبن في الإنجاب، وبعضها الآخر لحالات أكثر حساسية، مثل الفتيات اللواتي يحملن خارج إطار الزواج أو نتيجة الاعتداء من قبل محارمهن.
دور محوري في الأزمات
كل هذه التحديات التي تلف عمل القابلة في العراق، إلا أن دورها ما يزال فاعلاً في مجتمعاتها المحلية، وخصوصاً في أوقات الأزمات والحروب، تتحول القابلة إلى عنصر حاسم في معادلة الحياة والموت.
عام 2006، ومع اشتداد الحرب الطائفية في بغداد، أصرت أم محمد (53 عاماً) على البقاء في منزلها في أحد أحياء العاصمة، لتصبح ملاذاً للحوامل المحاصرات تحت نيران الاشتباكات. كانت سيارات الإسعاف لا تمر إلا “لمهمات طارئة جداً”، لقد وجدت نفسها في أحد الأيام تتعامل مع 23 حالة ولادة.
تقول أم محمد: “بيتي صار غرفة عمليات، جنت أنتقل من غرفة لغرفة، أتابع ولادة امرأة وأستقبل ثانية”.
من ضمن الحالات التي تعاملت معها آنذاك نساء يعانين من ارتفاع في ضغط الدم، وأخريات أجرين عدة عمليات قيصرية سابقة، مما يصعّب الولادة الطبيعية ويشكل خطراً على الأم والجنين، إضافة إلى حالات أجنة في وضعيات ولادة حرجة.
حينها، كانت أم محمد تطلب من أهالي الحي توقيع تعهد خطي بأنهم يتحملون مسؤولية المخاطرة بإرادتهم. تقول: “ما كان ممكن نقل المصابات إلى مستشفيات مغلقة أو تتعرض للقصف أو صايرة بشوارع خطرة بذاك الوكت، فاضطريت أتحمّل أضعاف مسؤوليتي”.
دخلت أم محمد مجال القبالة بعد الصف الثالث المتوسط، فقد التحقت بإعدادية التمريض بتشجيع من والدها. بدأت عملها في مستشفى بالقائم في الأنبار خلال تسعينيات القرن الماضي، في ظل نقص شديد في التجهيزات، وتعلمت بسرعة مع إقبال الأهالي عليها، ثم حصلت على دبلوم قبالة وتوليد وانتقلت للعمل في بغداد، حيث أصبحت رئيسة قابلات ماهرات أقدم منها في مدينة الطب.
أخذت أزمات الصحة الإنجابية بعداً آخر مع جائحة كورونا عام 2020، فالخوف من العدوى جعل المستشفيات أماكن شبه مهجورة من النساء الحوامل، وتضاعفت صعوبة توفير التعقيم، فيما امتد التوتر إلى ميدان عمل القابلات في صالات الولادة في منازلهن. ورغم ذلك، واصلت أم محمد وزميلاتها العمل.
تؤكد تقارير صادرة من جهات إغاثة ومنظمات صحية أن القابلات يحتفظن بمكانة بارزة في معرفة احتياجات النساء أثناء الأزمات، وهن غالباً مقدّمات الرعاية الصحية الوحيدات في المناطق النائية أو المهددة بالحروب.
اليوم، تدير أم زهراء خمس عيادات في أحياء شعبية مثل الحبيبية وقطاعات مدينة الصدر، وهي المناطق التي تمثل ثقلاً لعملها ومصدراً رئيساً لخبرتها. أما في الأحياء الأكثر ثراءً مثل الكرادة والمنصور، فلم تستقطب سوى عدد محدود من الحوامل، موضحة أنه “بهذيج الأحياء الراقية النساء يفضلن الولادة بالمستشفيات الخاصة، بخدمات فاخرة وولادة بلا ألم، لكن الزخم والتجارب الحقيقية موجودة بالمناطق البسيطة”.
الانتقال إلى العمل في عيادات خاصة -رغم التضييق على استخدام بعض الأدوات الطبية الأساسية- كان سببه أيضاً شروط العمل الصعبة والأجر المتدني للقابلات في النظام الحكومي.
تقول أم زهراء إنها كانت تضطر إلى حضور ثلاثة دوامات متواصلة، تبدأ بدوام حكومي يمتد نحو ثماني ساعات، ثم تواصل العمل في القطاع الأهلي حتى وقت متأخر، بسبب ضعف الرواتب الحكومية. “لما جنت أشتغل حكومي جان الأجر الشهري يا دوب يتجاوز 300 ألف دينار، فاضطريت أشتغل بالقطاع الخاص، يعني بالمستشفيات الأهلية”. رُفع دخلها بحصولها على نسبة من كل ولادة تصل قيمتها إلى 55 ألف دينار (40 دولاراً).
أم علي (62 عاماً)، تقطن في قطاع خمسة بمدينة الصدر، وتستقبل نساء من أنحاء بغداد والكوت والشعلة، تقول: “مهنتنا بالتراث، أتينا إليها من تجارب الجدات”. وتذهب إلى التفاخر بتمكنها من “توليد حتى الحوامل البكريات، أو من تحمل بتوءم أو وضعية عرضية”.
لم تفرض أم علي أجوراً ثابتة على خدماتها، حيث تختلف تكلفة الولادة بناءً على صعوبتها، وتتراوح بين 200 إلى 500 ألف دينار عراقي. كما ترفض التمييز في الأجور بين المواليد الذكور والإناث.
ولادة في المنزل: البحث عن “الأمان” هرباً من المستشفيات
تُفضّل بعض النساء الولادة في المنزل برفقة قابلة، هرباً من تجارب المستشفيات التي يرينها قاسية أو غير إنسانية، حيث يسود شعور بالإهمال والضغط النفسي وغياب الدعم الأسري أثناء الولادة. كثيرات يعبرن عن خوفهن من العمليات القيصرية “المفروضة” أحياناً دون مبرر طبي، ومن التعامل الجاف أو القاسي في الأجنحة الحكومية، ما يدفعهن لاختيار بيئة أكثر ألفة وهدوءاً، حتى لو كانت أقل تجهيزاً.
بشرى (27 عاماً)، تستعيد تجربتها في ولادتها الأولى في المستشفى حين وجدت نفسها في غرفة واحدة مع ست نساء أخريات، وسط غياب تام للخصوصية ودون وجود مرافقين ولا دعم معنوي. تقول: “شفت وحدة منهن توفت كدامي، منظر ما أنساه”. مضيفة أن المشهد ترك لديها خوفاً عميقاً من المستشفى ورهبة من تكرار التجربة.
وتروي أن الإهمال وسوء المعاملة فاقما معاناتها: “بالمستشفى يتأخرون، ويخيطونج أحياناً من دون بنج، القابلات غلطوا عليّ لفظياً وسكتت لأني خفت أجاوب”. وتوضح أنها تشعر أن المستشفيات غالباً تدفع الحوامل نحو خيار العملية القيصرية حتى وإن لم يكن ضرورياً، بينما تفضل القابلة المنزلية لأنها تمنحها إحساساً بالاهتمام والهدوء: “وية القابلة المنزلية يكون أحد يمّج، مو مثل المستشفى بس يصيحون عليج”.
وفي ولادتها الثانية، اختارت بشرى التوجه إلى عيادة قابلة منزلية، ووضعت طفلها خلال نصف ساعة فقط، وحصلت على البيان الرسمي بعد الولادة.
لكنها لا تخفي الفوارق، فتقول: “ما عدها نفس أدوات المستشفى، الفراش بسيط، وماكو مستلزمات طبية مرات، لا قراصة للحبل السري، ولا إبرة للكانونة، ولا جهاز لقياس الضغط أو قياس نبض الطفل”.
تتفق الشهادات على أن القسوة في غرف الولادة متعددة الأوجه، وأن هناك مخاطر في الولادة المنزلية خصوصاً على يد قابلات يفتقرن إلى الخبرة. وأحياناً تكون القسوة ناتجة عن إرهاق كادر المستشفيات وضغط العمل.
تستذكر مروة (19 عاماً) من صلاح الدين، كيف رفضت قابلات المستشفى توليدها لعدم قدرتها على “التوسع” (تمدد عنق الرحم)، فأحلنها إلى قابلة منزلية في الحي. قامت القابلة بحقنها بمعجّل ولادة دون إخطارها أو أخذ موافقتها، وزعمت أنه مسكن للألم.
تقول: “انفجر مي الراس وظليت ساعات أدفَع لحد ما غبت عن الوعي، قبل ما تضطر القابلة تشق العجان وعنق الرحم، وصارت حالة اختناق، چانت راح تروح حياة طفلتي”.
يوضح تحليل شبكة Healthy Newborn Network أن العراق يعاني من تحديات عميقة في الصحة الإنجابية ورعاية الأمهات والأطفال، بسبب الصراعات وانهيار البنى التحتية ونقص الكادر المؤهل، حيث أُصيب النظام الصحي بضعف شديد وتراجعت جودة الخدمات الصحية عامة، ومن بينها توفير القابلات، إذ ثمة الكثير من الولادات التي تشرف عليها قابلات تقليديات غير مدرّبات أو بدون إشراف كاف، ولا سيما في الأرياف والمناطق المهمشة.
ومع ذلك، تخبرنا أم زهراء عن تلقيها طلبات ولادة من نساء حتى في محافظات أخرى عبر صفحاتها على مواقع التواصل، فتجهّز معداتها وتسافر إليهن، إذ تبحث كثيرات عن رعاية القابلات وتجنّب ما قد تواجهنه من عقبات قد يصل بعضها إلى حدّ العنف في المستشفيات الحكومية، وبينما تقدّم المستشفيات الخاصة خدمة أفضل، تبقى تكلفتها الباهظة سبباً في دفع بعض النساء إلى الولادة في المنزل، والاكتفاء باللجوء إلى المستشفى فقط عند حدوث مضاعفات.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
الحياة مع أفعى.. وصايا السيد دخيل للنجاة من الموت
13 نوفمبر 2025
صوتٌ بلا إرادة: كيف تتحكم العائلة والعشيرة بخيارات النساء الانتخابية؟
08 نوفمبر 2025
قواعد اللعبة القديمة ليست كافية: خريطة بالتحالفات الانتخابية قبل الاقتراع
07 نوفمبر 2025
من بريمر إلى السوداني.. "خلطة الفياض" السحرية للبقاء في المنصب
06 نوفمبر 2025
في أحد أزقة حي الأورفلي المكتظ في بغداد، كانت النساء تتقاطرن إلى بيت “الجدّة” كلما حان موعد ولادة في الحي. الغرفة الصغيرة بالكاد تتسع للحاضرات، فيجلس بعضهن على الأرض ويتكئ البعض الآخر إلى الجدران.
تتصاعد في الجو روائح الشاي المغلي وصوت الدعوات والهمسات الممزوجة بالترقب. وما إن تخرج القابلة حاملة المولود أو المولودة حتى تعلو أصوات الزغاريد والتهاني، وبينما تُنثر الـ”واهلية” على رأس الجدة -القابلة- تضم الأم مولودها وسط دعوات الحاضرات بالصحة وطول العمر. مع أن بعض القابلات أشرن إلى أن أجورهن تقلّ عندما تكون المولودة أنثى.
في مثل هذا المشهد كانت طفولة أم زهراء (47 عاماً)، القابلة التي أصبحت لاحقاً عنواناً للخبرة والجرأة في مدينة الصدر، إحدى أكبر مدن العاصمة.
بدأت أم زهراء العمل في القبالة في سن مبكرة، فشعرت أنها بحاجة إلى قدر كبير من الجرأة لتُقدِم على مدّ يديها إلى أرحام النساء لإجراء فحوصات للحوامل أو لتوليدهن، وغالباً ما تواجه مواقف طارئة تستدعي منها اتخاذ قرارات سريعة، فضلاً عن تحمّلها مسؤولية حياة الأم والطفل معاً.
في تلك الأزقة المزدحمة، لم يكن وصول المرأة الحامل إلى المستشفى أمراً مألوفاً قبل جيلين، بل كانت الولادة شأناً منزلياً، تتولاه النساء في ساحة الدار أو حتى في حديقة البيت حين يضيق المكان.
نشأت أم زهراء في منزل تحوّل إلى مدرسة غير رسمية للقِبالة؛ إذ كانت والدتها وأخواتها يمارسن المهنة دون شهادات رسمية، ويورثن خبرتهن جيلاً بعد جيل. مع الوقت أصبحت أكثر تمكّناً من المهنة، وحين كانت أمها وأخواتها يغِبن عن المنزل لتلبية طلبات توليد في مناطق أخرى، وجدت نفسها مسؤولة وحدها عن استقبال عدة حالات يومياً، رغم أنها لم تكن قد تجاوزت مرحلة المراهقة بعد.
بين روتين المستشفيات الصارم، ودفء الرعاية التي تمنحها الجدّة، تواجه النساء مفارقة الولادة في العراق، تجذبهن الحميمية التي توفرها، ويخيفهن غياب التخصص، إذ قد تتعثر الولادة وتتعرض حياة الأم أو الجنين للخطر، ما يبرز الحاجة إلى الولادة في مستشفيات آمنة وتحت إشراف أطباء وطبيبات توليد، وخاصة في الأرياف والقرى حيث تغيب المستشفيات فتصبح القابلة، بغض النظر عن خبرتها أو كفاءتها أو تعقد الحالة الصحية، الخيار الوحيد للنساء الحوامل في هذه المناطق.
“دخلت عليها جدة”
يُعرّف الاتحاد الدولي للقابلات -وهو التعريف المعتمد من منظمة الصحة العالمية- القابلة بأنها “محترفة صحية ذات كفاءة ومسؤولية، تعمل في شراكة مع النساء، وتقدم الدعم اللازم والرعاية والمشورة أثناء الحمل والمخاض وفترة ما بعد الولادة، وتقوم بعمليات التوليد على مسؤوليتها وتوفر الرعاية للطفل. ويشمل عملها اتخاذ التدابير الوقائية، وتعزيز الولادة الطبيعية، والكشف عن المضاعفات عند الأم أو الطفل، وطلب المساعدة الطبية المناسبة عند الضرورة، وتنفيذ إجراءات الطوارئ عند الحاجة”.
شريطة أن تكون قد أكملت بنجاح برنامج تعليم القبالة المعترف به حسب الأصول في البلد الذي يوجد فيه، والذي يقوم على أساس الكفاءات الأساسية لممارسة القبالة، وإطار المعايير العالمية لتعليم القبالة، التي وضعتها اللجنة الدولية للقبالة.
في العراق، تحصل القابلة على إجازة مزاولة المهنة بعد اجتياز دورة تدريبية بالتعاون مع وزارة الصحة، تُمنح حصراً للمنتسبين إلى نقابة التمريض، وفق فراس الموسوي، نقيب التمريض.
ويُنظّم قانون مزاولة مهنتي التدريب والقبالة رقم 96 لسنة 2012 عمل القابلات، مقسماً إياهن إلى فئتين: الأكاديميات، ممن حصلن على شهادة من المعهد أو الكلية. والأهليات، وهنّ من حصلن على إذن مزاولة من وزارة الصحة قبل عام 2012 دون شهادة أكاديمية. تُجدَد رخصة مزاولة المهنة للقابلات الأكاديميات كل سنتين، وللأهليات كل سنة، بعد اجتياز دورة تدريبية قصيرة.
تنص المادة الخامسة من القانون على ضرورة خضوع من تمارس مهنة القبالة إلى تدريب محدد بحسب مستواها الدراسي، إذ يُشترط على الحاصلة على شهادة جامعية أولية في التمريض إكمال دورة تدريبية لمدة ستة أشهر، بينما تُلزم خريجات المعاهد التقنية الطبية أو إعداديات التمريض بإكمال دورة في القبالة والتوليد مدتها سنة واحد، بالإضافة إلى شروط أخرى عامة منصوص عليها في المادة الخامسة. كما تؤكد المادة التاسعة من القانون التزامات القابلة الأهلية المجازة، وفي مقدمتها الإبلاغ عن جميع حالات الولادة والوفاة، والتقيد بأخلاقيات المهنة وإرشاداتها، مع الامتناع عن إجراء الولادات العسرة أو الخطرة وإحالتها إلى المستشفيات، إضافة إلى حظر الإجهاض.
في عام 2020، صدر قانون نقابة التمريض رقم 8 الذي رسّخ استقلال النقابة إدارياً ومالياً، ومنحها شخصية معنوية، لصون تقاليد المهنة، والدفاع عن حقوق العاملين فيها، وتطوير معارفهم من خلال التدريب المستمر ورفع المستوى العلمي والمهني. حيث وفرت وزارة الصحة عبر مديرياتها في المحافظات دورات قصيرة لا تتجاوز مدتها شهراً واحداً، تتناول إرشادات متعلقة بالولادة المنزلية وأخلاقيات المهنة، ويُعدّ اجتياز هذه الدورات شرطاً أساسياً للحصول على إجازة العمل وتجديد الرخصة السنوية.
يشير الموسوي إلى أن هذه الآلية جاءت بعد تغير النظرة المجتمعية لمهنة التمريض والقبالة، التي أصبحت أكثر قبولاً بعد عام 2003. يؤكد النقيب أن مهنة التمريض والقبالة كانت تُقابل بالتحقير وتعاني من وصمة اجتماعية نتيجة طبيعة العمل، ما قلل أعداد الدارسين، حتى أن بعض العائلات كانت ترفض تزويج أبنائها من الممرضات والقابلات. لكن بعد سقوط نظام البعث، تغيّرت النظرة الاجتماعية تجاه المهنة تدريجياً، وازداد الإقبال على دراستها في المعاهد والكليات، وصولاً إلى الماجستير، بينما كانت “إعدادية التمريض” أقصى مؤهل يمكن الحصول عليه سابقاً في معظم محافظات العراق.
وبحسب الضوابط، يُسمح للقابلة الأهلية بإجراء الولادات الطبيعية فقط، ويُمنع عليها توليد الحامل لأول مرة. وتتابع النقابة، بالتعاون مع وزارة الصحة، القابلات غير المجازات، وتحيل المخالفات إلى القضاء بتهمة انتحال الصفة.
وفق تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، وتقارير منظمة الصحة العالمية، هناك نقص عالمي يقدّر بنحو مليون قابلة، أكثر من ثلثيه في الدول النامية ومتدنية الدخل. يمكن للقابلة المؤهلة وحدها توفير نحو 90 بالمئة من الرعاية الصحية الأساسية المطلوبة في مجالات الصحة الإنجابية وصحة الأم والطفل. وتشير هذه التقارير إلى أن العراق ضمن الدول ذات العجز الحاد في أعداد القابلات، حيث حل العراق في المرتبة 72 عالمياً من إجمالي 193 دولة من الدول الأكثر احتياجاً للممرضات والقابلات، خلال 2023، وفي المرتبة 11 عربياً، وفقاً لمجلة CEO WORLD، التي أشارت إلى أن العراق لديه 22.56 ممرضة وقابلة لكل 10 آلاف شخص.
ومع أن وزارة الصحة تحتفظ بقاعدة بيانات إحصائية للقابلات الحاصلات على إذن مزاولة في العراق، تتضمن أسماءهن ومواقعهن وحالة تراخيص المهنة، حيث يُطلب من كل قابلة التسجيل للحصول على ترخيص للعمل رسمياً، إلا أن قاعدة البيانات هذه غير متاحة للعامة، ولم نستطع الحصول على نسخة منها من أجل إعداد هذا التقرير.
أم زهراء التحقت بإعدادية التمريض في سن الـ 17، أي أنها تعدّ قابلة أهلية، كونها حصلت على إذن مزاولة من وزارة الصحة قبل عام 2012 دون الحصول على شهادة أكاديمية.
استمر تدريب أم زهراء لسنتين في إعدادية التمريض، وتلقت تعليماً نظرياً وعملياً مكثفاً لتأهيل الكوادر على رعاية النساء خلال فترة الحمل والولادة وما بعدها، حيث تدربت في مستشفى العلوية تحت إشراف طبيبات مختصات.
تستعيد أم زهراء سنواتها الأولى في المهنة، حيث تروي كيف أذهلت المدرسات والزميلات بمهاراتها وجرأتها في غرف التدريب.
“مرات أكو عمليات خياطة، و(هي إجراء طبي شائع بعد الولادة الطبيعية لعلاج أي تمزقات أو شقوق في منطقة العجان أو البطن وتساعد في التئام الجروح) يجوز تاخذ من الطبيبة ساعتين، أني أكملها بدقايق”.
اكتسبت أم زهراء خبرتها من خلال الممارسة، حيث باشرت عملها بصفتها قابلة المستشفى الذي تدربت فيه في بغداد بعد تخرجها من إعدادية القبالة مباشرة.
“كان الشغل مستمر، يعني يوم واحد بصالة الولادة من الليل للصبح بمعدل يوصل 100 ولادة، وهذا بعد تخرجي، عمري جان وقتها تقريبا 20 سنة”.
ومع ذلك، فهي تعرف أن هناك تفريق بينها وبين القابلة الأكاديمية، يمكن وصفه بـ”معركة القابلات الأهليات”، والتي تعتبرها أنها “أشد قسوة وخطورة” مما يعتقده الكثيرون، حيث ترى أن هناك “حملة تخويف ممنهجة” تستهدف القابلة غير الأكاديمية، يقودها أحياناً بعض طبيبات النسائية اللواتي يعتبرنها منافسة.
تستذكر أم زهراء كيف كانت عبارة “دخلت عليها جدة” تُدوَّن في السجلات الطبية للحوامل اللاتي زرن قابلة أهلية، لتصبح هذه العبارة لاحقاً بمثابة دليل إدانة ضد القابلة في حال حدوث مضاعفات، مما يخلي مسؤولية الطبيبة إلى حد ما. هذا الأمر فتح الباب أمام شكاوى قانونية وتهديدات مباشرة ضد القابلة عند وقوع أي مشكلة صحية أو وفاة الأم أو المولود في المستشفى. رغم ذلك، تؤكد أم زهراء أن القابلة ليست “عدوّة النظام الصحي”، بل يمكن أن تكون شريكة فاعلة للطبيبات إذا توفرت التشريعات المناسبة وتوقفت “ممارسات الإذلال” والانتقاص من مهنة القبالة.
في بداية طريقها في المهنة، كانت أم زهراء تعمل في القطاعين الحكومي والأهلي معاً، قبل أن تتمكن من افتتاح عيادتها الخاصة. اليوم، تدير أم زهراء خمس عيادات في أحياء شعبية متفرقة في بغداد، ولكن محظور عليها تقديم خدمات قبالة عديدة في عياداتها الخاصة.
“يسمحون لي بالمستشفى باستخدام موسعات الرحم وإبر الطلق الصناعي بدون إشراف طبيب مختص، بس يمنعونها عني بعياداتي المرخّصة. هذا التناقض في القانون أحياناً يعرض حياة مريضاتي للخطر، بس لازم أتبع القانون بكل الأحوال”. تنتقد أم زهراء السلطات بسبب منع القابلات من استخدام بعض الأدوات الطبية الأساسية في عياداتهن الخاصة، رغم السماح لهن باستخدامها داخل المستشفيات.
القابلة أم فلان
لم يعد اسم “أم علي” يتصدر لافتتها الصغيرة في قطاع خمسة بمدينة الصدر، فقد استُبدل بقرار رسمي إلى الاسم الحقيقي “نضال عباس”، القرار الذي فرضته النقابة استناداً إلى تعليمات وزارة الصحة قلب حياتها المهنية رأساً على عقب. تقول “الحي كله يعرفني بهذا الاسم، وحتى زميلاتي ما يعرفن اسمي الحقيقي، يقرؤون “نضال” عبالهم وحده غيري، بهذا القرار خسرنا نصف زبائننا”.
تواجه القابلة في كثير من الأحيان “الغضب العشائري” عند حدوث مضاعفات أو نتائج مؤسفة للولادة. هذا الأمر قد يعرضها للتهديد بالأسلحة، أو الابتزاز المالي، أو العنف الجسدي من قبل العائلات التي لا تدرك تعقيدات الحالات الطبية.
ولحماية نفسها، تلجأ العديد من القابلات إلى توثيق موافقات الأهل كتابياً، وتحضير ملفات طبية للحالة قبل الولادة.
تتذكر أم زهراء إحدى أصعب الحالات التي واجهتها، عندما اكتشفت أن الجنين قد توفي في رحم الأم. وبعد أن قامت بعملية تحفيز المخاض وأزالت الجنين والمشيمة، اتهمها الأهل بقتله عمداً وحاولوا ابتزازها، إلا أنها واجهتهم بإثبات معرفتهم المسبقة بوفاة الجنين، فتركوها وشأنها.
تواجه القابلات مسائل حساسة مثل طلبات الإجهاض وفحص العذرية، التي يصعب على الطبيبات القانونيات التعامل معها أحياناً. ترفض أم زهراء إجراء أي عملية إجهاض، لكنها تؤكد أن بعض القابلات الأخريات قد يقمن بذلك سراً مقابل مبالغ كبيرة.
تؤكد أم زهراء: “كلش هواي قابلات يسوون إجهاض بالسر”.
وفي حالات فحص العذرية، غالباً ما تتعامل أم زهراء مع الأمهات فقط دون إخبار رجال العائلة، خوفاً من تعرض الفتاة للقتل بداعي “غسل العار”.
تتحدث القابلة أم هاجر (50 عاماً، اسم مستعار) من النجف، عن قيامها بعمليات “ترقيع غشاء البكارة” سراً لمساعدة الأمهات وبناتهن، حسب قولها، والذي قد “ينقذ حياة البنية”، في بيئة محافظة وعشائرية تربط البكارة بالشرف.
كما ترفض طلبات الإجهاض التي تتلقاها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتوضح أن هذه الطلبات تأتي لأسباب مختلفة، يعود بعضها لأمهات لا يرغبن في الإنجاب، وبعضها الآخر لحالات أكثر حساسية، مثل الفتيات اللواتي يحملن خارج إطار الزواج أو نتيجة الاعتداء من قبل محارمهن.
دور محوري في الأزمات
كل هذه التحديات التي تلف عمل القابلة في العراق، إلا أن دورها ما يزال فاعلاً في مجتمعاتها المحلية، وخصوصاً في أوقات الأزمات والحروب، تتحول القابلة إلى عنصر حاسم في معادلة الحياة والموت.
عام 2006، ومع اشتداد الحرب الطائفية في بغداد، أصرت أم محمد (53 عاماً) على البقاء في منزلها في أحد أحياء العاصمة، لتصبح ملاذاً للحوامل المحاصرات تحت نيران الاشتباكات. كانت سيارات الإسعاف لا تمر إلا “لمهمات طارئة جداً”، لقد وجدت نفسها في أحد الأيام تتعامل مع 23 حالة ولادة.
تقول أم محمد: “بيتي صار غرفة عمليات، جنت أنتقل من غرفة لغرفة، أتابع ولادة امرأة وأستقبل ثانية”.
من ضمن الحالات التي تعاملت معها آنذاك نساء يعانين من ارتفاع في ضغط الدم، وأخريات أجرين عدة عمليات قيصرية سابقة، مما يصعّب الولادة الطبيعية ويشكل خطراً على الأم والجنين، إضافة إلى حالات أجنة في وضعيات ولادة حرجة.
حينها، كانت أم محمد تطلب من أهالي الحي توقيع تعهد خطي بأنهم يتحملون مسؤولية المخاطرة بإرادتهم. تقول: “ما كان ممكن نقل المصابات إلى مستشفيات مغلقة أو تتعرض للقصف أو صايرة بشوارع خطرة بذاك الوكت، فاضطريت أتحمّل أضعاف مسؤوليتي”.
دخلت أم محمد مجال القبالة بعد الصف الثالث المتوسط، فقد التحقت بإعدادية التمريض بتشجيع من والدها. بدأت عملها في مستشفى بالقائم في الأنبار خلال تسعينيات القرن الماضي، في ظل نقص شديد في التجهيزات، وتعلمت بسرعة مع إقبال الأهالي عليها، ثم حصلت على دبلوم قبالة وتوليد وانتقلت للعمل في بغداد، حيث أصبحت رئيسة قابلات ماهرات أقدم منها في مدينة الطب.
أخذت أزمات الصحة الإنجابية بعداً آخر مع جائحة كورونا عام 2020، فالخوف من العدوى جعل المستشفيات أماكن شبه مهجورة من النساء الحوامل، وتضاعفت صعوبة توفير التعقيم، فيما امتد التوتر إلى ميدان عمل القابلات في صالات الولادة في منازلهن. ورغم ذلك، واصلت أم محمد وزميلاتها العمل.
تؤكد تقارير صادرة من جهات إغاثة ومنظمات صحية أن القابلات يحتفظن بمكانة بارزة في معرفة احتياجات النساء أثناء الأزمات، وهن غالباً مقدّمات الرعاية الصحية الوحيدات في المناطق النائية أو المهددة بالحروب.
اليوم، تدير أم زهراء خمس عيادات في أحياء شعبية مثل الحبيبية وقطاعات مدينة الصدر، وهي المناطق التي تمثل ثقلاً لعملها ومصدراً رئيساً لخبرتها. أما في الأحياء الأكثر ثراءً مثل الكرادة والمنصور، فلم تستقطب سوى عدد محدود من الحوامل، موضحة أنه “بهذيج الأحياء الراقية النساء يفضلن الولادة بالمستشفيات الخاصة، بخدمات فاخرة وولادة بلا ألم، لكن الزخم والتجارب الحقيقية موجودة بالمناطق البسيطة”.
الانتقال إلى العمل في عيادات خاصة -رغم التضييق على استخدام بعض الأدوات الطبية الأساسية- كان سببه أيضاً شروط العمل الصعبة والأجر المتدني للقابلات في النظام الحكومي.
تقول أم زهراء إنها كانت تضطر إلى حضور ثلاثة دوامات متواصلة، تبدأ بدوام حكومي يمتد نحو ثماني ساعات، ثم تواصل العمل في القطاع الأهلي حتى وقت متأخر، بسبب ضعف الرواتب الحكومية. “لما جنت أشتغل حكومي جان الأجر الشهري يا دوب يتجاوز 300 ألف دينار، فاضطريت أشتغل بالقطاع الخاص، يعني بالمستشفيات الأهلية”. رُفع دخلها بحصولها على نسبة من كل ولادة تصل قيمتها إلى 55 ألف دينار (40 دولاراً).
أم علي (62 عاماً)، تقطن في قطاع خمسة بمدينة الصدر، وتستقبل نساء من أنحاء بغداد والكوت والشعلة، تقول: “مهنتنا بالتراث، أتينا إليها من تجارب الجدات”. وتذهب إلى التفاخر بتمكنها من “توليد حتى الحوامل البكريات، أو من تحمل بتوءم أو وضعية عرضية”.
لم تفرض أم علي أجوراً ثابتة على خدماتها، حيث تختلف تكلفة الولادة بناءً على صعوبتها، وتتراوح بين 200 إلى 500 ألف دينار عراقي. كما ترفض التمييز في الأجور بين المواليد الذكور والإناث.
ولادة في المنزل: البحث عن “الأمان” هرباً من المستشفيات
تُفضّل بعض النساء الولادة في المنزل برفقة قابلة، هرباً من تجارب المستشفيات التي يرينها قاسية أو غير إنسانية، حيث يسود شعور بالإهمال والضغط النفسي وغياب الدعم الأسري أثناء الولادة. كثيرات يعبرن عن خوفهن من العمليات القيصرية “المفروضة” أحياناً دون مبرر طبي، ومن التعامل الجاف أو القاسي في الأجنحة الحكومية، ما يدفعهن لاختيار بيئة أكثر ألفة وهدوءاً، حتى لو كانت أقل تجهيزاً.
بشرى (27 عاماً)، تستعيد تجربتها في ولادتها الأولى في المستشفى حين وجدت نفسها في غرفة واحدة مع ست نساء أخريات، وسط غياب تام للخصوصية ودون وجود مرافقين ولا دعم معنوي. تقول: “شفت وحدة منهن توفت كدامي، منظر ما أنساه”. مضيفة أن المشهد ترك لديها خوفاً عميقاً من المستشفى ورهبة من تكرار التجربة.
وتروي أن الإهمال وسوء المعاملة فاقما معاناتها: “بالمستشفى يتأخرون، ويخيطونج أحياناً من دون بنج، القابلات غلطوا عليّ لفظياً وسكتت لأني خفت أجاوب”. وتوضح أنها تشعر أن المستشفيات غالباً تدفع الحوامل نحو خيار العملية القيصرية حتى وإن لم يكن ضرورياً، بينما تفضل القابلة المنزلية لأنها تمنحها إحساساً بالاهتمام والهدوء: “وية القابلة المنزلية يكون أحد يمّج، مو مثل المستشفى بس يصيحون عليج”.
وفي ولادتها الثانية، اختارت بشرى التوجه إلى عيادة قابلة منزلية، ووضعت طفلها خلال نصف ساعة فقط، وحصلت على البيان الرسمي بعد الولادة.
لكنها لا تخفي الفوارق، فتقول: “ما عدها نفس أدوات المستشفى، الفراش بسيط، وماكو مستلزمات طبية مرات، لا قراصة للحبل السري، ولا إبرة للكانونة، ولا جهاز لقياس الضغط أو قياس نبض الطفل”.
تتفق الشهادات على أن القسوة في غرف الولادة متعددة الأوجه، وأن هناك مخاطر في الولادة المنزلية خصوصاً على يد قابلات يفتقرن إلى الخبرة. وأحياناً تكون القسوة ناتجة عن إرهاق كادر المستشفيات وضغط العمل.
تستذكر مروة (19 عاماً) من صلاح الدين، كيف رفضت قابلات المستشفى توليدها لعدم قدرتها على “التوسع” (تمدد عنق الرحم)، فأحلنها إلى قابلة منزلية في الحي. قامت القابلة بحقنها بمعجّل ولادة دون إخطارها أو أخذ موافقتها، وزعمت أنه مسكن للألم.
تقول: “انفجر مي الراس وظليت ساعات أدفَع لحد ما غبت عن الوعي، قبل ما تضطر القابلة تشق العجان وعنق الرحم، وصارت حالة اختناق، چانت راح تروح حياة طفلتي”.
يوضح تحليل شبكة Healthy Newborn Network أن العراق يعاني من تحديات عميقة في الصحة الإنجابية ورعاية الأمهات والأطفال، بسبب الصراعات وانهيار البنى التحتية ونقص الكادر المؤهل، حيث أُصيب النظام الصحي بضعف شديد وتراجعت جودة الخدمات الصحية عامة، ومن بينها توفير القابلات، إذ ثمة الكثير من الولادات التي تشرف عليها قابلات تقليديات غير مدرّبات أو بدون إشراف كاف، ولا سيما في الأرياف والمناطق المهمشة.
ومع ذلك، تخبرنا أم زهراء عن تلقيها طلبات ولادة من نساء حتى في محافظات أخرى عبر صفحاتها على مواقع التواصل، فتجهّز معداتها وتسافر إليهن، إذ تبحث كثيرات عن رعاية القابلات وتجنّب ما قد تواجهنه من عقبات قد يصل بعضها إلى حدّ العنف في المستشفيات الحكومية، وبينما تقدّم المستشفيات الخاصة خدمة أفضل، تبقى تكلفتها الباهظة سبباً في دفع بعض النساء إلى الولادة في المنزل، والاكتفاء باللجوء إلى المستشفى فقط عند حدوث مضاعفات.