من ائتلاف موحّد إلى خرائط متنافرة.. حكاية عشرين عاماً من التحالفات الشيعية
28 أيلول 2025
لم تعد القوى الشيعية اليوم كما كانت يوم سقط نظام صدام حسين عام 2003، فبعد أن اجتمعت تحت مظلة واحدة، بدد السباق على النفوذ وحدتها..
حين سقط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان 2003، تقدّم قادة الحركات الشيعية المعارضة إلى واجهة المشهد السياسي، وهم يرفعون شعار أحقية المكون الشيعي في تولي السلطة، استناداً إلى كونه الأكثر عدداً في العراق.
ومن هذه الرؤية تأسس نظام سياسي برلماني، أراد له مهندسوه أن يضمن مشاركة كل المكونات في إدارة الدولة الجديدة، لكن مع إسناد ثقلها الأكبر إلى الشيعة، بوصفهم القوة التصويتية الأوسع.
في المقابل، قاطعت غالبية القوى السنية الانتخابات الأولى، ما جعل الساحة شبه خالصة للقوى الشيعية التي توحدت في “الائتلاف العراقي الموحد”، الذي ضم 17 كياناً وحركة شيعية بارزة، من بينها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة بشقّيه، والتيار الصدري، ومنظمة بدر، وحزب الفضيلة، وفصائل وحركات أخرى. وقد أعلن قادة الائتلاف أن قائمتهم تحظى بدعم المرجع الشيعي علي السيستاني.

مكتب السيستاني أصدر حينها بياناً يؤكد أن المرجع يقف على مسافة واحدة من جميع القوائم والمرشحين، ولا يدعم أيّاً منها دعماً مباشراً، إلا أن أعضاء الائتلاف ظلوا مصرّين على أنهم يحظون بدعمه المعنوي، بل انتشرت بين الشيعة روايات تفيد بأن موقف المرجعية المعلن يقتصر على الإعلام، فيما موقفها الواقعي يصبّ في صالح القائمة التي تضم القوى الشيعية.
حصد الائتلاف معظم أصوات الشيعة في انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني 2005، وفاز بـ 140 مقعداً من أصل 275، ومع أنه لم يتمكن من بلوغ أغلبية الثلثين المطلوبة لتشكيل الحكومة، إلا أنه عقد تحالفات مع كتل أخرى مكّنته من تشكيل أول حكومة منتخبة بعد سقوط بغداد برئاسة إبراهيم الجعفري، زعيم حزب الدعوة (القيادة المركزية).
حين صيغ الدستور الدائم في العام ذاته، بدا واضحاً حرص القوى الشيعية على ترسيخ إمساكها بمفاصل السلطة، وضمان استمرار حضورها القيادي في الدولة. أُقرّ الدستور باستفتاء شعبي في 15 تشرين الأول 2005، ليصبح الإطار القانوني الذي سيحكم العلاقة بين القوى السياسية في المرحلة التالية.
لكن سرعان ما ظهرت بوادر التصدع داخل البيت الشيعي مع انتهاء ولاية حكومة الجعفري وإجراء انتخابات البرلمان في 15 كانون الأول 2005، فقد تمسّك الجعفري بمنصبه، إلا أن الائتلاف الموحد تعرض لضغوط داخلية وخارجية كبيرة أدت إلى تغييره، وبعد مفاوضات شاقة، اختير نوري المالكي رئيساً للوزراء، فاضطر الجعفري إلى الرضوخ للأمر الواقع.
في آذار 2008، خاض المالكي واحدة من أكثر المواجهات حسماً مع التيار الصدري في عملية “صولة الفرسان”، التي استهدفت تفكيك سيطرة جيش المهدي على البصرة ومدن عراقية أخرى، وكانت تلك العملية واحدة من أبرز محطات الانقسام الشيعي.
استمرت العملية أسابيع وشهدت قتالاً ضارياً، وانتهت بتثبيت سلطة الحكومة وتراجع نفوذ الصدر، ما عزز مكانة المالكي بوصفه زعيماً قوياً داخل البيت الشيعي، ورسّخ توجهه نحو مركزة القرار الأمني.

مع حلول انتخابات 2010، كان المالكي قد انتقل من موقع رئيس وزراء توافقي إلى لاعب محوري في المعادلة العراقية، بل إلى زعيم سياسي يسعى إلى ترسيخ سلطته الشخصية داخل النظام الجديد.
حسابات النفوذ
في السنوات السابقة، عمل المالكي على توطيد نفوذه من خلال السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية ومفاصل الدولة التنفيذية، وهو ما مكّنه من فرض حضوره كلاعب لا يمكن تجاوزه، ومع اقتراب الانتخابات أسس “ائتلاف دولة القانون”، وهو تحالف أراد له أن يكون أداة لترسيخ زعامته وتكريس نهج أكثر مركزية في الحكم، في خطوة تعد انفصالاً واضحاً عن “الائتلاف العراقي الموحد”، الذي كان يوماً المظلة الجامعة للقوى الشيعية.
في المقابل، وجدت بقية القوى الشيعية نفسها مضطرة إلى إعادة تنظيم صفوفها، للحفاظ على نفوذها السياسي، فأعادت تشكيل نفسها تحت اسم “الائتلاف الوطني العراقي”، لخوض انتخابات 2010.
كان هذا الاصطفاف الجديد إيذاناً ببداية مرحلة تنافسية مفتوحة على زعامة البيت الشيعي، حيث لم تعد “وحدة المظلومية” هي الرابط الوحيد، بل دخلت حسابات القوة والنفوذ والمصالح في صميم المعادلة.
شهدت تلك السنوات احتداماً غير مسبوق في الصراع على القرار السياسي في بغداد، فقد ركّز المالكي على حصر السلطات بيده، فأدار الملف الأمني إدارة مباشرة، وأخضع عدداً من الأجهزة الحساسة لسلطته، ما أثار حفيظة خصومه الشيعة، الذين اتهموه بالسعي لإقامة حكم فردي.

كما انعكس هذا النهج على العلاقة مع المكون السني الذي شعر بتهميش متزايد، وأدى إلى توتر مع الأحزاب الكردية بسبب الملفات الخلافية، وفي مقدمتها النفط والمناطق المتنازع عليها.
ورغم هذا المناخ المحتقن، نجح المالكي من خلال سلسلة تحالفات سياسية دقيقة ومساومات طويلة في تأمين ولايته الثانية، مؤكداً أنه بات الزعيم الأقوى في تلك اللحظة التاريخية، وأنه قادر على كسر إرادة خصومه داخل المعسكر الشيعي وخارجه.
كانت ولايته الثانية بمثابة اختبار لقدرة النظام على التكيف مع شخصية قيادية قوية تميل إلى احتكار القرار، وقد ساهم هذا التوجه في تكريس شعورٍ عام بأن السلطة في بغداد باتت متركزة في يد شخص واحد، وهو ما أثار قلقاً واسعاً لدى مختلف القوى.
وجاءت انتخابات 2014، لتكشف حجم التصدع داخل البيت الشيعي، فقد تفكك الائتلاف الشيعي تفككاً كاملاً، وخاضت القوى الأساسية الانتخابات متفرقة: نوري المالكي بائتلاف دولة القانون، ومقتدى الصدر بكتلة الأحرار، وعمار الحكيم بكتلة المواطن، وإبراهيم الجعفري بتيار الإصلاح، وقيس الخزعلي بكتلة صادقون، إضافة إلى حزب الفضيلة وقوى أخرى أصغر.
هذا التفتت لم يترك لأي طرف فرصة لتحقيق أغلبية مطلقة، ما اضطرهم إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، في محاولة لتشكيل الكتلة الأكبر القادرة على تأليف الحكومة.
غير أن الضغوط الداخلية المتصاعدة، من احتجاجات شعبية ونقمة متزايدة على الأداء الحكومي، إلى جانب ضغوط إقليمية ودولية رافضة استمرار المالكي في ولاية ثالثة، أفضت في النهاية إلى إزاحته، وهكذا تم التوافق على حيدر العبادي بديلاً منه، في خطوة مثلت انتقالاً تدريجياً من مرحلة هيمنة الرجل الواحد إلى مرحلة أكثر تعددية في القيادة الشيعية، ولو نسبياً.

كان ذلك بمثابة إقرار ضمني بأن مركزية السلطة التي مارسها المالكي بلغت حدودها القصوى، وأدت إلى نتائج عكسية تؤثر على استقرار النظام السياسي.
خريطة جديدة
حين تسلم العبادي منصب رئاسة الوزراء بعد انتخابات 2014، وجد نفسه أمام واقع مزلزل؛ إذ كان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد سيطر على مساحات شاسعة من العراق، بما في ذلك الموصل (ثاني أكبر المدن بعد بغداد)، ما شكل تهديداً وجودياً للدولة العراقية.
في تلك اللحظة الحرجة صدرت فتوى السيستاني بـ “الجهاد الكفائي”، التي فتحت الباب أمام موجة تعبئة شعبية غير مسبوقة.
انطلقت جموع المتطوعين لتشكيل نواة الحشد الشعبي، الذي تحول سريعاً من مجموعات متفرقة إلى قوة مسلحة منظمة، أدت الدور الأبرز في وقف تمدد التنظيم.
كان لظهور الحشد الشعبي أثر بالغ في توازن القوى داخل البيت الشيعي، فالفصائل التي قاتلت على الجبهات لم تعد مجرد أذرع عسكرية للأحزاب، بل صارت تملك قوة مكنتها من التقدم بخطوات واثقة نحو المشاركة السياسية.
وبموازاة الجهد العسكري، تمكنت حكومة العبادي، بدعم مباشر من التحالف الدولي، من استعادة المدن تباعاً، حتى إعلان النصر العسكري النهائي على “داعش”، غير أن هذا النصر، على أهميته، حمل في طياته بذور تحولات سياسية كبرى، إذ أفرز واقعاً جديداً يتيح للفصائل المسلحة أن تتحول إلى قوة سياسية برلمانية تنافسية.
في هذا السياق، تشكَّل “تحالف الفتح” بقيادة هادي العامري، جامعاً الفصائل الرئيسة المنضوية في الحشد، مثل منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وحركة سيد الشهداء. هذا التحالف دخل انتخابات 2018 بثقة عالية مستنداً إلى رصيد المشاركة في تحرير المدن.
في المقابل، حاول العبادي استثمار نجاحه العسكري بتأسيس “ائتلاف النصر”، الذي أراده واجهة سياسية تعكس مشروعه لإعادة بناء الدولة بعد الحرب.
جاءت نتائج انتخابات 2018 لتكشف عن إعادة تشكيل واسعة لخريطة القوى الشيعية، فقد تصدّر النتائج تحالف “سائرون” بزعامة الصدر، الذي جمع بين التيار الصدري والحزب الشيوعي وتكنوقراط مدنيين، حاصداً 54 مقعداً من أصل 329، وهو ما عُدّ مفاجأة سياسية. حلّ “الفتح” ثانياً بـ 47 مقعداً، فيما جاء “النصر” ثالثاً بـ 42 مقعداً، و”دولة القانون” بزعامة المالكي رابعاً بـ 26 مقعداً، ثم “تيار الحكمة” بزعامة عمار الحكيم بـ 19 مقعداً.
ورغم تقدم الصدر، لم يحصل أي طرف على أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده، فانطلقت مفاوضات مطوّلة ومعقدة لتشكيل الكتلة الأكبر، وانتهت بالتوافق على ترشيح عادل عبد المهدي، الذي لم يشارك أصلاً في الانتخابات، لرئاسة الوزراء، بوصفه شخصية مقبولة من أغلب الأطراف، وكان هذا الاختيار بمثابة حل وسط لتفادي صراع مفتوح بين التيارات المتنافسة.

لكن حكومة عبد المهدي وُلدت منقوصة؛ إذ لم يمنح البرلمان الثقة إلا لـ 14 وزيراً من أصل 22، وبقيت وزارات سيادية، مثل الدفاع والداخلية، شاغرة لأشهر بسبب الخلافات على توزيعها.
لم تلبّ الحكومة تطلعات الشارع، إذ قدّمت وجوهاً مألوفة أعادت إنتاج الفشل السابق، ما عزّز شعور العراقيين بالإحباط.
وفي الوقت ذاته، بدا واضحاً أن نفوذ الفصائل المسلحة ازداد رسوخاً في مفاصل الدولة، إذ أظهر عبد المهدي ميلاً لتمكينها وإعطائها مساحة أوسع للتأثير في القرار السياسي والأمني. هذا التمكين خلق حالة من عدم التوازن داخل الدولة، وأشاع قلقاً عميقاً لدى شرائح واسعة من المجتمع، خصوصاً بين الشباب الذين كانوا يتطلعون إلى بناء دولة قانون مدنية مزدهرة.
هذا السياق، الممتد بين الانتصار على “داعش” وصعود نفوذ الفصائل المسلحة، مهّد الطريق لانفجار الغضب الشعبي في تشرين 2019، حيث تحوّل الإحباط إلى حركة احتجاجية واسعة ستغير قواعد اللعبة في السنوات اللاحقة.
حوار بالرصاص
أدت احتجاجات تشرين 2019، إلى إسقاط حكومة عبد المهدي وصعود مصطفى الكاظمي لقيادة مرحلة انتقالية نحو انتخابات مبكرة.
في هذه الأثناء انتشرت جائحة كورونا، وتراجع زخم التظاهرات، فيما انقلب الصدر على الحركة الاحتجاجية التي ساندها في البداية، وزجّ أتباعه تحت مسمى “أصحاب القبعات الزرق” لمهاجمة المتظاهرين، ما أدى إلى تفكيك الاعتصامات ورفع الخيام من ساحة التحرير بحلول 31 تشرين الأول 2020.
ومع أن التظاهرات انتهت، بقيت الأزمة السياسية قائمة حتى الانتخابات المبكرة في 10 تشرين الأول 2021، التي دخلتها القوى الشيعية مشتتة، ما فتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع على تمثيل المكون الأكبر.
أفرزت انتخابات 2021 انقساماً حاداً بين التيار الصدري، الذي فاز بـ 73 مقعداً، وبقية القوى الشيعية التي اجتمعت تحت مسمى “الإطار التنسيقي” لتقليل خسائرها.
أصرّ الصدر على تشكيل حكومة أغلبية مع السنة والكرد، لكنه لم ينجح في تحقيق النصاب، كما فشل في استمالة المستقلين، وعندها اتخذ قراره المفاجئ بالانسحاب من العملية السياسية وسحب نوابه من البرلمان، في خطوة قلبت المشهد رأساً على عقب.

أدى هذا الانسحاب إلى ترك الساحة خالية أمام الإطار، لكن الصدر لم يحافظ على صمته، فحرّك قاعدته الشعبية لحصار البرلمان ومنع الإطار من تشكيل الحكومة.
ومع تصاعد التوتر بلغ الخلاف ذروته في 29 آب 2022، حين اندلعت اشتباكات مسلحة على أبواب المنطقة الخضراء، وانتهت في اليوم التالي ببيان حاسم من الصدر أمر فيه أتباعه بالانسحاب فوراً.
بعد تراجع الصدريّين، مضى الإطار في تشكيل الحكومة برئاسة محمد شياع السوداني الذي تولى المنصب بتوافق حذر.

ورغم ابتعاد الصدر عن السياسة، وإعلانه مقاطعة الانتخابات المقبلة، فإن الساحة الشيعية ما زالت تغلي بالخلافات، ليس بين الصدر والإطار فقط، بل داخل الإطار نفسه أيضاً، حيث تتصاعد التباينات بين المالكي والخزعلي وكتائب حزب الله من جهة، والسوداني الذي يسعى إلى بناء تحالف انتخابي خاص من جهة أخرى.
ومع ذلك، يُرجح أن تعود هذه القوى للتحالف بعد الانتخابات، لتقاسم السلطة على غرار ما حدث في الدورات السابقة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
الحياة مع أفعى.. وصايا السيد دخيل للنجاة من الموت
13 نوفمبر 2025
صوتٌ بلا إرادة: كيف تتحكم العائلة والعشيرة بخيارات النساء الانتخابية؟
08 نوفمبر 2025
قواعد اللعبة القديمة ليست كافية: خريطة بالتحالفات الانتخابية قبل الاقتراع
07 نوفمبر 2025
من بريمر إلى السوداني.. "خلطة الفياض" السحرية للبقاء في المنصب
06 نوفمبر 2025
حين سقط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان 2003، تقدّم قادة الحركات الشيعية المعارضة إلى واجهة المشهد السياسي، وهم يرفعون شعار أحقية المكون الشيعي في تولي السلطة، استناداً إلى كونه الأكثر عدداً في العراق.
ومن هذه الرؤية تأسس نظام سياسي برلماني، أراد له مهندسوه أن يضمن مشاركة كل المكونات في إدارة الدولة الجديدة، لكن مع إسناد ثقلها الأكبر إلى الشيعة، بوصفهم القوة التصويتية الأوسع.
في المقابل، قاطعت غالبية القوى السنية الانتخابات الأولى، ما جعل الساحة شبه خالصة للقوى الشيعية التي توحدت في “الائتلاف العراقي الموحد”، الذي ضم 17 كياناً وحركة شيعية بارزة، من بينها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة عبد العزيز الحكيم، وحزب الدعوة بشقّيه، والتيار الصدري، ومنظمة بدر، وحزب الفضيلة، وفصائل وحركات أخرى. وقد أعلن قادة الائتلاف أن قائمتهم تحظى بدعم المرجع الشيعي علي السيستاني.

مكتب السيستاني أصدر حينها بياناً يؤكد أن المرجع يقف على مسافة واحدة من جميع القوائم والمرشحين، ولا يدعم أيّاً منها دعماً مباشراً، إلا أن أعضاء الائتلاف ظلوا مصرّين على أنهم يحظون بدعمه المعنوي، بل انتشرت بين الشيعة روايات تفيد بأن موقف المرجعية المعلن يقتصر على الإعلام، فيما موقفها الواقعي يصبّ في صالح القائمة التي تضم القوى الشيعية.
حصد الائتلاف معظم أصوات الشيعة في انتخابات الجمعية الوطنية في 30 كانون الثاني 2005، وفاز بـ 140 مقعداً من أصل 275، ومع أنه لم يتمكن من بلوغ أغلبية الثلثين المطلوبة لتشكيل الحكومة، إلا أنه عقد تحالفات مع كتل أخرى مكّنته من تشكيل أول حكومة منتخبة بعد سقوط بغداد برئاسة إبراهيم الجعفري، زعيم حزب الدعوة (القيادة المركزية).
حين صيغ الدستور الدائم في العام ذاته، بدا واضحاً حرص القوى الشيعية على ترسيخ إمساكها بمفاصل السلطة، وضمان استمرار حضورها القيادي في الدولة. أُقرّ الدستور باستفتاء شعبي في 15 تشرين الأول 2005، ليصبح الإطار القانوني الذي سيحكم العلاقة بين القوى السياسية في المرحلة التالية.
لكن سرعان ما ظهرت بوادر التصدع داخل البيت الشيعي مع انتهاء ولاية حكومة الجعفري وإجراء انتخابات البرلمان في 15 كانون الأول 2005، فقد تمسّك الجعفري بمنصبه، إلا أن الائتلاف الموحد تعرض لضغوط داخلية وخارجية كبيرة أدت إلى تغييره، وبعد مفاوضات شاقة، اختير نوري المالكي رئيساً للوزراء، فاضطر الجعفري إلى الرضوخ للأمر الواقع.
في آذار 2008، خاض المالكي واحدة من أكثر المواجهات حسماً مع التيار الصدري في عملية “صولة الفرسان”، التي استهدفت تفكيك سيطرة جيش المهدي على البصرة ومدن عراقية أخرى، وكانت تلك العملية واحدة من أبرز محطات الانقسام الشيعي.
استمرت العملية أسابيع وشهدت قتالاً ضارياً، وانتهت بتثبيت سلطة الحكومة وتراجع نفوذ الصدر، ما عزز مكانة المالكي بوصفه زعيماً قوياً داخل البيت الشيعي، ورسّخ توجهه نحو مركزة القرار الأمني.

مع حلول انتخابات 2010، كان المالكي قد انتقل من موقع رئيس وزراء توافقي إلى لاعب محوري في المعادلة العراقية، بل إلى زعيم سياسي يسعى إلى ترسيخ سلطته الشخصية داخل النظام الجديد.
حسابات النفوذ
في السنوات السابقة، عمل المالكي على توطيد نفوذه من خلال السيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية ومفاصل الدولة التنفيذية، وهو ما مكّنه من فرض حضوره كلاعب لا يمكن تجاوزه، ومع اقتراب الانتخابات أسس “ائتلاف دولة القانون”، وهو تحالف أراد له أن يكون أداة لترسيخ زعامته وتكريس نهج أكثر مركزية في الحكم، في خطوة تعد انفصالاً واضحاً عن “الائتلاف العراقي الموحد”، الذي كان يوماً المظلة الجامعة للقوى الشيعية.
في المقابل، وجدت بقية القوى الشيعية نفسها مضطرة إلى إعادة تنظيم صفوفها، للحفاظ على نفوذها السياسي، فأعادت تشكيل نفسها تحت اسم “الائتلاف الوطني العراقي”، لخوض انتخابات 2010.
كان هذا الاصطفاف الجديد إيذاناً ببداية مرحلة تنافسية مفتوحة على زعامة البيت الشيعي، حيث لم تعد “وحدة المظلومية” هي الرابط الوحيد، بل دخلت حسابات القوة والنفوذ والمصالح في صميم المعادلة.
شهدت تلك السنوات احتداماً غير مسبوق في الصراع على القرار السياسي في بغداد، فقد ركّز المالكي على حصر السلطات بيده، فأدار الملف الأمني إدارة مباشرة، وأخضع عدداً من الأجهزة الحساسة لسلطته، ما أثار حفيظة خصومه الشيعة، الذين اتهموه بالسعي لإقامة حكم فردي.

كما انعكس هذا النهج على العلاقة مع المكون السني الذي شعر بتهميش متزايد، وأدى إلى توتر مع الأحزاب الكردية بسبب الملفات الخلافية، وفي مقدمتها النفط والمناطق المتنازع عليها.
ورغم هذا المناخ المحتقن، نجح المالكي من خلال سلسلة تحالفات سياسية دقيقة ومساومات طويلة في تأمين ولايته الثانية، مؤكداً أنه بات الزعيم الأقوى في تلك اللحظة التاريخية، وأنه قادر على كسر إرادة خصومه داخل المعسكر الشيعي وخارجه.
كانت ولايته الثانية بمثابة اختبار لقدرة النظام على التكيف مع شخصية قيادية قوية تميل إلى احتكار القرار، وقد ساهم هذا التوجه في تكريس شعورٍ عام بأن السلطة في بغداد باتت متركزة في يد شخص واحد، وهو ما أثار قلقاً واسعاً لدى مختلف القوى.
وجاءت انتخابات 2014، لتكشف حجم التصدع داخل البيت الشيعي، فقد تفكك الائتلاف الشيعي تفككاً كاملاً، وخاضت القوى الأساسية الانتخابات متفرقة: نوري المالكي بائتلاف دولة القانون، ومقتدى الصدر بكتلة الأحرار، وعمار الحكيم بكتلة المواطن، وإبراهيم الجعفري بتيار الإصلاح، وقيس الخزعلي بكتلة صادقون، إضافة إلى حزب الفضيلة وقوى أخرى أصغر.
هذا التفتت لم يترك لأي طرف فرصة لتحقيق أغلبية مطلقة، ما اضطرهم إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، في محاولة لتشكيل الكتلة الأكبر القادرة على تأليف الحكومة.
غير أن الضغوط الداخلية المتصاعدة، من احتجاجات شعبية ونقمة متزايدة على الأداء الحكومي، إلى جانب ضغوط إقليمية ودولية رافضة استمرار المالكي في ولاية ثالثة، أفضت في النهاية إلى إزاحته، وهكذا تم التوافق على حيدر العبادي بديلاً منه، في خطوة مثلت انتقالاً تدريجياً من مرحلة هيمنة الرجل الواحد إلى مرحلة أكثر تعددية في القيادة الشيعية، ولو نسبياً.

كان ذلك بمثابة إقرار ضمني بأن مركزية السلطة التي مارسها المالكي بلغت حدودها القصوى، وأدت إلى نتائج عكسية تؤثر على استقرار النظام السياسي.
خريطة جديدة
حين تسلم العبادي منصب رئاسة الوزراء بعد انتخابات 2014، وجد نفسه أمام واقع مزلزل؛ إذ كان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قد سيطر على مساحات شاسعة من العراق، بما في ذلك الموصل (ثاني أكبر المدن بعد بغداد)، ما شكل تهديداً وجودياً للدولة العراقية.
في تلك اللحظة الحرجة صدرت فتوى السيستاني بـ “الجهاد الكفائي”، التي فتحت الباب أمام موجة تعبئة شعبية غير مسبوقة.
انطلقت جموع المتطوعين لتشكيل نواة الحشد الشعبي، الذي تحول سريعاً من مجموعات متفرقة إلى قوة مسلحة منظمة، أدت الدور الأبرز في وقف تمدد التنظيم.
كان لظهور الحشد الشعبي أثر بالغ في توازن القوى داخل البيت الشيعي، فالفصائل التي قاتلت على الجبهات لم تعد مجرد أذرع عسكرية للأحزاب، بل صارت تملك قوة مكنتها من التقدم بخطوات واثقة نحو المشاركة السياسية.
وبموازاة الجهد العسكري، تمكنت حكومة العبادي، بدعم مباشر من التحالف الدولي، من استعادة المدن تباعاً، حتى إعلان النصر العسكري النهائي على “داعش”، غير أن هذا النصر، على أهميته، حمل في طياته بذور تحولات سياسية كبرى، إذ أفرز واقعاً جديداً يتيح للفصائل المسلحة أن تتحول إلى قوة سياسية برلمانية تنافسية.
في هذا السياق، تشكَّل “تحالف الفتح” بقيادة هادي العامري، جامعاً الفصائل الرئيسة المنضوية في الحشد، مثل منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وحركة سيد الشهداء. هذا التحالف دخل انتخابات 2018 بثقة عالية مستنداً إلى رصيد المشاركة في تحرير المدن.
في المقابل، حاول العبادي استثمار نجاحه العسكري بتأسيس “ائتلاف النصر”، الذي أراده واجهة سياسية تعكس مشروعه لإعادة بناء الدولة بعد الحرب.
جاءت نتائج انتخابات 2018 لتكشف عن إعادة تشكيل واسعة لخريطة القوى الشيعية، فقد تصدّر النتائج تحالف “سائرون” بزعامة الصدر، الذي جمع بين التيار الصدري والحزب الشيوعي وتكنوقراط مدنيين، حاصداً 54 مقعداً من أصل 329، وهو ما عُدّ مفاجأة سياسية. حلّ “الفتح” ثانياً بـ 47 مقعداً، فيما جاء “النصر” ثالثاً بـ 42 مقعداً، و”دولة القانون” بزعامة المالكي رابعاً بـ 26 مقعداً، ثم “تيار الحكمة” بزعامة عمار الحكيم بـ 19 مقعداً.
ورغم تقدم الصدر، لم يحصل أي طرف على أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده، فانطلقت مفاوضات مطوّلة ومعقدة لتشكيل الكتلة الأكبر، وانتهت بالتوافق على ترشيح عادل عبد المهدي، الذي لم يشارك أصلاً في الانتخابات، لرئاسة الوزراء، بوصفه شخصية مقبولة من أغلب الأطراف، وكان هذا الاختيار بمثابة حل وسط لتفادي صراع مفتوح بين التيارات المتنافسة.

لكن حكومة عبد المهدي وُلدت منقوصة؛ إذ لم يمنح البرلمان الثقة إلا لـ 14 وزيراً من أصل 22، وبقيت وزارات سيادية، مثل الدفاع والداخلية، شاغرة لأشهر بسبب الخلافات على توزيعها.
لم تلبّ الحكومة تطلعات الشارع، إذ قدّمت وجوهاً مألوفة أعادت إنتاج الفشل السابق، ما عزّز شعور العراقيين بالإحباط.
وفي الوقت ذاته، بدا واضحاً أن نفوذ الفصائل المسلحة ازداد رسوخاً في مفاصل الدولة، إذ أظهر عبد المهدي ميلاً لتمكينها وإعطائها مساحة أوسع للتأثير في القرار السياسي والأمني. هذا التمكين خلق حالة من عدم التوازن داخل الدولة، وأشاع قلقاً عميقاً لدى شرائح واسعة من المجتمع، خصوصاً بين الشباب الذين كانوا يتطلعون إلى بناء دولة قانون مدنية مزدهرة.
هذا السياق، الممتد بين الانتصار على “داعش” وصعود نفوذ الفصائل المسلحة، مهّد الطريق لانفجار الغضب الشعبي في تشرين 2019، حيث تحوّل الإحباط إلى حركة احتجاجية واسعة ستغير قواعد اللعبة في السنوات اللاحقة.
حوار بالرصاص
أدت احتجاجات تشرين 2019، إلى إسقاط حكومة عبد المهدي وصعود مصطفى الكاظمي لقيادة مرحلة انتقالية نحو انتخابات مبكرة.
في هذه الأثناء انتشرت جائحة كورونا، وتراجع زخم التظاهرات، فيما انقلب الصدر على الحركة الاحتجاجية التي ساندها في البداية، وزجّ أتباعه تحت مسمى “أصحاب القبعات الزرق” لمهاجمة المتظاهرين، ما أدى إلى تفكيك الاعتصامات ورفع الخيام من ساحة التحرير بحلول 31 تشرين الأول 2020.
ومع أن التظاهرات انتهت، بقيت الأزمة السياسية قائمة حتى الانتخابات المبكرة في 10 تشرين الأول 2021، التي دخلتها القوى الشيعية مشتتة، ما فتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع على تمثيل المكون الأكبر.
أفرزت انتخابات 2021 انقساماً حاداً بين التيار الصدري، الذي فاز بـ 73 مقعداً، وبقية القوى الشيعية التي اجتمعت تحت مسمى “الإطار التنسيقي” لتقليل خسائرها.
أصرّ الصدر على تشكيل حكومة أغلبية مع السنة والكرد، لكنه لم ينجح في تحقيق النصاب، كما فشل في استمالة المستقلين، وعندها اتخذ قراره المفاجئ بالانسحاب من العملية السياسية وسحب نوابه من البرلمان، في خطوة قلبت المشهد رأساً على عقب.

أدى هذا الانسحاب إلى ترك الساحة خالية أمام الإطار، لكن الصدر لم يحافظ على صمته، فحرّك قاعدته الشعبية لحصار البرلمان ومنع الإطار من تشكيل الحكومة.
ومع تصاعد التوتر بلغ الخلاف ذروته في 29 آب 2022، حين اندلعت اشتباكات مسلحة على أبواب المنطقة الخضراء، وانتهت في اليوم التالي ببيان حاسم من الصدر أمر فيه أتباعه بالانسحاب فوراً.
بعد تراجع الصدريّين، مضى الإطار في تشكيل الحكومة برئاسة محمد شياع السوداني الذي تولى المنصب بتوافق حذر.

ورغم ابتعاد الصدر عن السياسة، وإعلانه مقاطعة الانتخابات المقبلة، فإن الساحة الشيعية ما زالت تغلي بالخلافات، ليس بين الصدر والإطار فقط، بل داخل الإطار نفسه أيضاً، حيث تتصاعد التباينات بين المالكي والخزعلي وكتائب حزب الله من جهة، والسوداني الذي يسعى إلى بناء تحالف انتخابي خاص من جهة أخرى.
ومع ذلك، يُرجح أن تعود هذه القوى للتحالف بعد الانتخابات، لتقاسم السلطة على غرار ما حدث في الدورات السابقة.