لماذا يتظاهر العراقيون؟ قصة التظاهرات في عراق ما بعد 2003 

جلجامش نبيل

03 أيلول 2025

أصبح التظاهر لغة العراقيين ومتنفّس غضبهم، واليوم، ومع الأزمات المتفاقمة، يُطرح السؤال: هل التظاهرات المقبلة صرخة عابرة.. أم تهديدٌ للنظام كله؟

خلال فترة حكم صدّام حسين، وكما هو الحال في ظل العديد من الأنظمة القومية والاشتراكية، لم يعرف العراق من التظاهرات غير المسيرات التي تنطلق بتوجيه من السلطة لتأييد خطابها. وفي أعقاب الغزو الأمريكي وإسقاط النظام في نيسان 2003، نفّس الشارع العراقي عن غضبه المتراكم وعبّر عن مطالبه، وأصبح على موعدٍ سنويّ وموسمي مع التظاهرات. 

منذ أكثر من عقدين، تعدّدت مطالب التظاهرات في العراق بتعدّد الجهات الفاعلة والداعمة لها، وبينما كان بعضها عفوياً سلمياً أو سياسياً موجّهاً، اتّسم بعضها الآخر بالعنف، وجُوبهت أغلب التظاهرات بالقمع، وأسفرت عن قتلى وجرحى، كما اقتحم بعضها مبنى البرلمان. اليوم، العراق على مفترق طرق، مواجهة تظاهرات جديدة، أو القضاء على حرية التعبير نهائياً.  

محطات التظاهر الكبرى 

في خضم جلبة التظاهرات العراقية، فإن أكبرها، حسب الوضع الإقليمي العربي أو المظالم المناطقية أو الدوافع الوطنية، ثلاث تظاهرات، وهي:  

  • الربيع العربي العراقي (مطلع شباط 2011 – 23 كانون الأول 2011): وهي سلسلة احتجاجات شعبية، عُرفت أحياناً بعبارات: “احتجاجات عيد الحب العراقي”، و”بغداد ليست قندهار”، و”الثورة الزرقاء”، وشملت العاصمة بغداد وعدداً من المحافظات، وكان أعنفها في مدينة الموصل حيث سقط خمسة قتلى إثر محاولة اقتحام مقر المحافظة وإحراق أجزاء منه، فيما رُفعت شعارات “الشعب يريد إسقاط النظام” في الرمادي، و”بالأمس في تونس ومصر واليوم في العراق” في كربلاء. شملت تلك الموجة تظاهرات في الحويجة بكركوك، وجامعة السليمانية في إقليم كردستان، كما اقتحم مسلّحون مقرات كتلة التغيير المعارضة في أربيل ودهوك، وأسفرت التظاهرات عن مقتل 35 مواطناً. كانت تلك التظاهرات انعكاساً لثورات الربيع العربي وعمّت أرجاء العراق مع اختلاف المطالب في كل منطقة.  
  • اعتصامات المحافظات السُنية (25 كانون الأول 2012 – 30 كانون الأول 2013): انطلقت هذه التظاهرات من محافظة الأنبار وامتدت لتشمل معظم المدن ذات الأغلبية السُنية في محافظات صلاح الدين ونينوى وكركوك، فضلاً عن منطقتي الأعظمية والدورة ببغداد وبعض مناطق ديالى. ركّزت المطالب على إطلاق سراح المعتقلين وإيقاف “النهج الطائفي” وإلغاء المادة (4 إرهاب)، التي يراها السُنة أداةً لاستهدافهم دون غيرهم، وقانون المساءلة والعدالة الخاص باجتثاث أعضاء حزب البعث، وصولاً إلى إنشاء إقليم سُني وحتّى إسقاط نظام الحكم “الشيعي”.  

تخلّلت هذه التظاهرات أحداثٌ دامية في الحويجة، وبرزت أصوات الجماعات المسلحة ورايات تنظيم القاعدة في صفوف الاعتصامات، وأدّى الخلل الأمني وتصلّب المواقف إلى إعلان السُنة تأسيس جيش العزة، وتأسيس الشيعة جيش المختار. تفاقم الأمر بسيطرة تنظيم داعش على مدينة الفلوجة وانتهى باجتياح التنظيم الإرهابي للموصل في حزيران 2014 وسقوط معظم أجزاء شمال غرب العراق في يده، وما أعقب ذلك من مجازر بحق الشيعة والأقليات الدينية والعرقية، ودمار العديد من المدن والمواقع التاريخية، وحرب طويلة انتهت في عام 2017 بتحرير الموصل من سيطرة داعش. 

  • تظاهرات تشرين (1 تشرين الأول 2019 – مطلع 2020، مع تظاهرات متفرقة حتى 5 تشرين الثاني 2021): تعدّ هذه التظاهرات الأكبر والأطول والأعنف في تاريخ العراق، وقد انطلقت من بغداد عقب دعوات أطلقتها صفحات وهمية وأخرى معروفة على مواقع التواصل الاجتماعي، للاحتجاج على عنف السلطات ضد حملة الشهادات العليا المطالبين بالتعيين ونقل القائد العسكري البارز عبد الوهاب الساعدي إلى دائرة الإمرة. 

رُفِعَت خلال المظاهرات شعارات عامّة مثل «نريد وطن»، ومطالب بإنهاء النفوذ الإيراني في العراق، فضلاً عن مطالب بتوفير فرص العمل ومكافحة البطالة. تركّزت التظاهرات في بغداد والمحافظات الجنوبية الشيعية، وضمّت فئات متنوعة إيديولوجياً، منهم الشيوعيون والنسَويّات والطلاب وسائقو التوك توك، إلى جانب انخراط تيارات تعدّ جزءاً من العملية السياسية – مثل التيار الصدري – لتحقيق مصالح خاصة، ويعدّ تشتّت المطالب وتداخلها سمة عامة للتظاهرات العراقية كافة.   

اقرأ أيضاً

السلطة حينما واجهت شباب تشرين: إباحة القتل لإدامة النظام

شهدت هذه التظاهرات اعتصامات وإغلاق طرق ودعوات للعصيان المدني، وإحراق لمقرات الأحزاب والقنصلية الإيرانية في كربلاء والنجف مرتين، ومقر فوج المهمات الخاصة في الناصرية، وإغلاق ميناء أم قصر في البصرة، وحقل البزركان النفطي في ميسان، وإغلاق المدارس والدوائر الحكومية، ولم تحظَ بدعم الموظفين لهذه الأسباب. انتقد المتظاهرون إحجام المحافظات الشمالية الغربية ذات الغالبية السُنية عن المشاركة، وبرّر السُنة ذلك بنكبة مدنهم في أعقاب تحريرها حديثاً من سيطرة تنظيم داعش في عام 2017، وبأن مشاركتهم قد تسهّل شيطنة المظاهرات من طرف السلطة، التي أشارت إلى تورّط الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية والخليجية في تمويل التظاهرات، واصفةً المتظاهرين بـ “الجوكرية”، في إشارة لاستلهام العنف الشعبي من فيلم الإثارة النفسية الأمريكي جوكر Joker، الذي صدر في العام ذاته.  

قوبلت المظاهرات منذ اليوم الأول برد عنيف، حيث استخدمت القوات الأمنية الرصاص الحي والقنابل الصوتية ورشاشات المياه والغاز المسيّل للدموع، فضلاً عن حظر مواقع التواصل الاجتماعي وقطع الإنترنت، وشهدت التظاهرات مقتل نحو 730 عراقياً خلال ستة أشهر، واغتيال أكثر من 70 من الناشطين والمعارضين، وهروب العديد منهم إلى الخارج أو إلى إقليم كردستان العراق، فضلاً عن جرح أكثر من 20 ألف متظاهر. ورغم استقالة عادل عبد المهدي وموافقة البرلمان على الاستقالة في الأول من كانون الأول، استمرت التظاهرات، وازداد المشهد تعقيداً مع اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس بغارة جوية قرب مطار بغداد الدولي (3 كانون الثاني 2020). في أعقاب ذلك، بدأ الخطاب يتصاعد لإخراج القوات الأمريكية من العراق، ودعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أنصاره للانسحاب من الاعتصامات، وبدأت حملات إحراق خيام المعتصمين واغتيالهم، وبذلك تضاءل زخم التظاهرات فأصبحت متفرقة وتُقابل بعنفٍ أكبر حتى خمدت جذوتها.  

تظاهرات التيار الصدري 

للتيار الصدري تاريخٌ طويل مع التظاهرات والاعتصامات منذ أن سطع نجم زعيمه الشاب مقتدى الصدر سريعاً بعد الغزو الأمريكي لبغداد في نيسان 2003. ومن أولى تحركاته تظاهرة في مدينة الصدر ببغداد في تشرين الأول 2003، طالب فيها بتأسيس “حكومة ظل“. وفي أيار 2004 أطلق أنصار التيار النار في الهواء لتفريق تظاهرات طالبت جيش المهدي، الجناح المسلّح للتيار، بالانسحاب من مدينة النجف.  

في نيسان 2005، شهدت مدينة الصدر وساحة الفردوس ببغداد تظاهرة حاشدة لأتباع التيار الصدري في الذكرى الثانية للغزو الأمريكي، نددت بالثالوث المشؤوم في العراق: صدام حسين وجورج بوش وتوني بلير، وفي آب من العام ذاته تظاهر الصدريّون في بغداد والكوفة والبصرة وكربلاء احتجاجاً على نقص الخدمات الأساسية، حاملين الفوانيس وجرار الماء والمدافئ النفطية الفارغة، وشيّعوا جنازات رمزية لعدد من قتلى التيار جراء اشتباكات مع مجموعة من منظمة بدر في النجف. 

ووسط دوامات العنف الطائفي في عام 2006، تظاهر الصدريون في آب لدعم حزب الله اللبناني إبان الحرب مع إسرائيل، كما تظاهر الصدريون في تشرين الأول مطالبين بفك الحصار الذي فرضته القوات الأمريكية على مدينة الصدر وإزالة الحواجز التي نصبتها بعد حملة دهم للمنازل بحثاً عن جندي أمريكي مفقود. وفي نيسان 2007، ندّد الصدريون مجدداً بالاحتلال وانعدام الخدمات والسيادة المنقوصة للبلاد. وفي حزيران وتشرين الثاني 2008، تظاهر الصدريون ضد خطط إبرام اتفاقية أمنية طويلة الأمد بين بغداد وواشنطن، واصفين إيّاها بأنها “أسوأ من الاحتلال”، كما أحرقوا العلم الأمريكي ودمى تمثل الرئيس جورج بوش الابن. وفي نيسان 2009، تظاهر الصدريون مجددًا تحت المطر في ساحة الفردوس مطالبين قوات الاحتلال بمغادرة البلاد.  

ومع موجة الربيع العربي في عام 2011، هاجم الصدر قرار الحكومة بحظر التظاهرات في العاصمة، واصفاً القرار بأنه إجراء غير ديمقراطي ودليل على خوف الحكومة من حركات الاحتجاج. وفي آذار 2012، تظاهر الصدريون في البصرة فيما أسموه بـ”يوم المظلوم“، مطالبين بتحسين الظروف المعيشية وتسلّم المواطنين نصيبهم من عائدات النفط، كما تظاهروا في وقتٍ سابق من الشهر ذاته في بغداد والبصرة والنجف والناصرية والحلة والديوانية والعمارة، للتنديد بما وصفوه بـ “قمع السلطات البحرينية للاحتجاجات”.  

وفي آذار 2013، تظاهر الصدريون في الكوت ضد ما وصفوه بالطائفية والظلم. وبينما أعلن الصدر وداع السياسة في عام 2014، إلّا أنه دعا إلى تظاهرة حاشدة في الناصرية في آذار لإحياء يوم المظلوم العالمي.  

اقرأ أيضاً

مقتدى الصدر: الصعود والتقلبات 

لم توقف الحرب ضد تنظيم داعش (2014-2017) التيار الصدري عن التظاهر، حيث دعا في آب 2015 مؤيديه للتظاهر في بغداد ومدن الجنوب للمطالبة بإصلاحات حكومية ومحاكمة للساسة “الفاسدين”. وفي آذار 2016، انتقل الصدر إلى أسلوب آخر فدعا أنصاره إلى الاعتصام ونصب الخيام أمام أبواب المنطقة الخضراء، مقر الحكومة منذ الغزو الأمريكي، وأمهل رئيس الوزراء، حيدر العبادي، مهلة 45 يوماً لتنفيذ الإصلاحات ومكافحة الفساد، وفي أواخر نيسان، اقتحم المتظاهرون الغاضبون المنطقة الخضراء ومجلس النواب العراقي، عقب فشله في عقد جلسته للتصويت على الحكومة لعدم اكتمال النصاب بعد انسحاب الكتلة الصدرية. وفي شباط 2017، قُتل خمسة أشخاص في مواجهات بين أتباع التيار الصدري والقوات الحكومية قرب المنطقة الخضراء، حيث دعا الصدر لمحاربة الفساد وتغيير المفوضية العليا للانتخابات، ودعا الأمم المتحدة إلى التدخل الفوري لإنقاذ المتظاهرين السلميين، وتجددت التظاهرات في آب التالي في بغداد وعدد من المحافظات وسط وجنوب العراق في رفضٍ لتصويت البرلمان على 21 مادة من تعديلات قانون الانتخابات المحلية.  

وفي منتصف تشرين الأول 2019، ووسط تظاهراتٍ شعبية أوسع -احتجاجات تشرين- دعا الصدر إلى تحويل مناسبة أربعينية الإمام الحسين إلى تظاهرة حاشدة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل والفاسدين. وفي كانون الثاني 2020، وفي أعقاب مقتل الجنرال سليماني، تظاهر الصدريون للمطالبة برحيل القوات الأجنبية وإلغاء الاتفاقيات الأمنية الموقّعة مع الولايات المتحدة.  

في تموز 2022، وبعد فوز الصدر بأعلى عدد من المقاعد في مجلس النواب في انتخابات 2021، اقتحم متظاهرون صدريون مبنى البرلمان العراقي احتجاجاً على ترشيح الإطار التنسيقي النائب والوزير السابق محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة، وفي 29 آب 2022، اندلعت اشتباكات بين أنصار مقتدى الصدر وقوات تابعة للإطار التنسيقي أسفرت عن مقتل 30 وجرح 700 شخص، من بينهم 110 من القوات الأمنية.  

وبعيداً عن الشأن الداخلي، ألغى الصدر الدعوة إلى تظاهرة مليونية لنصرة غزة في أيلول 2024 بحجة عدم جدواها، لكن أنصاره تظاهروا بالآلاف في حزيران 2025 للتنديد بالهجمات الإسرائيلية على إيران، فضلاً عن التنديد بالإرهاب الصهيوني والأمريكي والاعتداء على الجارة إيران وفلسطين ولبنان وسوريا واليمن.  

باعتماده على قاعدته الشعبية الراسخة، قاد التيار الصدري تظاهرات شبه سنوية للتنديد بالاحتلال أو الاتفاقيات الأمنية، وتحقيق مطالب سياسية خاصة، ودعم القضايا الشيعية في لبنان والبحرين وإيران، والمطالبة بتحسين الخدمات، وكان شريكاً سياسياً متقلّباً، وقد يتحوّل إلى كابوس على شركائه في أي وقت، مع قدرته على تحريك الشارع واقتحام المنطقة الخضراء.  

لهيب الصيف وتظاهرات الخدمات  

مع لهيب الصيف يتفاقم شعور المواطنين بوطأة مشاكل انقطاع التيار الكهربائي والمياه، التي لم تحل رغم إنفاق المليارات عليها منذ عام 2003، فتتكرّر التظاهرات في بغداد ومدن الجنوب على وجه الخصوص في موعدٍ سنويّ للعراقيين مع الصيف القائظ، تنطلق هذه التظاهرات عفويّاً في العادة، وتمثّل فورات تنتهي بوعود حكومية بإصلاح المشكلة، لكنّ بعضها ذو دوافع سياسية تستهدف المحافظين أو مسؤولي البلديات. 

في حزيران 2010، تظاهر أكثر من خمسة آلاف عراقي في مدينة الناصرية جنوبي العراق وفي مدنٍ أخرى للمطالبة بوضع حد لمشكلة انقطاع التيار الكهربائي المستمر. وفي تشرين الثاني 2012، شهدت البصرة والناصرية تظاهرات تطالب بإعادة البطاقة التموينية، التي توفّر للمواطنين حصصاً من المواد الغذائية الأساسية، والتي ابتُكرت بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق بعد غزوه الكويت.  

ومع زيادة التصحّر وقطع روافد دجلة والفرات من دول المنبع في تركيا وإيران، برزت مشكلة المياه على نحوٍ متزايد، ففي آب 2015، شهدت بغداد والنجف والبصرة والناصرية ومدن أخرى تظاهرات ضد الفساد وتردّي جودة المياه وانقطاع التيار الكهربائي والمحاصصة الطائفية. وفي تموز 2018، تظاهر المئات في محافظتي المثنى والديوانية للمطالبة بتحسين الخدمات وتوفير فرص عمل. وفي تموز 2023، تظاهر العشرات في بغداد تنديداً بنقص المياه والكهرباء والسياسة المائية لدول المنبع، لاسيما تركيا، وعدم قدرة الحكومة على حل هذه القضايا.  

وفي تموز 2024، تظاهر العشرات في قرى الديوانية احتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي والجفاف وانخفاض تدفق مياه الأنهار. وفي أيار 2025، انطلقت تظاهرات في النجف والديوانية بسبب انقطاع التيار الكهربائي إثر تراجع إمدادات الغاز الإيراني، فضلاً عن تظاهرات في ناحية شلّال في المشخاب لحل مشكلة الجفاف.  

تظاهرات المطالب الخاصة والنفعية 

علاوة على ذلك، ومع ارتفاع نسب البطالة، تشهد بغداد والعديد من المدن العراقية بين الفينة والأخرى تظاهرات نفعية يطالب فيها خرّيجو الجامعات والمعاهد بالتعيين، فيما يطالب موظفون بالتثبيت وزيادة الرواتب، كما يشمل هذا النوع من التظاهرات المطالبة بتوزيع قطع أراضٍ أو منع رفع التجاوزات. 

مؤخراً فقط، تظاهر عددٌ من موظفي الدولة في عدة محافظات عراقية، في أيار 2023، مطالبين بتعديل سلّم الرواتب قبل إقرار الموازنة، وفي تشرين الأول، تظاهر خريجو المهن الطبية دفعة 2023 أمام وزارة الصحة ببغداد مطالبين بالتعيين. في أيلول 2024، تظاهر مئات المتعاقدين مع وزارة التربية لعام 2020 في بغداد مطالبين بتثبيتهم على الملاك الدائم. وفي أيار 2025، تظاهر آخرون في بغداد للمطالبة بتحسين رواتب المتقاعدين وتحديد الحد الأدنى بـ 800 ألف دينار عراقي. وفي كانون الثاني 2023، تظاهر المئات أمام البنك المركزي ببغداد احتجاجاً على ارتفاع سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار.  

وتشمل هذه الاحتجاجات تظاهرات الموظفين ضد مديريهم بسبب سوء الإدارة والتعامل أو بدوافع سياسية في بعض الحالات، كما يمكن إدراج الاحتجاجات القبَلية التي تحاول الانتفاع من مشاريع تُقام في مناطقها في هذا النوع من التظاهرات. وبالطبع، تشمل تظاهرات الموظفين في إقليم كردستان للمطالبة بدفع الرواتب التي تتوقّف كل فترة بسبب الخلافات السياسية مع حكومة المركز. 

تظاهرات التيارات النسوية والمحافظة 

منذ سقوط النظام، برزت محاولات الأحزاب الشيعية لتغيير قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 واستبداله بقوانين شخصية تستند إلى القانون الجعفري. وقد أوقف الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر قرار مجلس الحكم الانتقالي بإلغاء القانون في كانون الأول 2003، وفي تموز 2024، انطلقت تظاهرات نسوية رفضاً لتعديل قانون الأحوال الشخصية بعبارات “كلا لتزويج القاصرات” و”عصر الجواري ولّى”، وفي أيلول، انطلقت تظاهرات مؤيدة لتعديل قانون الأحوال الشخصية في بغداد. مع ذلك تكرّر الموضوع مع كل دورة انتخابية، برعاية حزب الفضيلة وغيره، حيث تنطلق تظاهرات نسوية ضد القانون الجعفري تقابلها تظاهرات من التيارات المحافظة بذريعة حق الحضانة للآباء، حتّى أُقِرَّ القانون مؤخراً في صفقة مثيرة للجدل مطلع عام 2025.  

تظاهرات لإنصاف الضحايا 

وفي أعقاب الكوارث الكبرى، كالحرائق والغرق والتفجيرات، يشهد العراق تظاهرات للمطالبة بإنصاف الضحايا، ومن بينها تظاهرات ذوي ضحايا مجزرة سبايكر، حيث تظاهروا في تكريت قادمين من الجنوب، بينما تظاهر الصدريّون لتحميل نوري المالكي مسؤولية ذلك في عام 2017. ومن تلك التظاهرات أيضاً تظاهرات ذوي ضحايا حريق عرس الحمدانية في نينوى في 2023، وذوي ضحايا حريق هايبرماركت الكوت في تموز 2025.   

وفي ذكرى ثورة تشرين في 2020، خرج الآلاف للمطالبة بمحاسبة المتورطين في قتل المتظاهرين، إلى جانب المطالبة بتحسين الخدمات ومكافحة البطالة والفساد، وتكرّر الأمر في الذكرى السنوية للتظاهرات في الأعوام الأربعة التالية.  

احتجاجات الفدرلة والمطالبة بالنمو والانفصال 

بينما أقرّ الدستور العراقي لعام 2005 مبدأ الفدرالية بوصفه حلاً وسطاً بين رافضيها والأكراد الذين طالبوا بالكونفدرالية، نشهد تحوّلاً جذرياً في مواقف العراقيين، ساسة وجماهير، فبينما دعا عبد العزيز الحكيم لفيدرالية شيعية في جنوب العراق عام 2005، كان العرب السُنة من أشد الرافضين للأمر بدعوى الحفاظ على وحدة العراق والهوية الوطنية العراقية، ورفضوا لذلك مادة الأراضي المتنازع عليها في الدستور. في آب 2005، تظاهر الآلاف في إقليم كردستان العراق وكركوك مطالبين بإقرار حق تقرير المصير والانفصال في الدستور والتأكيد على كردستانية كركوك، لكن العشائر العربية ردت بتظاهرات في كركوك لرفض مبدأ الفدرالية أو الإساءة لحزب البعث.  

ومع تغيّر الوضع السياسي وفقدان السُنة أملهم في استعادة حكم العراق بأكمله، تغيّر الخطاب وأضحى الشيعة من أشد المعارضين لمبدأ الفيدرالية، وسعوا لتقويض سلطات إقليم كردستان نفسه، فيما أصبح الإقليم السُني حلم شرائح واسعة من أبناء محافظات وسط العراق وشماله غربه.  

تعاظمت مطالب الأكراد في الانفصال في أعقاب سيطرتهم على جميع المناطق المتنازع عليها في سهل نينوى وكركوك في فترة الحرب مع تنظيم داعش، لكن إفشال الاستفتاء في أيلول 2017 أنهى تلك السيطرة، وعادت الاشتباكات تتجدّد في كركوك على وجه الخصوص. في أيلول 2023، وقعت مصادمات بين تظاهرات للأكراد من جهة والعرب والتركمان من جهة أخرى في كركوك، على خلفية معلومات مفادها أن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، أمر بتسليم المقر العام لقوات الأمن العراقية للحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي سبق أن شغله.  

ومع التغيّرات الإقليمية وتراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، تتعالى اليوم أصوات شيعية جديدة لتأسيس إقليم شيعي، مع تواصل رفض مطالب الآخرين بتأسيس إقليم سُني، فيما قدّم الأكراد بعض التنازلات للمركز بخصوص نفط الإقليم لقاء دفع رواتب الموظفين. 

التظاهرات السياسية 

ليست كلّ التظاهرات التي ورد ذكرها خالية من العنصر السياسي، بل إن بعضها، وإن بدا بعيداً عن السياسة ومركّزاً على الخدمات أو المطالب، إلّا إنها تحرّكت أو تغذّت على دافع سياسي وهدفت لتحقيق مكسب سياسي مباشر أو غير مباشر، لكن هنالك تظاهرات من نوع آخر، سياسية بحتة وفي قلب العمل السياسي، حيث شهد العراق أيضاً تظاهرات عديدة من التيّار الصدري والإطار التنسيقي والعرب السُنة ضد نتائج الانتخابات في مناسبات متفرّقة، كما شهد العراق، بما في ذلك إقليم كردستان، تظاهرات ضد امتيازات الساسة وأعضاء البرلمان واحتجاجات ضد الفساد المستشري.  

في كانون الأول 2005، تظاهر أنصار جبهة التوافق السُنية في منطقة اليرموك ببغداد وسامراء وتكريت بمحافظة صلاح الدين احتجاجاً على النتائج الجزئية للانتخابات. وفي نيسان 2011، تظاهر آلاف العراقيين السُنة في بغداد والموصل والرمادي وتكريت مطالبين بخروج القوات الأمريكية، وإسقاط حكومة نوري المالكي، وإطلاق سراح المعتقلين، والتصدّي لما وصفوه بالاحتلال الإيراني.  

في تشرين الأول 2013، تظاهر آلاف العراقيون في 13 محافظة عراقية، منها العاصمة بغداد، رفضاً لامتيازات أعضاء البرلمان، بما في ذلك حقوق التقاعد، مطالبين بإلغائها، رافعين هتافات “نفط الشعب للشعب، مو للحرامية”. وفي كانون الأول 2017، تظاهر الآلاف في أربع مدن بإقليم كردستان مطالبين باستقالة الحكومة ومحاربة الفساد وتحسين الوضع الاقتصادي ودفع الرواتب.  

وفي كانون الأول 2021، تظاهر مؤيدو الفصائل الشيعية المرتبطة بالحشد الشعبي عند بوابة المنطقة الخضراء مطالبين بإعادة النظر في نتائج الانتخابات والاحتجاج على مصادقة المحكمة الاتحادية العليا عليها.  

وفي أيلول 2024، تظاهر الآلاف محاولين اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد احتجاجاً على اغتيال إسرائيل للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في بيروت. وفي تشرين الأول 2024، شهدت مدينة الناصرية تظاهرات ركّزت على إقالة قائد الشرطة في المدينة والإفراج عن ناشطين معتقلين.  

هل يلوح شبح التظاهرات في الأفق؟  

من الواضح أن لتظاهر العراقيين أسباباً ومحرّكات عدّة، وبينما يتّسم بعضها بالعفوية، فإن الكثير منها تحرّكه تيارات سياسية أو مطالب مناطقية، ولا يخفى دور الأطراف الخارجية في دعم هذه التظاهرات بعد انطلاقها أو إثارتها عبر الإعلام واللعب على وتر مشروعية المطالب. 

ومع تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، وتزايد ضغوط إدارة الرئيس الأمريكي ترامب على الفصائل العراقية المرتبطة بإيران والمطالبة بحلّها، ومع تزايد موجة الحر والجفاف وورود مشاكل بخصوص السيولة المالية وتأمين الرواتب بين فترة وأخرى، قد يكون صيف العراق أشد سخونة مع موجات تظاهرات جديدة.  

اقرأ أيضاً

العراق وأميركا.. علاقة بلدين “مكبّلة” بالشكوك والهواجس وعدم الثقة 

ولأن السياقَين، الإقليمي والدولي، يختلفان هذه المرّة عن كلّ ما عاشته المنطقة خلال العقدين الماضيين، وبسبب الحساسية المفرطة التي يعيشها العراق ومحيطه، والتحوّل الكبير الذي يمرّ به الشرق الأوسط، فإن أيّة تظاهرات جديدة مرشّحة لتكون “أكثر من مجرّد تظاهرات”، ومن الممكن أن تتحوّل إلى تهديد وجودي للنظام والأمن العام، ما يفرض على السلطات التحلّيَ بمرونة أكبر، وتجنّب مواجهة الاحتجاجات بالبطش والشيطنة، ومحاولة الإصغاء إلى مطالب المتظاهرين وتقديم التنازلات، والعمل على توفير الخدمات لامتصاص غضب المواطنين من جهة، وتحقيق التنمية التي تشتد الحاجة إليها في العراق في ظل منطقة متغيّرة وظروف شديدة الحسّاسية من أخرى.  

لكنْ، يبدو أن القوى السياسية ممثلةً بالبرلمان لم تعِ حساسية المرحلة، حيث عاد مؤخراً مشروع حريّة التعبير الذي تتضمن فقراته نصوصاً تتعارض مع مبدأ حرية التعبير المنصوص عليه في الدستور إلى الواجهة، وظهر في جدول أعمال إحدى جلسات المجلس قبل سحبه مرّة أخرى. يمثل هذا القانون خرقاً للحقوق التي كفلها الدستور، وهو خطوة أو أكثر إلى الوراء في مسيرة “الديمقراطية” في العراق، وربما يكون الخاتمة لعقدين من تاريخ تظاهريّ حافل في العراق الجديد، أو سبباً في تجدّده، بالإضافة إلى الأسباب التي لا تنتهي للاحتجاج والتظاهر في العراق. 

  • تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

خلال فترة حكم صدّام حسين، وكما هو الحال في ظل العديد من الأنظمة القومية والاشتراكية، لم يعرف العراق من التظاهرات غير المسيرات التي تنطلق بتوجيه من السلطة لتأييد خطابها. وفي أعقاب الغزو الأمريكي وإسقاط النظام في نيسان 2003، نفّس الشارع العراقي عن غضبه المتراكم وعبّر عن مطالبه، وأصبح على موعدٍ سنويّ وموسمي مع التظاهرات. 

منذ أكثر من عقدين، تعدّدت مطالب التظاهرات في العراق بتعدّد الجهات الفاعلة والداعمة لها، وبينما كان بعضها عفوياً سلمياً أو سياسياً موجّهاً، اتّسم بعضها الآخر بالعنف، وجُوبهت أغلب التظاهرات بالقمع، وأسفرت عن قتلى وجرحى، كما اقتحم بعضها مبنى البرلمان. اليوم، العراق على مفترق طرق، مواجهة تظاهرات جديدة، أو القضاء على حرية التعبير نهائياً.  

محطات التظاهر الكبرى 

في خضم جلبة التظاهرات العراقية، فإن أكبرها، حسب الوضع الإقليمي العربي أو المظالم المناطقية أو الدوافع الوطنية، ثلاث تظاهرات، وهي:  

  • الربيع العربي العراقي (مطلع شباط 2011 – 23 كانون الأول 2011): وهي سلسلة احتجاجات شعبية، عُرفت أحياناً بعبارات: “احتجاجات عيد الحب العراقي”، و”بغداد ليست قندهار”، و”الثورة الزرقاء”، وشملت العاصمة بغداد وعدداً من المحافظات، وكان أعنفها في مدينة الموصل حيث سقط خمسة قتلى إثر محاولة اقتحام مقر المحافظة وإحراق أجزاء منه، فيما رُفعت شعارات “الشعب يريد إسقاط النظام” في الرمادي، و”بالأمس في تونس ومصر واليوم في العراق” في كربلاء. شملت تلك الموجة تظاهرات في الحويجة بكركوك، وجامعة السليمانية في إقليم كردستان، كما اقتحم مسلّحون مقرات كتلة التغيير المعارضة في أربيل ودهوك، وأسفرت التظاهرات عن مقتل 35 مواطناً. كانت تلك التظاهرات انعكاساً لثورات الربيع العربي وعمّت أرجاء العراق مع اختلاف المطالب في كل منطقة.  
  • اعتصامات المحافظات السُنية (25 كانون الأول 2012 – 30 كانون الأول 2013): انطلقت هذه التظاهرات من محافظة الأنبار وامتدت لتشمل معظم المدن ذات الأغلبية السُنية في محافظات صلاح الدين ونينوى وكركوك، فضلاً عن منطقتي الأعظمية والدورة ببغداد وبعض مناطق ديالى. ركّزت المطالب على إطلاق سراح المعتقلين وإيقاف “النهج الطائفي” وإلغاء المادة (4 إرهاب)، التي يراها السُنة أداةً لاستهدافهم دون غيرهم، وقانون المساءلة والعدالة الخاص باجتثاث أعضاء حزب البعث، وصولاً إلى إنشاء إقليم سُني وحتّى إسقاط نظام الحكم “الشيعي”.  

تخلّلت هذه التظاهرات أحداثٌ دامية في الحويجة، وبرزت أصوات الجماعات المسلحة ورايات تنظيم القاعدة في صفوف الاعتصامات، وأدّى الخلل الأمني وتصلّب المواقف إلى إعلان السُنة تأسيس جيش العزة، وتأسيس الشيعة جيش المختار. تفاقم الأمر بسيطرة تنظيم داعش على مدينة الفلوجة وانتهى باجتياح التنظيم الإرهابي للموصل في حزيران 2014 وسقوط معظم أجزاء شمال غرب العراق في يده، وما أعقب ذلك من مجازر بحق الشيعة والأقليات الدينية والعرقية، ودمار العديد من المدن والمواقع التاريخية، وحرب طويلة انتهت في عام 2017 بتحرير الموصل من سيطرة داعش. 

  • تظاهرات تشرين (1 تشرين الأول 2019 – مطلع 2020، مع تظاهرات متفرقة حتى 5 تشرين الثاني 2021): تعدّ هذه التظاهرات الأكبر والأطول والأعنف في تاريخ العراق، وقد انطلقت من بغداد عقب دعوات أطلقتها صفحات وهمية وأخرى معروفة على مواقع التواصل الاجتماعي، للاحتجاج على عنف السلطات ضد حملة الشهادات العليا المطالبين بالتعيين ونقل القائد العسكري البارز عبد الوهاب الساعدي إلى دائرة الإمرة. 

رُفِعَت خلال المظاهرات شعارات عامّة مثل «نريد وطن»، ومطالب بإنهاء النفوذ الإيراني في العراق، فضلاً عن مطالب بتوفير فرص العمل ومكافحة البطالة. تركّزت التظاهرات في بغداد والمحافظات الجنوبية الشيعية، وضمّت فئات متنوعة إيديولوجياً، منهم الشيوعيون والنسَويّات والطلاب وسائقو التوك توك، إلى جانب انخراط تيارات تعدّ جزءاً من العملية السياسية – مثل التيار الصدري – لتحقيق مصالح خاصة، ويعدّ تشتّت المطالب وتداخلها سمة عامة للتظاهرات العراقية كافة.   

اقرأ أيضاً

السلطة حينما واجهت شباب تشرين: إباحة القتل لإدامة النظام

شهدت هذه التظاهرات اعتصامات وإغلاق طرق ودعوات للعصيان المدني، وإحراق لمقرات الأحزاب والقنصلية الإيرانية في كربلاء والنجف مرتين، ومقر فوج المهمات الخاصة في الناصرية، وإغلاق ميناء أم قصر في البصرة، وحقل البزركان النفطي في ميسان، وإغلاق المدارس والدوائر الحكومية، ولم تحظَ بدعم الموظفين لهذه الأسباب. انتقد المتظاهرون إحجام المحافظات الشمالية الغربية ذات الغالبية السُنية عن المشاركة، وبرّر السُنة ذلك بنكبة مدنهم في أعقاب تحريرها حديثاً من سيطرة تنظيم داعش في عام 2017، وبأن مشاركتهم قد تسهّل شيطنة المظاهرات من طرف السلطة، التي أشارت إلى تورّط الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية والخليجية في تمويل التظاهرات، واصفةً المتظاهرين بـ “الجوكرية”، في إشارة لاستلهام العنف الشعبي من فيلم الإثارة النفسية الأمريكي جوكر Joker، الذي صدر في العام ذاته.  

قوبلت المظاهرات منذ اليوم الأول برد عنيف، حيث استخدمت القوات الأمنية الرصاص الحي والقنابل الصوتية ورشاشات المياه والغاز المسيّل للدموع، فضلاً عن حظر مواقع التواصل الاجتماعي وقطع الإنترنت، وشهدت التظاهرات مقتل نحو 730 عراقياً خلال ستة أشهر، واغتيال أكثر من 70 من الناشطين والمعارضين، وهروب العديد منهم إلى الخارج أو إلى إقليم كردستان العراق، فضلاً عن جرح أكثر من 20 ألف متظاهر. ورغم استقالة عادل عبد المهدي وموافقة البرلمان على الاستقالة في الأول من كانون الأول، استمرت التظاهرات، وازداد المشهد تعقيداً مع اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس بغارة جوية قرب مطار بغداد الدولي (3 كانون الثاني 2020). في أعقاب ذلك، بدأ الخطاب يتصاعد لإخراج القوات الأمريكية من العراق، ودعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر أنصاره للانسحاب من الاعتصامات، وبدأت حملات إحراق خيام المعتصمين واغتيالهم، وبذلك تضاءل زخم التظاهرات فأصبحت متفرقة وتُقابل بعنفٍ أكبر حتى خمدت جذوتها.  

تظاهرات التيار الصدري 

للتيار الصدري تاريخٌ طويل مع التظاهرات والاعتصامات منذ أن سطع نجم زعيمه الشاب مقتدى الصدر سريعاً بعد الغزو الأمريكي لبغداد في نيسان 2003. ومن أولى تحركاته تظاهرة في مدينة الصدر ببغداد في تشرين الأول 2003، طالب فيها بتأسيس “حكومة ظل“. وفي أيار 2004 أطلق أنصار التيار النار في الهواء لتفريق تظاهرات طالبت جيش المهدي، الجناح المسلّح للتيار، بالانسحاب من مدينة النجف.  

في نيسان 2005، شهدت مدينة الصدر وساحة الفردوس ببغداد تظاهرة حاشدة لأتباع التيار الصدري في الذكرى الثانية للغزو الأمريكي، نددت بالثالوث المشؤوم في العراق: صدام حسين وجورج بوش وتوني بلير، وفي آب من العام ذاته تظاهر الصدريّون في بغداد والكوفة والبصرة وكربلاء احتجاجاً على نقص الخدمات الأساسية، حاملين الفوانيس وجرار الماء والمدافئ النفطية الفارغة، وشيّعوا جنازات رمزية لعدد من قتلى التيار جراء اشتباكات مع مجموعة من منظمة بدر في النجف. 

ووسط دوامات العنف الطائفي في عام 2006، تظاهر الصدريون في آب لدعم حزب الله اللبناني إبان الحرب مع إسرائيل، كما تظاهر الصدريون في تشرين الأول مطالبين بفك الحصار الذي فرضته القوات الأمريكية على مدينة الصدر وإزالة الحواجز التي نصبتها بعد حملة دهم للمنازل بحثاً عن جندي أمريكي مفقود. وفي نيسان 2007، ندّد الصدريون مجدداً بالاحتلال وانعدام الخدمات والسيادة المنقوصة للبلاد. وفي حزيران وتشرين الثاني 2008، تظاهر الصدريون ضد خطط إبرام اتفاقية أمنية طويلة الأمد بين بغداد وواشنطن، واصفين إيّاها بأنها “أسوأ من الاحتلال”، كما أحرقوا العلم الأمريكي ودمى تمثل الرئيس جورج بوش الابن. وفي نيسان 2009، تظاهر الصدريون مجددًا تحت المطر في ساحة الفردوس مطالبين قوات الاحتلال بمغادرة البلاد.  

ومع موجة الربيع العربي في عام 2011، هاجم الصدر قرار الحكومة بحظر التظاهرات في العاصمة، واصفاً القرار بأنه إجراء غير ديمقراطي ودليل على خوف الحكومة من حركات الاحتجاج. وفي آذار 2012، تظاهر الصدريون في البصرة فيما أسموه بـ”يوم المظلوم“، مطالبين بتحسين الظروف المعيشية وتسلّم المواطنين نصيبهم من عائدات النفط، كما تظاهروا في وقتٍ سابق من الشهر ذاته في بغداد والبصرة والنجف والناصرية والحلة والديوانية والعمارة، للتنديد بما وصفوه بـ “قمع السلطات البحرينية للاحتجاجات”.  

وفي آذار 2013، تظاهر الصدريون في الكوت ضد ما وصفوه بالطائفية والظلم. وبينما أعلن الصدر وداع السياسة في عام 2014، إلّا أنه دعا إلى تظاهرة حاشدة في الناصرية في آذار لإحياء يوم المظلوم العالمي.  

اقرأ أيضاً

مقتدى الصدر: الصعود والتقلبات 

لم توقف الحرب ضد تنظيم داعش (2014-2017) التيار الصدري عن التظاهر، حيث دعا في آب 2015 مؤيديه للتظاهر في بغداد ومدن الجنوب للمطالبة بإصلاحات حكومية ومحاكمة للساسة “الفاسدين”. وفي آذار 2016، انتقل الصدر إلى أسلوب آخر فدعا أنصاره إلى الاعتصام ونصب الخيام أمام أبواب المنطقة الخضراء، مقر الحكومة منذ الغزو الأمريكي، وأمهل رئيس الوزراء، حيدر العبادي، مهلة 45 يوماً لتنفيذ الإصلاحات ومكافحة الفساد، وفي أواخر نيسان، اقتحم المتظاهرون الغاضبون المنطقة الخضراء ومجلس النواب العراقي، عقب فشله في عقد جلسته للتصويت على الحكومة لعدم اكتمال النصاب بعد انسحاب الكتلة الصدرية. وفي شباط 2017، قُتل خمسة أشخاص في مواجهات بين أتباع التيار الصدري والقوات الحكومية قرب المنطقة الخضراء، حيث دعا الصدر لمحاربة الفساد وتغيير المفوضية العليا للانتخابات، ودعا الأمم المتحدة إلى التدخل الفوري لإنقاذ المتظاهرين السلميين، وتجددت التظاهرات في آب التالي في بغداد وعدد من المحافظات وسط وجنوب العراق في رفضٍ لتصويت البرلمان على 21 مادة من تعديلات قانون الانتخابات المحلية.  

وفي منتصف تشرين الأول 2019، ووسط تظاهراتٍ شعبية أوسع -احتجاجات تشرين- دعا الصدر إلى تحويل مناسبة أربعينية الإمام الحسين إلى تظاهرة حاشدة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل والفاسدين. وفي كانون الثاني 2020، وفي أعقاب مقتل الجنرال سليماني، تظاهر الصدريون للمطالبة برحيل القوات الأجنبية وإلغاء الاتفاقيات الأمنية الموقّعة مع الولايات المتحدة.  

في تموز 2022، وبعد فوز الصدر بأعلى عدد من المقاعد في مجلس النواب في انتخابات 2021، اقتحم متظاهرون صدريون مبنى البرلمان العراقي احتجاجاً على ترشيح الإطار التنسيقي النائب والوزير السابق محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة، وفي 29 آب 2022، اندلعت اشتباكات بين أنصار مقتدى الصدر وقوات تابعة للإطار التنسيقي أسفرت عن مقتل 30 وجرح 700 شخص، من بينهم 110 من القوات الأمنية.  

وبعيداً عن الشأن الداخلي، ألغى الصدر الدعوة إلى تظاهرة مليونية لنصرة غزة في أيلول 2024 بحجة عدم جدواها، لكن أنصاره تظاهروا بالآلاف في حزيران 2025 للتنديد بالهجمات الإسرائيلية على إيران، فضلاً عن التنديد بالإرهاب الصهيوني والأمريكي والاعتداء على الجارة إيران وفلسطين ولبنان وسوريا واليمن.  

باعتماده على قاعدته الشعبية الراسخة، قاد التيار الصدري تظاهرات شبه سنوية للتنديد بالاحتلال أو الاتفاقيات الأمنية، وتحقيق مطالب سياسية خاصة، ودعم القضايا الشيعية في لبنان والبحرين وإيران، والمطالبة بتحسين الخدمات، وكان شريكاً سياسياً متقلّباً، وقد يتحوّل إلى كابوس على شركائه في أي وقت، مع قدرته على تحريك الشارع واقتحام المنطقة الخضراء.  

لهيب الصيف وتظاهرات الخدمات  

مع لهيب الصيف يتفاقم شعور المواطنين بوطأة مشاكل انقطاع التيار الكهربائي والمياه، التي لم تحل رغم إنفاق المليارات عليها منذ عام 2003، فتتكرّر التظاهرات في بغداد ومدن الجنوب على وجه الخصوص في موعدٍ سنويّ للعراقيين مع الصيف القائظ، تنطلق هذه التظاهرات عفويّاً في العادة، وتمثّل فورات تنتهي بوعود حكومية بإصلاح المشكلة، لكنّ بعضها ذو دوافع سياسية تستهدف المحافظين أو مسؤولي البلديات. 

في حزيران 2010، تظاهر أكثر من خمسة آلاف عراقي في مدينة الناصرية جنوبي العراق وفي مدنٍ أخرى للمطالبة بوضع حد لمشكلة انقطاع التيار الكهربائي المستمر. وفي تشرين الثاني 2012، شهدت البصرة والناصرية تظاهرات تطالب بإعادة البطاقة التموينية، التي توفّر للمواطنين حصصاً من المواد الغذائية الأساسية، والتي ابتُكرت بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق بعد غزوه الكويت.  

ومع زيادة التصحّر وقطع روافد دجلة والفرات من دول المنبع في تركيا وإيران، برزت مشكلة المياه على نحوٍ متزايد، ففي آب 2015، شهدت بغداد والنجف والبصرة والناصرية ومدن أخرى تظاهرات ضد الفساد وتردّي جودة المياه وانقطاع التيار الكهربائي والمحاصصة الطائفية. وفي تموز 2018، تظاهر المئات في محافظتي المثنى والديوانية للمطالبة بتحسين الخدمات وتوفير فرص عمل. وفي تموز 2023، تظاهر العشرات في بغداد تنديداً بنقص المياه والكهرباء والسياسة المائية لدول المنبع، لاسيما تركيا، وعدم قدرة الحكومة على حل هذه القضايا.  

وفي تموز 2024، تظاهر العشرات في قرى الديوانية احتجاجاً على انقطاع التيار الكهربائي والجفاف وانخفاض تدفق مياه الأنهار. وفي أيار 2025، انطلقت تظاهرات في النجف والديوانية بسبب انقطاع التيار الكهربائي إثر تراجع إمدادات الغاز الإيراني، فضلاً عن تظاهرات في ناحية شلّال في المشخاب لحل مشكلة الجفاف.  

تظاهرات المطالب الخاصة والنفعية 

علاوة على ذلك، ومع ارتفاع نسب البطالة، تشهد بغداد والعديد من المدن العراقية بين الفينة والأخرى تظاهرات نفعية يطالب فيها خرّيجو الجامعات والمعاهد بالتعيين، فيما يطالب موظفون بالتثبيت وزيادة الرواتب، كما يشمل هذا النوع من التظاهرات المطالبة بتوزيع قطع أراضٍ أو منع رفع التجاوزات. 

مؤخراً فقط، تظاهر عددٌ من موظفي الدولة في عدة محافظات عراقية، في أيار 2023، مطالبين بتعديل سلّم الرواتب قبل إقرار الموازنة، وفي تشرين الأول، تظاهر خريجو المهن الطبية دفعة 2023 أمام وزارة الصحة ببغداد مطالبين بالتعيين. في أيلول 2024، تظاهر مئات المتعاقدين مع وزارة التربية لعام 2020 في بغداد مطالبين بتثبيتهم على الملاك الدائم. وفي أيار 2025، تظاهر آخرون في بغداد للمطالبة بتحسين رواتب المتقاعدين وتحديد الحد الأدنى بـ 800 ألف دينار عراقي. وفي كانون الثاني 2023، تظاهر المئات أمام البنك المركزي ببغداد احتجاجاً على ارتفاع سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار.  

وتشمل هذه الاحتجاجات تظاهرات الموظفين ضد مديريهم بسبب سوء الإدارة والتعامل أو بدوافع سياسية في بعض الحالات، كما يمكن إدراج الاحتجاجات القبَلية التي تحاول الانتفاع من مشاريع تُقام في مناطقها في هذا النوع من التظاهرات. وبالطبع، تشمل تظاهرات الموظفين في إقليم كردستان للمطالبة بدفع الرواتب التي تتوقّف كل فترة بسبب الخلافات السياسية مع حكومة المركز. 

تظاهرات التيارات النسوية والمحافظة 

منذ سقوط النظام، برزت محاولات الأحزاب الشيعية لتغيير قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 واستبداله بقوانين شخصية تستند إلى القانون الجعفري. وقد أوقف الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر قرار مجلس الحكم الانتقالي بإلغاء القانون في كانون الأول 2003، وفي تموز 2024، انطلقت تظاهرات نسوية رفضاً لتعديل قانون الأحوال الشخصية بعبارات “كلا لتزويج القاصرات” و”عصر الجواري ولّى”، وفي أيلول، انطلقت تظاهرات مؤيدة لتعديل قانون الأحوال الشخصية في بغداد. مع ذلك تكرّر الموضوع مع كل دورة انتخابية، برعاية حزب الفضيلة وغيره، حيث تنطلق تظاهرات نسوية ضد القانون الجعفري تقابلها تظاهرات من التيارات المحافظة بذريعة حق الحضانة للآباء، حتّى أُقِرَّ القانون مؤخراً في صفقة مثيرة للجدل مطلع عام 2025.  

تظاهرات لإنصاف الضحايا 

وفي أعقاب الكوارث الكبرى، كالحرائق والغرق والتفجيرات، يشهد العراق تظاهرات للمطالبة بإنصاف الضحايا، ومن بينها تظاهرات ذوي ضحايا مجزرة سبايكر، حيث تظاهروا في تكريت قادمين من الجنوب، بينما تظاهر الصدريّون لتحميل نوري المالكي مسؤولية ذلك في عام 2017. ومن تلك التظاهرات أيضاً تظاهرات ذوي ضحايا حريق عرس الحمدانية في نينوى في 2023، وذوي ضحايا حريق هايبرماركت الكوت في تموز 2025.   

وفي ذكرى ثورة تشرين في 2020، خرج الآلاف للمطالبة بمحاسبة المتورطين في قتل المتظاهرين، إلى جانب المطالبة بتحسين الخدمات ومكافحة البطالة والفساد، وتكرّر الأمر في الذكرى السنوية للتظاهرات في الأعوام الأربعة التالية.  

احتجاجات الفدرلة والمطالبة بالنمو والانفصال 

بينما أقرّ الدستور العراقي لعام 2005 مبدأ الفدرالية بوصفه حلاً وسطاً بين رافضيها والأكراد الذين طالبوا بالكونفدرالية، نشهد تحوّلاً جذرياً في مواقف العراقيين، ساسة وجماهير، فبينما دعا عبد العزيز الحكيم لفيدرالية شيعية في جنوب العراق عام 2005، كان العرب السُنة من أشد الرافضين للأمر بدعوى الحفاظ على وحدة العراق والهوية الوطنية العراقية، ورفضوا لذلك مادة الأراضي المتنازع عليها في الدستور. في آب 2005، تظاهر الآلاف في إقليم كردستان العراق وكركوك مطالبين بإقرار حق تقرير المصير والانفصال في الدستور والتأكيد على كردستانية كركوك، لكن العشائر العربية ردت بتظاهرات في كركوك لرفض مبدأ الفدرالية أو الإساءة لحزب البعث.  

ومع تغيّر الوضع السياسي وفقدان السُنة أملهم في استعادة حكم العراق بأكمله، تغيّر الخطاب وأضحى الشيعة من أشد المعارضين لمبدأ الفيدرالية، وسعوا لتقويض سلطات إقليم كردستان نفسه، فيما أصبح الإقليم السُني حلم شرائح واسعة من أبناء محافظات وسط العراق وشماله غربه.  

تعاظمت مطالب الأكراد في الانفصال في أعقاب سيطرتهم على جميع المناطق المتنازع عليها في سهل نينوى وكركوك في فترة الحرب مع تنظيم داعش، لكن إفشال الاستفتاء في أيلول 2017 أنهى تلك السيطرة، وعادت الاشتباكات تتجدّد في كركوك على وجه الخصوص. في أيلول 2023، وقعت مصادمات بين تظاهرات للأكراد من جهة والعرب والتركمان من جهة أخرى في كركوك، على خلفية معلومات مفادها أن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، أمر بتسليم المقر العام لقوات الأمن العراقية للحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي سبق أن شغله.  

ومع التغيّرات الإقليمية وتراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، تتعالى اليوم أصوات شيعية جديدة لتأسيس إقليم شيعي، مع تواصل رفض مطالب الآخرين بتأسيس إقليم سُني، فيما قدّم الأكراد بعض التنازلات للمركز بخصوص نفط الإقليم لقاء دفع رواتب الموظفين. 

التظاهرات السياسية 

ليست كلّ التظاهرات التي ورد ذكرها خالية من العنصر السياسي، بل إن بعضها، وإن بدا بعيداً عن السياسة ومركّزاً على الخدمات أو المطالب، إلّا إنها تحرّكت أو تغذّت على دافع سياسي وهدفت لتحقيق مكسب سياسي مباشر أو غير مباشر، لكن هنالك تظاهرات من نوع آخر، سياسية بحتة وفي قلب العمل السياسي، حيث شهد العراق أيضاً تظاهرات عديدة من التيّار الصدري والإطار التنسيقي والعرب السُنة ضد نتائج الانتخابات في مناسبات متفرّقة، كما شهد العراق، بما في ذلك إقليم كردستان، تظاهرات ضد امتيازات الساسة وأعضاء البرلمان واحتجاجات ضد الفساد المستشري.  

في كانون الأول 2005، تظاهر أنصار جبهة التوافق السُنية في منطقة اليرموك ببغداد وسامراء وتكريت بمحافظة صلاح الدين احتجاجاً على النتائج الجزئية للانتخابات. وفي نيسان 2011، تظاهر آلاف العراقيين السُنة في بغداد والموصل والرمادي وتكريت مطالبين بخروج القوات الأمريكية، وإسقاط حكومة نوري المالكي، وإطلاق سراح المعتقلين، والتصدّي لما وصفوه بالاحتلال الإيراني.  

في تشرين الأول 2013، تظاهر آلاف العراقيون في 13 محافظة عراقية، منها العاصمة بغداد، رفضاً لامتيازات أعضاء البرلمان، بما في ذلك حقوق التقاعد، مطالبين بإلغائها، رافعين هتافات “نفط الشعب للشعب، مو للحرامية”. وفي كانون الأول 2017، تظاهر الآلاف في أربع مدن بإقليم كردستان مطالبين باستقالة الحكومة ومحاربة الفساد وتحسين الوضع الاقتصادي ودفع الرواتب.  

وفي كانون الأول 2021، تظاهر مؤيدو الفصائل الشيعية المرتبطة بالحشد الشعبي عند بوابة المنطقة الخضراء مطالبين بإعادة النظر في نتائج الانتخابات والاحتجاج على مصادقة المحكمة الاتحادية العليا عليها.  

وفي أيلول 2024، تظاهر الآلاف محاولين اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد احتجاجاً على اغتيال إسرائيل للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في بيروت. وفي تشرين الأول 2024، شهدت مدينة الناصرية تظاهرات ركّزت على إقالة قائد الشرطة في المدينة والإفراج عن ناشطين معتقلين.  

هل يلوح شبح التظاهرات في الأفق؟  

من الواضح أن لتظاهر العراقيين أسباباً ومحرّكات عدّة، وبينما يتّسم بعضها بالعفوية، فإن الكثير منها تحرّكه تيارات سياسية أو مطالب مناطقية، ولا يخفى دور الأطراف الخارجية في دعم هذه التظاهرات بعد انطلاقها أو إثارتها عبر الإعلام واللعب على وتر مشروعية المطالب. 

ومع تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، وتزايد ضغوط إدارة الرئيس الأمريكي ترامب على الفصائل العراقية المرتبطة بإيران والمطالبة بحلّها، ومع تزايد موجة الحر والجفاف وورود مشاكل بخصوص السيولة المالية وتأمين الرواتب بين فترة وأخرى، قد يكون صيف العراق أشد سخونة مع موجات تظاهرات جديدة.  

اقرأ أيضاً

العراق وأميركا.. علاقة بلدين “مكبّلة” بالشكوك والهواجس وعدم الثقة 

ولأن السياقَين، الإقليمي والدولي، يختلفان هذه المرّة عن كلّ ما عاشته المنطقة خلال العقدين الماضيين، وبسبب الحساسية المفرطة التي يعيشها العراق ومحيطه، والتحوّل الكبير الذي يمرّ به الشرق الأوسط، فإن أيّة تظاهرات جديدة مرشّحة لتكون “أكثر من مجرّد تظاهرات”، ومن الممكن أن تتحوّل إلى تهديد وجودي للنظام والأمن العام، ما يفرض على السلطات التحلّيَ بمرونة أكبر، وتجنّب مواجهة الاحتجاجات بالبطش والشيطنة، ومحاولة الإصغاء إلى مطالب المتظاهرين وتقديم التنازلات، والعمل على توفير الخدمات لامتصاص غضب المواطنين من جهة، وتحقيق التنمية التي تشتد الحاجة إليها في العراق في ظل منطقة متغيّرة وظروف شديدة الحسّاسية من أخرى.  

لكنْ، يبدو أن القوى السياسية ممثلةً بالبرلمان لم تعِ حساسية المرحلة، حيث عاد مؤخراً مشروع حريّة التعبير الذي تتضمن فقراته نصوصاً تتعارض مع مبدأ حرية التعبير المنصوص عليه في الدستور إلى الواجهة، وظهر في جدول أعمال إحدى جلسات المجلس قبل سحبه مرّة أخرى. يمثل هذا القانون خرقاً للحقوق التي كفلها الدستور، وهو خطوة أو أكثر إلى الوراء في مسيرة “الديمقراطية” في العراق، وربما يكون الخاتمة لعقدين من تاريخ تظاهريّ حافل في العراق الجديد، أو سبباً في تجدّده، بالإضافة إلى الأسباب التي لا تنتهي للاحتجاج والتظاهر في العراق. 

  • تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.