النفط والأرض والسلاح: صراع العشائر والسلطة في كردستان..
20 تموز 2025
كيف تحوّل الصراع بين عشيرتَين في كردستان إلى معركة مسلّحة تورّطت فيها قوات حزبية؟ مقال يسلّط الضوء على النفوذ المتجذّر للعشائر في الإقليم، ودورها المعيق في بناء دولة مدنية في كل العراق..
في الثالث من تموز اندلعت اشتباكات مسلّحة بين عشيرتَي الگوران والهركي بسبب أرضٍ متنازَعٍ عليها، بالقرب من خبات -نحو 30 كيلومتراً شمال غربي أربيل- حيث تُعد ذات قيمة عالية، نظراً لقربها من خط أنابيب تصدير النفط في إقليم كردستان. لاحقاً، تسرّبت أخبار عن مطالبة الحزب الديمقراطي الكردستاني بتسليم خورشيد هركي، زعيم العشيرة، وقد رُفض الطلب، تبع ذلك اشتباك مقاتِلي العشائر مع أفرادٍ من وحدة الزيرفاني النخبوية التابعة للحزب مساء الثامن من تموز.
أسفرت الاشتباكات عن مقتل أحد أفراد قوات أمن الحزب الديمقراطي الكردستاني ومقاتلٍ عشائري في أعمال العنف، بالإضافة إلى أضرار مادية. ولم يتوقف القتال، حتى صباح اليوم التالي، بعد أن التقى خورشيد هركي بممثل عن رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني.
هدأت البنادق وتوقّف الرصاص، لكن لم تهدأ الدهشة التي أثارتها الحادثة في نفوس المتابعين، حيث انشغل المجتمع الكردي في الإقليم بأحداث المعركة، وتناقلوا صورها وأخبارها، إلى الحد الذي تراجع فيه الانشغال بتأخر الرواتب والتحديات الاقتصادية التي تواجهها العوائل، وتلاشت أخبار مفاوضات تشكيل حكومة الإقليم الجديدة وأخبار الصراعات السياسية، كما أن بقية المدن العراقية بقيت عالقة عند سؤالها الأول عند اندلاع الاشتباكات، “هل هنالك عشائر وسلاح في كردستان؟”.

يتبين ممّا حدث، أن هنالك فجوة مجتمعية بين المجتمع الكردي والمجتمعات العراقية الأخرى، فلا يعرف أحد أحوال حياة الآخر وطبيعتها، وكذلك مدى ولاء أفراد العشيرة في الإقليم للعشيرة على حساب ولائها للحكومة والأجهزة الأمنية، كما ترسّخ هذه الحادثة حقيقة مهمة، وهي أن للعشائر قوة يمكن أن تنفجر في أيّ لحظة.
الرسوخ العشائري
تعدُّ العشيرة، بوصفها مؤسسة اجتماعية تقليدية، تحدياً حقيقياً أمام بناء المجتمع المدني الحديث، خاصة في المناطق التي تحتفظ بهياكلها القبلية التقليدية. وفي السياق الكردي تحديداً، تبرز هذه الإشكالية بوضوح أكبر، نظراً للطبيعة التاريخية والجغرافية المميزة لكردستان، حيث تتجذر العشيرة في النسيج الاجتماعي والسياسي تجذراً عميقاً يجعل تجاوزها أو تهميشها أكثر صعوبة.
العشيرة وحدة اجتماعية وسياسية واقتصادية تقوم على النَسب وقرابة الدم، سواء كانت حقيقية أو مفترضة، وتتميز ببنية داخلية هرمية محددة تضمن التماسك والولاء الجماعي، وتُعد النواة الأساسية للتنظيم الاجتماعي التقليدي، حيث تؤدي وظائف حيوية متعددة، تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد تؤدي أدواراً سياسية واقتصادية، منها تمثيل المصالح الجماعية أمام السلطات الخارجية، وإدارة الصراعات والنزاعات الداخلية، وتوفير القيادة السياسية والعسكرية، وتنظيم التحالفات مع العشائر الأخرى، والسيطرة على الموارد الاقتصادية والأراضي.
ساهمت عوامل متعددة في ترسيخ النظام العشائري في كردستان، منها الطبيعة الجغرافية الوعرة لكردستان، حيث وفرت حمايةً طبيعيةً للعشائر، مما مكّنها من الاحتفاظ بالاستقلالية والحكم الذاتي. كذلك اعتماد المجتمع الكردي على الرعي والزراعة المحدودة لعهود طويلة، فقد عزز من أهمية السيطرة على الأراضي والمراعي ومصادر المياه، كما أن النزاعات المستمرة حول المراعي ومصادر المياه قوّت من العصبية القبلية وضرورة التماسك الجماعي. وكان للتنوع اللغوي، وعدم وجود لغة موحدة، وتعدد اللهجات المحلية التي قد تُصعِّب التفاهم بين المجموعات المختلفة، ووجود طوائف دينية متنوعة (الإسلام السني والشيعي، الأيزيدية، الزرادشتية) دورٌ في خلق انقسامات إضافية. كما أن غياب السلطة المركزية، وعدم قيام سلطة مركزية كردية قوية تبسط سيطرتها على كامل أراضي الإقليم، وبقاء الإقليم مسرحاً للصراعات بين القوى الإقليمية، ساهم في تكريس مؤسسة العشيرة وبقاء نفوذها القوي والصلب.
تستند البنية الاجتماعية التقليدية في كردستان إلى ثلاث ركائز أساسية:
- الآغا (القيادة العشائرية): يمثل السلطة الاقتصادية والاجتماعية، ويسيطر على الأراضي الزراعية والموارد الاقتصادية، ويضطلع بحل النزاعات، وتنظيم الحياة الاجتماعية، ويحتفظ بالسلطة الفعلية على أفراد العشيرة.
- الشيخ (السلطة الدينية): يمثل السلطة الروحية والدينية، ويتولى إدارة الطرق الصوفية والممارسات الدينية، ويؤثر في الحياة الاجتماعية والثقافية، ويشرف على التعليم والإرشاد الديني، حيث كانت “التكية“ مركز نفوذه الاجتماعي.
- الدولة (السلطة السياسية): تمثل السلطة المركزية الخارجية، حيث كان “الباشا” يجسد هذه السلطة في العهد العثماني، ويمثل النفوذ السياسي والإداري الخارجي، ثم صارت سلطة الإقليم الحليفة أو سلطة المركز.
مع تطور النظم الحديثة، لم تختفِ البنية العشائرية بل تكيّفت مع المستجدات، فالأحزاب الكردية الحديثة تجمع بين خصائص “الآغا” (القوة الاقتصادية) و”الشيخ” (الشرعية الروحية) في مواجهة “الدولة” (السلطة المركزية)، أو في أداء دورها في الإقليم، وتحولت العشائر إلى أحزاب سياسية تحتفظ بالبنية التقليدية تحت غطاء المؤسسات الحديثة.
في إقليم كردستان العراق، تكمن قوة العشائر في تملُّك أراضٍ زراعية واسعة تعد مصدر قوة اقتصادية، وفي السيطرة على المنافذ التجارية وطرق التهريب، وفي عقد علاقات مع الدول المجاورة. كما تكمن قوتها الاجتماعية في العصبية القبلية، حيث تضمن لها التماسك الاجتماعي والولاء المطلق. كما أن شبكة العلاقات التي تعقِدها العشائر فيما بينها تعزز من القوة الجماعية.
كذلك تتمتع العشيرة بقوة عسكرية لا يستهان بها، فلديها القدرة على تجنيد المقاتلين، وهي تحتفظ بأسلحة متنوعة مستفيدة أحياناً كثيرة من التضاريس الوعرة للدفاع عن نفسها والتمتع باستقلالية نسبية.
جذور الأزمة
تساهم عمليات تحويل الأراضي الزراعية إلى قطع سكنية باستمرار في تفاقم المشاكل بين العشائر والعوائل، حيث تفقد المنطقة رئتها الخضراء، وتزداد حدّة المضاربات العقارية. هذا التحويل العشوائي يدمر البيئة الزراعية، ويخل بالتوازن البيئي، كما يزيد من حدة النزاعات حول ملكية الأراضي. كما أن إنتاج النفط ساهم في تفاقم النزاعات والصراعات حتى بين سلطات الإقليم وبعض العشائر، حيث ترفض بيع أرضها التي اكتُشف في باطنها النفط، أو تطالب بتعويضات مالية كبيرة. كلّ ذلك رفع، على نحو جنوني، أسعارَ الأراضي، حيث بلغت أحياناً مستويات خيالية تضاهي، بل تفوق أحياناً، أسعار الأراضي في دول متقدمة ذات اقتصاد قوي. هذا الارتفاع غير المبرر يعكس خللاً جوهرياً في السوق العقاري وغياباً للرقابة الحكومية الفعالة.

القيمة المرتفعة للأراضي جعلت الناس يتنبهون انتباهاً شديداً إلى أهمية الأراضي، مما دفعهم إلى تسييج مساحات واسعة من الأراضي العامة والخاصة تسييجاً عشوائياً، ما أدّى إلى تقييد حرية الحركة والتنقل، وجعل من الصعب على الأُسر إيجاد أماكن مناسبة للترفيه والاستجمام خلال فصل الربيع.
يُعد غياب القانون وضعف آليات الإنفاذ من أهم أسباب تفاقم أزمة النزاعات العقارية، فبدلاً من وجود نظام قضائي فعّال يحسم النزاعات حسماً عادلاً وسريعاً، نجد أن القضايا تتراكم دون حلول جذرية.
كما يساهم غياب التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة في تعقيد المشكلة، حيث تتضارب القرارات والتوجيهات، مما يخلق حالة من البلبلة والفوضى.
تعدّ النزاعات القبلية تهديداً حقيقياً للنسيج الاجتماعي في المنطقة، حيث تؤدي إلى تفكك العلاقات الاجتماعية التقليدية، وتزيد من حدة التوترات بين العشائر، هذه التوترات قد تتطور إلى صراعات دموية تهدد الأمن والاستقرار.
كما تعد مسألة عدم توحيد قوى البيشمركة من أخطر التحديات التي تواجه الأمن في إقليم كردستان، فرغم الضغوط الأمريكية والغربية المستمرة منذ سنوات لتوحيد هذه القوى تحت مظلة واحدة، إلّا أن الأحزاب المتنفذة تصر على إبقاء هذه القوى تحت سيطرتها المباشرة.

هذا التشرذم في القوى الأمنية يخلق حالة من التنافس والتضارب في الولاءات، مما يضعف فعالية الجهاز الأمني في التعامل مع تحدياتٍ مثل النزاعات العشائرية، فبدلاً من وجود قوة أمنية موحدة تطبِّق القانون بحزم وعدالة، نجد تدخلات متضاربة تخدم مصالح حزبية ضيقة، مما يؤدي إلى تفاقم النزاعات وزيادة حدة التوترات.
كما أن انفلات السلاح وبقاءه بيد الأفراد والعشائر يعدّ عاملاً مدمراً يزيد من خطورة النزاعات، فعندما تتوفر الأسلحة بسهولة في أيدي المتنازعين، تتحول النزاعات المدنية البسيطة إلى مواجهات مسلحة قد تؤدي إلى سقوط ضحايا.
هذا الانفلات في السلاح ليس مشكلة أمنية فحسب، بل هو انعكاس لضعف سيطرة الدولة على أدوات العنف، مما يشجع على حل النزاعات بالقوة بدلاً من اللجوء إلى القضاء. كما أن وجود السلاح بكثرة في المجتمع يخلق حالة من الرعب والخوف، ويجعل أي خلاف عادي مهدداً بالتصعيد إلى مواجهة مسلحة.
في سبيل مجتمع آمن
يتطلب حل هذه الأزمة الخطيرة إصلاحاً شاملاً للنظام القانوني والأمني، بما يضمن تطوير قوانين واضحة ومحددة للتعامل مع النزاعات، وتسريع إجراءات التقاضي، وتعزيز استقلالية القضاء.
كما يجب الإسراع في توحيد قوى البيشمركة تحت قيادة واحدة مهنية بعيداً عن التجاذبات الحزبية، والعمل على نزع السلاح من الأفراد والعشائر، وحصر حمله بالقوات الأمنية الرسمية، هذا الإصلاح الأمني ضروري لضمان تطبيق القانون بعدالة وحزم.

تعدّ العشيرة بوصفها مؤسسة اجتماعية خطراً دائماً على المؤسسات والنظم الحديثة، ولا تتماشى مع الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والمساواة أمام القانون، سواء تعلق الأمر بكردستان أم بالعراق، عموما فإن مؤسسة العشيرة لن يكون لها دور في البناء، لذا كان من الحيوي أن تقوم السلطات، بمنهجية علمية وهادئة وطويلة الأمد، بإضعاف هذه المؤسسة، من خلال إشاعة روح المواطنة، والوعي الحديث، والقيام بإجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية، واجراء تداخل ديموغرافي، من خلال زج المناطق ذات القومية الواحدة والدين الواحد والعشيرة الواحدة في اختبارات الاختلاط، كي تعتاد على رؤية الاختلاف.
- تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
الحياة مع أفعى.. وصايا السيد دخيل للنجاة من الموت
13 نوفمبر 2025
صوتٌ بلا إرادة: كيف تتحكم العائلة والعشيرة بخيارات النساء الانتخابية؟
08 نوفمبر 2025
قواعد اللعبة القديمة ليست كافية: خريطة بالتحالفات الانتخابية قبل الاقتراع
07 نوفمبر 2025
من بريمر إلى السوداني.. "خلطة الفياض" السحرية للبقاء في المنصب
06 نوفمبر 2025
في الثالث من تموز اندلعت اشتباكات مسلّحة بين عشيرتَي الگوران والهركي بسبب أرضٍ متنازَعٍ عليها، بالقرب من خبات -نحو 30 كيلومتراً شمال غربي أربيل- حيث تُعد ذات قيمة عالية، نظراً لقربها من خط أنابيب تصدير النفط في إقليم كردستان. لاحقاً، تسرّبت أخبار عن مطالبة الحزب الديمقراطي الكردستاني بتسليم خورشيد هركي، زعيم العشيرة، وقد رُفض الطلب، تبع ذلك اشتباك مقاتِلي العشائر مع أفرادٍ من وحدة الزيرفاني النخبوية التابعة للحزب مساء الثامن من تموز.
أسفرت الاشتباكات عن مقتل أحد أفراد قوات أمن الحزب الديمقراطي الكردستاني ومقاتلٍ عشائري في أعمال العنف، بالإضافة إلى أضرار مادية. ولم يتوقف القتال، حتى صباح اليوم التالي، بعد أن التقى خورشيد هركي بممثل عن رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني.
هدأت البنادق وتوقّف الرصاص، لكن لم تهدأ الدهشة التي أثارتها الحادثة في نفوس المتابعين، حيث انشغل المجتمع الكردي في الإقليم بأحداث المعركة، وتناقلوا صورها وأخبارها، إلى الحد الذي تراجع فيه الانشغال بتأخر الرواتب والتحديات الاقتصادية التي تواجهها العوائل، وتلاشت أخبار مفاوضات تشكيل حكومة الإقليم الجديدة وأخبار الصراعات السياسية، كما أن بقية المدن العراقية بقيت عالقة عند سؤالها الأول عند اندلاع الاشتباكات، “هل هنالك عشائر وسلاح في كردستان؟”.

يتبين ممّا حدث، أن هنالك فجوة مجتمعية بين المجتمع الكردي والمجتمعات العراقية الأخرى، فلا يعرف أحد أحوال حياة الآخر وطبيعتها، وكذلك مدى ولاء أفراد العشيرة في الإقليم للعشيرة على حساب ولائها للحكومة والأجهزة الأمنية، كما ترسّخ هذه الحادثة حقيقة مهمة، وهي أن للعشائر قوة يمكن أن تنفجر في أيّ لحظة.
الرسوخ العشائري
تعدُّ العشيرة، بوصفها مؤسسة اجتماعية تقليدية، تحدياً حقيقياً أمام بناء المجتمع المدني الحديث، خاصة في المناطق التي تحتفظ بهياكلها القبلية التقليدية. وفي السياق الكردي تحديداً، تبرز هذه الإشكالية بوضوح أكبر، نظراً للطبيعة التاريخية والجغرافية المميزة لكردستان، حيث تتجذر العشيرة في النسيج الاجتماعي والسياسي تجذراً عميقاً يجعل تجاوزها أو تهميشها أكثر صعوبة.
العشيرة وحدة اجتماعية وسياسية واقتصادية تقوم على النَسب وقرابة الدم، سواء كانت حقيقية أو مفترضة، وتتميز ببنية داخلية هرمية محددة تضمن التماسك والولاء الجماعي، وتُعد النواة الأساسية للتنظيم الاجتماعي التقليدي، حيث تؤدي وظائف حيوية متعددة، تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقد تؤدي أدواراً سياسية واقتصادية، منها تمثيل المصالح الجماعية أمام السلطات الخارجية، وإدارة الصراعات والنزاعات الداخلية، وتوفير القيادة السياسية والعسكرية، وتنظيم التحالفات مع العشائر الأخرى، والسيطرة على الموارد الاقتصادية والأراضي.
ساهمت عوامل متعددة في ترسيخ النظام العشائري في كردستان، منها الطبيعة الجغرافية الوعرة لكردستان، حيث وفرت حمايةً طبيعيةً للعشائر، مما مكّنها من الاحتفاظ بالاستقلالية والحكم الذاتي. كذلك اعتماد المجتمع الكردي على الرعي والزراعة المحدودة لعهود طويلة، فقد عزز من أهمية السيطرة على الأراضي والمراعي ومصادر المياه، كما أن النزاعات المستمرة حول المراعي ومصادر المياه قوّت من العصبية القبلية وضرورة التماسك الجماعي. وكان للتنوع اللغوي، وعدم وجود لغة موحدة، وتعدد اللهجات المحلية التي قد تُصعِّب التفاهم بين المجموعات المختلفة، ووجود طوائف دينية متنوعة (الإسلام السني والشيعي، الأيزيدية، الزرادشتية) دورٌ في خلق انقسامات إضافية. كما أن غياب السلطة المركزية، وعدم قيام سلطة مركزية كردية قوية تبسط سيطرتها على كامل أراضي الإقليم، وبقاء الإقليم مسرحاً للصراعات بين القوى الإقليمية، ساهم في تكريس مؤسسة العشيرة وبقاء نفوذها القوي والصلب.
تستند البنية الاجتماعية التقليدية في كردستان إلى ثلاث ركائز أساسية:
- الآغا (القيادة العشائرية): يمثل السلطة الاقتصادية والاجتماعية، ويسيطر على الأراضي الزراعية والموارد الاقتصادية، ويضطلع بحل النزاعات، وتنظيم الحياة الاجتماعية، ويحتفظ بالسلطة الفعلية على أفراد العشيرة.
- الشيخ (السلطة الدينية): يمثل السلطة الروحية والدينية، ويتولى إدارة الطرق الصوفية والممارسات الدينية، ويؤثر في الحياة الاجتماعية والثقافية، ويشرف على التعليم والإرشاد الديني، حيث كانت “التكية“ مركز نفوذه الاجتماعي.
- الدولة (السلطة السياسية): تمثل السلطة المركزية الخارجية، حيث كان “الباشا” يجسد هذه السلطة في العهد العثماني، ويمثل النفوذ السياسي والإداري الخارجي، ثم صارت سلطة الإقليم الحليفة أو سلطة المركز.
مع تطور النظم الحديثة، لم تختفِ البنية العشائرية بل تكيّفت مع المستجدات، فالأحزاب الكردية الحديثة تجمع بين خصائص “الآغا” (القوة الاقتصادية) و”الشيخ” (الشرعية الروحية) في مواجهة “الدولة” (السلطة المركزية)، أو في أداء دورها في الإقليم، وتحولت العشائر إلى أحزاب سياسية تحتفظ بالبنية التقليدية تحت غطاء المؤسسات الحديثة.
في إقليم كردستان العراق، تكمن قوة العشائر في تملُّك أراضٍ زراعية واسعة تعد مصدر قوة اقتصادية، وفي السيطرة على المنافذ التجارية وطرق التهريب، وفي عقد علاقات مع الدول المجاورة. كما تكمن قوتها الاجتماعية في العصبية القبلية، حيث تضمن لها التماسك الاجتماعي والولاء المطلق. كما أن شبكة العلاقات التي تعقِدها العشائر فيما بينها تعزز من القوة الجماعية.
كذلك تتمتع العشيرة بقوة عسكرية لا يستهان بها، فلديها القدرة على تجنيد المقاتلين، وهي تحتفظ بأسلحة متنوعة مستفيدة أحياناً كثيرة من التضاريس الوعرة للدفاع عن نفسها والتمتع باستقلالية نسبية.
جذور الأزمة
تساهم عمليات تحويل الأراضي الزراعية إلى قطع سكنية باستمرار في تفاقم المشاكل بين العشائر والعوائل، حيث تفقد المنطقة رئتها الخضراء، وتزداد حدّة المضاربات العقارية. هذا التحويل العشوائي يدمر البيئة الزراعية، ويخل بالتوازن البيئي، كما يزيد من حدة النزاعات حول ملكية الأراضي. كما أن إنتاج النفط ساهم في تفاقم النزاعات والصراعات حتى بين سلطات الإقليم وبعض العشائر، حيث ترفض بيع أرضها التي اكتُشف في باطنها النفط، أو تطالب بتعويضات مالية كبيرة. كلّ ذلك رفع، على نحو جنوني، أسعارَ الأراضي، حيث بلغت أحياناً مستويات خيالية تضاهي، بل تفوق أحياناً، أسعار الأراضي في دول متقدمة ذات اقتصاد قوي. هذا الارتفاع غير المبرر يعكس خللاً جوهرياً في السوق العقاري وغياباً للرقابة الحكومية الفعالة.

القيمة المرتفعة للأراضي جعلت الناس يتنبهون انتباهاً شديداً إلى أهمية الأراضي، مما دفعهم إلى تسييج مساحات واسعة من الأراضي العامة والخاصة تسييجاً عشوائياً، ما أدّى إلى تقييد حرية الحركة والتنقل، وجعل من الصعب على الأُسر إيجاد أماكن مناسبة للترفيه والاستجمام خلال فصل الربيع.
يُعد غياب القانون وضعف آليات الإنفاذ من أهم أسباب تفاقم أزمة النزاعات العقارية، فبدلاً من وجود نظام قضائي فعّال يحسم النزاعات حسماً عادلاً وسريعاً، نجد أن القضايا تتراكم دون حلول جذرية.
كما يساهم غياب التنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة في تعقيد المشكلة، حيث تتضارب القرارات والتوجيهات، مما يخلق حالة من البلبلة والفوضى.
تعدّ النزاعات القبلية تهديداً حقيقياً للنسيج الاجتماعي في المنطقة، حيث تؤدي إلى تفكك العلاقات الاجتماعية التقليدية، وتزيد من حدة التوترات بين العشائر، هذه التوترات قد تتطور إلى صراعات دموية تهدد الأمن والاستقرار.
كما تعد مسألة عدم توحيد قوى البيشمركة من أخطر التحديات التي تواجه الأمن في إقليم كردستان، فرغم الضغوط الأمريكية والغربية المستمرة منذ سنوات لتوحيد هذه القوى تحت مظلة واحدة، إلّا أن الأحزاب المتنفذة تصر على إبقاء هذه القوى تحت سيطرتها المباشرة.

هذا التشرذم في القوى الأمنية يخلق حالة من التنافس والتضارب في الولاءات، مما يضعف فعالية الجهاز الأمني في التعامل مع تحدياتٍ مثل النزاعات العشائرية، فبدلاً من وجود قوة أمنية موحدة تطبِّق القانون بحزم وعدالة، نجد تدخلات متضاربة تخدم مصالح حزبية ضيقة، مما يؤدي إلى تفاقم النزاعات وزيادة حدة التوترات.
كما أن انفلات السلاح وبقاءه بيد الأفراد والعشائر يعدّ عاملاً مدمراً يزيد من خطورة النزاعات، فعندما تتوفر الأسلحة بسهولة في أيدي المتنازعين، تتحول النزاعات المدنية البسيطة إلى مواجهات مسلحة قد تؤدي إلى سقوط ضحايا.
هذا الانفلات في السلاح ليس مشكلة أمنية فحسب، بل هو انعكاس لضعف سيطرة الدولة على أدوات العنف، مما يشجع على حل النزاعات بالقوة بدلاً من اللجوء إلى القضاء. كما أن وجود السلاح بكثرة في المجتمع يخلق حالة من الرعب والخوف، ويجعل أي خلاف عادي مهدداً بالتصعيد إلى مواجهة مسلحة.
في سبيل مجتمع آمن
يتطلب حل هذه الأزمة الخطيرة إصلاحاً شاملاً للنظام القانوني والأمني، بما يضمن تطوير قوانين واضحة ومحددة للتعامل مع النزاعات، وتسريع إجراءات التقاضي، وتعزيز استقلالية القضاء.
كما يجب الإسراع في توحيد قوى البيشمركة تحت قيادة واحدة مهنية بعيداً عن التجاذبات الحزبية، والعمل على نزع السلاح من الأفراد والعشائر، وحصر حمله بالقوات الأمنية الرسمية، هذا الإصلاح الأمني ضروري لضمان تطبيق القانون بعدالة وحزم.

تعدّ العشيرة بوصفها مؤسسة اجتماعية خطراً دائماً على المؤسسات والنظم الحديثة، ولا تتماشى مع الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والمساواة أمام القانون، سواء تعلق الأمر بكردستان أم بالعراق، عموما فإن مؤسسة العشيرة لن يكون لها دور في البناء، لذا كان من الحيوي أن تقوم السلطات، بمنهجية علمية وهادئة وطويلة الأمد، بإضعاف هذه المؤسسة، من خلال إشاعة روح المواطنة، والوعي الحديث، والقيام بإجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية، واجراء تداخل ديموغرافي، من خلال زج المناطق ذات القومية الواحدة والدين الواحد والعشيرة الواحدة في اختبارات الاختلاط، كي تعتاد على رؤية الاختلاف.
- تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.