"معضلة السيادة".. لماذا يعجز العراق عن حماية أجوائه؟
10 تموز 2025
في كل حرب جديدة بالمنطقة، تكشف الطائرات والصواريخ الذاهبة والآيبة في السماء العراقية هشاشة السيادة. عقود تسليح مُعطّلة، وفساد مُتراكم، وتحفّظات أمريكية لا تسمح لبغداد ببناء جيشٍ قادرٍ على حماية أجوائها، فهل يستطيع العراق، وسط هذه التناقضات، أن يحمي سيادته؟
أفرزت مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، تحولاً كبيراً في المشهد العسكري العراقي، فنظراً لحرب التدمير الشامل التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، وما نتج عنها من إفقار للقدرات العسكرية العراقية، وحلّ الجيش العراقي، ومن ثم إعادة تشكيل المشهد العسكري في العراق وفق التصوّر الأمريكي الجديد، أصبح العراق يواجه تحديات أمنية كبيرة، خصوصاً في موضوع السيادة الوطنية، وتحقيق الأمن القومي إزاء التهديدات الأمنية المتصاعدة داخلياً وخارجياً.
ورغم محاولة الولايات المتحدة بناء علاقات أمنية وعسكرية جديدة مع العراق، عبر توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين عام 2009، إلّا أن هذه الاتفاقية لم تلبّي كلّ الحاجات الأمنية والعسكرية العراقية، خصوصاً في ظل الاشتراطات المعقدة التي وضعتها الولايات المتحدة على عقود التسليح مع العراق، فضلاً عن الضغوط التي تعرضت لها الولايات المتحدة من دول أخرى، مثل إسرائيل ودول الخليج، والتي ترفض تزويد العراق بأسلحة ذات تأثير كبير في معادلة التوازن والأمن في المنطقة، ما جعل العراق دولة مشلولة أمنياً، ليس في عقود التسليح مع الجانب الأمريكي فحسب، بل حتى في إمكانية استخدام هذه الأسلحة والمعدات.
ومع سعي العراق لإعادة تشكيل العلاقة الأمنية المعقدة مع الجانب الأمريكي، عبر جولات عدة من الحوارات الاستراتيجية، التي بدأت منذ عهد حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلّا أنه لم ينجح في ذلك، فحتى حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، لم تتمكن من إتمام صفقات التسليح الموقعة مع الجانب الأمريكي، بسبب رفض الولايات المتحدة المضي قدماً بها، خشية أن يستحوذ “وكلاء إيران” في العراق على هذه الأسلحة، ويستخدموها ضد القوات الأمريكية في العراق، أو حلفائها في المنطقة.

ولم تكن الولايات المتحدة واشتراطاتها السبب الوحيد في تراجع قوة العراق العسكرية، بل إنّ الفساد المالي أدى دوراً في عدم تمكُّن العراق من الحصول على أسلحة ذات أهمية كبيرة لمنظومة الأمن القومي العراقي، ولعل الفساد الذي أطّر العديد من صفقات الأسلحة، مثل الصفقة التشيكية خلال الولاية الأولى لرئيس الوزراء الأسبق (نوري المالكي)، لا تزال واضحة للعيان، فضلاً عن صفقات عسكرية أخرى مع باكستان وكوريا الجنوبية، تفضح طبيعة الدور الذي لعبه الفساد المالي الإداري في عرقلة تأمين حاجات العراق العسكرية.
ومن الأسباب الأخرى التي فرضت نفسها في سياق المعضلة، عدم وجود تصور واضح لطبيعة العقيدة العسكرية والتسليحية العراقية، والمحاصصة السياسية، ودورها في تشكيل المؤسسة العسكرية، وعدم اعتماد العراق على منظومة تسليحية واحدة، بل نظم متعددة، والأهم من ذلك كله، عدم وجود تكامل وظيفي في عمل القوات العسكرية في العراق، خصوصاً مع تعدد الهياكل العسكرية في البلاد، ما جعل من عملية بناء قوة عسكرية وازنة عمليةً صعبة للغاية، خصوصاً مع تصاعد التهديدات الإقليمية المحيطة بالعراق.
تهديدات متصاعدة وقدرات محدودة
يحتاج العراق إلى استراتيجيةٍ جديدةٍ لبناء قوات عسكرية كبيرة وقوية، لمواجهة التحديات الأمنية النابعة من تهديدات تنظيم “داعش”، ومن عدم حصر السلاح بيد الدولة، ولتأمين حدوده مع سوريا وتركيا وإيران، ولمواجهة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة التي بدأت في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر 2023. ومن ثم فإن المرحلة المقبلة، يمكن أن تشكل مدخلاً لإعادة تقييم العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، وتحديداً بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق، والمتوقع أن يكون ذلك في أيلول 2025، كما هو معلن حتى هذه اللحظة، بحيث تؤدي الولايات المتحدة دوراً حاسماً في إعادة بناء قدراته العسكرية والأمنية التي استُنزفت في الحرب ضد “داعش”، لتكون قادرة على القيام بمهامها الأمنية، فضلاً عن أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء منظومته التسليحية، وإعادة تشغيل العديد من القواعد العسكرية وصيانتها.
وإلى جانب ما تقدم أيضاً، فإن القوات الجوية العراقية لا تزال صغيرة ومحدودة جداً، ورغم أنها تضم بعض الطائرات الأمريكية من طراز F-16، إلّا أنها بدأت للتوّ في تطوير قدرات قتالية جوية حديثة، وما كان للعراق أن يهزم تنظيم “داعش” دون دعم من الطائرات التابعة لقوات التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق.

كما يفتقر العراق لأسلحة دفاع جوي، ومنظومات صواريخ متطورة، ونظام إنذار ومراقبة جوي، وقدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية، كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض توجد اليوم ثلاث قوات عسكرية رئيسة، هي (الجيش العراقي، والحشد الشعبي، والبيشمركة الكردية)، وحتى اللحظة لم تُظهر هذه القوات التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي.
لا شك أن عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية سيصيبها الشلل فيما لو قررت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق دون أن يكون هناك التزام استراتيجي يربط علاقاتها بالعراق؛ فعملية الانسحاب الأمريكي من العراق في عام 2011 أدت إلى انهيارات كبيرة عانى منها الجيش العراقي، انتهت بسيطرة تنظيم “داعش” عام 2014 على مساحات شاسعة من البلاد، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة للعراق عام 2016، ساعدت في دحر التنظيم، وحققت إنجازات أخرى على الأرض.
يمكن القول بأن الجولة الثالثة المقبلة من أعمال اللجنة العسكرية العراقية الأمريكية العليا، التي بدأت أعمالها منذ مطلع العام الماضي، قد تُشكل مدخلاً مهماً في تحقيق مثل هذه الحاجات الأمنية للعراق، ولكن حتى الآن، لا يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متفاعلة مع هذا التوجه، خصوصاً مع تصدّر حلفاء إيران المشهدَ السياسي والأمني في العراق، فضلاً عن تغيُّر التصور الأمريكي للعراق وتحديداً ما بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث بدأ ينظر للعراق على أنه ساحة من ساحات النفوذ الإيراني، التي يجب مواجهة إيران فيها، عبر احتواء حلفائها، من أجل استكمال ما حدث في غزة ولبنان وسوريا، ولعل اشتراطات الجانب الأمريكي في إعادة تشكيل دور الحشد الشعبي في العراق مؤخراً، وإيقاف كل التعاقدات العسكرية مع العراق، بسبب العقوبات المالية والمصرفية ضد بعض مؤسساته، تشير إلى أن بغداد لا تمتلك خيارات أمنية واسعة مع الجانب الأمريكي، خصوصاً وأن الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع ثابت العباسي إلى واشنطن في تموز 2024، على رأس وفد عسكري وأمني عراقي، فشلت في إتمام عقود عسكرية مع واشنطن، وهو ما جعل العراق يبحث عن خيارات تسليحية أخرى، وتحديداً من فرنسا وتركيا وكوريا الجنوبية.
وحتى في هذه الحالة، لم يمتلك العراق هامشاً كبيراً في تحقيق صفقات عسكرية تلبي حاجات الأمن القومي العراقي، بسبب خشية هذه الدول تحدي العقوبات المالية الأمريكية المفروضة على العراق، عبر توقيع صفقات عسكرية معه، كما أنها لن تتحدّى التصوّر الأمني للمنطقة، واشتراطات السيادة الإسرائيلية عليها، وبالتالي يمكن القول بأنَّ السبب الرئيس الذي يدفع الولايات المتحدة للتعامل مع العراق وفق هذا السياق، لا يعود لسيطرة حلفاء إيران على المشهد السياسي في البلاد، بل إن الجانب الأمريكي لم يصل حتى هذه اللحظة إلى تصوُّر كامل لطبيعة لعراق ومكانته وفق المنظور الاستراتيجي الأمريكي للشرق الأوسط، وهل العراق دولة صديقة أم عدوة.
معادلة الأمن والسيادة الوطنية
مع كل تصعيد أمني تشهده منطقة الشرق الأوسط، يُعاد الحديث من جديد عن التحديات التي قد يواجها العراق من هذا التصعيد، خصوصاً إذا كانت إيران طرفاً فيه، فمنذ بدء الحرب على تنظيم “داعش” عام 2014، ومن ثم الحرب على غزة عام 2023، والحرب على لبنان عام 2024، وأخيراً الحرب الأخيرة على إيران عام 2025، كانت الساحة العراقية مجالاً واسعاً لتبادل الرسائل العسكرية بين الأطراف المتصارعة، ورغم أن السبب الرئيس في ذلك يعود لطبيعة العلاقة الشائكة بين طهران وواشنطن في العراق، إلّا أن عدم امتلاك العراق قدرات عسكرية رادعة يعدُّ أمراً مؤثراً أيضاً.
لقد أظهرت الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل في حزيران 2025، والتي عُرفت بـ(حرب الـ12 يوماً)، الهشاشة الأمنية التي يعاني منها العراق، وتحديداً على مستوى منظومات الرادار والدفاع الجوي، فتحوّل إلى مسرح لعبور الطائرات الإسرائيلية التي تهاجم طهران، وممراً لعبور الصواريخ الإيرانية نحو تل أبيب.

كشف هذا الواقع مدى العَوَز الذي تعاني منه المنظومة العسكرية العراقية، بل إنه في هذه الحالة، لم يتمكن حتى من تجنب تداعيات هذه الحرب، خصوصاً مع الهجمات التي تعرضت لها قاعدة التاجي في بغداد وقاعدة الإمام علي في الناصرية، من قبل طائرات مسيرة انتحارية، استهدفت منظوماتٍ للرادار الجوي، بعد يوم واحد من وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل.
إن محاولات الحكومة العراقية برئاسة السوداني تعزيز القدرات العسكرية العراقية لا تزال تواجه تحديات كبيرة لإتمامها، فرغم تأكيد البرنامج الحكومي لحكومة السوداني على تعزيز القدرات العسكرية العراقية، إلّا أنها حتى هذه اللحظة لم تترجم على أرض الواقع، فمنذ تموز 2024 خططت الحكومة العراقية لتعزيز القدرات العسكرية للجيش، عبر سلسلة من العقود التي وقعتها لتوريد مدافع، ومسيرات، ودبابات، ومركبات مدرعة، لسد النقص في بعض فرق الجيش، الذي تسببت به الحرب ضد تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى ذلك، هناك عقود تسليح جديدة مع كل من روسيا ودول حلف (الناتو).
كما أعلنت وزارة الدفاع العراقية في كانون الثاني 2025 عن عزمها ابرام صفقات سلاح جديدة، لتحديث القوات الجوية بمقاتلات متطورة، ورغم سعي العراق لتنويع مصادر التسليح، وتطوير القواعد العسكرية، وسلاح الجو، إلى جانب تعزيز شبكات الرصد والرقابة، إلّا أنه لا يزال يواجه تحديات اقتصادية كبيرة، فضلاً عن أن حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد عطلت الكثير من هذه البرامج.
ومن الجدير بالذكر أن الحكومة العراقية خصصت ميزانية قدرها 21.6 مليار دولار لوزارة الدفاع عام 2024، وقد وُجِّه جزء كبير منها لشراء الأسلحة، وتحديث ترسانة الجيش، والقوات المسلحة، وتأكيداً على الحاجة الملحة لأنظمة الدفاع الصاروخي المتقدمة في الشرق الأوسط، سعى العراق للحصول على ثماني بطاريات من نظام الدفاع الجوي والصاروخي الباليستي M-SAM-II من كوريا الجنوبية، إلّا أنها لم تصل حتى هذه اللحظة، بسبب ضغوط أمريكية تمارس على الجانب الكوري في هذا السياق، بحجة خرق العقوبات الأمريكية، وإمكانية وقوعها بيد فصائل مسلحة حليفة لإيران.

كما حاولت حكومة السوداني إبرام اتفاقيات عسكرية مع باكستان، لتوفير 12 طائرة مقاتلة من طراز JF- 17 Thunder Bloc، كما وقع وزير الدفاع ثابت العباسي اتفاقيات عسكرية لاستيراد طائرات مقاتلة فرنسية من طراز (كاراكال) في نيسان الماضي، ووصلت ثلاث مقاتلات منها للعراق مطلع حزيران 2025، وتعاقدت وزارة الدفاع العراقية مطلع العام الجاري مع مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية لافتتاح فرع لها في العراق، من أجل سد حاجات العراق من الأسلحة، والمعدات الخاصة بالدروع، والدبابات، والمدفعية.
كلُّ هذه البرامج والتعاقدات الطّموحة، لا تخفي حقيقة أن العراق لا يزال يواجه تعقيدات كبيرة في إتمامها للأسباب ذاتها، حيث تمثل شبهات الفساد المالي معضلة كبيرة، بدأت منذ حكومة المالكي، ولا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة، فضلاً عن الجنود “الفضائيين”، وعقود الإعاشة، وانتشار السلاح خارج إطار الدولة، والأهم من ذلك كله، هو الإرادة الأمريكية التي لا يبدو أنها ستسمح للعراق بالتسلّح تسليحاً يعيق الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
البناء العسكري المرتبك في العراق
إن نهاية الحرب على تنظيم “داعش”، لم تعنِ انتهاء التهديدات التي يمكن أن يمثلها التنظيم، خصوصاً مع احتفاظه بثغرات أمنية على الحدود مع العراق، فضلاً عن أن طول مدة الحرب على التنظيم، جعلت قدرة العراق العسكرية على التعامل مع أي عودة للتنظيمات الإرهابية، أو الحرب الطائفية، أو الصراع الداخلي، أو التهديدات الخارجية، محدودة للغاية.
الإشكالية الأخرى التي تطرح هنا، هي أن أيّ جهود لإعادة بناء القدرات العسكرية العراقية يجب أن تتوافق مع الإشكاليات الأمنية بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وقبل ذلك مع الانقسامات الأيديولوجية العميقة داخل هيكلية فصائل الحشد الشعبي، فبعضها مرتبط بإيران، ويعدُّ نفسه جزءاً من “محور المقاومة”، وساتراً أمام القوات الأمريكية المتمركزة في العراق، والآخر مرتبط بوزارة الدفاع، والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، وهو جزء من منظومة الأمن الداخلي.
وفي ظل هذه التحديات والإشكاليات الهيكلية والجوهرية، يمكن القول بأن العراق لن يجد حلولاً سريعة لجميع هذه المشاكل، إذ يحتاج إلى شكل من أشكال الاتفاق على خطة عمل للتعامل معها بمرور الوقت، واستراتيجية لبناء قوات عسكرية تتمتع بشيء من القوة، بما يكفي لتأمين حدوده.
هذا إلى جانب تقادم العديد من الدروع، والمدفعيات، وغيرها من الأسلحة البرية، التي لم تعاد صيانتها صيانة كافية لقتال حربي حقيقي، وهي أنظمة عسكرية قديمة، تعود إلى الحقبة السوفييتية، ويحتاج الكثير منها إلى إعادة بناء وتحديث واستبدال، وليس من الواضح ما إذا كانت هناك دولة، يمكنها توفير الخدمات والمعدات اللازمة لإعادة تأهيلها وتحديثها في ظل القيود العديدة التي تحيط بالعراق.
إن النظرة الاستراتيجية متعددة المسارات توحي بأن العلاقة الأمنية بين العراق والولايات المتحدة لن تخلُ من التعقيدات والموانع الاستراتيجية، فتحوُّل العراق من دولة فاعلة في التوازن الإقليمي قبل عامَي 1991 و2003، إلى ساحة مفتوحة للنفوذ الإقليمي والدولي، جعل أيّ متغير يحدث في ساحة الإقليم، يجد له تداعيات في العراق، وأحياناً العكس.

وعلى هذا الأساس، فإن مرحلة حوارات اللجنة العسكرية العليا بين العراق والولايات المتحدة، ستكون حاسمة في تقرير المستقبل الذي ينتظر العلاقات العراقية الأمريكية، فالمقاربات السياسية والاستراتيجية المعقدة التي تنتظر مخرجات هذه اللجنة، ستكون واضحة في التحكم في مسارات العلاقة بين البلدين.
عراقياً، تبدو الحاجة ملحة اليوم لوضع استراتيجية أمن قومي عراقي، تراعي حاجات العراق الأمنية في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل تهديد تنظيم “داعش”، والهيمنة العسكرية الإسرائيلية، والتطور العسكري الذي وصلت إليه الدول المجاورة، تركيا، وإيران، والسعودية. ولا تخفى هذه الحالة والحاجة العراقية على واشنطن، لكنّ التحدي الكبير يتمثل بإقناعها في المساعدة على سدّ هذه الحاجات، وتقوية الهيكل العسكري العراقي، في ظل قيودها وتحفّظاتها، التي لن تتراجع عن ضمان هيمنة إسرائيل من جهة، وإضعاف طهران وأصدقائها من جهة أخرى.
بانتظار العراق مراحل صعبة، تتطلب بذل مزيد من الجهود، لضبط حركة الفصائل الولائية المرتبطة بإيران، بالطريقة التي تعيد للعراق صورة الدولة القادرة على فرض سلطانها القانوني على جميع التراب الوطني، وذلك عبر العديد من الإجراءات التي ينبغي أن تُقْدِم عليها الحكومة العراقية، وبما يقلل من المخاوف الأمريكية في هذا الإطار، إلى جانب وضع خطة واحدة تحدد مسار العلاقة الأمنية مع واشنطن، وتعمل على تنويع مصادر السلاح، وإنهاء حالة الفساد المالي في عقود التسليح، وضبط السلاح بيد الدولة، والأهم من ذلك كله، إبعاد التدخلات السياسية في عمل المؤسسة العسكرية العراقية، وكل ذلك من أجل تشكيل معادلة أمنية عراقية، توازن بين استحقاقات الأمن القومي، والتهديدات الإقليمية المتصاعدة.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
خبراء التبليط تحت قبة التشريع: كيف تحوّل النائب من مشرّع ومراقب إلى "مبلّط"؟
21 سبتمبر 2025
قبل الزواج وأثناء الحمل وبعد الولادة: يوميات أم عراقية تصارع القلق..
18 سبتمبر 2025
الانسحاب الأمريكي والدولي من العراق: نهاية مهمة قتالية أم بداية صراع جديد؟
16 سبتمبر 2025
" حتى النهر عطشان": عامٌ بلا زراعة في العراق
15 أغسطس 2025
أفرزت مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، تحولاً كبيراً في المشهد العسكري العراقي، فنظراً لحرب التدمير الشامل التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، وما نتج عنها من إفقار للقدرات العسكرية العراقية، وحلّ الجيش العراقي، ومن ثم إعادة تشكيل المشهد العسكري في العراق وفق التصوّر الأمريكي الجديد، أصبح العراق يواجه تحديات أمنية كبيرة، خصوصاً في موضوع السيادة الوطنية، وتحقيق الأمن القومي إزاء التهديدات الأمنية المتصاعدة داخلياً وخارجياً.
ورغم محاولة الولايات المتحدة بناء علاقات أمنية وعسكرية جديدة مع العراق، عبر توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين عام 2009، إلّا أن هذه الاتفاقية لم تلبّي كلّ الحاجات الأمنية والعسكرية العراقية، خصوصاً في ظل الاشتراطات المعقدة التي وضعتها الولايات المتحدة على عقود التسليح مع العراق، فضلاً عن الضغوط التي تعرضت لها الولايات المتحدة من دول أخرى، مثل إسرائيل ودول الخليج، والتي ترفض تزويد العراق بأسلحة ذات تأثير كبير في معادلة التوازن والأمن في المنطقة، ما جعل العراق دولة مشلولة أمنياً، ليس في عقود التسليح مع الجانب الأمريكي فحسب، بل حتى في إمكانية استخدام هذه الأسلحة والمعدات.
ومع سعي العراق لإعادة تشكيل العلاقة الأمنية المعقدة مع الجانب الأمريكي، عبر جولات عدة من الحوارات الاستراتيجية، التي بدأت منذ عهد حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلّا أنه لم ينجح في ذلك، فحتى حكومة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، لم تتمكن من إتمام صفقات التسليح الموقعة مع الجانب الأمريكي، بسبب رفض الولايات المتحدة المضي قدماً بها، خشية أن يستحوذ “وكلاء إيران” في العراق على هذه الأسلحة، ويستخدموها ضد القوات الأمريكية في العراق، أو حلفائها في المنطقة.

ولم تكن الولايات المتحدة واشتراطاتها السبب الوحيد في تراجع قوة العراق العسكرية، بل إنّ الفساد المالي أدى دوراً في عدم تمكُّن العراق من الحصول على أسلحة ذات أهمية كبيرة لمنظومة الأمن القومي العراقي، ولعل الفساد الذي أطّر العديد من صفقات الأسلحة، مثل الصفقة التشيكية خلال الولاية الأولى لرئيس الوزراء الأسبق (نوري المالكي)، لا تزال واضحة للعيان، فضلاً عن صفقات عسكرية أخرى مع باكستان وكوريا الجنوبية، تفضح طبيعة الدور الذي لعبه الفساد المالي الإداري في عرقلة تأمين حاجات العراق العسكرية.
ومن الأسباب الأخرى التي فرضت نفسها في سياق المعضلة، عدم وجود تصور واضح لطبيعة العقيدة العسكرية والتسليحية العراقية، والمحاصصة السياسية، ودورها في تشكيل المؤسسة العسكرية، وعدم اعتماد العراق على منظومة تسليحية واحدة، بل نظم متعددة، والأهم من ذلك كله، عدم وجود تكامل وظيفي في عمل القوات العسكرية في العراق، خصوصاً مع تعدد الهياكل العسكرية في البلاد، ما جعل من عملية بناء قوة عسكرية وازنة عمليةً صعبة للغاية، خصوصاً مع تصاعد التهديدات الإقليمية المحيطة بالعراق.
تهديدات متصاعدة وقدرات محدودة
يحتاج العراق إلى استراتيجيةٍ جديدةٍ لبناء قوات عسكرية كبيرة وقوية، لمواجهة التحديات الأمنية النابعة من تهديدات تنظيم “داعش”، ومن عدم حصر السلاح بيد الدولة، ولتأمين حدوده مع سوريا وتركيا وإيران، ولمواجهة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة التي بدأت في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر 2023. ومن ثم فإن المرحلة المقبلة، يمكن أن تشكل مدخلاً لإعادة تقييم العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، وتحديداً بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق، والمتوقع أن يكون ذلك في أيلول 2025، كما هو معلن حتى هذه اللحظة، بحيث تؤدي الولايات المتحدة دوراً حاسماً في إعادة بناء قدراته العسكرية والأمنية التي استُنزفت في الحرب ضد “داعش”، لتكون قادرة على القيام بمهامها الأمنية، فضلاً عن أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء منظومته التسليحية، وإعادة تشغيل العديد من القواعد العسكرية وصيانتها.
وإلى جانب ما تقدم أيضاً، فإن القوات الجوية العراقية لا تزال صغيرة ومحدودة جداً، ورغم أنها تضم بعض الطائرات الأمريكية من طراز F-16، إلّا أنها بدأت للتوّ في تطوير قدرات قتالية جوية حديثة، وما كان للعراق أن يهزم تنظيم “داعش” دون دعم من الطائرات التابعة لقوات التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق.

كما يفتقر العراق لأسلحة دفاع جوي، ومنظومات صواريخ متطورة، ونظام إنذار ومراقبة جوي، وقدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية، كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض توجد اليوم ثلاث قوات عسكرية رئيسة، هي (الجيش العراقي، والحشد الشعبي، والبيشمركة الكردية)، وحتى اللحظة لم تُظهر هذه القوات التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي.
لا شك أن عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية سيصيبها الشلل فيما لو قررت الولايات المتحدة الانسحاب من العراق دون أن يكون هناك التزام استراتيجي يربط علاقاتها بالعراق؛ فعملية الانسحاب الأمريكي من العراق في عام 2011 أدت إلى انهيارات كبيرة عانى منها الجيش العراقي، انتهت بسيطرة تنظيم “داعش” عام 2014 على مساحات شاسعة من البلاد، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة للعراق عام 2016، ساعدت في دحر التنظيم، وحققت إنجازات أخرى على الأرض.
يمكن القول بأن الجولة الثالثة المقبلة من أعمال اللجنة العسكرية العراقية الأمريكية العليا، التي بدأت أعمالها منذ مطلع العام الماضي، قد تُشكل مدخلاً مهماً في تحقيق مثل هذه الحاجات الأمنية للعراق، ولكن حتى الآن، لا يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متفاعلة مع هذا التوجه، خصوصاً مع تصدّر حلفاء إيران المشهدَ السياسي والأمني في العراق، فضلاً عن تغيُّر التصور الأمريكي للعراق وتحديداً ما بعد السابع من أكتوبر 2023، حيث بدأ ينظر للعراق على أنه ساحة من ساحات النفوذ الإيراني، التي يجب مواجهة إيران فيها، عبر احتواء حلفائها، من أجل استكمال ما حدث في غزة ولبنان وسوريا، ولعل اشتراطات الجانب الأمريكي في إعادة تشكيل دور الحشد الشعبي في العراق مؤخراً، وإيقاف كل التعاقدات العسكرية مع العراق، بسبب العقوبات المالية والمصرفية ضد بعض مؤسساته، تشير إلى أن بغداد لا تمتلك خيارات أمنية واسعة مع الجانب الأمريكي، خصوصاً وأن الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع ثابت العباسي إلى واشنطن في تموز 2024، على رأس وفد عسكري وأمني عراقي، فشلت في إتمام عقود عسكرية مع واشنطن، وهو ما جعل العراق يبحث عن خيارات تسليحية أخرى، وتحديداً من فرنسا وتركيا وكوريا الجنوبية.
وحتى في هذه الحالة، لم يمتلك العراق هامشاً كبيراً في تحقيق صفقات عسكرية تلبي حاجات الأمن القومي العراقي، بسبب خشية هذه الدول تحدي العقوبات المالية الأمريكية المفروضة على العراق، عبر توقيع صفقات عسكرية معه، كما أنها لن تتحدّى التصوّر الأمني للمنطقة، واشتراطات السيادة الإسرائيلية عليها، وبالتالي يمكن القول بأنَّ السبب الرئيس الذي يدفع الولايات المتحدة للتعامل مع العراق وفق هذا السياق، لا يعود لسيطرة حلفاء إيران على المشهد السياسي في البلاد، بل إن الجانب الأمريكي لم يصل حتى هذه اللحظة إلى تصوُّر كامل لطبيعة لعراق ومكانته وفق المنظور الاستراتيجي الأمريكي للشرق الأوسط، وهل العراق دولة صديقة أم عدوة.
معادلة الأمن والسيادة الوطنية
مع كل تصعيد أمني تشهده منطقة الشرق الأوسط، يُعاد الحديث من جديد عن التحديات التي قد يواجها العراق من هذا التصعيد، خصوصاً إذا كانت إيران طرفاً فيه، فمنذ بدء الحرب على تنظيم “داعش” عام 2014، ومن ثم الحرب على غزة عام 2023، والحرب على لبنان عام 2024، وأخيراً الحرب الأخيرة على إيران عام 2025، كانت الساحة العراقية مجالاً واسعاً لتبادل الرسائل العسكرية بين الأطراف المتصارعة، ورغم أن السبب الرئيس في ذلك يعود لطبيعة العلاقة الشائكة بين طهران وواشنطن في العراق، إلّا أن عدم امتلاك العراق قدرات عسكرية رادعة يعدُّ أمراً مؤثراً أيضاً.
لقد أظهرت الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل في حزيران 2025، والتي عُرفت بـ(حرب الـ12 يوماً)، الهشاشة الأمنية التي يعاني منها العراق، وتحديداً على مستوى منظومات الرادار والدفاع الجوي، فتحوّل إلى مسرح لعبور الطائرات الإسرائيلية التي تهاجم طهران، وممراً لعبور الصواريخ الإيرانية نحو تل أبيب.

كشف هذا الواقع مدى العَوَز الذي تعاني منه المنظومة العسكرية العراقية، بل إنه في هذه الحالة، لم يتمكن حتى من تجنب تداعيات هذه الحرب، خصوصاً مع الهجمات التي تعرضت لها قاعدة التاجي في بغداد وقاعدة الإمام علي في الناصرية، من قبل طائرات مسيرة انتحارية، استهدفت منظوماتٍ للرادار الجوي، بعد يوم واحد من وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل.
إن محاولات الحكومة العراقية برئاسة السوداني تعزيز القدرات العسكرية العراقية لا تزال تواجه تحديات كبيرة لإتمامها، فرغم تأكيد البرنامج الحكومي لحكومة السوداني على تعزيز القدرات العسكرية العراقية، إلّا أنها حتى هذه اللحظة لم تترجم على أرض الواقع، فمنذ تموز 2024 خططت الحكومة العراقية لتعزيز القدرات العسكرية للجيش، عبر سلسلة من العقود التي وقعتها لتوريد مدافع، ومسيرات، ودبابات، ومركبات مدرعة، لسد النقص في بعض فرق الجيش، الذي تسببت به الحرب ضد تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى ذلك، هناك عقود تسليح جديدة مع كل من روسيا ودول حلف (الناتو).
كما أعلنت وزارة الدفاع العراقية في كانون الثاني 2025 عن عزمها ابرام صفقات سلاح جديدة، لتحديث القوات الجوية بمقاتلات متطورة، ورغم سعي العراق لتنويع مصادر التسليح، وتطوير القواعد العسكرية، وسلاح الجو، إلى جانب تعزيز شبكات الرصد والرقابة، إلّا أنه لا يزال يواجه تحديات اقتصادية كبيرة، فضلاً عن أن حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد عطلت الكثير من هذه البرامج.
ومن الجدير بالذكر أن الحكومة العراقية خصصت ميزانية قدرها 21.6 مليار دولار لوزارة الدفاع عام 2024، وقد وُجِّه جزء كبير منها لشراء الأسلحة، وتحديث ترسانة الجيش، والقوات المسلحة، وتأكيداً على الحاجة الملحة لأنظمة الدفاع الصاروخي المتقدمة في الشرق الأوسط، سعى العراق للحصول على ثماني بطاريات من نظام الدفاع الجوي والصاروخي الباليستي M-SAM-II من كوريا الجنوبية، إلّا أنها لم تصل حتى هذه اللحظة، بسبب ضغوط أمريكية تمارس على الجانب الكوري في هذا السياق، بحجة خرق العقوبات الأمريكية، وإمكانية وقوعها بيد فصائل مسلحة حليفة لإيران.

كما حاولت حكومة السوداني إبرام اتفاقيات عسكرية مع باكستان، لتوفير 12 طائرة مقاتلة من طراز JF- 17 Thunder Bloc، كما وقع وزير الدفاع ثابت العباسي اتفاقيات عسكرية لاستيراد طائرات مقاتلة فرنسية من طراز (كاراكال) في نيسان الماضي، ووصلت ثلاث مقاتلات منها للعراق مطلع حزيران 2025، وتعاقدت وزارة الدفاع العراقية مطلع العام الجاري مع مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية لافتتاح فرع لها في العراق، من أجل سد حاجات العراق من الأسلحة، والمعدات الخاصة بالدروع، والدبابات، والمدفعية.
كلُّ هذه البرامج والتعاقدات الطّموحة، لا تخفي حقيقة أن العراق لا يزال يواجه تعقيدات كبيرة في إتمامها للأسباب ذاتها، حيث تمثل شبهات الفساد المالي معضلة كبيرة، بدأت منذ حكومة المالكي، ولا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة، فضلاً عن الجنود “الفضائيين”، وعقود الإعاشة، وانتشار السلاح خارج إطار الدولة، والأهم من ذلك كله، هو الإرادة الأمريكية التي لا يبدو أنها ستسمح للعراق بالتسلّح تسليحاً يعيق الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
البناء العسكري المرتبك في العراق
إن نهاية الحرب على تنظيم “داعش”، لم تعنِ انتهاء التهديدات التي يمكن أن يمثلها التنظيم، خصوصاً مع احتفاظه بثغرات أمنية على الحدود مع العراق، فضلاً عن أن طول مدة الحرب على التنظيم، جعلت قدرة العراق العسكرية على التعامل مع أي عودة للتنظيمات الإرهابية، أو الحرب الطائفية، أو الصراع الداخلي، أو التهديدات الخارجية، محدودة للغاية.
الإشكالية الأخرى التي تطرح هنا، هي أن أيّ جهود لإعادة بناء القدرات العسكرية العراقية يجب أن تتوافق مع الإشكاليات الأمنية بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وقبل ذلك مع الانقسامات الأيديولوجية العميقة داخل هيكلية فصائل الحشد الشعبي، فبعضها مرتبط بإيران، ويعدُّ نفسه جزءاً من “محور المقاومة”، وساتراً أمام القوات الأمريكية المتمركزة في العراق، والآخر مرتبط بوزارة الدفاع، والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، وهو جزء من منظومة الأمن الداخلي.
وفي ظل هذه التحديات والإشكاليات الهيكلية والجوهرية، يمكن القول بأن العراق لن يجد حلولاً سريعة لجميع هذه المشاكل، إذ يحتاج إلى شكل من أشكال الاتفاق على خطة عمل للتعامل معها بمرور الوقت، واستراتيجية لبناء قوات عسكرية تتمتع بشيء من القوة، بما يكفي لتأمين حدوده.
هذا إلى جانب تقادم العديد من الدروع، والمدفعيات، وغيرها من الأسلحة البرية، التي لم تعاد صيانتها صيانة كافية لقتال حربي حقيقي، وهي أنظمة عسكرية قديمة، تعود إلى الحقبة السوفييتية، ويحتاج الكثير منها إلى إعادة بناء وتحديث واستبدال، وليس من الواضح ما إذا كانت هناك دولة، يمكنها توفير الخدمات والمعدات اللازمة لإعادة تأهيلها وتحديثها في ظل القيود العديدة التي تحيط بالعراق.
إن النظرة الاستراتيجية متعددة المسارات توحي بأن العلاقة الأمنية بين العراق والولايات المتحدة لن تخلُ من التعقيدات والموانع الاستراتيجية، فتحوُّل العراق من دولة فاعلة في التوازن الإقليمي قبل عامَي 1991 و2003، إلى ساحة مفتوحة للنفوذ الإقليمي والدولي، جعل أيّ متغير يحدث في ساحة الإقليم، يجد له تداعيات في العراق، وأحياناً العكس.

وعلى هذا الأساس، فإن مرحلة حوارات اللجنة العسكرية العليا بين العراق والولايات المتحدة، ستكون حاسمة في تقرير المستقبل الذي ينتظر العلاقات العراقية الأمريكية، فالمقاربات السياسية والاستراتيجية المعقدة التي تنتظر مخرجات هذه اللجنة، ستكون واضحة في التحكم في مسارات العلاقة بين البلدين.
عراقياً، تبدو الحاجة ملحة اليوم لوضع استراتيجية أمن قومي عراقي، تراعي حاجات العراق الأمنية في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل تهديد تنظيم “داعش”، والهيمنة العسكرية الإسرائيلية، والتطور العسكري الذي وصلت إليه الدول المجاورة، تركيا، وإيران، والسعودية. ولا تخفى هذه الحالة والحاجة العراقية على واشنطن، لكنّ التحدي الكبير يتمثل بإقناعها في المساعدة على سدّ هذه الحاجات، وتقوية الهيكل العسكري العراقي، في ظل قيودها وتحفّظاتها، التي لن تتراجع عن ضمان هيمنة إسرائيل من جهة، وإضعاف طهران وأصدقائها من جهة أخرى.
بانتظار العراق مراحل صعبة، تتطلب بذل مزيد من الجهود، لضبط حركة الفصائل الولائية المرتبطة بإيران، بالطريقة التي تعيد للعراق صورة الدولة القادرة على فرض سلطانها القانوني على جميع التراب الوطني، وذلك عبر العديد من الإجراءات التي ينبغي أن تُقْدِم عليها الحكومة العراقية، وبما يقلل من المخاوف الأمريكية في هذا الإطار، إلى جانب وضع خطة واحدة تحدد مسار العلاقة الأمنية مع واشنطن، وتعمل على تنويع مصادر السلاح، وإنهاء حالة الفساد المالي في عقود التسليح، وضبط السلاح بيد الدولة، والأهم من ذلك كله، إبعاد التدخلات السياسية في عمل المؤسسة العسكرية العراقية، وكل ذلك من أجل تشكيل معادلة أمنية عراقية، توازن بين استحقاقات الأمن القومي، والتهديدات الإقليمية المتصاعدة.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.