العراق في قلب خارطة التفتيت.. ما هي ملامح الشرق الأوسط الذي تريده إسرائيل؟
22 حزيران 2025
يتقدّم مشروع شرق أوسط تُهيمن عليه إسرائيل بالحروب وإعادة تشكيل الهويات وتفكيك الدول من الداخل، والعراق في قلب هذه التحولات.. فما هي ملامح الشرق الأوسط الذي تريده إسرائيل؟
حروب وكالة أو تصارع إقليمي، أياً كان ما حدث بين إيران وإسرائيل خلال الأشهر والسنوات الماضية، فقد انتهى وقُرعت طبول الحرب المباشرة؛ مدفوعة بقلق إسرائيل من المشروع النووي الإيراني الذي تراه تهديداً مباشراً لا يكفيه اتفاق.
بصبر حائك سجّادٍ، راهنت إيران على كسب الوقت لتحقيق انتصارٍ دبلوماسي، بعد أن لوّحت بأذرعها في غزّة ولبنان واليمن والعراق. وتحاشياً للحرب المباشرة، تردّدت في التدخل الجدّي لإنقاذ تلك الأذرع، وقد منح ذلك التردّد إسرائيل فرصة للقضاء عليهم تباعاً، عبر مسح قطاع غزة واغتيال قادة حزب الله وإسقاط نظام بشّار الأسد، وتحييد الفصائل العراقية، وتوجيه ضربات قاسية للحوثيين. لم يقطع ذلك التلكؤ أوصال “الهلال الشيعي” فحسب، بل خلق شعوراً بالخذلان لدى بعض أنصار محور المقاومة وهم يشاهدون سقوط شعار «وحدة الساحات».
عوّلت إيران على المفاوضات، رغم تحذيرات المرشد الأعلى علي خامنئي من عدم جدواها، وهكذا تكبّدت خسارة فادحة في ليلة سقوط الجنرالات في 13 حزيران، تضمنّت: قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة الأركان العامة محمد باقري، وقائد القوة الجوفضائية أمير علي حاجي زاده، وعلماء نوويين. وفي الوقت الضائع، جاء الرد الإيراني موجعاً للجانب الإسرائيلي، باستهداف مناطق سكنية ومعهد وايزمان للعلوم، لكنّه أقل دقة فيما يتعلّق بطبيعة الأهداف وأهميتها.
مع تزايد الدعوات لإسقاط النظام الإيراني، وتفعيل الملياردير الأمريكي إيلون ماسك لخدمة ستارلينك لتوفير الانترنت لشعب إيران، ودعوة نجل الشاه السابق رضا بهلوي الشعب للعصيان المدني، تبدو الأوضاع حرجة للغاية بعد 46 عاماً على الثورة الإسلامية. وسواء أُسقِط النظام أم لا، فإن الضربات ستُضعفه وقد تعيد إيران، في حال نجاة نظامها، إلى حدودها الطبيعية خلف جبال زاغروس، ممّا يأذن بتحقّق “الشرق الأوسط الجديد” الذي يتحدّث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو: “شرق أوسط إبراهيمي آمن لإسرائيل وتحت قيادتها المنفردة”.
صراع الأولويات: العرب بين النفوذ الإيراني والهيمنة الإسرائيلية
في عصر القومية العربية، لم يكُن مجرد التفكير في التطبيع مع إسرائيل مطروحاً، وكان الصراع العربي-الإسرائيلي يقوم على أسسٍ قومية، لكن الكنيست الإسرائيلي أقرّ قانون «يهودية دولة إسرائيل» بالأغلبية في تموز 2018، والذي ينصّ، من جملة بنوده، على أن «إسرائيل هي الوطن التاريخي للأمة اليهودية» وأن «لليهود فقط في إسرائيل حق تقرير المصير»، ورأى الفلسطينيون الذي بقوا في الأراضي المحتلة عام 1984 وبعض اليهود في هذا القانون ما يبرّر التمييز ضد الأقليات غير اليهودية في البلاد. يتماشى ذلك القانون مع خطط تحويل الشرق الأوسط إلى كانتونات دينية بالتزامن مع واقعٍٍ رسمته الصراعات الطائفية التي نكبت الدول العربية منذ إسقاط نظام صدّام حسين في 2003 وأحداث الربيع العربي في عام 2011.
يقتضي إعلان إسرائيل دولة يهودية بالضرورة تفتيت الهويات الجامعة في دول الجوار تباعاً: القومية والوطنية والدينية عبر حركات إحياء الهويات القديمة ضد العروبة، والليبرالية والفردانية ضد الوطنية، والطائفية ضد الإسلام كاسمٍ جامع. وبعد عقود من الصراعات الدامية في دول الطوق، نُسفت الثقة بين المكونات المجتمعية في العراق وسوريا، وكذلك في لبنان منذ الحرب الأهلية (1975-1990).

ليس من المنطقي لوم إسرائيل وحدها على إذكاء الطائفية في المنطقة، فقد تناحر المسلمون منذ العقود الأولى بعد وفاة نبي الإسلام، وتكرّرت الصراعات الطائفية عبر القرون، في الحروب البويهية-السلجوقية (1055 للميلاد) والصفوية-العثمانية (1578-1590)، ومقتلة الدروز والموارنة (1860)، وغيرها الكثير، لكن لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه إسرائيل في تعزيز هذه الصراعات أو تغذيتها.
عند تأسيس العراق الحديث في أعقاب سقوط الدولة العثمانية، لم تغب الطائفية عن المشهد، ورفض الشيعة مبايعة الملك الحجازي، رغم أصوله الهاشمية. وفي لبنان، عارض السُنة فكرة لبنان الكبير الذي يعني تحوّلهم إلى أقليّة في بلدٍ مسيحي، وخسارة مكانتهم ضمن مجتمع الأغلبية في سوريا. وبخلاف ذلك، وجد الشيعة أن لبنان فرصة للاعتراف بهم رسمياً كطائفة مستقلة وإنشاء محاكمهم الجعفرية في عام 1926، وبالطبع فضّل الموارنة الحفاظ على حكمهم الذاتي الذي حصلوا عليه منذ تأسيس متصرّفية جبل لبنان في عام 1861. بالمثل، قسّم الانتداب الفرنسي سوريا إلى خمس دويلات على أسسٍ طائفية.
مع ذلك، وفي الحقبة القومية، انزوى الدين بعيداً وأصبح سمة ثقافية هامشية، رغم ظهور جماعات إسلامية سُنية مثل الإخوان المسلمين في مصر (1928) وشيعية مثل حزب الدعوة الإسلامية في العراق (1957) لكنها بقيت على هامش المجتمع. وبعد إخفاق الحركات القومية في تحقيق مشاريع التنمية والوحدة العربية وخسارتها في حربين رئيسيتين ضد إسرائيل (1948 و1967) وسقوطها في دوامة الانقلابات العسكرية والدكتاتورية، عاود الإسلام السياسي الصعود وتلقّى زخماً غير مسبوق مع الثورة الإسلامية في إيران وأسلمة حركات التحرير الفلسطينية الماركسية مع تأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين (1981)، وحزب الله اللبناني (1982)، وحركة حماس (1987). أسهمت تلك الثورة في أسلمة العالم العربي بأسره ودفعه نحو التشدّد في محاولة من السعودية (الدولة التي تأسست على حلف قبلي-وهّابي) في محاولة لتعزيز موقفها ضد إيران لزعامة العالم الإسلامي. دعمَ الغرب القوى المحافظة لوقف المد الماركسي في العالم العربي -أو حتى فتح الطريق أمامها إلى أفغانستان-، رغم الإعلان المتكرر أن الإسلام هو العدو القادم بعد الشيوعية.
في أعقاب غزو العراق، طفت الطائفية إلى السطح مع تأسيس نظام المحاصصة وظهور العمائم الشيعية في السياسة وأعضاء من الإخوان المسلمين في مجلس الحكم، وتعاظم الأمر مع الحرب الأهلية بعد 2006 وأصبح الاحتقان الطائفي ظاهرة يتاجر بها الساسة. وبعد هزيمة تنظيم داعش الإرهابي في عام 2017، انحسرت الطائفية من الشارع لكنها بقيت حيّة في الكواليس والنقاشات التلفازية والفضاء الإلكتروني.
في لبنان، تعزّز الصراع الطائفي أكثر بعد اجتياح حزب الله بيروت في أيار 2008 وتورطه في الصراع السوري بعد 2011، حيث وصل العنف الطائفي إلى مستويات غير مسبوقة مع الصبغة السلفية لمعظم الفصائل السورية (ودخول مقاتلين من العرب والشيشان والايغور)، والصبغة الشيعية للميليشيات الداعمة لنظام الأسد (ودخول مقاتلين من العراق ولبنان وإيران وأفغانستان).
حوّلت تلك الصراعات الطائفية بوصلة العالم العربي بالكامل، بعيداً عن القومية والإسلام، فهاهم العرب المسلمون يتقاتلون معاً بسبب الطائفة، ولم تعد الهوية الوطنية قادرة على امتصاص ذلك الاحتقان، وأُعيد تشكيل الجماعات على أسس طائفية عابرة للحدود، لتتعاطف الطوائف مع بعضها البعض بعيداً عن مفاهيم الوطن والقومية.
في خضم هذا التيه، ساهم الإعلام، والوقائع، والذاكرة الانتقائية، في دفع الشعوب للبحث عن الخلاص الفردي. أصبح الموقف الشيعي متماهياً مع إيران في الغالب، فيما أصبحت إيران العدو الأوّل للسُنة، وغابت إسرائيل عن واجهة الصراع ولم تعد العدو المباشر لقطاعات واسعة من العراقيين والسوريين. وباستخدام القوة الناعمة، نجح الإعلام الإسرائيلي الناطق بالعربية وإعلام عربي يميل ممولوه لإسرائيل، في بناء علاقات تمهّد للتطبيع الشعبي قبل الرسمي وبث الفرقة وتقديم أنفسهم كمخلّصين للعرب السُنة من الهيمنة الفارسية.

ربما تكون تلك أكبر وأسرع هندسة اجتماعية في تاريخ المنطقة، حيث أصبح سُنة العراق وسوريا ينظران إلى إيران على أنها الخطر الداهم وأن موضوع فلسطين قضية خاسرة، وأن من يسكن منزلاً محترقاً لا يمكنه إطفاء حريق منازل الآخرين.
عزّز الإعلام العربي هذه السردية فضلاً عن تبجّح إيران بأنها تحكم أربعة عواصم عربية. وبينما ساهم الروس بقدرٍ كبيرٍ من الدمار في الحرب السورية إلا أنّهم لم يتواجدوا على الأرض ولم يصوّروا مقاطع فيديو لقتل السوريين ولم يحاولوا استفزاز الأغلبية السُنية هناك بشعارات مسيحية أرثوذكسية. من المتوقّع أن يتذكّر الإنسان ما لامسه عن كثب في السجون وجبهات القتال، وهنا كانت الشعارات الدينية الشيعية مقابل السُنية هي الحاضرة، وهذا ما دعم صعود تيار “الأمويّة الجديدة” نكاية بشعارات «ثارات الحسين»، وأصبح الحديث عن تجنيس الإيرانيين والتغيير الديموغرافي بعد تهجير ملايين السوريين ومنعهم من العودة عصب الطائفية الجديدة ليس في سوريا فسحب، بل في المنطقة بأسرها، وأصبحت إيران في نظر السُنة إسرائيل جديدة تحتل مساحات أكبر من أرض كنعان التاريخية.
ببساطة، مهّد صعود الجماعات السُنية (داعش وجبهة النُصرة وغيرها) وجرائمهم ضد الشيعة وبقية الأقليات الدينية، وجرائم الميليشيات الشيعية وحصار المدن وتهجير السكان في خلق صدع هائل بين الطائفتين. باختصار، لم تقل ممارساتهما في حق بعضها البعض عن ممارسات إسرائيل في حق الفلسطينيين.
من خلال الإعلام الإسرائيلي، والتلويح الدائم بالفزاعة الفارسية، لم تعد فلسطين مهمّة لا عربياً ولا إسلامياً، لأنها في نظر الكثيرين قضية خاسرة تاجرت بها كل الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي وإيران على حدٍ سواء. حتّى الرد الإيراني اليوم لا يتعلّق بفلسطين بقدر تعلّقه برد مباشر على ضربات إسرائيلية نوعية مسّت الكبرياء الفارسي في مقتل.
العراق في قلب العاصفة: خطر التفكيك
في العراق الذي يقع في قلب الصراع، وبعد أكثر من عقدٍ من الحصار الاقتصادي وعقدين من الاحتلال الأجنبي والحروب الطائفية، تكاد الوطنية العراقية تكون في أضعف أوضاعها حالياً رغم كثرة الأغاني والشعارات الوطنية.
يسود اليوم اعتقادٌ بأن الحكم التوافقي شيعي في النهاية، وأن مشاركة الطوائف الأخرى اسمية وبشروط الشيعة. تعاظم ذلك الشعور بعد الاخضاع النهائي لحركات التمرّد السُني والقضاء على حلم الاستقلال الكُردي. لكن السلام المتحقّق عبر الاخضاع سلامٌ هش.
وبينما تلاشت أحلام العرب السُنة في استعادة السلطة في العراق، أعاد لهم الوضع الجديد في سوريا الأمل في التغيير، وتعاظم ذلك مع الحرب الراهنة. يتمنّى بعضهم بصراحة سحق إيران بهدف الخلاص من نفوذها في العراق، ويقف البعض موقف المتفرّج، معللاً ذلك بأنه صراع بين “ظالمَـين”، وأن لا ناقة لهم فيه ولا جمل، لكن هزيمة الطرفين وهمٌ غير قابل للتحقيق، فلا بدّ للحرب من رابح، وخلف هذه المشاعر المموّهة يقف بوضوح تفضيلهم هزيمة إيران وتخوّفهم من أن يكون انتصارها إعلاناً لنهاية السُنة في بغداد وديالى وسامراء. بالطبع، ليس السُنة كتلة متجانسة، فهناك فئات لا تفضّل انتصار إسرائيل لأهداف تتعلّق بالتعاطف مع غزة أو الخوف من المشروع الإسرائيلي التوسّعي أو لأسباب دينية عابرة للطوائف فضلاً عن موقف الإخوان المسلمين المتماهي مع إيران. مع ذلك، يُهاجم هؤلاء من بقية السُنة على اعتبارهم موالين للشيعة أو أنهم حمقى يتناسون ما فعلته إيران في العراق وسوريا، كما يهاجم بعض الشيعة الإخوان المسلمين على اعتبارهم عدو الشيعة الأخطر.
وممّا يثبت أن للتدخل الإيراني في الشرق الأوسط دوراً في هذا التحوّل، أنه أقل وطأة في مصر وشمال أفريقيا، بخلاف التيارات السلفية المعروف عنها مواقفها المتشنجة وعدم تأييدها إلّا من يتماثلون معها بالتمام، ولم يكونوا مستعدين للتعاطف مع حماس السُنية نفسها لوقوفها مع إيران ولكونها من الإخوان، فضلاً عن صراعاتهم الداخلية الكثيرة (داعش والنُصرة والقاعدة).
ويعوّل بعض الكرد على انتصار إسرائيل بهدف تقسيم إيران وانفصال إقليم كردستان هناك، ودعم إسرائيل لقسد في روج آفا، وقيام اتحاد كردي بين الأقاليم الثلاثة في إيران والعراق وسوريا، متجاهلين حقيقة انقسام الإقليم العراقي نفسه بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ومع حضور سلفي واضح في الإقليم، يعادي بعض الكرد إيران وإسرائيل معاً ويكتفون بالمراقبة، فيما يعادي بعضهم إسرائيل بسبب جرائمها في غزة.

حتى الشيعة منقسمون حيال ما يجري اليوم، فهناك من يستشعر خطراً وجودياً إذا ما تعرّضت إيران للتدمير، وأصبح عداؤهم لإسرائيل أكبر ممّا مضى، وبما يتجاوز الحرب في فلسطين، التي رأت بعض الأصوات الشيعية أنها قضية سُنية حشر الشيعة أنفسهم فيها ودفعوا لقاءها ثمناً باهظاً لم يسفر عن تغيير موقف السُنة منهم. وترى بعض القوى الشيعية العلمانية أن ضعف النظام الإيراني يعني فرصة لقيام إيران حضارية والتخلّص من نفوذ ميليشياتها في العراق، فيما تحاول قوى موالية لإيران تخويف العرب من سقوط نظام الملالي وقيام إيران شاهنشاهية أكثر قبولاً عند الغرب وبعلاقات وثيقة مع إسرائيل وعودتها لتكون شرطي المنطقة، بما يُنهي الدور الذي اضطلعت به دول الخليج في المنطقة جراء القطيعة الإيرانية-الغربية، ولا يخلو هذا السيناريو من صحّة لأن الغرب، مدفوعاً لاشعورياً بالنظرية الآرية، يُبدي للفرس احتراماً يفوق ما يبديه للعرب.
وسط كلّ هذه التعقيدات، نجحت الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني بتجنيب العراق أهوال الأشهر الماضية من غليان الشرق الأوسط، وتمكنت من إسكات الميليشيات الأشد قرباً من إيران المرشد، ومنعت طائراتها المسيّرة وصواريخها من استهداف المصالح الأمريكية أو حتى إسرائيل، فجَنَت، نتيجة لهذا العمل، ثماراً تمثّلت بعدم استهداف العراق من قبل إسرائيل، لكن هذا الهدوء القائم على اتفاقات شديدة الدقة والهشاشة، قد ينهار مع دخول هذه الميليشيات إلى المعركة نصرةً للنظام الإيراني.
إسرائيل الكبرى: حلم مؤجل أم مشروع قيد التنفيذ؟
ليس الحديث عن دولة إسرائيل الكبرى بوهم، ومع حكومة نتنياهو اليمينية، أصبحت كل خطابات الحرب اليوم دينية، وصارت لبنان جنوب نهر الليطاني وآرام دمشق أجزاء من أرض إسرائيل في نظرهم، وقد ازدادت وتيرة الحديث عن الدولة الكبرى في الدوائر الإسرائيلية وظهرت خريطتها على أكتاف جنود جيش الدفاع الإسرائيلي.
إسرائيل بلد قائم على الرواية التوراتية، وعلى فكرة الحق الإلهي الأزلي في أرض الميعاد. ففي سفر التكوين نقرأ «وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ. وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ» (تك 12: 6-7)، والأهم بالطبع ما يرسم حدود ذلك الحلم: «18 فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقاً قَائِلاً: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ». (تك 15: 18).
لا تسمح الديموغرافية اليهودية الصغيرة بحكم هذه المساحة الهائلة، بين النيل والفرات، المسكونة بشعوب معادية، بل إن اسرائيل احتاجت عقوداً طويلة للهيمنة على أرض كنعان الصغيرة، ولا تزال تواجه مشاكل في الضفة الغربية وغزة. مع ذلك، ومع مسح جيوش دول الجوار، وإمكان الشروع بمرحلة تقسيم المقسّم عبر تأجيج الصراعات الداخلية، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية والتخلّف التكنولوجي، فإن إسرائيل ستكون حتماً الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك جيشاً قوياً وعقيدة واضحة المعالم وأهدافاً ثابتة ووحدة داخلية صهرتها الاضطهادات الطويلة وتعاضداً منقطع النظير صقله الشعور الدائم بالتهديد الوجودي.

في مثل هذه الظروف، ومع عجز العرب وفقدانهم الرغبة في المواجهة، لم تعد إسرائيل الكبرى حلماً بعيد المنال، ولكن حكمها للمنطقة لن يكون مباشراً، بل بمثابة سيطرة على قرار دول الجوار وإخضاعها لسلطتها غير المباشرة تحت تهديد نيرانها الدائم، سيكون خضوعاً سياسياً واقتصادياً، يعقبه الإخضاع الأيديولوجي عبر المشروع الإبراهيمي.
يكتفي العرب اليوم بموقف المتفرّج، ومصير المتفرّج أن يصبح غنيمة الطرف المنتصر بعد انتهاء المعركة. يشبه موقف العرب السلبي اليوم موقفهم في مطلع القرن الماضي، وكيف انتهى الأمر بتقسيم أراضيهم بعد هزيمة العثمانيين كغنائم بين بريطانيا وفرنسا بعد قرون من التجهيل. وبينما امتلك العرب في أعقاب الحرب العالمية الأولى مشروعاً قومياً شكّل هوية دولهم الناشئة، فإنهم اليوم مجردين من أي مشروع، بل إن مشروع الإسلام السياسي بدأ بالأفول مع توجّهٍ واضح لحظر الإخوان في مصر والأردن وفرنسا، والقضاء على حكمهم في غزة. بل إن احتمال التطبيع مع إسرائيل في ظل التيار السلفي، قد يشكّل ضربة قاتلة للمؤمنين الحقيقيين بهذه المشاريع وتكشّف أدوارها الحقيقية، ويتزامن هذا مع النهج السعودي الواضح للتغريب والتخلّي عن الخطاب المتشدّد ومحاربته.
كانتونات الشرق الأوسط الجديد
في شرق أوسط تحكمه إسرائيل، لن تنتهي الصراعات، ولاسيما في دول الطوق.
مع الإعلان الأمريكي-الإسرائيلي الصريح عن رفض حلّ الدولتين، يعني الواقع الجديد ضمّ الضفة الغربية، وقد بدأت الولايات المتحدة باعتماد تسميتها التوراتية «يهودا والسامرة»، وسوف تُبذل المساعي لتهجير سكّانها العرب إلى الأردن، فضلاً عن إجبار مصر على استقبال سكّان غزة.
وفي سوريا منزوعة السلاح، لن تسمح إسرائيل لتركيا بإقامة قواعد عسكرية هناك، بل قد تأجج هذه الخطط المشكلة الكردية في تركيا نفسها من جديد. وبالطبع، ورغم محاولات النظام الجديد مد أغصان الزيتون تجنباً لحروبٍ لا طاقة لسوريا بها، لا يُتوقّع أن تقبل إسرائيل بما هو دون تقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية وقومية للدروز والعلويين والكرد، وضم الجولان-ومساحات أخرى- بشكلٍ نهائي.
أما العراق، فقد يُدخل غياب إيران عن الساحة النظام السياسي في صراعات داخلية، شيعية-شيعية، وربما مع بقية الأطراف لرسم الحدود بالدم، وسوف يكون تقسيم البلد إلى ثلاثة دول هدف إسرائيل الاستراتيجي، وهو ما سعت إليه منذ عام 2003. وفي بحثها عن الماء، قد تختلق المشاكل لضمّ جنوب لبنان والوصول إلى نهر الليطاني، ولن يكون هناك داعم لحركات مقاومة في الجنوب اللبناني حينئذ.

ومع دخولنا مرحلة تقسيم المقسّم، وخلق كيانات متخاصمة، ستكون الدولة اليهودية السيد الأوحد وتخضع الممالك كما في سفر إشعياء، «10 وَبَنُو الْغَرِيبِ يَبْنُونَ أَسْوَارَكِ، وَمُلُوكُهُمْ يَخْدِمُونَكِ. لأَنِّي بِغَضَبِي ضَرَبْتُكِ، وَبِرِضْوَانِي رَحِمْتُكِ. 11 وَتَنْفَتِحُ أَبْوَابُكِ دَائِمًا. نَهَارًا وَلَيْلًا لاَ تُغْلَقُ. لِيُؤْتَى إِلَيْكِ بِغِنَى الأُمَمِ، وَتُقَادَ مُلُوكُهُمْ. 12 لأَنَّ الأُمَّةَ وَالْمَمْلَكَةَ الَّتِي لاَ تَخْدِمُكِ تَبِيدُ، وَخَرَابًا تُخْرَبُ الأُمَمُ» (إش 60: 10-12)، وأيضاً: «وَبَنُو الَّذِينَ قَهَرُوكِ يَسِيرُونَ إِلَيْكِ خَاضِعِينَ، وَكُلُّ الَّذِينَ أَهَانُوكِ يَسْجُدُونَ لَدَى بَاطِنِ قَدَمَيْكِ، وَيَدْعُونَكِ: مَدِينَةَ الرَّبِّ، «صِهْيَوْنَ قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ» (إش 60: 14)
الإخضاع الشعبي عبر الديانة الإبراهيمية
وإلى جانب السيادة السياسية، سيكون مشروع أبراهام بوابة تحقيق السيادة الروحية لإزالة الفوارق بين اليهودية والمسيحية والإسلام عبر التركيز على المشترك الإبراهيمي.
قد تبدو مثل هذه التغييرات ضرباً من الخيال، لكنّ تغيير خطاب الكنيسة الكاثوليكية في الستينيات وتبرئة اليهود من دم المسيح، رغم اعتراض قيادات كنسية مشرقية في حينها لمعارضة الأمر نصاً إنجيلياً واضحاً، يبيّن ألاّ مستحيل في هذا العالم. وقد تعاظم هذا التأييد المسيحي لإسرائيل مع الإنجيليين، الذين يرون بأن تجمّع اليهود في فلسطين ضروري لتحقيق نبوءات هذه الكنائس لمجيء المخلّص وحرب نهاية العالم.
بالطبع، انخرطت العديد من الدول العربية في المشروع عن علم أو جهالة. وفي العراق، وبهدف الترويج للسياحة ومشاعر دينية سطحية جرى الترويج لمدينة أور على أنها مسقط رأس إبراهيم، وتضمّنت زيارة البابا الراحل فرانسيس للمدينة زيارة المنزل المزعوم، والذي ربط بإبراهيم بناءً على فكرة من وحي الخيال التوراتي لزوجة المنقّب البريطاني السير ليونارد وولي، ولم تكن المدينة يوماً محجّة لليهود أو المسيحيين في بلاد النهرين، وليست هناك أدلة أثرية على النبي إبراهيم، بل أن ربطه بأور الكلدانيين تفسير اعتباطي لنص في سفر التكوين، رغم أن صلته بحرّان وكنعان أكثر وضوحاً، وكان خاله الآرامي لابان يقيم في حرّان (أورفا الحالية).

ليست اليهودية ديانة تبشيرية، إلّا أن العهد القديم يتحدّث عن السيادة الروحية لأورشليم على الأمم، ومنها: «22 فَتَأْتِي شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ وَأُمَمٌ قَوِيَّةٌ لِيَطْلُبُوا رَبَّ الْجُنُودِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَلْيَتَرَضُّوا وَجْهَ الرَّبِّ. 23 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: فِي تِلْكَ الأَيَّامِ يُمْسِكُ عَشَرَةُ رِجَال مِنْ جَمِيعِ أَلْسِنَةِ الأُمَمِ بِذَيْلِ رَجُل يَهُودِيٍّ قَائِلِينَ: نَذْهَبُ مَعَكُمْ لأَنَّنَا سَمِعْنَا أَنَّ اللهَ مَعَكُمْ». (سفر زكريا 8: 22-23)، وأيضاً «2 وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي رَأْسِ الْجِبَالِ، وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ، وَتَجْرِي إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ» (إشعياء 2: 2)، ولمثل هذه النصوص أهمية في خيال النظام السياسي الإسرائيلي والحكومة اليمينية الحالية خصوصاً.
قد يرى المسلمون أن دينهم عصيّ على التلاعب لغياب اعتمادهم على العهد القديم، بخلاف المسيحيين، إلّا أن “الإسلام الجديد” سيكون وسيلة ناجعة، عبر تفسيرات كثيرة، لقبول مملكة داوود الجديدة والدخول في الطور المسيحاني، أو حتى توسّع رقعة الحركات السلفية التي تضع الاعتراض على الحُكام في خانة أكبر الكبائر.
في شرق أوسط مفكك تحكمه إسرائيل، ستواصل الدولة اليهودية فرض سطوتها، وقد ينتقل الصراع إلى تركيا أو مصر التي تمتلك جيشاً كبيراً بعد تصفية المشروع الإيراني، وقد تُفرض الجزية المباشرة على دول الخليج في المستقبل.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
حروب وكالة أو تصارع إقليمي، أياً كان ما حدث بين إيران وإسرائيل خلال الأشهر والسنوات الماضية، فقد انتهى وقُرعت طبول الحرب المباشرة؛ مدفوعة بقلق إسرائيل من المشروع النووي الإيراني الذي تراه تهديداً مباشراً لا يكفيه اتفاق.
بصبر حائك سجّادٍ، راهنت إيران على كسب الوقت لتحقيق انتصارٍ دبلوماسي، بعد أن لوّحت بأذرعها في غزّة ولبنان واليمن والعراق. وتحاشياً للحرب المباشرة، تردّدت في التدخل الجدّي لإنقاذ تلك الأذرع، وقد منح ذلك التردّد إسرائيل فرصة للقضاء عليهم تباعاً، عبر مسح قطاع غزة واغتيال قادة حزب الله وإسقاط نظام بشّار الأسد، وتحييد الفصائل العراقية، وتوجيه ضربات قاسية للحوثيين. لم يقطع ذلك التلكؤ أوصال “الهلال الشيعي” فحسب، بل خلق شعوراً بالخذلان لدى بعض أنصار محور المقاومة وهم يشاهدون سقوط شعار «وحدة الساحات».
عوّلت إيران على المفاوضات، رغم تحذيرات المرشد الأعلى علي خامنئي من عدم جدواها، وهكذا تكبّدت خسارة فادحة في ليلة سقوط الجنرالات في 13 حزيران، تضمنّت: قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس هيئة الأركان العامة محمد باقري، وقائد القوة الجوفضائية أمير علي حاجي زاده، وعلماء نوويين. وفي الوقت الضائع، جاء الرد الإيراني موجعاً للجانب الإسرائيلي، باستهداف مناطق سكنية ومعهد وايزمان للعلوم، لكنّه أقل دقة فيما يتعلّق بطبيعة الأهداف وأهميتها.
مع تزايد الدعوات لإسقاط النظام الإيراني، وتفعيل الملياردير الأمريكي إيلون ماسك لخدمة ستارلينك لتوفير الانترنت لشعب إيران، ودعوة نجل الشاه السابق رضا بهلوي الشعب للعصيان المدني، تبدو الأوضاع حرجة للغاية بعد 46 عاماً على الثورة الإسلامية. وسواء أُسقِط النظام أم لا، فإن الضربات ستُضعفه وقد تعيد إيران، في حال نجاة نظامها، إلى حدودها الطبيعية خلف جبال زاغروس، ممّا يأذن بتحقّق “الشرق الأوسط الجديد” الذي يتحدّث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو: “شرق أوسط إبراهيمي آمن لإسرائيل وتحت قيادتها المنفردة”.
صراع الأولويات: العرب بين النفوذ الإيراني والهيمنة الإسرائيلية
في عصر القومية العربية، لم يكُن مجرد التفكير في التطبيع مع إسرائيل مطروحاً، وكان الصراع العربي-الإسرائيلي يقوم على أسسٍ قومية، لكن الكنيست الإسرائيلي أقرّ قانون «يهودية دولة إسرائيل» بالأغلبية في تموز 2018، والذي ينصّ، من جملة بنوده، على أن «إسرائيل هي الوطن التاريخي للأمة اليهودية» وأن «لليهود فقط في إسرائيل حق تقرير المصير»، ورأى الفلسطينيون الذي بقوا في الأراضي المحتلة عام 1984 وبعض اليهود في هذا القانون ما يبرّر التمييز ضد الأقليات غير اليهودية في البلاد. يتماشى ذلك القانون مع خطط تحويل الشرق الأوسط إلى كانتونات دينية بالتزامن مع واقعٍٍ رسمته الصراعات الطائفية التي نكبت الدول العربية منذ إسقاط نظام صدّام حسين في 2003 وأحداث الربيع العربي في عام 2011.
يقتضي إعلان إسرائيل دولة يهودية بالضرورة تفتيت الهويات الجامعة في دول الجوار تباعاً: القومية والوطنية والدينية عبر حركات إحياء الهويات القديمة ضد العروبة، والليبرالية والفردانية ضد الوطنية، والطائفية ضد الإسلام كاسمٍ جامع. وبعد عقود من الصراعات الدامية في دول الطوق، نُسفت الثقة بين المكونات المجتمعية في العراق وسوريا، وكذلك في لبنان منذ الحرب الأهلية (1975-1990).

ليس من المنطقي لوم إسرائيل وحدها على إذكاء الطائفية في المنطقة، فقد تناحر المسلمون منذ العقود الأولى بعد وفاة نبي الإسلام، وتكرّرت الصراعات الطائفية عبر القرون، في الحروب البويهية-السلجوقية (1055 للميلاد) والصفوية-العثمانية (1578-1590)، ومقتلة الدروز والموارنة (1860)، وغيرها الكثير، لكن لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه إسرائيل في تعزيز هذه الصراعات أو تغذيتها.
عند تأسيس العراق الحديث في أعقاب سقوط الدولة العثمانية، لم تغب الطائفية عن المشهد، ورفض الشيعة مبايعة الملك الحجازي، رغم أصوله الهاشمية. وفي لبنان، عارض السُنة فكرة لبنان الكبير الذي يعني تحوّلهم إلى أقليّة في بلدٍ مسيحي، وخسارة مكانتهم ضمن مجتمع الأغلبية في سوريا. وبخلاف ذلك، وجد الشيعة أن لبنان فرصة للاعتراف بهم رسمياً كطائفة مستقلة وإنشاء محاكمهم الجعفرية في عام 1926، وبالطبع فضّل الموارنة الحفاظ على حكمهم الذاتي الذي حصلوا عليه منذ تأسيس متصرّفية جبل لبنان في عام 1861. بالمثل، قسّم الانتداب الفرنسي سوريا إلى خمس دويلات على أسسٍ طائفية.
مع ذلك، وفي الحقبة القومية، انزوى الدين بعيداً وأصبح سمة ثقافية هامشية، رغم ظهور جماعات إسلامية سُنية مثل الإخوان المسلمين في مصر (1928) وشيعية مثل حزب الدعوة الإسلامية في العراق (1957) لكنها بقيت على هامش المجتمع. وبعد إخفاق الحركات القومية في تحقيق مشاريع التنمية والوحدة العربية وخسارتها في حربين رئيسيتين ضد إسرائيل (1948 و1967) وسقوطها في دوامة الانقلابات العسكرية والدكتاتورية، عاود الإسلام السياسي الصعود وتلقّى زخماً غير مسبوق مع الثورة الإسلامية في إيران وأسلمة حركات التحرير الفلسطينية الماركسية مع تأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين (1981)، وحزب الله اللبناني (1982)، وحركة حماس (1987). أسهمت تلك الثورة في أسلمة العالم العربي بأسره ودفعه نحو التشدّد في محاولة من السعودية (الدولة التي تأسست على حلف قبلي-وهّابي) في محاولة لتعزيز موقفها ضد إيران لزعامة العالم الإسلامي. دعمَ الغرب القوى المحافظة لوقف المد الماركسي في العالم العربي -أو حتى فتح الطريق أمامها إلى أفغانستان-، رغم الإعلان المتكرر أن الإسلام هو العدو القادم بعد الشيوعية.
في أعقاب غزو العراق، طفت الطائفية إلى السطح مع تأسيس نظام المحاصصة وظهور العمائم الشيعية في السياسة وأعضاء من الإخوان المسلمين في مجلس الحكم، وتعاظم الأمر مع الحرب الأهلية بعد 2006 وأصبح الاحتقان الطائفي ظاهرة يتاجر بها الساسة. وبعد هزيمة تنظيم داعش الإرهابي في عام 2017، انحسرت الطائفية من الشارع لكنها بقيت حيّة في الكواليس والنقاشات التلفازية والفضاء الإلكتروني.
في لبنان، تعزّز الصراع الطائفي أكثر بعد اجتياح حزب الله بيروت في أيار 2008 وتورطه في الصراع السوري بعد 2011، حيث وصل العنف الطائفي إلى مستويات غير مسبوقة مع الصبغة السلفية لمعظم الفصائل السورية (ودخول مقاتلين من العرب والشيشان والايغور)، والصبغة الشيعية للميليشيات الداعمة لنظام الأسد (ودخول مقاتلين من العراق ولبنان وإيران وأفغانستان).
حوّلت تلك الصراعات الطائفية بوصلة العالم العربي بالكامل، بعيداً عن القومية والإسلام، فهاهم العرب المسلمون يتقاتلون معاً بسبب الطائفة، ولم تعد الهوية الوطنية قادرة على امتصاص ذلك الاحتقان، وأُعيد تشكيل الجماعات على أسس طائفية عابرة للحدود، لتتعاطف الطوائف مع بعضها البعض بعيداً عن مفاهيم الوطن والقومية.
في خضم هذا التيه، ساهم الإعلام، والوقائع، والذاكرة الانتقائية، في دفع الشعوب للبحث عن الخلاص الفردي. أصبح الموقف الشيعي متماهياً مع إيران في الغالب، فيما أصبحت إيران العدو الأوّل للسُنة، وغابت إسرائيل عن واجهة الصراع ولم تعد العدو المباشر لقطاعات واسعة من العراقيين والسوريين. وباستخدام القوة الناعمة، نجح الإعلام الإسرائيلي الناطق بالعربية وإعلام عربي يميل ممولوه لإسرائيل، في بناء علاقات تمهّد للتطبيع الشعبي قبل الرسمي وبث الفرقة وتقديم أنفسهم كمخلّصين للعرب السُنة من الهيمنة الفارسية.

ربما تكون تلك أكبر وأسرع هندسة اجتماعية في تاريخ المنطقة، حيث أصبح سُنة العراق وسوريا ينظران إلى إيران على أنها الخطر الداهم وأن موضوع فلسطين قضية خاسرة، وأن من يسكن منزلاً محترقاً لا يمكنه إطفاء حريق منازل الآخرين.
عزّز الإعلام العربي هذه السردية فضلاً عن تبجّح إيران بأنها تحكم أربعة عواصم عربية. وبينما ساهم الروس بقدرٍ كبيرٍ من الدمار في الحرب السورية إلا أنّهم لم يتواجدوا على الأرض ولم يصوّروا مقاطع فيديو لقتل السوريين ولم يحاولوا استفزاز الأغلبية السُنية هناك بشعارات مسيحية أرثوذكسية. من المتوقّع أن يتذكّر الإنسان ما لامسه عن كثب في السجون وجبهات القتال، وهنا كانت الشعارات الدينية الشيعية مقابل السُنية هي الحاضرة، وهذا ما دعم صعود تيار “الأمويّة الجديدة” نكاية بشعارات «ثارات الحسين»، وأصبح الحديث عن تجنيس الإيرانيين والتغيير الديموغرافي بعد تهجير ملايين السوريين ومنعهم من العودة عصب الطائفية الجديدة ليس في سوريا فسحب، بل في المنطقة بأسرها، وأصبحت إيران في نظر السُنة إسرائيل جديدة تحتل مساحات أكبر من أرض كنعان التاريخية.
ببساطة، مهّد صعود الجماعات السُنية (داعش وجبهة النُصرة وغيرها) وجرائمهم ضد الشيعة وبقية الأقليات الدينية، وجرائم الميليشيات الشيعية وحصار المدن وتهجير السكان في خلق صدع هائل بين الطائفتين. باختصار، لم تقل ممارساتهما في حق بعضها البعض عن ممارسات إسرائيل في حق الفلسطينيين.
من خلال الإعلام الإسرائيلي، والتلويح الدائم بالفزاعة الفارسية، لم تعد فلسطين مهمّة لا عربياً ولا إسلامياً، لأنها في نظر الكثيرين قضية خاسرة تاجرت بها كل الأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي وإيران على حدٍ سواء. حتّى الرد الإيراني اليوم لا يتعلّق بفلسطين بقدر تعلّقه برد مباشر على ضربات إسرائيلية نوعية مسّت الكبرياء الفارسي في مقتل.
العراق في قلب العاصفة: خطر التفكيك
في العراق الذي يقع في قلب الصراع، وبعد أكثر من عقدٍ من الحصار الاقتصادي وعقدين من الاحتلال الأجنبي والحروب الطائفية، تكاد الوطنية العراقية تكون في أضعف أوضاعها حالياً رغم كثرة الأغاني والشعارات الوطنية.
يسود اليوم اعتقادٌ بأن الحكم التوافقي شيعي في النهاية، وأن مشاركة الطوائف الأخرى اسمية وبشروط الشيعة. تعاظم ذلك الشعور بعد الاخضاع النهائي لحركات التمرّد السُني والقضاء على حلم الاستقلال الكُردي. لكن السلام المتحقّق عبر الاخضاع سلامٌ هش.
وبينما تلاشت أحلام العرب السُنة في استعادة السلطة في العراق، أعاد لهم الوضع الجديد في سوريا الأمل في التغيير، وتعاظم ذلك مع الحرب الراهنة. يتمنّى بعضهم بصراحة سحق إيران بهدف الخلاص من نفوذها في العراق، ويقف البعض موقف المتفرّج، معللاً ذلك بأنه صراع بين “ظالمَـين”، وأن لا ناقة لهم فيه ولا جمل، لكن هزيمة الطرفين وهمٌ غير قابل للتحقيق، فلا بدّ للحرب من رابح، وخلف هذه المشاعر المموّهة يقف بوضوح تفضيلهم هزيمة إيران وتخوّفهم من أن يكون انتصارها إعلاناً لنهاية السُنة في بغداد وديالى وسامراء. بالطبع، ليس السُنة كتلة متجانسة، فهناك فئات لا تفضّل انتصار إسرائيل لأهداف تتعلّق بالتعاطف مع غزة أو الخوف من المشروع الإسرائيلي التوسّعي أو لأسباب دينية عابرة للطوائف فضلاً عن موقف الإخوان المسلمين المتماهي مع إيران. مع ذلك، يُهاجم هؤلاء من بقية السُنة على اعتبارهم موالين للشيعة أو أنهم حمقى يتناسون ما فعلته إيران في العراق وسوريا، كما يهاجم بعض الشيعة الإخوان المسلمين على اعتبارهم عدو الشيعة الأخطر.
وممّا يثبت أن للتدخل الإيراني في الشرق الأوسط دوراً في هذا التحوّل، أنه أقل وطأة في مصر وشمال أفريقيا، بخلاف التيارات السلفية المعروف عنها مواقفها المتشنجة وعدم تأييدها إلّا من يتماثلون معها بالتمام، ولم يكونوا مستعدين للتعاطف مع حماس السُنية نفسها لوقوفها مع إيران ولكونها من الإخوان، فضلاً عن صراعاتهم الداخلية الكثيرة (داعش والنُصرة والقاعدة).
ويعوّل بعض الكرد على انتصار إسرائيل بهدف تقسيم إيران وانفصال إقليم كردستان هناك، ودعم إسرائيل لقسد في روج آفا، وقيام اتحاد كردي بين الأقاليم الثلاثة في إيران والعراق وسوريا، متجاهلين حقيقة انقسام الإقليم العراقي نفسه بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ومع حضور سلفي واضح في الإقليم، يعادي بعض الكرد إيران وإسرائيل معاً ويكتفون بالمراقبة، فيما يعادي بعضهم إسرائيل بسبب جرائمها في غزة.

حتى الشيعة منقسمون حيال ما يجري اليوم، فهناك من يستشعر خطراً وجودياً إذا ما تعرّضت إيران للتدمير، وأصبح عداؤهم لإسرائيل أكبر ممّا مضى، وبما يتجاوز الحرب في فلسطين، التي رأت بعض الأصوات الشيعية أنها قضية سُنية حشر الشيعة أنفسهم فيها ودفعوا لقاءها ثمناً باهظاً لم يسفر عن تغيير موقف السُنة منهم. وترى بعض القوى الشيعية العلمانية أن ضعف النظام الإيراني يعني فرصة لقيام إيران حضارية والتخلّص من نفوذ ميليشياتها في العراق، فيما تحاول قوى موالية لإيران تخويف العرب من سقوط نظام الملالي وقيام إيران شاهنشاهية أكثر قبولاً عند الغرب وبعلاقات وثيقة مع إسرائيل وعودتها لتكون شرطي المنطقة، بما يُنهي الدور الذي اضطلعت به دول الخليج في المنطقة جراء القطيعة الإيرانية-الغربية، ولا يخلو هذا السيناريو من صحّة لأن الغرب، مدفوعاً لاشعورياً بالنظرية الآرية، يُبدي للفرس احتراماً يفوق ما يبديه للعرب.
وسط كلّ هذه التعقيدات، نجحت الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني بتجنيب العراق أهوال الأشهر الماضية من غليان الشرق الأوسط، وتمكنت من إسكات الميليشيات الأشد قرباً من إيران المرشد، ومنعت طائراتها المسيّرة وصواريخها من استهداف المصالح الأمريكية أو حتى إسرائيل، فجَنَت، نتيجة لهذا العمل، ثماراً تمثّلت بعدم استهداف العراق من قبل إسرائيل، لكن هذا الهدوء القائم على اتفاقات شديدة الدقة والهشاشة، قد ينهار مع دخول هذه الميليشيات إلى المعركة نصرةً للنظام الإيراني.
إسرائيل الكبرى: حلم مؤجل أم مشروع قيد التنفيذ؟
ليس الحديث عن دولة إسرائيل الكبرى بوهم، ومع حكومة نتنياهو اليمينية، أصبحت كل خطابات الحرب اليوم دينية، وصارت لبنان جنوب نهر الليطاني وآرام دمشق أجزاء من أرض إسرائيل في نظرهم، وقد ازدادت وتيرة الحديث عن الدولة الكبرى في الدوائر الإسرائيلية وظهرت خريطتها على أكتاف جنود جيش الدفاع الإسرائيلي.
إسرائيل بلد قائم على الرواية التوراتية، وعلى فكرة الحق الإلهي الأزلي في أرض الميعاد. ففي سفر التكوين نقرأ «وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ. وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ» (تك 12: 6-7)، والأهم بالطبع ما يرسم حدود ذلك الحلم: «18 فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقاً قَائِلاً: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ». (تك 15: 18).
لا تسمح الديموغرافية اليهودية الصغيرة بحكم هذه المساحة الهائلة، بين النيل والفرات، المسكونة بشعوب معادية، بل إن اسرائيل احتاجت عقوداً طويلة للهيمنة على أرض كنعان الصغيرة، ولا تزال تواجه مشاكل في الضفة الغربية وغزة. مع ذلك، ومع مسح جيوش دول الجوار، وإمكان الشروع بمرحلة تقسيم المقسّم عبر تأجيج الصراعات الداخلية، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية والتخلّف التكنولوجي، فإن إسرائيل ستكون حتماً الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك جيشاً قوياً وعقيدة واضحة المعالم وأهدافاً ثابتة ووحدة داخلية صهرتها الاضطهادات الطويلة وتعاضداً منقطع النظير صقله الشعور الدائم بالتهديد الوجودي.

في مثل هذه الظروف، ومع عجز العرب وفقدانهم الرغبة في المواجهة، لم تعد إسرائيل الكبرى حلماً بعيد المنال، ولكن حكمها للمنطقة لن يكون مباشراً، بل بمثابة سيطرة على قرار دول الجوار وإخضاعها لسلطتها غير المباشرة تحت تهديد نيرانها الدائم، سيكون خضوعاً سياسياً واقتصادياً، يعقبه الإخضاع الأيديولوجي عبر المشروع الإبراهيمي.
يكتفي العرب اليوم بموقف المتفرّج، ومصير المتفرّج أن يصبح غنيمة الطرف المنتصر بعد انتهاء المعركة. يشبه موقف العرب السلبي اليوم موقفهم في مطلع القرن الماضي، وكيف انتهى الأمر بتقسيم أراضيهم بعد هزيمة العثمانيين كغنائم بين بريطانيا وفرنسا بعد قرون من التجهيل. وبينما امتلك العرب في أعقاب الحرب العالمية الأولى مشروعاً قومياً شكّل هوية دولهم الناشئة، فإنهم اليوم مجردين من أي مشروع، بل إن مشروع الإسلام السياسي بدأ بالأفول مع توجّهٍ واضح لحظر الإخوان في مصر والأردن وفرنسا، والقضاء على حكمهم في غزة. بل إن احتمال التطبيع مع إسرائيل في ظل التيار السلفي، قد يشكّل ضربة قاتلة للمؤمنين الحقيقيين بهذه المشاريع وتكشّف أدوارها الحقيقية، ويتزامن هذا مع النهج السعودي الواضح للتغريب والتخلّي عن الخطاب المتشدّد ومحاربته.
كانتونات الشرق الأوسط الجديد
في شرق أوسط تحكمه إسرائيل، لن تنتهي الصراعات، ولاسيما في دول الطوق.
مع الإعلان الأمريكي-الإسرائيلي الصريح عن رفض حلّ الدولتين، يعني الواقع الجديد ضمّ الضفة الغربية، وقد بدأت الولايات المتحدة باعتماد تسميتها التوراتية «يهودا والسامرة»، وسوف تُبذل المساعي لتهجير سكّانها العرب إلى الأردن، فضلاً عن إجبار مصر على استقبال سكّان غزة.
وفي سوريا منزوعة السلاح، لن تسمح إسرائيل لتركيا بإقامة قواعد عسكرية هناك، بل قد تأجج هذه الخطط المشكلة الكردية في تركيا نفسها من جديد. وبالطبع، ورغم محاولات النظام الجديد مد أغصان الزيتون تجنباً لحروبٍ لا طاقة لسوريا بها، لا يُتوقّع أن تقبل إسرائيل بما هو دون تقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية وقومية للدروز والعلويين والكرد، وضم الجولان-ومساحات أخرى- بشكلٍ نهائي.
أما العراق، فقد يُدخل غياب إيران عن الساحة النظام السياسي في صراعات داخلية، شيعية-شيعية، وربما مع بقية الأطراف لرسم الحدود بالدم، وسوف يكون تقسيم البلد إلى ثلاثة دول هدف إسرائيل الاستراتيجي، وهو ما سعت إليه منذ عام 2003. وفي بحثها عن الماء، قد تختلق المشاكل لضمّ جنوب لبنان والوصول إلى نهر الليطاني، ولن يكون هناك داعم لحركات مقاومة في الجنوب اللبناني حينئذ.

ومع دخولنا مرحلة تقسيم المقسّم، وخلق كيانات متخاصمة، ستكون الدولة اليهودية السيد الأوحد وتخضع الممالك كما في سفر إشعياء، «10 وَبَنُو الْغَرِيبِ يَبْنُونَ أَسْوَارَكِ، وَمُلُوكُهُمْ يَخْدِمُونَكِ. لأَنِّي بِغَضَبِي ضَرَبْتُكِ، وَبِرِضْوَانِي رَحِمْتُكِ. 11 وَتَنْفَتِحُ أَبْوَابُكِ دَائِمًا. نَهَارًا وَلَيْلًا لاَ تُغْلَقُ. لِيُؤْتَى إِلَيْكِ بِغِنَى الأُمَمِ، وَتُقَادَ مُلُوكُهُمْ. 12 لأَنَّ الأُمَّةَ وَالْمَمْلَكَةَ الَّتِي لاَ تَخْدِمُكِ تَبِيدُ، وَخَرَابًا تُخْرَبُ الأُمَمُ» (إش 60: 10-12)، وأيضاً: «وَبَنُو الَّذِينَ قَهَرُوكِ يَسِيرُونَ إِلَيْكِ خَاضِعِينَ، وَكُلُّ الَّذِينَ أَهَانُوكِ يَسْجُدُونَ لَدَى بَاطِنِ قَدَمَيْكِ، وَيَدْعُونَكِ: مَدِينَةَ الرَّبِّ، «صِهْيَوْنَ قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ» (إش 60: 14)
الإخضاع الشعبي عبر الديانة الإبراهيمية
وإلى جانب السيادة السياسية، سيكون مشروع أبراهام بوابة تحقيق السيادة الروحية لإزالة الفوارق بين اليهودية والمسيحية والإسلام عبر التركيز على المشترك الإبراهيمي.
قد تبدو مثل هذه التغييرات ضرباً من الخيال، لكنّ تغيير خطاب الكنيسة الكاثوليكية في الستينيات وتبرئة اليهود من دم المسيح، رغم اعتراض قيادات كنسية مشرقية في حينها لمعارضة الأمر نصاً إنجيلياً واضحاً، يبيّن ألاّ مستحيل في هذا العالم. وقد تعاظم هذا التأييد المسيحي لإسرائيل مع الإنجيليين، الذين يرون بأن تجمّع اليهود في فلسطين ضروري لتحقيق نبوءات هذه الكنائس لمجيء المخلّص وحرب نهاية العالم.
بالطبع، انخرطت العديد من الدول العربية في المشروع عن علم أو جهالة. وفي العراق، وبهدف الترويج للسياحة ومشاعر دينية سطحية جرى الترويج لمدينة أور على أنها مسقط رأس إبراهيم، وتضمّنت زيارة البابا الراحل فرانسيس للمدينة زيارة المنزل المزعوم، والذي ربط بإبراهيم بناءً على فكرة من وحي الخيال التوراتي لزوجة المنقّب البريطاني السير ليونارد وولي، ولم تكن المدينة يوماً محجّة لليهود أو المسيحيين في بلاد النهرين، وليست هناك أدلة أثرية على النبي إبراهيم، بل أن ربطه بأور الكلدانيين تفسير اعتباطي لنص في سفر التكوين، رغم أن صلته بحرّان وكنعان أكثر وضوحاً، وكان خاله الآرامي لابان يقيم في حرّان (أورفا الحالية).

ليست اليهودية ديانة تبشيرية، إلّا أن العهد القديم يتحدّث عن السيادة الروحية لأورشليم على الأمم، ومنها: «22 فَتَأْتِي شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ وَأُمَمٌ قَوِيَّةٌ لِيَطْلُبُوا رَبَّ الْجُنُودِ فِي أُورُشَلِيمَ، وَلْيَتَرَضُّوا وَجْهَ الرَّبِّ. 23 «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: فِي تِلْكَ الأَيَّامِ يُمْسِكُ عَشَرَةُ رِجَال مِنْ جَمِيعِ أَلْسِنَةِ الأُمَمِ بِذَيْلِ رَجُل يَهُودِيٍّ قَائِلِينَ: نَذْهَبُ مَعَكُمْ لأَنَّنَا سَمِعْنَا أَنَّ اللهَ مَعَكُمْ». (سفر زكريا 8: 22-23)، وأيضاً «2 وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي رَأْسِ الْجِبَالِ، وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ، وَتَجْرِي إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ» (إشعياء 2: 2)، ولمثل هذه النصوص أهمية في خيال النظام السياسي الإسرائيلي والحكومة اليمينية الحالية خصوصاً.
قد يرى المسلمون أن دينهم عصيّ على التلاعب لغياب اعتمادهم على العهد القديم، بخلاف المسيحيين، إلّا أن “الإسلام الجديد” سيكون وسيلة ناجعة، عبر تفسيرات كثيرة، لقبول مملكة داوود الجديدة والدخول في الطور المسيحاني، أو حتى توسّع رقعة الحركات السلفية التي تضع الاعتراض على الحُكام في خانة أكبر الكبائر.
في شرق أوسط مفكك تحكمه إسرائيل، ستواصل الدولة اليهودية فرض سطوتها، وقد ينتقل الصراع إلى تركيا أو مصر التي تمتلك جيشاً كبيراً بعد تصفية المشروع الإيراني، وقد تُفرض الجزية المباشرة على دول الخليج في المستقبل.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.