موت ربّ المعدان 

علي عزيز

29 آب 2024

ماذا يدور برأسك عندما تسمع كلمة معيدي؟ هل تخطر لك الأهوار؟ والجواميس؟ هل تتذكر المشاحيف والسمك؟ هل سمعت من قبل نكتة "عنصرية" عنهم؟ هل سمعت بواحد منهم؟ لماذا صارت هذه الكلمة "وصمةً" ضد أهالي منطقة جغرافية محددة؟ من هو العراقي صاحب العرق الأنقى في عراقيته؟ هل يوجد ذلك العراقي؟ عن "المعدان" بوصفهم جماعة عراقية تتعرض للكثير من العنصرية..

كنت طفلاً عندما كانت الألفية الجديدة تُولد، بحدود عام 2004. ذهبتُ رفقة أسرتي إلى مدينة النجف لزيارة الإمام علي ابن ابي طالب، أداءً لنذر يقتضي أن نزور فيه المراقد المقدسة. 

دخلنا في ذلك النهار الصيفي الرطب إلى “السوق المسگّف” في النجف القديمة. كنت ممسكاً بطرف عباءة أمي، وتناهت إلى مسامعي عبارات أصحاب المحال من الجانبين “أجوي المعدان.. أجوي المعدان”. 

لهجة المتحدثين وهيأتهم توحيان أنهم من السكان الأصليين لمدينة النجف، وهيأتنا ولهجتنا توحيان بأننا قرويون.  

يقتصر الاختلاف في اللهجة غالباً على استبدال بعض الأحرف أو نطق الكلمات بصورة مختلفة، لكنه يكفي لتمييز الخلفية الثقافية والاجتماعية، فنحن أبناء الأرياف نتصور أن لهجتنا تبدو أقل تكلفاً. 

على سبيل المثال كلمة “أجوّي” ننطقها “أجو” بتسكين الواو والانتهاء عنده. وإذا نادينا الأم نقول “يمّه”، بينما ينطقها أبناء المدن “ماما”. وإذا وصفنا الحقول نقول “جيعان” بينما يقول أبناء المدن “گيعان”، أما الأكل فننطقه “أچل”، بينما في المدن يقولون “أكل”. وهناك ننطقها “غادي” وقريب ننطقها “جريب”، وهكذا.  

الاختلافات تتعلق باستبدال بعض الأحرف، فضلاً عن اختلاف بعض الكلمات أيضاً، فالصحن مثلاً نسميه “قاب”، وفي المدينة اسمه “ماعون”. الحال هذه، تدور معظم الاختلافات باستبدال الأحرف، لا سيما بين حرفي الجيم و”الگَـ” و”الچَ” و”القاف”. 

أما الثياب، فالذكور صغاراً وكباراً في الأرياف يرتدون “الدشداشة”، بينما في المدينة يرتدي معظمهم البنطلون والقميص أو التيشيرت، والملابس ذات الماركات والاستخدامات الرياضية. وتميل بنات الأرياف لارتداء الملابس الفضفاضة ذات الألوان المزركشة والنساء الأكبر سناً يرتدين اللون الأسود إذا ما تجاوزن سن الخمسين أو منتصف الأربعين.  

العجائز يرتدين الأسود مع عصابة الرأس و”الشيلة”، التي هي عبارة عن خمار أسود خشن غير مريح، وحده الله يعلم كيف يرتدينه! أما ملابس الموضة والجينز فلم ترتديها نساء الأرياف حتى العقد الأخير.  

في طفولتي (حوالي 2005)، أتذكر أني ذهبت رفقة جدتي إلى حفل زفاف في المدينة، فاستغربت من ارتداء النساء بناطيل الجينز، وعندما عدت كنت أروي ما رأيت للآخرين بحماس. 

وبصورة عامة، فإن نساء الأرياف أكثر ميلاً من نساء المدن للمبالغة في الاحتشام، لكن الفروق تراجعت مؤخراً؛ ذلك أن الأجيال الجديدة من فتيات الأرياف صرن يرتدين مثل فتيات المدن غالباً؛ بسبب ما وفّرته السوشيال ميديا والتسويق الإلكتروني للملابس. وبعضهن لا يزلن يرتدين الثياب المزركشة الفضفاضة. 

لم تكن “أجوي المعدان” الجملة الوحيدة التي شعرت فيها بأننا غير مرحَّب بنا، فعندما استدللنا الباعة عن مكانٍ لا نعرفه، رفضوا التعاون معنا، وقوبلنا بوجوه متجهمة! كانت تلك الزيارة، أول مرة أشعر فيها بالتمييز لسببٍ خارج عن إرادتي، لأني ولدت قروياً! 

رحلة المعيدي 

تتداول القصص الشعبيّة أن فتاة ريفية تزوّجت برجل وانتقلت للعيش معه في المدينة، وبعد مرور مدة زارت منزل أهلها في الريف، وذهبت رفقة أخواتها لحش “العنگر” القصب الذي ينمو على ضفاف الأنهار لتجلبه للماشية، فغيرت الفتاة اسم الـ”عنگر” إلى “عنقر” بتحويل الـ”گ” قافاً، فصارت محط سخرية، وصارت كذلك مضرب مثلٍ على من يغيّر لهجته أو “يكسرها”. 

كثيرون من أبناء القرى يكسرون ألسنتهم عندما يذهبون إلى المدن، للدراسة أو العمل أو حتى زيارة الأقارب ليوم واحد، وذلك تجنُّباً للتمييز، أو لمحاولة الظهور بمظهرٍ أكثر تحضراً.  

يقول مصطفى هاشم (22 عاماً)، وهو ناشط من هور الحويزة في محافظة ميسان، “كل شبابنا من يرحون للزيارة (مشّاية) يغيرون لهجتهم أما بالجامعة يدفنونها”. 

نتيجة لسخرية وتهكم زملائهم، وتنمّر الأساتذة أيضاً، يتجنب الطلبة من أبناء الأهوار في الجامعات استعمال لهجتهم الأصلية، محاولين التحدّث بلهجة المدينة التي يعيشون فيها، وفق هاشم، الذي يعمل في مؤسسة حكومية، يتعرض فيها هو نفسه للتمييز من زملائه القادمين من خلفيات حَضَريّة، داخل ميسان أو خارجها. 

“بسبب المنطقة التي أسكن بيها يعتبروني كلشي ما أعرف، وأما اللهجة فبشكل يومي لو يصححون كلماتي ويجعلوها مثل لهجتهم لو يظلون يسخرون (من لهجتي)”. 

ربّ المعدان 

عام 1927، توفي شيخ قبيلة معروف في منطقة الفرات الأوسط يدعى “هنين”، فأتت عشيرته بجثمانه لدفنه في مقبرة وادي السلام في النجف. كان التشييع مهيباً، فذلك الشيخ كان محط احترام شديد من عشيرته لدرجة أنهم قدموا بالمئات للمدينة بزيهم العشائري التقليدي (عقال وبشت) وبعضهم حفاة، فغصَّتْ النجف القديمة بهم. 

على هامش ذلك التشييع، كان هناك نجفيان أصلانيان ينظران باستغراب لتلك الجموع التي تُشيّع “هنين”، والتي لم يعتادا رؤيتها سابقاً بتلك الأعداد، فقال أحدهما لصاحبه: 

    – اليوم المعدان تارسين النجف، جايين كلهم! 

  • “ميت ربهم” 

ينطوي هذا الحديث على تمييز شديد، معتبرين أن للمعدان رباً خاصاً، يختلف عن ربهم. 

لا أحد يعلم على وجه الدقة من سمع حديثهم، لكنها قصة مأثورة معروفة في قضاء غماس جنوب غرب الديوانية، حيث كان “هنين” زعيماً لقبيلة آل زياد، وهي إحدى أكبر عشائر الفرات الأوسط، تتركز في السماوة والديوانية.  

على الرغم من تداول القصة بداعي الطرفة تارة، أو تفاخر أبناء القبيلة لمكانة جدهم بأنه رب للمعدان تارة أخرى، إلا أنها تنطوي على تمييز وعنصرية باتت شيئاً اعتيادياً يُمارَس يومياً ولا نفطن له حتى. فضلاً عن ذلك، فإنهم لا يعرفون معنى “المعدان” من الأصل! 

من هم المعدان؟ 

عندما كان المعدان جيراناً للمناذرة، كان هناك صعلوك يغير على حمى الملك النعمان بن المنذر حتى أزعجه كثيراً، ولم يجد حلاً لردعه، فكتب إليه النعمان أن يدخل في طاعته وله عطيّة كبيرة، فأتى الصعلوك إلى النعمان ومثل بين يديه، فلما رآه النعمان ازدرى حاله وهيأته، فقال فيه محقِّراً مشمئزاً منه: “تسمع بالمعيدي خير من أن تراه”. 

تشير معظم المصادر اللغوية إلى أن المعيدي هو تصغير للمَعَدي، والمعدي من معد، ومَعَدٌّ: أبو العرب وهو مَعَدُّ بن عدنان. ويتفق العديد من علماء اللغة مثل ابن منظور وسيبويه والكسائي وغيرهم على أن المعيدي هو ذلك الشخص قليل القدر، حقير المظهر.  

قال سيبويه، فإن حقرت معدي، ثقلت الدال، فقلت: “مُعَيدِيِّ”، وقال ابن السكيت، هو تصغير معدي. كما قال للرجل الذي قال له، وكأن تأويله تأويل أمر، “اسمع به ولا تره”، ومن هنا جاء المثل، “أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه”. 

لذا فأنها مفردة أصلها تحقيري، أي تُستعمل للتحقير والتقليل من شأن أحدهم. لكنها باتت تُستعمل لدواعٍ عنصرية، ولتمييز فئات معينة. 

هناك مصطلحات أخرى قريبة من المعدان، مثل الشروگي والعُرْبي. فالشروگي تستعمل أيضاً لدواع عنصرية، ويوصم بها سكان الجنوب وشرق دجلة، وتعود جذور تلك التسمية إلى أن قبائل الفرات الأوسط كانت تنظر إلى قبائل دجلة القاطنة إلى الشرق منها، نظرة دونية، وتطلق عليهم اسم “الشروقيين” نسبة إلى الشرق. 

بذلك فهي تحتقرهم وتستنكف مصاهرتهم؛ لأن قبائل شرق دجلة لم تحافظ على النزعة البدوية والعادات العشائرية الصارمة، فضلاً عن أنها قبائل هادئة مؤيدة للحكومات، وليست مثل قبائل الفرات الأوسط التي اعتادت الثورات والانتفاضات1.  

استمر ذلك الوصم وازداد بعد هجرة أبناء تلك القبائل إلى بغداد في منتصف القرن العشرين، واستيطانهم في مدينة “الثورة سابقاً -الصدر حالياً؛ فصارت مفردة “شروگية” تعني الاحتقار والتمييز.  

أما مفردة “عُرْبي” فهي تستعمل لوصف السكان القاطنين في القرى والأرياف بصورة عامة، لكن دلالاتها العنصرية أقل من شروگية، ولا تستعمل للتحقير غالباً، إنما لوصف فئة سكانية فقط. أما المعدان فباتت تستعمل لتحقير فئات سكانية بأكملها، لا سيما أبناء الأهوار. 

الوصمة 

اُستعمِلَت مفردة “المعدان” لوصف سكان أهوار العراق، ولكثرة ما لُصِقَت تلك المفردة بهم، حتى بات الكثير من الرحالة المستشرقين أمثال الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر وغافين ماكسويل، ‏العالم الاسكتلندي المتخصص بالتاريخ الطبيعي، يصفون شعب الأهوار بالمعدان، ظناً منهم أنها هويتهم، وحتى الكتّاب العراقيون الذين أرّخوا وكتبوا عن شعب الأهوار، استعملوا وصف المعدان دون مراجعة لغوية لأصلها. 

ربما يعد شعب الأهوار أكثر فئة اجتماعية تعرضت للتمييز في العراق، فمثلاً في كتابه “البدو“، يقول الرحالة الألماني ماكس فون أوبنهايم “إن نساء المعدان، سكان الأهوار، جميلات ويرغب أبناء القبائل البدوية في الزواج منهن، لكن في المقابل فإن البدوي لا يزوج ابنته للمعيدي؛ لأنه غير نقي النسب”.  

باشو (22 عاماً)، ناشط أهواري، ومؤسس الشبكة الأهوارية لحقوق الإنسان، يروي كيف يتعرض أطفال مهاجري الأهوار إلى تمييز وتنمّر في المدارس حتى من الكوادر التدريسية، وكيف أن التمييز قد حرم الكثير منهم من التعليم.  

بسبب الجفاف، نزحت أسرة باشو نهاية التسعينيات من قرية في ناحية گرمة بني سعد في الناصرية نحو مدينة النجف. ظل يتنقل من مدرسة لأخرى، وطوال الوقت كان يُنظَر إليه على أنه دخيل غريب، يتنمر عليه زملاؤه التلاميذ سواء نتيجة للهجته الأهوارية أو لعادات يومية مختلفة.  

في موسم 2009 – 2010 الدراسي، كان باشو يُعامَل مثل “الدخيل” في مدرسته، غير مرحب به. كان شخصاً فرضته البيروقراطية والسياقات التربوية على المدرسة والتلاميذ، وفي الموسم نفسه اندلع حريق في المدرسة، وكان من السهل جداً اتهام باشو بإشعال النيران، فهو بالنسبة للطلاب؛ ولد لا عشيرة له، وغريب يسهل اتهامه، لكنّ باشو وإن لم يكن هو الفاعل، إلا أنه كان “المعيدي” الذي يسهل استضعافه. 

حُرَم الكثيرون من أبناء الأهوار من حق التعليم؛ وذلك لأسباب عديدة منها تعذّر المدارس عن استقبال التلاميذ المهاجرين، لأسباب واهية مثل امتلاء الصفوف، لكن خلف الرفض كانت هناك نظرة عنصرية. 

فضلاً عن افتقار الأسر المهاجرة للأوراق الثبوتية اللازمة، يقول مصطفى هاشم: “المشكلة الأزلية هي صورة القيد، فلازم ترجع لمدينتك حتى تسويها، والأغلب ترجع أكثر من مرة حتى تكمّلها، فمثلاً كل ما أروح للبصرة، يصعدن وياي نسوان أصلهن العمارة جايات على صورة قيد، وحدة منهن تگول: هاي خامس مرة أجي”. 

لا يقتصر وصم المعدان على أبناء الأهوار فحسب، بل هو وصف يشمل جميع أبناء القرى والأرياف، وحتى النواحي والأقضية النائية البعيدة عن مراكز المحافظات، ولا تقتصر هذه الظاهرة على منطقة محددة من العراق، إنما هي في أنحائه كافة.  

المثير للغرابة؛ أن أبناء الأقضية والنواحي يصفون أبناء الأرياف بالمعدان، ولكن هم أنفسهم يُوصَفون بالمعدان عندما يذهبون لمراكز المدن، لغرض العمل أو الدراسة! 

يروي حسين رحيم، وهو شاب يسكن في قرية “صاحي” في ريف قضاء غماس التابع لمحافظة الديوانية، أن أخاه تشاجر مع أحد أبناء القرية، فعيّر الأخير أخاه بالمعيدي، وأنهم ليسوا من السكان الأصليين لقرية “صاحي”، وخلال دراسة حسين الجامعية في محافظة بابل، وصفه أحدهم بالمعيدي، “همزين أهلك بغماس، معدان عايشين ابستان”. 

بنت المعيدي 

يزخر الموروث الشعبي العراقي بأمثال وحكايات أبطالها من المعدان، منها بنت المعيدي وهي حكاية شعبية معروفة، قدّمها الكاتب عادل كاظم في نص مسرحي، قدمته فرقة مكي عواد. 

تدور أحداث الحكاية حول فتاة في الخامسة عشرة من شريحة اجتماعية مهمشة، تذهب إلى المدينة، وتبيع بالقرب من قصر مدير شرطة بغداد في العهد العثماني اللبن والحليب والقيمر، فتقع عليها عين مدير الشرطة العسوف، فيأمر بإدخالها لقصره ثم يغتصبها، لتحاول قتل الباشا في ما بعد وتدخل السجن. 

وبعد شفائه، يزورها الباشا في سجنها ويقع في حبها، ويعرض عليها الزواج. وتتصاعد الأحداث حتى زواج ذلك الباشا منها. 

في ما بعد تنتشر رسمة بورتريه لفتاة جميلة في البيوت والمقاهي العراقية، يقال إنها لبنت المعيدي تلك، بعدما ذهبت رفقة زوجها الباشا لأوروبا، على الرغم من عدم وجود مصادر حول الهوية الحقيقية لتلك الفتاة والقصة كلّها. ويذكر أن هذه القصة لا تقتصر على الموروث الشعبي العراقي فحسب، بل توجد نسخ عنها في سوريا وفلسطين وإيران وتركيا والخليج. 

تعكس القصة وجهة النظر الاجتماعية إزاء أبناء القرى والأرياف وبائعي الحليب، حيث توصم تلك الفئات المهمشة من خلفيات ريفية، بالمعدان. فهي ترسيخ لمصطلح المعدان وتطبيع استعماله لوصف فئة اجتماعية. 

يُنظَر اليوم لفتيات القرى والأرياف بنظرة دونية، فالمجتمع العراقي بصورة عامة كوَّن صورة ذهنية مغلوطة عن فتيات الأرياف، هناك تصور أن حياتهن تقتصر على الزراعة وتربية الجواميس والأبقار، وبيع الجبن والقيمر ومشتقات الحليب على تقاطعات شوارع المدن في الصباح الباكر.  

يميل الرجال للزواج من الفتاة الريفية لأنها “خادمة جيدة ونشيطة”، ولا حاجة لها بمتطلبات الحداثة من تسوق وأجهزة إلكترونية وسوشيال ميديا وغيرها، وهو تصغير ووصم للمرأة، كما أنه نظرة غير صحيحة بالمرة. فمعدلات الأمية انخفضت كثيراً بين فتيات الأرياف، وصارت معظمهن يدرسن في الجامعات، ويواكبن الحداثة والموضة والقضايا العامة، ولا تقتصر حياتهن على الأعمال والأنشطة القروية والفلاّحية فقط. 

لوحة بنت المعيدي

“خوفك من المعيدي إذا استحضر” 

في كتابه “الأمثال الشعبية في البصرة” يمارس المؤرخ العراقي عبد الله الدليشي عنصريةً صريحة إزاء أبناء الأهوار، وهو مثال للمؤرخين والمثقفين الذين أسهموا بترسيخ الخطاب العنصري في المجتمع العراقي.  

في تفسيره للمثل الشعبي “خوفك من المعيدي إذا استحضر”، يقول الدليشي: “أي لا تخش إلا من حديث النعمة، كأن يكون معيديا يعيش في الأهوار على صيد الطيور والسمك وتربية الجاموس، ثم يصيب ثراءً ومالاً، فيبطش، أو يبطر أو يفجر. يضرب للوضيع من الناس الذي يواتيه الحظ، فيرتفع بالمال والجاه، ويبقى في وضاعة الخلق، ولؤم الطباع”. 

ويفسر الدليشي أصول المعدان قائلاً، “المعدان هم ساكنو الأهوار، ويربون الجاموس، ويعيشون عيشة بدائية، لذا فإن القبائل العربية لا تصاهرهم، ولا تعترف بأنسابهم، ولا تقر لهم بالزعامة، ومهما بلغ المرء من مكانة، فأنه لا يزال معيدياً عريقاً بالجهل والتخلف”. 

وهناك أمثلة أخرى من الموروث الشعبي عن المعدان، مثل: “فضالة المعيدي”، والمقصود به ما تبقى في صحن المعيدي بعد الأكل لا قيمة له، فما دام المعيدي لم يأكله؛ فلن يأكله أحد من بعده بالطبع. ومثل آخر، “لا تدلي المعيدي على باب بيتك”، أي جعله مرادفاً للمتسوّل، الذي إذا أكرمته سيعاود المجيء. 

ينصرف التمييز إزاء الأشخاص من خلفيات ريفية أو أهوارية إلى الزواج وعقود البيع والشراء؛ فتجنب الزيجات بين أبناء المدن وساكني الأرياف والأهوار ظاهرة شائعة، والقصص حول هذا الموضوع كثيرة أيضاً. 

يروي حسن الحجاج من البصرة بأن السكان الأصليين لمدينة البصرة يتجنبون الزواج من بنات المهاجرين حديثاً للمدينة النفطية، والذين يسمّونهم بالمعدان، ويتجنبون تزويج بناتهم لتلك الفئة أيضا، لاعتبارات عديدة منها “خشونة طباع أولئك الناس”، كما يقولون. 

أما بالنسبة لتعاملات البيع والشراء فيقول الشاب الأهواري مصطفى هاشم، “في محافظة مثل ميسان، لا يمكنني شراء قطعة أرض في مركز المدينة لأن صاحب المكتب العقاري بعد أن يسمعك تتحدث بلهجة واضحة، يرفض أن يبيعك قطعة أرض”. 

لمصطلح المعدان وجوه سياسية واجتماعية عنصرية على حد سواء؛ أما السياسية فهي استعمال ذلك التمييز إزاء المهاجرين لأغراض انتخابية، إذ أوهم الساسة المحليون في المناطق التي يلجأ إليها أهل الأهوار والأرياف، أن القادمين من خلف الجدار وهم (المعدان أو اللفو أو النِزل) هم السبب الرئيس في جميع مشكلات السكان الأصليين للمدن، من بطالة وجرائم ونزاعات؛ وبالتالي تجب مقاطعتهم والمطالبة بتهجيرهم من حيث أتوا.  

“اللفو” هي كلمة عنصرية محضة، باتت تستعمل في العراق على نطاق واسع لا سيما في البصرة، وجذورها اللغوية من (لفا) أي وفد. أما (نِزِل) فهي جمع (نزيل)، وهو ذلك الشخص الذي يحط رحاله في مكان غير مكانه مؤقتاً، ولذا فمهما استوطن المهاجر مكاناً ما، فإنه سيظل نزيلاً حتى الموت. 

ينتشر هذا الخطاب بكثرة في المحافظات التي شهدت ظاهرة صعود المحافظين، مثل البصرة وكربلاء، فضلاً عن تنامي ذلك الخطاب في النجف مؤخراً، ولأغراض سياسية أيضاً. وبالتالي يستغل الساسة المحليون الخطاب الشعبوي العنصري لحصد الأصوات الانتخابية. 

أما الأبعاد الاجتماعية التي تقف خلف ذلك الوصم، فهي العنصرية المناطقية وشعور بعض العراقيين بأنهم أنقى عرقاً، وأعلى مرتبة في السلم التطوري، لمجرد أن الصدفة الكونية جعلتهم يولدون في مراكز المدن. فعلى سبيل المثال حتى وقت قريب، كان عدد ليس بالقليل من أبناء المحافظات الوسطى يصفون أبناء الجنوب بـ”المحافظات”، للدلالة على وضاعة أصلهم! 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

كنت طفلاً عندما كانت الألفية الجديدة تُولد، بحدود عام 2004. ذهبتُ رفقة أسرتي إلى مدينة النجف لزيارة الإمام علي ابن ابي طالب، أداءً لنذر يقتضي أن نزور فيه المراقد المقدسة. 

دخلنا في ذلك النهار الصيفي الرطب إلى “السوق المسگّف” في النجف القديمة. كنت ممسكاً بطرف عباءة أمي، وتناهت إلى مسامعي عبارات أصحاب المحال من الجانبين “أجوي المعدان.. أجوي المعدان”. 

لهجة المتحدثين وهيأتهم توحيان أنهم من السكان الأصليين لمدينة النجف، وهيأتنا ولهجتنا توحيان بأننا قرويون.  

يقتصر الاختلاف في اللهجة غالباً على استبدال بعض الأحرف أو نطق الكلمات بصورة مختلفة، لكنه يكفي لتمييز الخلفية الثقافية والاجتماعية، فنحن أبناء الأرياف نتصور أن لهجتنا تبدو أقل تكلفاً. 

على سبيل المثال كلمة “أجوّي” ننطقها “أجو” بتسكين الواو والانتهاء عنده. وإذا نادينا الأم نقول “يمّه”، بينما ينطقها أبناء المدن “ماما”. وإذا وصفنا الحقول نقول “جيعان” بينما يقول أبناء المدن “گيعان”، أما الأكل فننطقه “أچل”، بينما في المدن يقولون “أكل”. وهناك ننطقها “غادي” وقريب ننطقها “جريب”، وهكذا.  

الاختلافات تتعلق باستبدال بعض الأحرف، فضلاً عن اختلاف بعض الكلمات أيضاً، فالصحن مثلاً نسميه “قاب”، وفي المدينة اسمه “ماعون”. الحال هذه، تدور معظم الاختلافات باستبدال الأحرف، لا سيما بين حرفي الجيم و”الگَـ” و”الچَ” و”القاف”. 

أما الثياب، فالذكور صغاراً وكباراً في الأرياف يرتدون “الدشداشة”، بينما في المدينة يرتدي معظمهم البنطلون والقميص أو التيشيرت، والملابس ذات الماركات والاستخدامات الرياضية. وتميل بنات الأرياف لارتداء الملابس الفضفاضة ذات الألوان المزركشة والنساء الأكبر سناً يرتدين اللون الأسود إذا ما تجاوزن سن الخمسين أو منتصف الأربعين.  

العجائز يرتدين الأسود مع عصابة الرأس و”الشيلة”، التي هي عبارة عن خمار أسود خشن غير مريح، وحده الله يعلم كيف يرتدينه! أما ملابس الموضة والجينز فلم ترتديها نساء الأرياف حتى العقد الأخير.  

في طفولتي (حوالي 2005)، أتذكر أني ذهبت رفقة جدتي إلى حفل زفاف في المدينة، فاستغربت من ارتداء النساء بناطيل الجينز، وعندما عدت كنت أروي ما رأيت للآخرين بحماس. 

وبصورة عامة، فإن نساء الأرياف أكثر ميلاً من نساء المدن للمبالغة في الاحتشام، لكن الفروق تراجعت مؤخراً؛ ذلك أن الأجيال الجديدة من فتيات الأرياف صرن يرتدين مثل فتيات المدن غالباً؛ بسبب ما وفّرته السوشيال ميديا والتسويق الإلكتروني للملابس. وبعضهن لا يزلن يرتدين الثياب المزركشة الفضفاضة. 

لم تكن “أجوي المعدان” الجملة الوحيدة التي شعرت فيها بأننا غير مرحَّب بنا، فعندما استدللنا الباعة عن مكانٍ لا نعرفه، رفضوا التعاون معنا، وقوبلنا بوجوه متجهمة! كانت تلك الزيارة، أول مرة أشعر فيها بالتمييز لسببٍ خارج عن إرادتي، لأني ولدت قروياً! 

رحلة المعيدي 

تتداول القصص الشعبيّة أن فتاة ريفية تزوّجت برجل وانتقلت للعيش معه في المدينة، وبعد مرور مدة زارت منزل أهلها في الريف، وذهبت رفقة أخواتها لحش “العنگر” القصب الذي ينمو على ضفاف الأنهار لتجلبه للماشية، فغيرت الفتاة اسم الـ”عنگر” إلى “عنقر” بتحويل الـ”گ” قافاً، فصارت محط سخرية، وصارت كذلك مضرب مثلٍ على من يغيّر لهجته أو “يكسرها”. 

كثيرون من أبناء القرى يكسرون ألسنتهم عندما يذهبون إلى المدن، للدراسة أو العمل أو حتى زيارة الأقارب ليوم واحد، وذلك تجنُّباً للتمييز، أو لمحاولة الظهور بمظهرٍ أكثر تحضراً.  

يقول مصطفى هاشم (22 عاماً)، وهو ناشط من هور الحويزة في محافظة ميسان، “كل شبابنا من يرحون للزيارة (مشّاية) يغيرون لهجتهم أما بالجامعة يدفنونها”. 

نتيجة لسخرية وتهكم زملائهم، وتنمّر الأساتذة أيضاً، يتجنب الطلبة من أبناء الأهوار في الجامعات استعمال لهجتهم الأصلية، محاولين التحدّث بلهجة المدينة التي يعيشون فيها، وفق هاشم، الذي يعمل في مؤسسة حكومية، يتعرض فيها هو نفسه للتمييز من زملائه القادمين من خلفيات حَضَريّة، داخل ميسان أو خارجها. 

“بسبب المنطقة التي أسكن بيها يعتبروني كلشي ما أعرف، وأما اللهجة فبشكل يومي لو يصححون كلماتي ويجعلوها مثل لهجتهم لو يظلون يسخرون (من لهجتي)”. 

ربّ المعدان 

عام 1927، توفي شيخ قبيلة معروف في منطقة الفرات الأوسط يدعى “هنين”، فأتت عشيرته بجثمانه لدفنه في مقبرة وادي السلام في النجف. كان التشييع مهيباً، فذلك الشيخ كان محط احترام شديد من عشيرته لدرجة أنهم قدموا بالمئات للمدينة بزيهم العشائري التقليدي (عقال وبشت) وبعضهم حفاة، فغصَّتْ النجف القديمة بهم. 

على هامش ذلك التشييع، كان هناك نجفيان أصلانيان ينظران باستغراب لتلك الجموع التي تُشيّع “هنين”، والتي لم يعتادا رؤيتها سابقاً بتلك الأعداد، فقال أحدهما لصاحبه: 

    – اليوم المعدان تارسين النجف، جايين كلهم! 

  • “ميت ربهم” 

ينطوي هذا الحديث على تمييز شديد، معتبرين أن للمعدان رباً خاصاً، يختلف عن ربهم. 

لا أحد يعلم على وجه الدقة من سمع حديثهم، لكنها قصة مأثورة معروفة في قضاء غماس جنوب غرب الديوانية، حيث كان “هنين” زعيماً لقبيلة آل زياد، وهي إحدى أكبر عشائر الفرات الأوسط، تتركز في السماوة والديوانية.  

على الرغم من تداول القصة بداعي الطرفة تارة، أو تفاخر أبناء القبيلة لمكانة جدهم بأنه رب للمعدان تارة أخرى، إلا أنها تنطوي على تمييز وعنصرية باتت شيئاً اعتيادياً يُمارَس يومياً ولا نفطن له حتى. فضلاً عن ذلك، فإنهم لا يعرفون معنى “المعدان” من الأصل! 

من هم المعدان؟ 

عندما كان المعدان جيراناً للمناذرة، كان هناك صعلوك يغير على حمى الملك النعمان بن المنذر حتى أزعجه كثيراً، ولم يجد حلاً لردعه، فكتب إليه النعمان أن يدخل في طاعته وله عطيّة كبيرة، فأتى الصعلوك إلى النعمان ومثل بين يديه، فلما رآه النعمان ازدرى حاله وهيأته، فقال فيه محقِّراً مشمئزاً منه: “تسمع بالمعيدي خير من أن تراه”. 

تشير معظم المصادر اللغوية إلى أن المعيدي هو تصغير للمَعَدي، والمعدي من معد، ومَعَدٌّ: أبو العرب وهو مَعَدُّ بن عدنان. ويتفق العديد من علماء اللغة مثل ابن منظور وسيبويه والكسائي وغيرهم على أن المعيدي هو ذلك الشخص قليل القدر، حقير المظهر.  

قال سيبويه، فإن حقرت معدي، ثقلت الدال، فقلت: “مُعَيدِيِّ”، وقال ابن السكيت، هو تصغير معدي. كما قال للرجل الذي قال له، وكأن تأويله تأويل أمر، “اسمع به ولا تره”، ومن هنا جاء المثل، “أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه”. 

لذا فأنها مفردة أصلها تحقيري، أي تُستعمل للتحقير والتقليل من شأن أحدهم. لكنها باتت تُستعمل لدواعٍ عنصرية، ولتمييز فئات معينة. 

هناك مصطلحات أخرى قريبة من المعدان، مثل الشروگي والعُرْبي. فالشروگي تستعمل أيضاً لدواع عنصرية، ويوصم بها سكان الجنوب وشرق دجلة، وتعود جذور تلك التسمية إلى أن قبائل الفرات الأوسط كانت تنظر إلى قبائل دجلة القاطنة إلى الشرق منها، نظرة دونية، وتطلق عليهم اسم “الشروقيين” نسبة إلى الشرق. 

بذلك فهي تحتقرهم وتستنكف مصاهرتهم؛ لأن قبائل شرق دجلة لم تحافظ على النزعة البدوية والعادات العشائرية الصارمة، فضلاً عن أنها قبائل هادئة مؤيدة للحكومات، وليست مثل قبائل الفرات الأوسط التي اعتادت الثورات والانتفاضات1.  

استمر ذلك الوصم وازداد بعد هجرة أبناء تلك القبائل إلى بغداد في منتصف القرن العشرين، واستيطانهم في مدينة “الثورة سابقاً -الصدر حالياً؛ فصارت مفردة “شروگية” تعني الاحتقار والتمييز.  

أما مفردة “عُرْبي” فهي تستعمل لوصف السكان القاطنين في القرى والأرياف بصورة عامة، لكن دلالاتها العنصرية أقل من شروگية، ولا تستعمل للتحقير غالباً، إنما لوصف فئة سكانية فقط. أما المعدان فباتت تستعمل لتحقير فئات سكانية بأكملها، لا سيما أبناء الأهوار. 

الوصمة 

اُستعمِلَت مفردة “المعدان” لوصف سكان أهوار العراق، ولكثرة ما لُصِقَت تلك المفردة بهم، حتى بات الكثير من الرحالة المستشرقين أمثال الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر وغافين ماكسويل، ‏العالم الاسكتلندي المتخصص بالتاريخ الطبيعي، يصفون شعب الأهوار بالمعدان، ظناً منهم أنها هويتهم، وحتى الكتّاب العراقيون الذين أرّخوا وكتبوا عن شعب الأهوار، استعملوا وصف المعدان دون مراجعة لغوية لأصلها. 

ربما يعد شعب الأهوار أكثر فئة اجتماعية تعرضت للتمييز في العراق، فمثلاً في كتابه “البدو“، يقول الرحالة الألماني ماكس فون أوبنهايم “إن نساء المعدان، سكان الأهوار، جميلات ويرغب أبناء القبائل البدوية في الزواج منهن، لكن في المقابل فإن البدوي لا يزوج ابنته للمعيدي؛ لأنه غير نقي النسب”.  

باشو (22 عاماً)، ناشط أهواري، ومؤسس الشبكة الأهوارية لحقوق الإنسان، يروي كيف يتعرض أطفال مهاجري الأهوار إلى تمييز وتنمّر في المدارس حتى من الكوادر التدريسية، وكيف أن التمييز قد حرم الكثير منهم من التعليم.  

بسبب الجفاف، نزحت أسرة باشو نهاية التسعينيات من قرية في ناحية گرمة بني سعد في الناصرية نحو مدينة النجف. ظل يتنقل من مدرسة لأخرى، وطوال الوقت كان يُنظَر إليه على أنه دخيل غريب، يتنمر عليه زملاؤه التلاميذ سواء نتيجة للهجته الأهوارية أو لعادات يومية مختلفة.  

في موسم 2009 – 2010 الدراسي، كان باشو يُعامَل مثل “الدخيل” في مدرسته، غير مرحب به. كان شخصاً فرضته البيروقراطية والسياقات التربوية على المدرسة والتلاميذ، وفي الموسم نفسه اندلع حريق في المدرسة، وكان من السهل جداً اتهام باشو بإشعال النيران، فهو بالنسبة للطلاب؛ ولد لا عشيرة له، وغريب يسهل اتهامه، لكنّ باشو وإن لم يكن هو الفاعل، إلا أنه كان “المعيدي” الذي يسهل استضعافه. 

حُرَم الكثيرون من أبناء الأهوار من حق التعليم؛ وذلك لأسباب عديدة منها تعذّر المدارس عن استقبال التلاميذ المهاجرين، لأسباب واهية مثل امتلاء الصفوف، لكن خلف الرفض كانت هناك نظرة عنصرية. 

فضلاً عن افتقار الأسر المهاجرة للأوراق الثبوتية اللازمة، يقول مصطفى هاشم: “المشكلة الأزلية هي صورة القيد، فلازم ترجع لمدينتك حتى تسويها، والأغلب ترجع أكثر من مرة حتى تكمّلها، فمثلاً كل ما أروح للبصرة، يصعدن وياي نسوان أصلهن العمارة جايات على صورة قيد، وحدة منهن تگول: هاي خامس مرة أجي”. 

لا يقتصر وصم المعدان على أبناء الأهوار فحسب، بل هو وصف يشمل جميع أبناء القرى والأرياف، وحتى النواحي والأقضية النائية البعيدة عن مراكز المحافظات، ولا تقتصر هذه الظاهرة على منطقة محددة من العراق، إنما هي في أنحائه كافة.  

المثير للغرابة؛ أن أبناء الأقضية والنواحي يصفون أبناء الأرياف بالمعدان، ولكن هم أنفسهم يُوصَفون بالمعدان عندما يذهبون لمراكز المدن، لغرض العمل أو الدراسة! 

يروي حسين رحيم، وهو شاب يسكن في قرية “صاحي” في ريف قضاء غماس التابع لمحافظة الديوانية، أن أخاه تشاجر مع أحد أبناء القرية، فعيّر الأخير أخاه بالمعيدي، وأنهم ليسوا من السكان الأصليين لقرية “صاحي”، وخلال دراسة حسين الجامعية في محافظة بابل، وصفه أحدهم بالمعيدي، “همزين أهلك بغماس، معدان عايشين ابستان”. 

بنت المعيدي 

يزخر الموروث الشعبي العراقي بأمثال وحكايات أبطالها من المعدان، منها بنت المعيدي وهي حكاية شعبية معروفة، قدّمها الكاتب عادل كاظم في نص مسرحي، قدمته فرقة مكي عواد. 

تدور أحداث الحكاية حول فتاة في الخامسة عشرة من شريحة اجتماعية مهمشة، تذهب إلى المدينة، وتبيع بالقرب من قصر مدير شرطة بغداد في العهد العثماني اللبن والحليب والقيمر، فتقع عليها عين مدير الشرطة العسوف، فيأمر بإدخالها لقصره ثم يغتصبها، لتحاول قتل الباشا في ما بعد وتدخل السجن. 

وبعد شفائه، يزورها الباشا في سجنها ويقع في حبها، ويعرض عليها الزواج. وتتصاعد الأحداث حتى زواج ذلك الباشا منها. 

في ما بعد تنتشر رسمة بورتريه لفتاة جميلة في البيوت والمقاهي العراقية، يقال إنها لبنت المعيدي تلك، بعدما ذهبت رفقة زوجها الباشا لأوروبا، على الرغم من عدم وجود مصادر حول الهوية الحقيقية لتلك الفتاة والقصة كلّها. ويذكر أن هذه القصة لا تقتصر على الموروث الشعبي العراقي فحسب، بل توجد نسخ عنها في سوريا وفلسطين وإيران وتركيا والخليج. 

تعكس القصة وجهة النظر الاجتماعية إزاء أبناء القرى والأرياف وبائعي الحليب، حيث توصم تلك الفئات المهمشة من خلفيات ريفية، بالمعدان. فهي ترسيخ لمصطلح المعدان وتطبيع استعماله لوصف فئة اجتماعية. 

يُنظَر اليوم لفتيات القرى والأرياف بنظرة دونية، فالمجتمع العراقي بصورة عامة كوَّن صورة ذهنية مغلوطة عن فتيات الأرياف، هناك تصور أن حياتهن تقتصر على الزراعة وتربية الجواميس والأبقار، وبيع الجبن والقيمر ومشتقات الحليب على تقاطعات شوارع المدن في الصباح الباكر.  

يميل الرجال للزواج من الفتاة الريفية لأنها “خادمة جيدة ونشيطة”، ولا حاجة لها بمتطلبات الحداثة من تسوق وأجهزة إلكترونية وسوشيال ميديا وغيرها، وهو تصغير ووصم للمرأة، كما أنه نظرة غير صحيحة بالمرة. فمعدلات الأمية انخفضت كثيراً بين فتيات الأرياف، وصارت معظمهن يدرسن في الجامعات، ويواكبن الحداثة والموضة والقضايا العامة، ولا تقتصر حياتهن على الأعمال والأنشطة القروية والفلاّحية فقط. 

لوحة بنت المعيدي

“خوفك من المعيدي إذا استحضر” 

في كتابه “الأمثال الشعبية في البصرة” يمارس المؤرخ العراقي عبد الله الدليشي عنصريةً صريحة إزاء أبناء الأهوار، وهو مثال للمؤرخين والمثقفين الذين أسهموا بترسيخ الخطاب العنصري في المجتمع العراقي.  

في تفسيره للمثل الشعبي “خوفك من المعيدي إذا استحضر”، يقول الدليشي: “أي لا تخش إلا من حديث النعمة، كأن يكون معيديا يعيش في الأهوار على صيد الطيور والسمك وتربية الجاموس، ثم يصيب ثراءً ومالاً، فيبطش، أو يبطر أو يفجر. يضرب للوضيع من الناس الذي يواتيه الحظ، فيرتفع بالمال والجاه، ويبقى في وضاعة الخلق، ولؤم الطباع”. 

ويفسر الدليشي أصول المعدان قائلاً، “المعدان هم ساكنو الأهوار، ويربون الجاموس، ويعيشون عيشة بدائية، لذا فإن القبائل العربية لا تصاهرهم، ولا تعترف بأنسابهم، ولا تقر لهم بالزعامة، ومهما بلغ المرء من مكانة، فأنه لا يزال معيدياً عريقاً بالجهل والتخلف”. 

وهناك أمثلة أخرى من الموروث الشعبي عن المعدان، مثل: “فضالة المعيدي”، والمقصود به ما تبقى في صحن المعيدي بعد الأكل لا قيمة له، فما دام المعيدي لم يأكله؛ فلن يأكله أحد من بعده بالطبع. ومثل آخر، “لا تدلي المعيدي على باب بيتك”، أي جعله مرادفاً للمتسوّل، الذي إذا أكرمته سيعاود المجيء. 

ينصرف التمييز إزاء الأشخاص من خلفيات ريفية أو أهوارية إلى الزواج وعقود البيع والشراء؛ فتجنب الزيجات بين أبناء المدن وساكني الأرياف والأهوار ظاهرة شائعة، والقصص حول هذا الموضوع كثيرة أيضاً. 

يروي حسن الحجاج من البصرة بأن السكان الأصليين لمدينة البصرة يتجنبون الزواج من بنات المهاجرين حديثاً للمدينة النفطية، والذين يسمّونهم بالمعدان، ويتجنبون تزويج بناتهم لتلك الفئة أيضا، لاعتبارات عديدة منها “خشونة طباع أولئك الناس”، كما يقولون. 

أما بالنسبة لتعاملات البيع والشراء فيقول الشاب الأهواري مصطفى هاشم، “في محافظة مثل ميسان، لا يمكنني شراء قطعة أرض في مركز المدينة لأن صاحب المكتب العقاري بعد أن يسمعك تتحدث بلهجة واضحة، يرفض أن يبيعك قطعة أرض”. 

لمصطلح المعدان وجوه سياسية واجتماعية عنصرية على حد سواء؛ أما السياسية فهي استعمال ذلك التمييز إزاء المهاجرين لأغراض انتخابية، إذ أوهم الساسة المحليون في المناطق التي يلجأ إليها أهل الأهوار والأرياف، أن القادمين من خلف الجدار وهم (المعدان أو اللفو أو النِزل) هم السبب الرئيس في جميع مشكلات السكان الأصليين للمدن، من بطالة وجرائم ونزاعات؛ وبالتالي تجب مقاطعتهم والمطالبة بتهجيرهم من حيث أتوا.  

“اللفو” هي كلمة عنصرية محضة، باتت تستعمل في العراق على نطاق واسع لا سيما في البصرة، وجذورها اللغوية من (لفا) أي وفد. أما (نِزِل) فهي جمع (نزيل)، وهو ذلك الشخص الذي يحط رحاله في مكان غير مكانه مؤقتاً، ولذا فمهما استوطن المهاجر مكاناً ما، فإنه سيظل نزيلاً حتى الموت. 

ينتشر هذا الخطاب بكثرة في المحافظات التي شهدت ظاهرة صعود المحافظين، مثل البصرة وكربلاء، فضلاً عن تنامي ذلك الخطاب في النجف مؤخراً، ولأغراض سياسية أيضاً. وبالتالي يستغل الساسة المحليون الخطاب الشعبوي العنصري لحصد الأصوات الانتخابية. 

أما الأبعاد الاجتماعية التي تقف خلف ذلك الوصم، فهي العنصرية المناطقية وشعور بعض العراقيين بأنهم أنقى عرقاً، وأعلى مرتبة في السلم التطوري، لمجرد أن الصدفة الكونية جعلتهم يولدون في مراكز المدن. فعلى سبيل المثال حتى وقت قريب، كان عدد ليس بالقليل من أبناء المحافظات الوسطى يصفون أبناء الجنوب بـ”المحافظات”، للدلالة على وضاعة أصلهم!