"مُحن" البرلماني العراقي ومِحنة الدولة: لو نظروا أبعد من أعضائهم التناسلية!
08 آب 2024
في الأسباب الموجبة لقانون الأحوال الشخصية العراقي لسنة 1959، يذكر المشرّع العراقي أنّ الأحكام المدنية المتعلقة بالزواج والطلاق والنفقة والحضانة والميراث، في القانون؛ صيغت من "المصادر الفقهية الإسلامية"، وبما يتناسب مع تطوّر المجتمع، وأُلحقَ بالقانون "مدوّنة الأحوال الشخصية"، التي اعتمدت على الفقهين: السُنّي والجعفري. فلماذا يريد "البرلماني العراقي الإسلامي" أن يستبدل هذا القانون بفوضى الفتاوى عند كل طائفة ومذهب؟ لماذا يصرّون على استبدال الدولة بالجماعة الدينية؟ وإعادة المجتمع إلى "عصر الجواري". إن "تعديل قانون الأحوال الشخصية" هو استمرار لوصاية الرجال القاتلة على النساء، وإقصاء الدولة لصالح الفتوى والاجتهاد والسلطة الذكورية في المجتمع.
في كافيتريا البرلمان، ليس “الچاي” وحده ما يُقدّم على الطاولات؛ الاتفاقات النهائية والصفقات “الفردية والجماعية” تُقدّم ساخنةً أيضاً، هناك يفضّل النواب، فرادى ومجتمعين، المصافحة الأخيرة قبل التصويت على أي مشروع قانون، ضمن جلسة محددة، مثلما حدث في القراءة الأولى لمشروع تعديل “قانون الأحوال الشخصية”.
وهو ليس تعديلاً بالمناسبة، إنه قانون آخر منفصل، فاعليته أكبر وأوسع وأكثر تأثيراً من قانون الأحوال الشخصية، والقرينة واضحة وبسيطة، البيئة العراقية، الآن، هي بيئة دينية – شعبية في هويتها الكبيرة.
الهوية الكبيرة في المجتمع، كبيرة بالضرورة في البرلمان، وهذا ينطبق على البرلمان العراقي، الذي يرتدي العمامة الآن، ويمارس فرض “الفتاوى” والآراء “الاجتهادية” لعلماء دين ماتوا منذ مئات السنين، وهنا تحديداً تظهر خطورة النص، وتحويل الدولة إلى كيان ديني، متشدد.
متشدد لأنّ من يدخل إلى قناة البرلمان في يوتيوب، ويشاهد فيديو القراءة الأولى لتعديل قانون الأحوال الشخصية، سيكتشف أنّ الفريق الإعلامي لمجلس النواب عطّل خاصية التعليقات على الفيديو، لهذه الدرجة يمكن أن تتحوّل الدولة إلى “كيان ديني متشدد”، لا يسمح لك حتى بكتابة تعليق على يوتيوب.
بمناسبة “حظر التعليقات” على فيديو القراءة الأولى للتعديل؛ تقول أماني الحسن، الصحفية والنسوية العراقية، إنّ النائب هادي السلامي، أحد عرابي التعديل، يقول، “عادي طفلة عمرها 9 سنوات تنطي رأيها بالزواج سواء قبول أو رفض، وآني عمري 28 سنة كلما أعلقله يحذف تعليقي ويغلق البوست”، ثم تتساءل: جا والرأي؟
بالنسبة لهادي السلامي ورائد المالكي، والنائبات اللائي قرأن بكثير من الأخطاء اللغوية “فقرات التعديل”، الأمر لا يتعلّق بالرأي وحرية التعبير، إنهم في منطقة لا تنتمي إلى هذا النقاش، هم في منطقة المزاج العام، والثقافة الدينية الشعبية، وهذه المنطقة أوصلتهم بإصبعها إلى مقاعد البرلمان، فلماذا لا يشرعون لها ما تؤمن به؟
الغرابة ليست في قوتهم؛ الغرابة في ضعف الدولة ومن يقفون في منطقة الدولة، أو لماذا الغرابة أصلاً! أليس العراق هكذا الآن؟
قبل أن يبرد “الچاي” بين أصابع النواب، الشيعة والسُنّة، تقول المصادر إنهم تداولوا صفقة، أو مقايضة: يصوّت الشيعة على قانون العفو العام (قانون سني) مقابل أن يصوّت السُنّة على تعديل قانون الأحوال الشخصية (قانون شيعي)، ولأنّ “الچاي” طيّب، والوجوه “خيّرة”، تمّت القراءة الأولى للقانونين. وهكذا “حِب عمّك.. حِب خالك”.
لماذا قَبِل السُنّة بالصفقة؟ قد لا يكون كافياً أنّهم يريدون تمرير قانون العفو العام، وهذا مهم للكتلة السنية داخل البرلمان، مختلفون ومتفرقون؛ نعم، لكنهم يتفقون على النجاح في تمريره، لأنّه أكثر ورقة رابحة في كل انتخابات.
الدعم السُنّي لتعديل قانون الأحوال الشخصية، ليس براغماتياً فقط؛ إنّه “عقائدي” كذلك، المذاهب السُنيّة مع الاختلاف بتحديد سن البلوغ لدى الفتيات، لكنّها أيضاً بفتاوى “مشايخها” تجيز زواج القاصرات، انطلاقاً من الأصل التشريعي الذي يحدد سن البلوغ بظهور الشَعر في العانة، وأبو حنيفة الذي يعدّ أكثر “المنفتحين”، يحدد سن البلوغ بسبع عشرة سنة “للجارية”. إنّه زمان كان يُقال فيه عن النساء “جواري”.
“التعديل المقترح” ينص على أنّ سن بلوغ المرأة يحدد وفق تشريعات المذهبين الشيعي والسني، بحسب مذهب الزوجين، وسن البلوغ عند الشيعة هو “ ثماني سنين ميلادية وثمانية أشهر وعشرون يوماً تقريباً” (فتاوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني)، وعند جمهور السنة بين 15 – 18 سنة.
ولكن عدا عن مسألة البلوغ، فإنّ جمهور علماء السنة والشيعة، يتفقون على جواز “إجبار” الفتاة من قبل ولي أمرها على تزويجها إن كانت “تطيق الجماع”، حتى لو لم تصل سن البلوغ بعد، وهذا الكوكتيل من الفتاوى يبيح لأي رجل تزويج الفتيات القاصرات، إن رأى هذا الذكر أنّها قادرة على الجماع.
يعطي التعديل كذلك سلطة المحكمة لرجال الدين، فهو يشترط بعقد الزواج أن يكون وفقاً لقانون الأحوال المدنية “أو” وفق المذهبين الشيعي والسني، على أن يتولى كل وقف ترتيبات الزواج، ولا يشترط الذهاب إلى المحكمة، أي لا يشترط الاحتكام للدولة، وهنا تخسر الدولة أمام رجل الدين.
خسارة الدولة تستدعي أيضاً خسارة المجتمع “المتنوّع” الذي تحكمه الدولة، لأنّ السُنّة ليسوا مذهباً واحداً، إنهم مذاهب وجماعات تختلف وتتخاصم حدّ أن تُكفّر بعضها في فتاوى معينة، والشيعة كذلك، لديهم ما لا يتسع له الخيال من المراجع، والجماعات “المُقلِّدة”، والتعديل الجديد يسمح لكلّ جماعة أن تتحكم بمصير نسائها، فهذه المذاهب والطوائف والجماعات على خلافاتها واختلافاتها، كلها تجتمع على ولاية الرجل على المرأة، “قوّامون” ولديهم تفويضاً بالضرب والهجر، والقتل كذلك!
يقول النائب رائد المالكي، وهو أحد المستميتين على فرض هذا التعديل، إن ولي المرأة يستطيع أن يرفض تزويجها حتى تصل السن المناسبة للزواج. ولكن “ولي المرأة” هذا نفسه أيضاً يستطيع إجبار القاصرات تحت ولايته على الزواج، ما دام هذا “الولي” يستطيع أن يقتلها بداعي “الشرف”، لا وجود لأي مانع من أن يفعل الرجل ما يحلو له بالمرأة؛ ما دامت تحت قوامته وولايته، وهكذا نرجع إلى “عصر الجواري”.
في ذي قار، تسمّى التلال الأثرية التي لم يُنقّب عنها بعد، “تلال الخاطئات”، عشرات التلال التي تخفي تحتها مواقع أثرية تعود إلى الحضارة السومرية والبابلية والأكدية، تحوّلت إلى مدافن سريّة للنساء،
اللاتي يقتلهن الآباء والإخوة بتهمة “الشرف”. لا تُدفن المرأة المقتولة في مقبرة وادي السلام، لأنّها بالنسبة لهم “لا تستحق ذلك”.
ربما تكون إحدى الفتيات العراقيات قد دُفنت في “بار” كانت تملكه امرأة عراقية قبل 4 آلاف سنة، فالنساء العراقيات كنّ يفتتحن أعمالهنّ التجارية لوحدهنّ، ويمتلكن أختامهنّ الخاصة، ويمشين في شوارع المدن بأبهى أزيائهنّ التي تُظهر أجسادهنّ بالطريقة التي هنّ يرغبنَ في إظهارها.
في روايته “كلكامش.. ملك أوروك”، يصف توماس ميلْكه، استناداً إلى النصوص السومرية، كيف كانت النساء العراقيات يمشين في شوارع أوروك وهنّ يرتدين أزياءً تظهر النهد الأيسر، باعتباره جزءاً من الثقافة الجمالية لدى ذلك المجتمع.
خلال حديث مع موقع الجزيرة، تقول إيمان الأمين، النسوية الناشطة في مدينة الناصرية، إنّ إحدى الفتيات من أحد الأرياف خرجت لتجلب الماء من نهر قريب، صادفها ابن الجيران فألقى عليها التحيّة، ردت عليه وذهبت، رآها جارهما الآخر فأخبر شقيقها، الذي قتلها، ثم وضعها في الحمام وأشعل النار في جسدها، يقول الأخ القاتل، “أعرف أنها لم تخطئ، لكن ماذا أقول لمن شاهدها وهي ترد السلام على ذلك الرجل”.
في المدن السُنيّة يحدث هذا الأمر كذلك، ولهذه الأسباب التافهة يمكن لذَكر العائلة أن يقتل النساء. في تلّة سيوان بمدينة السليمانية، هناك أكثر من ألف قبر بلا شاهدة، تسمّى تلك التّلة “مقبرة المنبوذات”، وهنّ نساء تتراوح أعمارهن بين 15 – 45 سنة، قُتلِن على يد ذكور العائلة، بتهمة “الشرف”.
هذه المقابر الجماعية تكبر يوماً بعد آخر، وهنالك مقابر أخرى للنساء في كل المدن العراقية، كانت لم تكن موجودة لو أنّ هناك قوانين تحمي النساء من شهوة القتل المسعورة لدى الذكور، الذين يبتكرون طرقاً غريبة لقتل النساء، وتشويه صورتهنّ بعد القتل.
تقول مفوضية حقوق الإنسان في بابل والمثنى وميسان إنّ “جرائم الشرف” ضد النساء باتت تُسجّل على أنّها حالات انتحار، لكيلا تحظى المرأة بأي تعاطف من المجتمع، ولا تُدفن في مقابر المسلمين.
لو أنّ البرلماني الإسلامي العراقي نظر أبعد من أعضائه التناسلية، لرأى ضرورةً بتعديل قانون العقوبات، ولرأى كذلك حاجة قصوى لتشريع قانون العنف الأسري، الذي تتعرض النساء إلى ثلاثة أرباعه في إحصائيات وزارة الداخلية، التي تقول في تقريرها إنّ أسباب هذا الارتفاع في العنف تجاه النساء يعود إلى أسباب اقتصادية واجتماعية، و”فهم خاطئ للدين”.
المعضلة لا تكمن في “الفهم الخاطئ للدين”، وإنّما بانتقائية المجتمعات القبلية واختيار ما يتناسب مع ثقافتها الشعبية من هذا الدين، فمثلاً تختار هذه المجتمعات تطبيق تشريعات الزواج والولاية على المرأة لأنّها تتناسب جداً مع الأعراف القبلية، بينما تعطّل هذه المجتمعات تشريع “كالميل في المكحلة، وكالقلم في المحبرة” الذي يفرض أن يكون هناك “أربعة شهود عدول” وكلهم يجب أن يشهدوا برؤية “الميل في المكحلة”، وإلا فالجَلد سيكون عقوبة الشهود؛ إن قصرت شهادة أحدهم عن إثبات ما جاء في النص التشريعي، الذي يلزم الشهود برؤية “الجنس” كاملاً وواضحاً، حتى يوقع الشارع “حد الزنا”.
لو طبّق هذا التشريع في هذه المجتمعات القبليّة، لوقع “حدّ الجَلد” على كل ذكور القبيلة، ولكانت ظهورهم ومؤخراتهم متورّمة الآن، ولما كانت تلال السليمانية وذي قار تكتظ بقبور النساء القتيلات بسبب “كلمة” قالها أو سمعها ذكر في القبيلة.
ثم أنّ ما يدعو للغضب حقاً، هو هوس البرلمان بإعطاء رجال الدين سلطة التشريع بدلاً عن الدولة، وفتح “بزنس” للوقفين الشيعي والسني، من عقود الزواج التي ستدرّ عليهم الأموال والهبات، بينما هناك كوارث يواجهها
العراق، ستفقد البرلماني “الممحون” انتصابه لو فكّر بها بعقلية رجل الدولة، أو سعى لإيجاد تشريعات لها.
من هذه الكوارث، التي لا تشغل البرلمان ولا تعنيه، تشريع قانون النفط والغاز، الثروة الريعية الوحيدة التي تحوّلت إلى “مغارة علي بابا” منذ 21 سنة، هدر وتهريب واستيلاء على العقود لمصدر الدخل الوحيد، والذي بدأت أسواقه بالتراجع الآن، وقد تنهار في أي لحظة مقبلة.
مطلع هذا الأسبوع، الاثنين 5 آب 2024، انخفضت أسعار النفط في “تعاملات متقلبة” كما تقول رويترز، فالعقود الآجلة لخام برنت نزلت 51 سنتاً، أو 0.66 بالمئة، بينما شهدت البورصات الآسيوية خسائر كبيرة، أكبرها التي تعرضت لها البورصة اليابانية، في حادثة اقتصادية لم تحصل منذ 1987.
الركود الأمريكي الذي يلوّح عبر المحيطات وشاشات وول ستريت لا يراه البرلمانيون العراقيون، إنهم منشغلون بالجزء السفلي من الجسد. لو أنّهم رفعوا رؤوسهم! لرأوا الحرائق على الحدود مع تركيا، العمليات العسكرية للجيش التركي هجّرت سكان 300 قرية في دهوك، وأحرقت 6.747 هكتاراً من الأراضي الزراعية.
لو رفعوا رؤوسهم لرأوا طريق المخدرات وهو يمر عبر العراق ويتفرع فيه مثل نمو العفن، هناك أطنان من المخدرات يبلغ سوقها 10 مليارات دولار تنتشر في كل العراق، لو رفعوا رؤوسهم لرأوا مصانع الكبتاغون في المثنى والسليمانية وغيرهما. لو رفعوا رؤوسهم لرأوا ملايين قطع السلاح المنفلت، ومئات العصابات المنظمة والمافيات التي تنهب كل شيء.
لو رفعوا رؤوسهم لرأوا الجفاف الذي حوّل “سهول بلاد ما بين النهرين”، أعظم سهول الكرة الأرضية، إلى صحراء يَقتتل أهلها على الماء والأراضي الزراعية المتبقية، بينما تجاوز عدد من نزحوا قسرياً حاجز 100 ألف شخص، والحبل على الجرار!
لو رفعوا رؤوسهم لرأوا الكارثة في الموازنة، والعجز، والفوضى الحسابية، والفوارق المفزعة بين الإيرادات والنفقات، لو رفعوا رؤوسهم لرأوا أننا نسير نحو “إكلان التبن” بالسرعة التي تسير بها مجرّة درب التبانة نحو نقطة الزوال.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
في كافيتريا البرلمان، ليس “الچاي” وحده ما يُقدّم على الطاولات؛ الاتفاقات النهائية والصفقات “الفردية والجماعية” تُقدّم ساخنةً أيضاً، هناك يفضّل النواب، فرادى ومجتمعين، المصافحة الأخيرة قبل التصويت على أي مشروع قانون، ضمن جلسة محددة، مثلما حدث في القراءة الأولى لمشروع تعديل “قانون الأحوال الشخصية”.
وهو ليس تعديلاً بالمناسبة، إنه قانون آخر منفصل، فاعليته أكبر وأوسع وأكثر تأثيراً من قانون الأحوال الشخصية، والقرينة واضحة وبسيطة، البيئة العراقية، الآن، هي بيئة دينية – شعبية في هويتها الكبيرة.
الهوية الكبيرة في المجتمع، كبيرة بالضرورة في البرلمان، وهذا ينطبق على البرلمان العراقي، الذي يرتدي العمامة الآن، ويمارس فرض “الفتاوى” والآراء “الاجتهادية” لعلماء دين ماتوا منذ مئات السنين، وهنا تحديداً تظهر خطورة النص، وتحويل الدولة إلى كيان ديني، متشدد.
متشدد لأنّ من يدخل إلى قناة البرلمان في يوتيوب، ويشاهد فيديو القراءة الأولى لتعديل قانون الأحوال الشخصية، سيكتشف أنّ الفريق الإعلامي لمجلس النواب عطّل خاصية التعليقات على الفيديو، لهذه الدرجة يمكن أن تتحوّل الدولة إلى “كيان ديني متشدد”، لا يسمح لك حتى بكتابة تعليق على يوتيوب.
بمناسبة “حظر التعليقات” على فيديو القراءة الأولى للتعديل؛ تقول أماني الحسن، الصحفية والنسوية العراقية، إنّ النائب هادي السلامي، أحد عرابي التعديل، يقول، “عادي طفلة عمرها 9 سنوات تنطي رأيها بالزواج سواء قبول أو رفض، وآني عمري 28 سنة كلما أعلقله يحذف تعليقي ويغلق البوست”، ثم تتساءل: جا والرأي؟
بالنسبة لهادي السلامي ورائد المالكي، والنائبات اللائي قرأن بكثير من الأخطاء اللغوية “فقرات التعديل”، الأمر لا يتعلّق بالرأي وحرية التعبير، إنهم في منطقة لا تنتمي إلى هذا النقاش، هم في منطقة المزاج العام، والثقافة الدينية الشعبية، وهذه المنطقة أوصلتهم بإصبعها إلى مقاعد البرلمان، فلماذا لا يشرعون لها ما تؤمن به؟
الغرابة ليست في قوتهم؛ الغرابة في ضعف الدولة ومن يقفون في منطقة الدولة، أو لماذا الغرابة أصلاً! أليس العراق هكذا الآن؟
قبل أن يبرد “الچاي” بين أصابع النواب، الشيعة والسُنّة، تقول المصادر إنهم تداولوا صفقة، أو مقايضة: يصوّت الشيعة على قانون العفو العام (قانون سني) مقابل أن يصوّت السُنّة على تعديل قانون الأحوال الشخصية (قانون شيعي)، ولأنّ “الچاي” طيّب، والوجوه “خيّرة”، تمّت القراءة الأولى للقانونين. وهكذا “حِب عمّك.. حِب خالك”.
لماذا قَبِل السُنّة بالصفقة؟ قد لا يكون كافياً أنّهم يريدون تمرير قانون العفو العام، وهذا مهم للكتلة السنية داخل البرلمان، مختلفون ومتفرقون؛ نعم، لكنهم يتفقون على النجاح في تمريره، لأنّه أكثر ورقة رابحة في كل انتخابات.
الدعم السُنّي لتعديل قانون الأحوال الشخصية، ليس براغماتياً فقط؛ إنّه “عقائدي” كذلك، المذاهب السُنيّة مع الاختلاف بتحديد سن البلوغ لدى الفتيات، لكنّها أيضاً بفتاوى “مشايخها” تجيز زواج القاصرات، انطلاقاً من الأصل التشريعي الذي يحدد سن البلوغ بظهور الشَعر في العانة، وأبو حنيفة الذي يعدّ أكثر “المنفتحين”، يحدد سن البلوغ بسبع عشرة سنة “للجارية”. إنّه زمان كان يُقال فيه عن النساء “جواري”.
“التعديل المقترح” ينص على أنّ سن بلوغ المرأة يحدد وفق تشريعات المذهبين الشيعي والسني، بحسب مذهب الزوجين، وسن البلوغ عند الشيعة هو “ ثماني سنين ميلادية وثمانية أشهر وعشرون يوماً تقريباً” (فتاوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني)، وعند جمهور السنة بين 15 – 18 سنة.
ولكن عدا عن مسألة البلوغ، فإنّ جمهور علماء السنة والشيعة، يتفقون على جواز “إجبار” الفتاة من قبل ولي أمرها على تزويجها إن كانت “تطيق الجماع”، حتى لو لم تصل سن البلوغ بعد، وهذا الكوكتيل من الفتاوى يبيح لأي رجل تزويج الفتيات القاصرات، إن رأى هذا الذكر أنّها قادرة على الجماع.
يعطي التعديل كذلك سلطة المحكمة لرجال الدين، فهو يشترط بعقد الزواج أن يكون وفقاً لقانون الأحوال المدنية “أو” وفق المذهبين الشيعي والسني، على أن يتولى كل وقف ترتيبات الزواج، ولا يشترط الذهاب إلى المحكمة، أي لا يشترط الاحتكام للدولة، وهنا تخسر الدولة أمام رجل الدين.
خسارة الدولة تستدعي أيضاً خسارة المجتمع “المتنوّع” الذي تحكمه الدولة، لأنّ السُنّة ليسوا مذهباً واحداً، إنهم مذاهب وجماعات تختلف وتتخاصم حدّ أن تُكفّر بعضها في فتاوى معينة، والشيعة كذلك، لديهم ما لا يتسع له الخيال من المراجع، والجماعات “المُقلِّدة”، والتعديل الجديد يسمح لكلّ جماعة أن تتحكم بمصير نسائها، فهذه المذاهب والطوائف والجماعات على خلافاتها واختلافاتها، كلها تجتمع على ولاية الرجل على المرأة، “قوّامون” ولديهم تفويضاً بالضرب والهجر، والقتل كذلك!
يقول النائب رائد المالكي، وهو أحد المستميتين على فرض هذا التعديل، إن ولي المرأة يستطيع أن يرفض تزويجها حتى تصل السن المناسبة للزواج. ولكن “ولي المرأة” هذا نفسه أيضاً يستطيع إجبار القاصرات تحت ولايته على الزواج، ما دام هذا “الولي” يستطيع أن يقتلها بداعي “الشرف”، لا وجود لأي مانع من أن يفعل الرجل ما يحلو له بالمرأة؛ ما دامت تحت قوامته وولايته، وهكذا نرجع إلى “عصر الجواري”.
في ذي قار، تسمّى التلال الأثرية التي لم يُنقّب عنها بعد، “تلال الخاطئات”، عشرات التلال التي تخفي تحتها مواقع أثرية تعود إلى الحضارة السومرية والبابلية والأكدية، تحوّلت إلى مدافن سريّة للنساء،
اللاتي يقتلهن الآباء والإخوة بتهمة “الشرف”. لا تُدفن المرأة المقتولة في مقبرة وادي السلام، لأنّها بالنسبة لهم “لا تستحق ذلك”.
ربما تكون إحدى الفتيات العراقيات قد دُفنت في “بار” كانت تملكه امرأة عراقية قبل 4 آلاف سنة، فالنساء العراقيات كنّ يفتتحن أعمالهنّ التجارية لوحدهنّ، ويمتلكن أختامهنّ الخاصة، ويمشين في شوارع المدن بأبهى أزيائهنّ التي تُظهر أجسادهنّ بالطريقة التي هنّ يرغبنَ في إظهارها.
في روايته “كلكامش.. ملك أوروك”، يصف توماس ميلْكه، استناداً إلى النصوص السومرية، كيف كانت النساء العراقيات يمشين في شوارع أوروك وهنّ يرتدين أزياءً تظهر النهد الأيسر، باعتباره جزءاً من الثقافة الجمالية لدى ذلك المجتمع.
خلال حديث مع موقع الجزيرة، تقول إيمان الأمين، النسوية الناشطة في مدينة الناصرية، إنّ إحدى الفتيات من أحد الأرياف خرجت لتجلب الماء من نهر قريب، صادفها ابن الجيران فألقى عليها التحيّة، ردت عليه وذهبت، رآها جارهما الآخر فأخبر شقيقها، الذي قتلها، ثم وضعها في الحمام وأشعل النار في جسدها، يقول الأخ القاتل، “أعرف أنها لم تخطئ، لكن ماذا أقول لمن شاهدها وهي ترد السلام على ذلك الرجل”.
في المدن السُنيّة يحدث هذا الأمر كذلك، ولهذه الأسباب التافهة يمكن لذَكر العائلة أن يقتل النساء. في تلّة سيوان بمدينة السليمانية، هناك أكثر من ألف قبر بلا شاهدة، تسمّى تلك التّلة “مقبرة المنبوذات”، وهنّ نساء تتراوح أعمارهن بين 15 – 45 سنة، قُتلِن على يد ذكور العائلة، بتهمة “الشرف”.
هذه المقابر الجماعية تكبر يوماً بعد آخر، وهنالك مقابر أخرى للنساء في كل المدن العراقية، كانت لم تكن موجودة لو أنّ هناك قوانين تحمي النساء من شهوة القتل المسعورة لدى الذكور، الذين يبتكرون طرقاً غريبة لقتل النساء، وتشويه صورتهنّ بعد القتل.
تقول مفوضية حقوق الإنسان في بابل والمثنى وميسان إنّ “جرائم الشرف” ضد النساء باتت تُسجّل على أنّها حالات انتحار، لكيلا تحظى المرأة بأي تعاطف من المجتمع، ولا تُدفن في مقابر المسلمين.
لو أنّ البرلماني الإسلامي العراقي نظر أبعد من أعضائه التناسلية، لرأى ضرورةً بتعديل قانون العقوبات، ولرأى كذلك حاجة قصوى لتشريع قانون العنف الأسري، الذي تتعرض النساء إلى ثلاثة أرباعه في إحصائيات وزارة الداخلية، التي تقول في تقريرها إنّ أسباب هذا الارتفاع في العنف تجاه النساء يعود إلى أسباب اقتصادية واجتماعية، و”فهم خاطئ للدين”.
المعضلة لا تكمن في “الفهم الخاطئ للدين”، وإنّما بانتقائية المجتمعات القبلية واختيار ما يتناسب مع ثقافتها الشعبية من هذا الدين، فمثلاً تختار هذه المجتمعات تطبيق تشريعات الزواج والولاية على المرأة لأنّها تتناسب جداً مع الأعراف القبلية، بينما تعطّل هذه المجتمعات تشريع “كالميل في المكحلة، وكالقلم في المحبرة” الذي يفرض أن يكون هناك “أربعة شهود عدول” وكلهم يجب أن يشهدوا برؤية “الميل في المكحلة”، وإلا فالجَلد سيكون عقوبة الشهود؛ إن قصرت شهادة أحدهم عن إثبات ما جاء في النص التشريعي، الذي يلزم الشهود برؤية “الجنس” كاملاً وواضحاً، حتى يوقع الشارع “حد الزنا”.
لو طبّق هذا التشريع في هذه المجتمعات القبليّة، لوقع “حدّ الجَلد” على كل ذكور القبيلة، ولكانت ظهورهم ومؤخراتهم متورّمة الآن، ولما كانت تلال السليمانية وذي قار تكتظ بقبور النساء القتيلات بسبب “كلمة” قالها أو سمعها ذكر في القبيلة.
ثم أنّ ما يدعو للغضب حقاً، هو هوس البرلمان بإعطاء رجال الدين سلطة التشريع بدلاً عن الدولة، وفتح “بزنس” للوقفين الشيعي والسني، من عقود الزواج التي ستدرّ عليهم الأموال والهبات، بينما هناك كوارث يواجهها
العراق، ستفقد البرلماني “الممحون” انتصابه لو فكّر بها بعقلية رجل الدولة، أو سعى لإيجاد تشريعات لها.
من هذه الكوارث، التي لا تشغل البرلمان ولا تعنيه، تشريع قانون النفط والغاز، الثروة الريعية الوحيدة التي تحوّلت إلى “مغارة علي بابا” منذ 21 سنة، هدر وتهريب واستيلاء على العقود لمصدر الدخل الوحيد، والذي بدأت أسواقه بالتراجع الآن، وقد تنهار في أي لحظة مقبلة.
مطلع هذا الأسبوع، الاثنين 5 آب 2024، انخفضت أسعار النفط في “تعاملات متقلبة” كما تقول رويترز، فالعقود الآجلة لخام برنت نزلت 51 سنتاً، أو 0.66 بالمئة، بينما شهدت البورصات الآسيوية خسائر كبيرة، أكبرها التي تعرضت لها البورصة اليابانية، في حادثة اقتصادية لم تحصل منذ 1987.
الركود الأمريكي الذي يلوّح عبر المحيطات وشاشات وول ستريت لا يراه البرلمانيون العراقيون، إنهم منشغلون بالجزء السفلي من الجسد. لو أنّهم رفعوا رؤوسهم! لرأوا الحرائق على الحدود مع تركيا، العمليات العسكرية للجيش التركي هجّرت سكان 300 قرية في دهوك، وأحرقت 6.747 هكتاراً من الأراضي الزراعية.
لو رفعوا رؤوسهم لرأوا طريق المخدرات وهو يمر عبر العراق ويتفرع فيه مثل نمو العفن، هناك أطنان من المخدرات يبلغ سوقها 10 مليارات دولار تنتشر في كل العراق، لو رفعوا رؤوسهم لرأوا مصانع الكبتاغون في المثنى والسليمانية وغيرهما. لو رفعوا رؤوسهم لرأوا ملايين قطع السلاح المنفلت، ومئات العصابات المنظمة والمافيات التي تنهب كل شيء.
لو رفعوا رؤوسهم لرأوا الجفاف الذي حوّل “سهول بلاد ما بين النهرين”، أعظم سهول الكرة الأرضية، إلى صحراء يَقتتل أهلها على الماء والأراضي الزراعية المتبقية، بينما تجاوز عدد من نزحوا قسرياً حاجز 100 ألف شخص، والحبل على الجرار!
لو رفعوا رؤوسهم لرأوا الكارثة في الموازنة، والعجز، والفوضى الحسابية، والفوارق المفزعة بين الإيرادات والنفقات، لو رفعوا رؤوسهم لرأوا أننا نسير نحو “إكلان التبن” بالسرعة التي تسير بها مجرّة درب التبانة نحو نقطة الزوال.