مياه العراق ملعونةٌ: أشباح إيكولوجية ما بين دجلة والفرات! 

رامي عدنان

25 تموز 2024

أشباح إيكولوجية عديدة رافقت البريطانيين في رحلاتهم ما بين دجلة والفرات، تذبذب مستويات المياه، وصعوبة توقّع ارتفاع وانخفاض مناسيبها، وعواصف شديدة، وفيضانات.. النهران الغاضبان يُصعِّبان أيام الإنجليز في "ميزوبوتاميا"!

طوال تاريخ العراق، لعبت المياه دوراً رئيسياً في تحديد شكل ومصير البلاد السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، أما دجلة والفرات، فقد كانا مَطمَعاً لجيوش ورجال أعمال الدول الاستعمارية، وطريقاً نحو أرض الرافدين الممتدة حّتى أقصى جنوب الخليج. 

أغرى النهران المتدفقان العثمانيين والبريطانيين، واستغلت مياه العراق تجارياً وسياسياً، وشهد التاريخ محاولات لاحتكار النهرين وممراتهما، وعلى الرغم من الإقرار بصعوبة الهيمنة والاحتكار، إلا أن جيوشاً خاضت المغامرة.  

ظن البريطانيون أن هذه المياه قابلة للاستعمار بسهولة، وأن هذين النهرين التائهين بلا راع ولا سيد يحميهما سيُبقِيان سيولهما طوع إرادتهم ورهن احتياجهم، آمنة على “بخارياتهم”. ورغم العدة المتطورة والتقنيات الحديثة للأسطول البريطاني، بيد أن لعنة أحاطته كلما وطأت أقدام جنوده السفن التي حاولت اجتياح نهري “ميزوبوتاميا”. 

هذه قصة عن صراع ايكولوجي-سياسي-اقتصادي خاضته السفن البريطانية للسيطرة على النقل النهري في دجلة والفرات خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في عراق ما قبل تأسيس الدولة الحديثة. 

البداية من الثورة الصناعية  

بعد أن وصلت الثورة الصناعية في بريطانيا إلى ذروتها في العصر الفيكتوري (1837-1901)، أخذت طرق النقل النهري تحظى باهتمام خاص من تاج المملكة، نظراً لارتباطها بمصالح الإمبراطورية في الهند والخليج. الحال، أدت عناية التاج إلى إدخال الماكينات البخارية المتطورة آنذاك للخدمة بسرعة قياسية، وأولها سفينة نورث ريفر عام 1807، ولحقتها بعد سنوات “اس اس ارخميدس” التي أبحرت لأول مرة عام 1839، لتكون، بهذه الرحلة، أول سفينة بخارية بمروحة دافعة في العالم. 

كان للتطور السريع أثر كبير على الرؤية الاستراتيجية للتاج البريطاني في ما يخص النقل النهري، ورفع المنافسة الشرسة التي كانت الإمبراطورية تخوضها ضد أكثر من عدو، أبرزهم الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط والخليج، والتي كان العراق تحت سيطرتها برياً ونهرياً منذ أكثر من 300 عام. 

خريطة توضح حوض الفرات عام 1834.

كان العراق بالنسبة للتاج البريطاني معادلة استراتيجية معقدة سيغير تدخل السفن البخارية فيها مصير الصراع النهري الاستعماري بين الإمبراطوريتين، وهو أمر سيدفع جيش الامبراطورية إلى إدخال أولى السفن البخارية إلى العراق في وقت مبكر جداً عام 1836! 

هينري لينش.. دليل دجلة والفرات 

في العراق، كان هنري لينش، الرحال الإيرلندي، قد بدأ يفكر بمنحى تجاري في ما يخص النقل النهري في دجلة والفرات. فقد شق النهرين متأملاً بقلقٍ شعب الجنوب، وخاض مغامرات جريئة على أمواج النهرين.  

وعاش الرحال الإيرلندي بين شعب العراق وفارس، وفهمهم جيداً، درس مأكلهم ومشربهم واقتصادهم وتعلم لغتهم كفاية ليكون لاحقاً المسؤول المباشر عن التواصل مع شيوخ القبائل العربية.  

أثناء مساره البحري على متن السفن البريطانية نائباً لراودن شيزني (1834)، كان لينش يطمح لأخذ التجارة والنقل النهري لمرحلة لم يحلم بها أحد قبله، تتلخص “بجعل العراق مركزاً تجارياً عالمياً”، وكان تكثيف النشاط البريطاني على النهرين خطوة كبيرة من طرف البحرية الامبراطورية باتجاه حلمه المنشود، وزاد يقينه بأن تغيراً اقتصادياً راديكالياً يمكن أن ينشأ في العراق لصالح بريطانيا لو استمر دخول السفن البخارية للخدمة على نهريه بنحو استراتيجي مدروس!. 

ولد هنري لينش في ريف بالينروب في إيرلندا عام 1807، ليكون الثالث بين 11 اخاً، لكنه اختلف عنهم، فقد كان مندفعاً، وسبق أخوته إلى التطوع، وبعمر 15 عاماً، في البحرية البريطانية في الهند، بصفة ضابط صف بحري. 

بعد تميزه في البحرية رُقي عام 1827 لرتبة ملازم، لينتقل بعدها على متن السفن الذاهبة للخليج الفارسي 1834، ويقضي الكثير من أعوامه اللاحقة هناك، مُتقناً فنون النجاة والإبحار، ومتعلماً اللغة العربية والفارسية، وهو ما أهله لصقل مهارات التفاوض التي ستؤهله لحل التعقيدات السياسية التي سيواجهها مع شيوخ العشائر. 

في كتابه “حملة الفُرات” يورد جِ.غِست وصفاً كتبته الرحالة الالمانية ماتيلدا باولين نوستيتز، المعروفة باسم مدام هيلفر، في مذكراتها المعنونة “رحلات مدام هيلفر وزوجها في سوريا، ميزوبوتاميا وبورما” تذكر لقاءهما هي وزوجها بلينش، وكيف أنها كانت مهتمة بالاستكشافات التي يتكلم عنها في “ميزوبوتاميا”، إلا أن شخصية لينش نفسها كانت ذات هالة خاصة حيث تصفه السيدة هيلفر بـ”الرجل المتعلم الذي جمع المزاج الإيرلندي بالفخامة والرحابة الشرق-آسيوية” الأمر الذي توّج “مهاراته الدِبلوماسية” و”اتقانه الفريد للغاتِ الشرقية!”، وفي قاموس سِير الإيرلنديين قدمه باتريك.م. جيوغيجان، أستاذ التاريخ في جامعة دُبلن والمتخصص بالسير الذاتية، يَصِفه بـ”الجرأة والحس الاستكشافي منقطع النظير!” و”بعبقرية مفعمة بحيوية لم يفسدها حسه الساخر”. 

كان هنري لينش متأثراً بأفكار الجنرال والملاح البريطاني فرانسيس راودن شيزني المعروف “بعراب السويس” -أول بريطاني قاد سفينة نقل بخارية خلال قيادته الحملة البريطانية الموسعة في العراق أعوام 1835-1857، وكان يحلم بربط نهري “يصل العراق بالهند” و”يقلل مصاعب التنقل بينهما”. 

سيحقق هنري لينش مع أخيه الأصغر توماس لينش هذا الحلم بتأسيس “شركة الملاحة البخارية في دجلة والفرات” والتي عرفت اختصاراً بــ(ETSN)، وهي التي ستدير النقليات بين بغداد والبصرة وصولاً الى الهند. 

لكن قبلها، لم يكن لينش تاجراً، بل دليلا يعرف الأوردة التي تؤدي إلى قلب العراق. 

حسابات المياه 

شاع الظن في الإمبراطورية البريطانية أن السفن البخارية ستكون الأداة التي ترجح كفة التاج البريطاني على السلطنة العثمانية، فقد وصلت سرعة “البخاريات المتطورة” إلى أكثر من 10 عُقَد، ما يعادل تقريباً 18 كيلومتراً في الساعة، إضافة لقدرتها على تحمل الظروف الجوية المختلفة. 

هنري لينش

بهذه السفن وغيرها، كان جيش التاج البريطاني وجنرالاته وأدلته يجولون العالم بأساطيلهم، غير آبهين للمصاعب، متعطشين للتوسع. اختبروا سفنهم على نطاق واسع وأثبتت جودتها في أكثر من مناسبة، ليتأكد لـ”المملكة العظمى” بأنها الجيل القادم من تكنولوجيا النقل النهري، والتي ستمهد لاستعمار ذي أبعاد اقتصادية متوسعة، ويمكن أن يفتح شبه القارة الهندية على الخليج العربي وبلاد ما بين النهرين! إلا أن شيئاً من الغلو قد شاب تلك النظرة، جاعلاً جنرالات وخبراء التاج يغفلون تقدير النظام البيئي والسياسي والاقتصادي للمنطقة تقديراً كافياً. 

العراق غير العالم  

منحت السفن البخارية للتاج البريطاني سطوة كبيرة على مساحات مائية واسعة حول العالم، لكنها لم تكن بالنتيجة نفسها في العراق. كتب المؤرخون هذه الجملة، بصياغات مختلفة، منهين إياها بعلامات تعجب.  

يجادل ديفيد بلاكبيرن، المؤرخ الإنكليزي، في كتابه “غزو الطبيعة” بأن دخول “البواخر” في المعادلة الإمبريالية في القرن التاسع عشر ساهم بدفع القوى التوسعية بتعميق الأنهر وتوسيع الممرات النهرية باختلاف الجغرافيا. جزر كاملة أزيلت، وأخرى صغر حجمها، وثالثة جرى محوها على مدار القرن! لولا ذلك، لما كان ممكناً لسفن الإمبراطوريات الإبحار بمرونة تكفل تحقيق الأهداف المبتغاة. 

بالمثل، عمل جنود التاج البريطاني بحرص للحفاظ على دجلة والفرات صالحين للملاحة النهرية بكل ما استطاعوا، فبذلوا جهوداً سياسية وحثوا باتجاه تعزيزات عثمانية أخرى تِقنية لتطوير مسارات الملاحة على النهرين، رغم ان سُلطة النقل النهري لم تكن طوع أيديهم حتى أوائل القرن العشرين عند وصول وليام ويلكوكس مهندساً مُختصاً بالسدود والممرات النهرية لبناء سدة الهندية القائمة حتى هذا اليوم. 

كانت القنوات النهرية التي شقّت طريقها لأراضٍ تابعة للسلطنة تارة، وبعض شيوخ العشائر تارة اخرى لتكون مُسبباً رئيسياً في إفقار دفق المياه وعمقها خصوصاً على نهر الفرات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، الذي تناقصت نِسب المياه فيه لتعيق السفن البريطانية التابعة لشركة ETSN التابعة للينش من إكمال نقلياتهم على النهر! 
دفعت تلك الظروف البريطانيين للتوجس والحذر من استمرار شق تلك القنوات بشكل غير مدروس، وتوالت الضغوط البريطانية على الحكومات العثمانية المتعاقبة في بغداد للحد من انتشار القنوات النهرية التي تحفر العشائر مسارها بشكل غير قانوني، ليرسل العثمانيون مُهندساً من طرفهم اسمه مِسعد باشا، الذي وصل منطقة بغيلة ليفاوض شيوخ العشائر المحلية بخصوص الامتناع عن حفر المزيد من القنوات النهرية، لكن الأمور لم تسر على ما يرام. 

فبعد وصول مِسعد باشا حصل ما لم يكن في حسبان الانكليز والعثمانيين، حينها قوبل الباشا بترحاب قاسٍ ومفاجئ، جُردَ من ملبسه وماله وعُنِفَ بشدة واُرسل لمنزله ومُنع بالقوة -جنباً إلى السلطة العثمانية- من إغلاق قناة صغيرة حفرتها العشائر.   

فاتحون جدد في “ميزوبوتاميا”  

بطبيعة الحال، لم تقتصر المساعي البريطانية بإرسال السفن إلى العراق على الجانب التجاري، بل كانت لها أبعاد عسكرية واستراتيجية، منها توفير غطاء عسكري داعم للجبهة الجنوبية في الخليج العربي وفارس، وزيادة التوسع العسكري أمام التواجد العسكري الفرنسي والروسي في المنطقة، اما العثمانيون فلم يكن بعد قد احتدم الصراع معهم رغم أنه كان قد بدأ في التصاعد شيئاً فشيئاً في أواسط القرن التاسع عشر. 

كانت طموحات لينش تكبر ومعها طموحات القادة الكبار في المملكة العظمى، رغم أن بعض هؤلاء، ستغرق سفنهم، حرفياً، في مياه العراق. 

صورة لمجلدين ضخمين بعنوان: الفُرات ودِجلة، كتبهما وارفق تقارير رحلاته داخلهما فرانسيس راودن شيزني.

حلّ هنري لينش قائداً للحملة البريطانية في العراق وعلى باخرة “الفرات”، الباخرة النهرية الوحيدة الناجية من مهمة ربط الهند بالمياه العراقية التي بدأها راودن شيزني عام 1836، والتي لاقى فيها خسارة فادحة وغير متوقعة في النهاية. 

فخلال يوم واحد، هبّت عاصفة شديدة وتضرّرت الباخرة دجلة بأضرار كبيرة وانعدم مجال الرؤية حتى أصبح المسار “ضبابياً بالكامل” وفق شهادة ويليام اينسورث الجيولوجي والمستكشف البريطاني الذي نجا آنذاك، ليهطل مطر شديد وبفعل موجات نهرية عنيفة تنحرف السفينة عن مسارها ويفقد محركها القدرة على العمل وتبدأ بالغرق ومعها 20 بحاراً لاقى كل منهم مصرعه، لتبتلع مياه النهر السفينة البخارية “دجلة” وعدّت حينها سابقة خطيرة من نوعها في تاريخ البحرية البريطانية. 

آنذاك، كان أحد اخوة لينش – روبرت لينش- ضمن طاقم السفينة الغارقة “دجلة”، ما شكّل حزناً وسخطاً كبيراً في قلب هنري لينش، بيد أن الرحلة الاستكشافية كانت معدة لتنجح رغم كل الصعوبات التي رصدتها شركة الهند الشرقية، فقد خصصت اللجنة المُختارة لتقييم مهمة استكشاف الفرات مبلغاً قدره 20,000 باوند للحملة بالكامل يتم تخصيصها من خزينة المملكة، ورغم التمويل والجهد المرصود خسرت البحرية البريطانية سفينة وخسر لينش اخاه.  

كانت الحادثة تتويجاً لِشك لينش الدائم بفلسفة راودن شيزني القديمة -من وجهة نظره- في إدارة الحملة البريطانية في العراق عموماً، فقد كانت رؤاه الاستشراقية والاستراتيجية تتعارض مع راودن شيزني ما صنع خلافاً واضحاً بينهما. 
رغم ذلك، لم تكن خسارة لينش لأخيه نهاية حلمه بالمطلق، بيد ان ترقيته جاءت بعد مغادرة شيزني، ليكون بذلك قائد السفينة الأخرى التي نجت من العواصف والظروف، “الفرات”. 

أبرز لينش هيمنة على المياه، وأظهر معرفة بمسارات أنهار العراق في رسائله إلى عائلته وقادته، التي كانت غالباً رسائل إيجابية عن المستقبل الواعد للهيمنة العسكرية والتجارية على دجلة والفرات. 

كتب لينش في رسالة شهيرة وجريئة للكابتن جورج واشنطن السكرتير العام للجمعية الجغرافية الملكية (RGS) عام 1839، ليخبره بثقة كاملة، بأن “ليس هنالك صعوبة تذكر تعيق زحف الجيوش على طول هذه الأنهار” وأضاف “بِضعة آلاف من جنودنا يمكنهم أن يفتحوا قارة آسيا بكاملها أمامنا”.  

وفي مسعاه لإقناعهما للقدوم والعمل في العراق، أرسل في وقت سابق إلى أخويه توماس وستيفن يخبرهما عن “موارد غير مستنفذة في بلاد ما بين النهرين”؛ ولم يتردد الأخوان كثيراً في اللحاق بشقيقهما، الضابط البريطاني الصاعد.  

فقد وصل توماس لينش، الأخ الاصغر، إلى العراق عام (1937)، وجال في رحلات طويلة، سيذكرها كثيراً في مذكراته الملحمية “النقل النهري على دجلة والفرات مع مشاهدات خاصة”. 

كان الغرور والغلو في تقدير القوة التي تتمتع بها البحرية البريطانية سمة مميزة لضباطها وجنرالاتها آنذاك، وكان توماس لينش، نفسه، أكثر الموسومين بهذه السمة. فبعد أن أسس مع أخويه شركة تجارية خاصة لـ”آل لينش” -ركزوا من خلالها على التربّح من خلال تقديم الخدمات النقلية نهرياً- خُيل له بأنه وعائلته سطّروا نصراً تجارياً استراتيجياً فريداً من نوعه على نهري دجلة والفرات. حَسِبَ لينش الصغير -توماس- نفسه قديساً وفاتحاً “يربط مشارق الأرض بمغاربها” على حد قوله، ونبياً فاتحاً قد خلص العراقيين آنذاك مما أسماه “أيام الجاهلية”، أي تلك التي سبقت وصول البخاريتين الإنجليزيتين للعراق. 

على كل حال، لم تكن السفن البريطانية كثيرة آنذاك، إلا انها شكلت تهديداً استراتيجياً بالنسبة للسلطة العثمانية. كان استغلال مياه العراق أمراً قد بدأه العثمانيون من قبل، لكنهم امتلكوا مقاربة مختلفة لكيفية الاستفادة من دجلة والفرات اقتصادياً. 

فلم يركز المزاج الاستثماري العثماني على البواخر والنقل النهري، بل على مشاريع الري والزراعة في مدن الجنوب، وحاول العثمانيون طرد البخاريتين الإنجليزيتين من مياه العراق، إلا أنهم فشلوا. 

فوفق الامتياز -الفرمان- الممنوح لراودن شيزني عام 1834، سُمح للبريطانيين بالإبحار على نهر دجلة، وكان ذلك نفسه تخويلاً للأخوة لينش من قبل السلطة العثمانية لتأسيس شركتهم عام 1861. 

بالمقابل، لم يكن مشهد السفن البخارية التي تمخر مياه العراق سوى سراب. 

فما أن وصلت البواخر البخارية للمياه الملعونة، حتى بدأت المتاعب والعراقيل تثور بوجه المستعمرين! الإبحار في نهر دجلة لم يكن سهلاً البتة، وشيئاً فشيئاً بدت أحلام لينش “بجعل العراق مركزاً تجارياً عالمياً” تتحول إلى كوابيس جعلت رؤى البريطانيين الاستعمارية تختل، ودفعتهم لإعادة حساباتهم أمام خصومهم في ميزوبوتاميا. 

مياه ملعونة في الانتظار! 

أشباح إيكولوجية عديدة رافقت البريطانيين في رحلاتهم ما بين دجلة والفرات، منها صعوبة توقع ارتفاع وانخفاض مناسيبها، والعواصف الشديدة، والفيضانات. 

كان النهران الغاضبان يصعبان أيام البريطانيين في “ميزوبوتاميا”؛ ففي أيام الفيضانات الموسمية كان يرتفع منسوب المياه في النهرين أكثر من 90 سم يومياً، مما جعل البحارة البريطانيين، وعلى رأسهم بحارة سفن لينش في وقت لاحق، في مأزق متجدد؛ فقد عجز قبطانٍ سفينة تجارية لـ”آل لينش” من تحديد الجرف والمسار السالك لدخول قناةٍ نهرية بسبب ارتفاع المناسيب بعد الفيضان، ما ادى لغمر اليابسة بالمياه وبالتالي تفاوت عمق النهر أثناء الملاحة. 

وكانت المياه عصّية على وضعها في خرائط، فلم يكن بمقدور البريطانيين تحديد مواقع ثابتة لاي منطقة بدقة، فظهور الجزر الصغيرة النهرية فجأة كان وارداً في فصل الصيف عندما تقل مناسيب المياه، كما تتغير المساحات المائية مع حلول الشتاء عند ارتفاع المناسيب. رغم ذلك، لم يكن رسم مسار التقلبات النهرية سهلاً، لأن المناسيب تقل لينخفض العمق في منطقة ما، وتعتدل فتكون سالكة جزئياً في منطقة أخرى، وكانت في كل موسم تتغيّر مواقع وحدّة المساحات المائية المتأثرة بارتفاع وانخفاض المناسيب المائية، ما جعل مسار السفن التجارية معرضاً للتوقفات المفاجئة وبالتالي لخسائر مالية أيضاً. 

فقد استغرقت مدة الرحلة بين بغداد والبصرة في صيف عام 1911، 14 يوماً بسبب انخفاض منسوب المياه، رغم أنها كانت تستغرق 4 أيام فقط في الشتاء. وكانت هذه التغيّرات لا تقتصر على رقعة جغرافية محددة، بل كانت سمة “إيكولوجية” أثرت على النقل النهري في دجلة من أقصى شمال العراق حتى كرمة علي جنوبه. 

جراء ذلك، كانت السفن التجارية تضطر لتقليل الحمولة التي كانت على متنها لتعبر بسلاسة بعض المناطق، خاصة تلك التي تقل فيها مناسيب المياه لتصل إلى الحد الذي يعيق عبورها، وكانت السفن البريطانية الكبيرة تستعين بالقوارب محلية الصنع، للتخلص من الأوزان الزائدة، ما ساهم بزيادة النشاط التجاري للأخيرة. 

من يقنع التجار؟ 

في موسم انخفاض المياه عام 1901، اقتربت سفينة بريطانية تجارية لتعبئة الفحم من أحد المستودعات القريبة من مدينة الكوت، لكن خطباً أصاب مسارها، دفع طاقمها للتوقف بمسافة قبل وصولهم إلى المستودع، كانت ضحالة المياه قُبيل الجرف السبب في ذلك.  

مثل هذه الحوادث تجد صداها في بريطانيا، وتدفع تجار المملكة إلى التفكير أكثر من مرّة بالاعتماد على السفن البريطانية في نقل بضائعهم عبر مياه العراق، إلا أن بعضهم أجبر على استخدامها ودفع أجورها. 

ففي أحد الحوادث رفض موريس كوهن، التاجر البريطاني الذي كان يتاجر بالسلع المحلية والمستوردة داخل العراق، بشكل صريح استخدام السفن البريطانية لنقل بضائعه عبر العراق، معللاً ذلك بعامل الوقت الطويل، والتكلفة العالية، مفضلاً عليها السفن القديمة التي كان قد جربها لنقل بضائعه من البصرة لبغداد. 

وفي المحصلة، اجبرت القنصلية البريطانية كوهن على استخدام السفن البريطانية وذلك رعاية للمشاريع التجارية البريطانية في الشرق. وقد مارست المملكة ضغوطاً شملت جميع التجار -حتى البريطانيين منهم-، وكانت لدعم لمشروع لينش آنذاك. 

لكن التحديّات أمام مشروع لينش كانت تزداد صعوبة، فحتّى رحلات نقل الركاب لم تسلم من المعاناة، إذ كانت البواخر تضطر لتفريغ المسافرين بين الفينة والأخرى، لغرض عبور مناطق معينة في نهر دجلة لا تستطيع السفن الخوض في مياهها. 

زوارق محلية.. بفاعلية أكبر 

وفيما كانت السفن البخارية البريطانية تُعافر، كانت الزوارق المحلية العراقية تستعمر في أعمالها، والكثير منها، ولاسيما في الأهوار، حيث تقودها نساء. 

الدهن والقصب والقطن والحليب والزبد والطيور والبضائع الهندية والأجنبية المختلفة، كان الكثير منها يشحن بالزوارق الجنوبية المحلية، لتباع في ما بعد في مناطق أخرى. 

كان نظام الأهوار نظاماً ملاحياً بسيطاً وبدائي الاقتصاد، الا أنه تميز بتعدد مراكزه ما بين سوق الشيوخ ومناطق أخرى من المسطحات المائية جنوبي البلاد، وتعدد المراكز نفسه، سيكون كابوساً للبريطانيين، إذ بدأت العشائر بفرض “الخاوات” على مرور “البخاريات” الضخمة في مياههم.  

وكانت “الخاوات” تضاف على الكلفة النهائية للرحلات التجارية الطويلة للفترة من أواسط القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وظلت “الخاوات” خلال هذه الفترة تشكل جزءاً لا يتجزأ من التكلفة التي تضمها التجارة في الأهوار بالنسبة للبريطانيين في ظل هيمنة بعض العشائر مثل بني لام وال بو محمد على المجتمعات المحلية في الجنوب، ما سمح لها أن تعيش في منطقة تبدو كأنها جزئياً خارج سلطة العثمانيين، رغم أن جزءاً من اموال “الخاوات” كانت تذهب للسلطة العثمانية آنذاك، لكنها أيضاً كانت مفروضة من قبل الشيوخ لتبيين عِلو وقدرة العشائر وسطوتها على تلك المناطق. 

عرقلت “الخاوات” البريطانيين و”سفنهم البخارية” من مرونة التجارة في الاهوار، وزاد ذلك لاحقاً من غضب السلطة العثمانية، ما جعلها تحاول بوسائل عدّة التخلص من نظام “الخاوات”، حتى أنها لجأت للفتاوى الدينية بتحريم “الخاوة”، إلا انها بقيت موجودة وإن على نطاق محدود. 

أشرعة ممزقة 

لم يكن البريطانيون محقين في تقديراتهم، رغم استباقهم بإدخال السفن البخارية للخدمة في دجلة والفرات، إلا أنها لم تحقق النجاح الذي كان يصبو اليه البريطانيون بالكامل، فلا سيطروا بالكامل على آسيا من خلال الفرات ودجلة، ولا هم وجدوا بديلاً للنقل النهري من الهند لأوروبا، كل تلك الاحلام حولتها ايامهم في “ميزوبوتاميا” لكوابيس حية، أشرعة ممزقة وجثث غرقت، الآلاف من الباوندات أنفقت، إلا أن ما تحقق من الحلم لم يستطع أن يقارع ما عاشه البريطانيون من كوابيس.  

استمرت بواخر آل لينش حتى الربع الأول من القرن العشرين، وكُرم راودن شيزني من قبل التاج البريطاني، اما الإخوة لينش، أكمل كل منهم حياته خارج العراق، تاركين وراءهم ذكريات وأحلاماً امبريالية جسدت روح عصرهم وحضارتهم لكن من دون أن تتحقق واقعاً بالكامل. 

ورغم أن الطريق نحو استعمار آسيا من قلب “ميزوبوتاميا” كانت تبدو سالكة في البداية، لكن، لم يقف الحكام العثمانيون في وجه التاج البريطاني، ولم يدرك العراقيون خطورة التوغل الإنجليزي بشكل كافٍ كي ينتظموا ضده، الا أن الايكولوجيا والنظام الاقتصادي-التجاري البدائي وقف في وجههم، كانت الطبيعة بالضد منهم، والفطرة التي لازمت قناعات السكان المحليين آنذاك جعلت تجارتهم ونقلياتهم البدائية تنجو أمام السفن البخارية المتطورة، من دون أدنى جهد يذكر في مقارعتها تكنولوجياً، ليستمروا بنمط عيشهم البدائي، ويستمر النجاح المحدود للسفن البخارية معهم أيضاً. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

طوال تاريخ العراق، لعبت المياه دوراً رئيسياً في تحديد شكل ومصير البلاد السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، أما دجلة والفرات، فقد كانا مَطمَعاً لجيوش ورجال أعمال الدول الاستعمارية، وطريقاً نحو أرض الرافدين الممتدة حّتى أقصى جنوب الخليج. 

أغرى النهران المتدفقان العثمانيين والبريطانيين، واستغلت مياه العراق تجارياً وسياسياً، وشهد التاريخ محاولات لاحتكار النهرين وممراتهما، وعلى الرغم من الإقرار بصعوبة الهيمنة والاحتكار، إلا أن جيوشاً خاضت المغامرة.  

ظن البريطانيون أن هذه المياه قابلة للاستعمار بسهولة، وأن هذين النهرين التائهين بلا راع ولا سيد يحميهما سيُبقِيان سيولهما طوع إرادتهم ورهن احتياجهم، آمنة على “بخارياتهم”. ورغم العدة المتطورة والتقنيات الحديثة للأسطول البريطاني، بيد أن لعنة أحاطته كلما وطأت أقدام جنوده السفن التي حاولت اجتياح نهري “ميزوبوتاميا”. 

هذه قصة عن صراع ايكولوجي-سياسي-اقتصادي خاضته السفن البريطانية للسيطرة على النقل النهري في دجلة والفرات خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في عراق ما قبل تأسيس الدولة الحديثة. 

البداية من الثورة الصناعية  

بعد أن وصلت الثورة الصناعية في بريطانيا إلى ذروتها في العصر الفيكتوري (1837-1901)، أخذت طرق النقل النهري تحظى باهتمام خاص من تاج المملكة، نظراً لارتباطها بمصالح الإمبراطورية في الهند والخليج. الحال، أدت عناية التاج إلى إدخال الماكينات البخارية المتطورة آنذاك للخدمة بسرعة قياسية، وأولها سفينة نورث ريفر عام 1807، ولحقتها بعد سنوات “اس اس ارخميدس” التي أبحرت لأول مرة عام 1839، لتكون، بهذه الرحلة، أول سفينة بخارية بمروحة دافعة في العالم. 

كان للتطور السريع أثر كبير على الرؤية الاستراتيجية للتاج البريطاني في ما يخص النقل النهري، ورفع المنافسة الشرسة التي كانت الإمبراطورية تخوضها ضد أكثر من عدو، أبرزهم الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط والخليج، والتي كان العراق تحت سيطرتها برياً ونهرياً منذ أكثر من 300 عام. 

خريطة توضح حوض الفرات عام 1834.

كان العراق بالنسبة للتاج البريطاني معادلة استراتيجية معقدة سيغير تدخل السفن البخارية فيها مصير الصراع النهري الاستعماري بين الإمبراطوريتين، وهو أمر سيدفع جيش الامبراطورية إلى إدخال أولى السفن البخارية إلى العراق في وقت مبكر جداً عام 1836! 

هينري لينش.. دليل دجلة والفرات 

في العراق، كان هنري لينش، الرحال الإيرلندي، قد بدأ يفكر بمنحى تجاري في ما يخص النقل النهري في دجلة والفرات. فقد شق النهرين متأملاً بقلقٍ شعب الجنوب، وخاض مغامرات جريئة على أمواج النهرين.  

وعاش الرحال الإيرلندي بين شعب العراق وفارس، وفهمهم جيداً، درس مأكلهم ومشربهم واقتصادهم وتعلم لغتهم كفاية ليكون لاحقاً المسؤول المباشر عن التواصل مع شيوخ القبائل العربية.  

أثناء مساره البحري على متن السفن البريطانية نائباً لراودن شيزني (1834)، كان لينش يطمح لأخذ التجارة والنقل النهري لمرحلة لم يحلم بها أحد قبله، تتلخص “بجعل العراق مركزاً تجارياً عالمياً”، وكان تكثيف النشاط البريطاني على النهرين خطوة كبيرة من طرف البحرية الامبراطورية باتجاه حلمه المنشود، وزاد يقينه بأن تغيراً اقتصادياً راديكالياً يمكن أن ينشأ في العراق لصالح بريطانيا لو استمر دخول السفن البخارية للخدمة على نهريه بنحو استراتيجي مدروس!. 

ولد هنري لينش في ريف بالينروب في إيرلندا عام 1807، ليكون الثالث بين 11 اخاً، لكنه اختلف عنهم، فقد كان مندفعاً، وسبق أخوته إلى التطوع، وبعمر 15 عاماً، في البحرية البريطانية في الهند، بصفة ضابط صف بحري. 

بعد تميزه في البحرية رُقي عام 1827 لرتبة ملازم، لينتقل بعدها على متن السفن الذاهبة للخليج الفارسي 1834، ويقضي الكثير من أعوامه اللاحقة هناك، مُتقناً فنون النجاة والإبحار، ومتعلماً اللغة العربية والفارسية، وهو ما أهله لصقل مهارات التفاوض التي ستؤهله لحل التعقيدات السياسية التي سيواجهها مع شيوخ العشائر. 

في كتابه “حملة الفُرات” يورد جِ.غِست وصفاً كتبته الرحالة الالمانية ماتيلدا باولين نوستيتز، المعروفة باسم مدام هيلفر، في مذكراتها المعنونة “رحلات مدام هيلفر وزوجها في سوريا، ميزوبوتاميا وبورما” تذكر لقاءهما هي وزوجها بلينش، وكيف أنها كانت مهتمة بالاستكشافات التي يتكلم عنها في “ميزوبوتاميا”، إلا أن شخصية لينش نفسها كانت ذات هالة خاصة حيث تصفه السيدة هيلفر بـ”الرجل المتعلم الذي جمع المزاج الإيرلندي بالفخامة والرحابة الشرق-آسيوية” الأمر الذي توّج “مهاراته الدِبلوماسية” و”اتقانه الفريد للغاتِ الشرقية!”، وفي قاموس سِير الإيرلنديين قدمه باتريك.م. جيوغيجان، أستاذ التاريخ في جامعة دُبلن والمتخصص بالسير الذاتية، يَصِفه بـ”الجرأة والحس الاستكشافي منقطع النظير!” و”بعبقرية مفعمة بحيوية لم يفسدها حسه الساخر”. 

كان هنري لينش متأثراً بأفكار الجنرال والملاح البريطاني فرانسيس راودن شيزني المعروف “بعراب السويس” -أول بريطاني قاد سفينة نقل بخارية خلال قيادته الحملة البريطانية الموسعة في العراق أعوام 1835-1857، وكان يحلم بربط نهري “يصل العراق بالهند” و”يقلل مصاعب التنقل بينهما”. 

سيحقق هنري لينش مع أخيه الأصغر توماس لينش هذا الحلم بتأسيس “شركة الملاحة البخارية في دجلة والفرات” والتي عرفت اختصاراً بــ(ETSN)، وهي التي ستدير النقليات بين بغداد والبصرة وصولاً الى الهند. 

لكن قبلها، لم يكن لينش تاجراً، بل دليلا يعرف الأوردة التي تؤدي إلى قلب العراق. 

حسابات المياه 

شاع الظن في الإمبراطورية البريطانية أن السفن البخارية ستكون الأداة التي ترجح كفة التاج البريطاني على السلطنة العثمانية، فقد وصلت سرعة “البخاريات المتطورة” إلى أكثر من 10 عُقَد، ما يعادل تقريباً 18 كيلومتراً في الساعة، إضافة لقدرتها على تحمل الظروف الجوية المختلفة. 

هنري لينش

بهذه السفن وغيرها، كان جيش التاج البريطاني وجنرالاته وأدلته يجولون العالم بأساطيلهم، غير آبهين للمصاعب، متعطشين للتوسع. اختبروا سفنهم على نطاق واسع وأثبتت جودتها في أكثر من مناسبة، ليتأكد لـ”المملكة العظمى” بأنها الجيل القادم من تكنولوجيا النقل النهري، والتي ستمهد لاستعمار ذي أبعاد اقتصادية متوسعة، ويمكن أن يفتح شبه القارة الهندية على الخليج العربي وبلاد ما بين النهرين! إلا أن شيئاً من الغلو قد شاب تلك النظرة، جاعلاً جنرالات وخبراء التاج يغفلون تقدير النظام البيئي والسياسي والاقتصادي للمنطقة تقديراً كافياً. 

العراق غير العالم  

منحت السفن البخارية للتاج البريطاني سطوة كبيرة على مساحات مائية واسعة حول العالم، لكنها لم تكن بالنتيجة نفسها في العراق. كتب المؤرخون هذه الجملة، بصياغات مختلفة، منهين إياها بعلامات تعجب.  

يجادل ديفيد بلاكبيرن، المؤرخ الإنكليزي، في كتابه “غزو الطبيعة” بأن دخول “البواخر” في المعادلة الإمبريالية في القرن التاسع عشر ساهم بدفع القوى التوسعية بتعميق الأنهر وتوسيع الممرات النهرية باختلاف الجغرافيا. جزر كاملة أزيلت، وأخرى صغر حجمها، وثالثة جرى محوها على مدار القرن! لولا ذلك، لما كان ممكناً لسفن الإمبراطوريات الإبحار بمرونة تكفل تحقيق الأهداف المبتغاة. 

بالمثل، عمل جنود التاج البريطاني بحرص للحفاظ على دجلة والفرات صالحين للملاحة النهرية بكل ما استطاعوا، فبذلوا جهوداً سياسية وحثوا باتجاه تعزيزات عثمانية أخرى تِقنية لتطوير مسارات الملاحة على النهرين، رغم ان سُلطة النقل النهري لم تكن طوع أيديهم حتى أوائل القرن العشرين عند وصول وليام ويلكوكس مهندساً مُختصاً بالسدود والممرات النهرية لبناء سدة الهندية القائمة حتى هذا اليوم. 

كانت القنوات النهرية التي شقّت طريقها لأراضٍ تابعة للسلطنة تارة، وبعض شيوخ العشائر تارة اخرى لتكون مُسبباً رئيسياً في إفقار دفق المياه وعمقها خصوصاً على نهر الفرات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، الذي تناقصت نِسب المياه فيه لتعيق السفن البريطانية التابعة لشركة ETSN التابعة للينش من إكمال نقلياتهم على النهر! 
دفعت تلك الظروف البريطانيين للتوجس والحذر من استمرار شق تلك القنوات بشكل غير مدروس، وتوالت الضغوط البريطانية على الحكومات العثمانية المتعاقبة في بغداد للحد من انتشار القنوات النهرية التي تحفر العشائر مسارها بشكل غير قانوني، ليرسل العثمانيون مُهندساً من طرفهم اسمه مِسعد باشا، الذي وصل منطقة بغيلة ليفاوض شيوخ العشائر المحلية بخصوص الامتناع عن حفر المزيد من القنوات النهرية، لكن الأمور لم تسر على ما يرام. 

فبعد وصول مِسعد باشا حصل ما لم يكن في حسبان الانكليز والعثمانيين، حينها قوبل الباشا بترحاب قاسٍ ومفاجئ، جُردَ من ملبسه وماله وعُنِفَ بشدة واُرسل لمنزله ومُنع بالقوة -جنباً إلى السلطة العثمانية- من إغلاق قناة صغيرة حفرتها العشائر.   

فاتحون جدد في “ميزوبوتاميا”  

بطبيعة الحال، لم تقتصر المساعي البريطانية بإرسال السفن إلى العراق على الجانب التجاري، بل كانت لها أبعاد عسكرية واستراتيجية، منها توفير غطاء عسكري داعم للجبهة الجنوبية في الخليج العربي وفارس، وزيادة التوسع العسكري أمام التواجد العسكري الفرنسي والروسي في المنطقة، اما العثمانيون فلم يكن بعد قد احتدم الصراع معهم رغم أنه كان قد بدأ في التصاعد شيئاً فشيئاً في أواسط القرن التاسع عشر. 

كانت طموحات لينش تكبر ومعها طموحات القادة الكبار في المملكة العظمى، رغم أن بعض هؤلاء، ستغرق سفنهم، حرفياً، في مياه العراق. 

صورة لمجلدين ضخمين بعنوان: الفُرات ودِجلة، كتبهما وارفق تقارير رحلاته داخلهما فرانسيس راودن شيزني.

حلّ هنري لينش قائداً للحملة البريطانية في العراق وعلى باخرة “الفرات”، الباخرة النهرية الوحيدة الناجية من مهمة ربط الهند بالمياه العراقية التي بدأها راودن شيزني عام 1836، والتي لاقى فيها خسارة فادحة وغير متوقعة في النهاية. 

فخلال يوم واحد، هبّت عاصفة شديدة وتضرّرت الباخرة دجلة بأضرار كبيرة وانعدم مجال الرؤية حتى أصبح المسار “ضبابياً بالكامل” وفق شهادة ويليام اينسورث الجيولوجي والمستكشف البريطاني الذي نجا آنذاك، ليهطل مطر شديد وبفعل موجات نهرية عنيفة تنحرف السفينة عن مسارها ويفقد محركها القدرة على العمل وتبدأ بالغرق ومعها 20 بحاراً لاقى كل منهم مصرعه، لتبتلع مياه النهر السفينة البخارية “دجلة” وعدّت حينها سابقة خطيرة من نوعها في تاريخ البحرية البريطانية. 

آنذاك، كان أحد اخوة لينش – روبرت لينش- ضمن طاقم السفينة الغارقة “دجلة”، ما شكّل حزناً وسخطاً كبيراً في قلب هنري لينش، بيد أن الرحلة الاستكشافية كانت معدة لتنجح رغم كل الصعوبات التي رصدتها شركة الهند الشرقية، فقد خصصت اللجنة المُختارة لتقييم مهمة استكشاف الفرات مبلغاً قدره 20,000 باوند للحملة بالكامل يتم تخصيصها من خزينة المملكة، ورغم التمويل والجهد المرصود خسرت البحرية البريطانية سفينة وخسر لينش اخاه.  

كانت الحادثة تتويجاً لِشك لينش الدائم بفلسفة راودن شيزني القديمة -من وجهة نظره- في إدارة الحملة البريطانية في العراق عموماً، فقد كانت رؤاه الاستشراقية والاستراتيجية تتعارض مع راودن شيزني ما صنع خلافاً واضحاً بينهما. 
رغم ذلك، لم تكن خسارة لينش لأخيه نهاية حلمه بالمطلق، بيد ان ترقيته جاءت بعد مغادرة شيزني، ليكون بذلك قائد السفينة الأخرى التي نجت من العواصف والظروف، “الفرات”. 

أبرز لينش هيمنة على المياه، وأظهر معرفة بمسارات أنهار العراق في رسائله إلى عائلته وقادته، التي كانت غالباً رسائل إيجابية عن المستقبل الواعد للهيمنة العسكرية والتجارية على دجلة والفرات. 

كتب لينش في رسالة شهيرة وجريئة للكابتن جورج واشنطن السكرتير العام للجمعية الجغرافية الملكية (RGS) عام 1839، ليخبره بثقة كاملة، بأن “ليس هنالك صعوبة تذكر تعيق زحف الجيوش على طول هذه الأنهار” وأضاف “بِضعة آلاف من جنودنا يمكنهم أن يفتحوا قارة آسيا بكاملها أمامنا”.  

وفي مسعاه لإقناعهما للقدوم والعمل في العراق، أرسل في وقت سابق إلى أخويه توماس وستيفن يخبرهما عن “موارد غير مستنفذة في بلاد ما بين النهرين”؛ ولم يتردد الأخوان كثيراً في اللحاق بشقيقهما، الضابط البريطاني الصاعد.  

فقد وصل توماس لينش، الأخ الاصغر، إلى العراق عام (1937)، وجال في رحلات طويلة، سيذكرها كثيراً في مذكراته الملحمية “النقل النهري على دجلة والفرات مع مشاهدات خاصة”. 

كان الغرور والغلو في تقدير القوة التي تتمتع بها البحرية البريطانية سمة مميزة لضباطها وجنرالاتها آنذاك، وكان توماس لينش، نفسه، أكثر الموسومين بهذه السمة. فبعد أن أسس مع أخويه شركة تجارية خاصة لـ”آل لينش” -ركزوا من خلالها على التربّح من خلال تقديم الخدمات النقلية نهرياً- خُيل له بأنه وعائلته سطّروا نصراً تجارياً استراتيجياً فريداً من نوعه على نهري دجلة والفرات. حَسِبَ لينش الصغير -توماس- نفسه قديساً وفاتحاً “يربط مشارق الأرض بمغاربها” على حد قوله، ونبياً فاتحاً قد خلص العراقيين آنذاك مما أسماه “أيام الجاهلية”، أي تلك التي سبقت وصول البخاريتين الإنجليزيتين للعراق. 

على كل حال، لم تكن السفن البريطانية كثيرة آنذاك، إلا انها شكلت تهديداً استراتيجياً بالنسبة للسلطة العثمانية. كان استغلال مياه العراق أمراً قد بدأه العثمانيون من قبل، لكنهم امتلكوا مقاربة مختلفة لكيفية الاستفادة من دجلة والفرات اقتصادياً. 

فلم يركز المزاج الاستثماري العثماني على البواخر والنقل النهري، بل على مشاريع الري والزراعة في مدن الجنوب، وحاول العثمانيون طرد البخاريتين الإنجليزيتين من مياه العراق، إلا أنهم فشلوا. 

فوفق الامتياز -الفرمان- الممنوح لراودن شيزني عام 1834، سُمح للبريطانيين بالإبحار على نهر دجلة، وكان ذلك نفسه تخويلاً للأخوة لينش من قبل السلطة العثمانية لتأسيس شركتهم عام 1861. 

بالمقابل، لم يكن مشهد السفن البخارية التي تمخر مياه العراق سوى سراب. 

فما أن وصلت البواخر البخارية للمياه الملعونة، حتى بدأت المتاعب والعراقيل تثور بوجه المستعمرين! الإبحار في نهر دجلة لم يكن سهلاً البتة، وشيئاً فشيئاً بدت أحلام لينش “بجعل العراق مركزاً تجارياً عالمياً” تتحول إلى كوابيس جعلت رؤى البريطانيين الاستعمارية تختل، ودفعتهم لإعادة حساباتهم أمام خصومهم في ميزوبوتاميا. 

مياه ملعونة في الانتظار! 

أشباح إيكولوجية عديدة رافقت البريطانيين في رحلاتهم ما بين دجلة والفرات، منها صعوبة توقع ارتفاع وانخفاض مناسيبها، والعواصف الشديدة، والفيضانات. 

كان النهران الغاضبان يصعبان أيام البريطانيين في “ميزوبوتاميا”؛ ففي أيام الفيضانات الموسمية كان يرتفع منسوب المياه في النهرين أكثر من 90 سم يومياً، مما جعل البحارة البريطانيين، وعلى رأسهم بحارة سفن لينش في وقت لاحق، في مأزق متجدد؛ فقد عجز قبطانٍ سفينة تجارية لـ”آل لينش” من تحديد الجرف والمسار السالك لدخول قناةٍ نهرية بسبب ارتفاع المناسيب بعد الفيضان، ما ادى لغمر اليابسة بالمياه وبالتالي تفاوت عمق النهر أثناء الملاحة. 

وكانت المياه عصّية على وضعها في خرائط، فلم يكن بمقدور البريطانيين تحديد مواقع ثابتة لاي منطقة بدقة، فظهور الجزر الصغيرة النهرية فجأة كان وارداً في فصل الصيف عندما تقل مناسيب المياه، كما تتغير المساحات المائية مع حلول الشتاء عند ارتفاع المناسيب. رغم ذلك، لم يكن رسم مسار التقلبات النهرية سهلاً، لأن المناسيب تقل لينخفض العمق في منطقة ما، وتعتدل فتكون سالكة جزئياً في منطقة أخرى، وكانت في كل موسم تتغيّر مواقع وحدّة المساحات المائية المتأثرة بارتفاع وانخفاض المناسيب المائية، ما جعل مسار السفن التجارية معرضاً للتوقفات المفاجئة وبالتالي لخسائر مالية أيضاً. 

فقد استغرقت مدة الرحلة بين بغداد والبصرة في صيف عام 1911، 14 يوماً بسبب انخفاض منسوب المياه، رغم أنها كانت تستغرق 4 أيام فقط في الشتاء. وكانت هذه التغيّرات لا تقتصر على رقعة جغرافية محددة، بل كانت سمة “إيكولوجية” أثرت على النقل النهري في دجلة من أقصى شمال العراق حتى كرمة علي جنوبه. 

جراء ذلك، كانت السفن التجارية تضطر لتقليل الحمولة التي كانت على متنها لتعبر بسلاسة بعض المناطق، خاصة تلك التي تقل فيها مناسيب المياه لتصل إلى الحد الذي يعيق عبورها، وكانت السفن البريطانية الكبيرة تستعين بالقوارب محلية الصنع، للتخلص من الأوزان الزائدة، ما ساهم بزيادة النشاط التجاري للأخيرة. 

من يقنع التجار؟ 

في موسم انخفاض المياه عام 1901، اقتربت سفينة بريطانية تجارية لتعبئة الفحم من أحد المستودعات القريبة من مدينة الكوت، لكن خطباً أصاب مسارها، دفع طاقمها للتوقف بمسافة قبل وصولهم إلى المستودع، كانت ضحالة المياه قُبيل الجرف السبب في ذلك.  

مثل هذه الحوادث تجد صداها في بريطانيا، وتدفع تجار المملكة إلى التفكير أكثر من مرّة بالاعتماد على السفن البريطانية في نقل بضائعهم عبر مياه العراق، إلا أن بعضهم أجبر على استخدامها ودفع أجورها. 

ففي أحد الحوادث رفض موريس كوهن، التاجر البريطاني الذي كان يتاجر بالسلع المحلية والمستوردة داخل العراق، بشكل صريح استخدام السفن البريطانية لنقل بضائعه عبر العراق، معللاً ذلك بعامل الوقت الطويل، والتكلفة العالية، مفضلاً عليها السفن القديمة التي كان قد جربها لنقل بضائعه من البصرة لبغداد. 

وفي المحصلة، اجبرت القنصلية البريطانية كوهن على استخدام السفن البريطانية وذلك رعاية للمشاريع التجارية البريطانية في الشرق. وقد مارست المملكة ضغوطاً شملت جميع التجار -حتى البريطانيين منهم-، وكانت لدعم لمشروع لينش آنذاك. 

لكن التحديّات أمام مشروع لينش كانت تزداد صعوبة، فحتّى رحلات نقل الركاب لم تسلم من المعاناة، إذ كانت البواخر تضطر لتفريغ المسافرين بين الفينة والأخرى، لغرض عبور مناطق معينة في نهر دجلة لا تستطيع السفن الخوض في مياهها. 

زوارق محلية.. بفاعلية أكبر 

وفيما كانت السفن البخارية البريطانية تُعافر، كانت الزوارق المحلية العراقية تستعمر في أعمالها، والكثير منها، ولاسيما في الأهوار، حيث تقودها نساء. 

الدهن والقصب والقطن والحليب والزبد والطيور والبضائع الهندية والأجنبية المختلفة، كان الكثير منها يشحن بالزوارق الجنوبية المحلية، لتباع في ما بعد في مناطق أخرى. 

كان نظام الأهوار نظاماً ملاحياً بسيطاً وبدائي الاقتصاد، الا أنه تميز بتعدد مراكزه ما بين سوق الشيوخ ومناطق أخرى من المسطحات المائية جنوبي البلاد، وتعدد المراكز نفسه، سيكون كابوساً للبريطانيين، إذ بدأت العشائر بفرض “الخاوات” على مرور “البخاريات” الضخمة في مياههم.  

وكانت “الخاوات” تضاف على الكلفة النهائية للرحلات التجارية الطويلة للفترة من أواسط القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، وظلت “الخاوات” خلال هذه الفترة تشكل جزءاً لا يتجزأ من التكلفة التي تضمها التجارة في الأهوار بالنسبة للبريطانيين في ظل هيمنة بعض العشائر مثل بني لام وال بو محمد على المجتمعات المحلية في الجنوب، ما سمح لها أن تعيش في منطقة تبدو كأنها جزئياً خارج سلطة العثمانيين، رغم أن جزءاً من اموال “الخاوات” كانت تذهب للسلطة العثمانية آنذاك، لكنها أيضاً كانت مفروضة من قبل الشيوخ لتبيين عِلو وقدرة العشائر وسطوتها على تلك المناطق. 

عرقلت “الخاوات” البريطانيين و”سفنهم البخارية” من مرونة التجارة في الاهوار، وزاد ذلك لاحقاً من غضب السلطة العثمانية، ما جعلها تحاول بوسائل عدّة التخلص من نظام “الخاوات”، حتى أنها لجأت للفتاوى الدينية بتحريم “الخاوة”، إلا انها بقيت موجودة وإن على نطاق محدود. 

أشرعة ممزقة 

لم يكن البريطانيون محقين في تقديراتهم، رغم استباقهم بإدخال السفن البخارية للخدمة في دجلة والفرات، إلا أنها لم تحقق النجاح الذي كان يصبو اليه البريطانيون بالكامل، فلا سيطروا بالكامل على آسيا من خلال الفرات ودجلة، ولا هم وجدوا بديلاً للنقل النهري من الهند لأوروبا، كل تلك الاحلام حولتها ايامهم في “ميزوبوتاميا” لكوابيس حية، أشرعة ممزقة وجثث غرقت، الآلاف من الباوندات أنفقت، إلا أن ما تحقق من الحلم لم يستطع أن يقارع ما عاشه البريطانيون من كوابيس.  

استمرت بواخر آل لينش حتى الربع الأول من القرن العشرين، وكُرم راودن شيزني من قبل التاج البريطاني، اما الإخوة لينش، أكمل كل منهم حياته خارج العراق، تاركين وراءهم ذكريات وأحلاماً امبريالية جسدت روح عصرهم وحضارتهم لكن من دون أن تتحقق واقعاً بالكامل. 

ورغم أن الطريق نحو استعمار آسيا من قلب “ميزوبوتاميا” كانت تبدو سالكة في البداية، لكن، لم يقف الحكام العثمانيون في وجه التاج البريطاني، ولم يدرك العراقيون خطورة التوغل الإنجليزي بشكل كافٍ كي ينتظموا ضده، الا أن الايكولوجيا والنظام الاقتصادي-التجاري البدائي وقف في وجههم، كانت الطبيعة بالضد منهم، والفطرة التي لازمت قناعات السكان المحليين آنذاك جعلت تجارتهم ونقلياتهم البدائية تنجو أمام السفن البخارية المتطورة، من دون أدنى جهد يذكر في مقارعتها تكنولوجياً، ليستمروا بنمط عيشهم البدائي، ويستمر النجاح المحدود للسفن البخارية معهم أيضاً.