النبّاشة: كيف تحوّل التلوث البيئي إلى مصدر للرزق والموت؟
13 تموز 2024
المئات في مدينة بعقوبة يجازفون بأجسادهم وصحّتهم، لجمع النفايات وبيعها، المخاطر لا تهدّدهم وحدهم، بل تتجاوزهم للوصول إلى بقيّة السكان، حيث يكون "النبّاشة" مصدراً لنقل الأمراض والأحياء المجهرية الناقلة للأوبئة.. لكن ماذا تعني الصحة أمام توفير قوت يومهم؟
تلال متناثرة من النفايات المتراكمة، تلقيها مدينة بعقوبة في موقع الطمر، أصبحت ملاذاً ومصدراً معيشياً لأكثر من مئة فرد، يُعرفون هنا باسم “النبّاشة” أو النبّاشين، يتقاسمون الموقع مع أسراب الطيور، ومئات الكلاب السائبة، وأعداد لا حصر لها من الكائنات المجهرية الدقيقة، التي تسبب الأمراض، وتنشر الأوبئة، وتنقل التلوث عبر أجساد النبّاشة إلى بقيّة السكان.
في موقع الطمر الواقع جنوب شرق بعقوبة، ويبعد عن أقرب الأحياء السكنية بكيلومترين فقط، يتدافع العشرات من النباشة، يتقافزون في مؤخرات كابسات النفايات، بحثاً عن صيد ثمين من قطع الحديد الثقيلة، أو من البلاستيك أو الألمنيوم.
حتى وقت قريب، كان هؤلاء النبّاشة متهمين بالوقوف وراء حرق النفايات، الذي كان يتسبب بسحب دخانية تستمر لأيام أو ساعات طويلة، وتغطي سماء الأجزاء الشرقية من بعقوبة وناحية كنعان، قبل تنظيم عملهم وتسييج موقع الطمر، كما يقول لجمّار المهندس باسم الحديثي، مدير دائرة البيئة في بلدية بعقوبة.
ينفي الحديثي أيّ دور للبلدية في حرق النفايات، “أحياناً النباشة كانوا يحرقون حتى يسهل عليهم فرز النحاس والحديد، وأحياناً يحدث الحريق لأسباب طبيعية، نتيجة تحرر غاز الميثان بسبب ارتفاع درجات الحرارة”.
وحدة سكنية
وفقاً لأرقام البلدية فإنّ مجموع النفايات التي تُنقل من أحياء المدينة يومياً تصل إلى 600 طن، وعدد المنازل التي تشملها الخدمات البلدية تبلغ 80 ألف وحدة سكنية، بما يشكل نحو 7.5 كغم من النفايات لكل أسرة.
كانت دائرة البيئة في ديالى قد وجهت منذ 2018، وقررت تغريم البلدية لأنّها “لم تلتزم بالتوجيهات البيئية من جهة حرق النفايات وعدم السيطرة عليها ووصول غازاتها السامة إلى المناطق السكنية القريبة”، رغم ذلك لم يُغلق الموقع، لعدم وجود “بدائل”، كما تقول البلدية. وفي ما يخص عمل النبّاشة في الموقع، فلا وجود لرخصة قانونية تتيح هذا النوع من العمل، لكن الظروف الإنسانية والمعيشية التي تجبرهم على هذه المشقة، تحول دون منع البلدية لهم من النبش في النفايات، كما يقول مدير دائرة البيئة في البلدية، بالإضافة إلى كثرة أعدادهم، وهذا يُصعّب على الحارس المدني في الموقع التعامل معهم، ومنعهم من الدخول إلى الموقع.
ظروف عمل النبّاشة شديدة الصعوبة، والمخاطر الصحية هناك كثيرة وجدّية، غير أنّهم يواصلون العمل رغم ذلك؛ فلا وجود لفرص عمل بديلة.
معظم من تحدثوا لجمّار من جامعي النفايات كانوا يعانون من جروح وندوب تختلف حدتها من فرد لآخر، أُصيبوا بها خلال عملهم، الذي يبدأ منذ الساعات المبكرة من الصباح وينتهي بعد الغروب، من كل يوم.
يتعرض النباشون لتلك الإصابات بسبب الأدوات الحادة، وقِطع الزجاج التي يتفاجؤون بها غالباً أثناء تقليب أكوام النفايات، أو يسقطون عليها نتيجة التدافع في أوقات الذروة.
بعض تلك الجروح تكون أشدّ خطورة؛ لأنّ ما يتسبب بها هو بقايا من نفايات طبية لمؤسسات صحية، خاصة مثل نيدل الأبر الطبية، أو الكانولات المستخدمة، أو أدوات جراحية أخرى، وتكمن خطورتها بإمكانية التسبب بأمراض انتقالية خطيرة.
يحدث أيضاً أثناء التدافع في مؤخرة كابسات النفايات أن يسقط الجزء العلوي من الكابسة بشكل مفاجئ، وقد حصل ذلك مع أحد الشباب، وتسببت ببتر اثنين من أصابع يده، رغم ذلك استمر بالعمل، ولكن بشكل متقطع كما أخبرنا بذلك رفاقه في النبش.
في هذا الفضاء الملوث، الذي تختلط فيه أصوات النباشين مع الطنين المستمر للحشرات، التي تشن بدورها غارات على أكوام النفايات تارة، وعلى الأجساد تارة أخرى، تعمل “أم مصطفى”، السيدة الأربعينية مع زوجها.
تأتي أم مصطفى برفقة زوجها وطفلها الوحيد وطفل آخر هو ابن شقيق زوجها، (كلا الطفلين لا يزالان في المدرسة الابتدائية)، تقول لجمّار إنّها مضطرة لهذا العمل، بعد أن تركت عملها السابق، كانت تعمل في بساتين التمر، لكنّ ساعات العمل الطويلة، وسوء المعاملة، جعلها تفضل النبش في النفايات، على التعامل مع البشر، “يومياً نجي من الصبح للظهر نجمع الحديد والبلاستك بالستوتة ونرجع”.
بعد أن يجمع النباشون ويفرزون النفايات، يرزمونها على شكل مكعبات مضغوطة، تحملها عجلاتهم التي غالباً ما تكون “الستوتة”، أو سيارات حمل حديثة متوسطة الحجم، ثم تباع لمتعهدين ينقلوها إلى معامل إعادة التدوير في إقليم كردستان.
يبيع النباشون الكيلوغرام الواحد من الحديد بـ 200 دينار، والبلاستيك بـ 250 ديناراً، أمّا الألمنيوم وهو نادر الوجود فيباع بمبلغ يتراوح من 1000 – 1250 ديناراً، وهي مبالغ ليست كبيرة إذ يحتاج العامل إلى جمع نحو 3 أطنان شهرياً ليصل دخله الشهري إلى 400 دولار، لذلك فالتدافع للحصول على المزيد من قطع النفايات له ما يبرره عند النبّاشة.
التحايل على الزمن
البعض من النبّاشة يلجأ في سبيل جمع كميات أكبر إلى تغيير أوقات العمل، للتخلص من المنافسة والتدافع، مصطفى أحد هؤلاء، يأتي في النهار مع زملائه، ثم يعود ليلاً، حتى الساعة الواحدة، مستخدماً مصباحاً يدوياً للإضاءة وجمع النفايات من دون منافسة.
“عمري 23 سنة وأريد أتزوج”، يقول مصطفى لجمّار وهو يتلقط علب البيبسي الفارغة، هو والآخرون كانوا يتحدثون بشكل متقطع نتيجة انهماكهم بالعمل وتنافسهم في ما بينهم على جمع المفيد من أكوام النفايات.
مصطفى ليس وحده من يعمل ليلاً، عشرات النباشين القادمين من أطراف العاصمة بغداد، وغالبيتهم من سكان منطقة حسينية المعامل، يبدأ عملهم في ساعات متأخرة من الليل، ويبقون لما بعد العاشرة صباحاً، ويستخدم هؤلاء سيارات حمل حديثة ومتوسطة الحجم، أمّا الآخرون، الذين يعملون في الموقع، فمعظمهم من الساكنين في عشوائيات شيدت بعد غزو العراق عام 2003، على أرض معسكر سعد، وهو موقع عسكري شهير، شرق بعقوبة.
معظم العاملين هنا كانوا قد تركوا دراستهم مبكراً، وبعض الأطفال والمراهقين لا يزالون مستمرين في الدراسة، ويعملون في أيام العطل، أمّا محمد (29 عاماً) فربما يكون الوحيد الذي يحمل شهادة دبلوم علوم حاسبات، يقول إنّه لم يجد فرصة عمل أخرى تساعده في توفير احتياجات زوجته وابنته الوحيدة.
صلاح مهدي، مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، كان قد رصد أوضاع العاملين في أكثر من زيارة ميدانية، يصف لجمّار خطورة العمل هناك، “معظم العاملين من عائلات فقيرة جداً، والبعض منهم يعمل كمتعهد ويجلب معه سيارة حمل كبيرة وعدداً من العمّال، ويقسم العمل بطريقة منظمة، فالبعض يتخصص بجمع الحديد، وآخرون يجمعون الكارتون وهكذا”.
إضافةً إلى خطورة العمل؛ يحذر مهدي من عمالة الأطفال، “رصدنا أمراضاً تنفسية وجلدية لدى الأطفال العاملين في جمع النفايات”.
بالنسبة للتوصيات التي يصدرها مكتب مفوضية حقوق الإنسان، يقول مهدي إنّها لا تؤخذ على محمل الجد، “غالباً ما تحصل استجابة مؤقتة وحلول جزئية ثم تعود الأمور كما كانت بعد فترة قصيرة”، ويضيف ايضاً، “مكبات النفايات غير مسيطر عليها في عموم المحافظة وليست فقط في بعقوبة وبعض البلديات تقوم بحرق ممنهج للتخلص من النفايات كما يحصل في الخالص والمقدادية”.
يعتبر باسم الحديثي، مدير قسم البيئة في البلدية، أنّ ملف مواقع الطمر مشكلة عراقية عامة باستثناء إقليم كردستان، “حلّها يتطلب عشرات الملايين من الدولارات، وهي خارج قدرات أي بلدية”.
تعطّل البيروقراطية وعدم الجدية دخول خط الاستثمار في مجال إعادة تدوير النفايات، أو إنتاج الطاقة منها، فرغم إعلان الحكومة الحالية، في عدة مرات، عن خطوات في هذا الملف؛ لكن على أرض الواقع لم يتغير شيء، ويؤيد مدير البيئة ذلك، “راجعونا عشرات المستثمرين ويأخذون الأوليات والمخططات وما يصير شي وراها”.
صفر ميزانية
الدكتور عاصم جاسم، الخبير البيئي، لا يلمس “جدية عالية” في التحرك لمعالجة التلوّث الناجم عن الطمر غير الصحّي، ويشير أيضاً إلى “الكوارث الصحية” التي يتسبب بها التعامل مع النفايات في المؤسسات البلدية، “الطمر غير الصحي يحول المنطقة إلى موبوءة، فالنفايات التي تترك على الأرض قابلة للتحلل وخاصة بقايا الطعام، أو الحيوانات الميتة، التي تتحلل سريعاً، محررة غاز الميثان، وتساعد في نمو مستعمرات بكتيرية في الأرض”.
أمّا الحرق فقد يطلق العنان لتحلل مختلف النفايات حتى المواد بطيئة التحلل، كما أنّ الموقع بيئة خصبة لتكاثر القوارض والأحياء المجهرية الدقيقة، كما يقول جاسم. بالنسبة لما يحصل في بعقوبة فإنّ موقع الطمر يبعد عن أقرب الأحياء السكنية كيلومترين فقط، وهي مسافة لا تعتبر ضمن الشروط البيئية بحسب الخبير البيئي، لأنّ المدى يسمح بوصول روائح النفايات، وسماء المدينة يُغطّى بسحب دخانية عند حرق النفايات، “الأمطار والسيول تساهم في نقل بقايا النفايات حتى في حال دفنها إلى أماكن أخرى، وقد تتسرب إلى المياه الجوفية، وقد تزحف الأحياء السكنية أكثر فأكثر نحو موقع الطمر، بسبب التوسع السكاني”.
تواجه مدينة بعقوبة صعوبةً في التعامل مع النفايات، ليس على مستوى الطمر غير الصحي فقط، بل يتعداه إلى وجود محطات عشوائية لتجميع النفايات، وقيام بعض الأهالي أو المؤسسات بحرق النفايات داخل المدينة، أو في أطرافها، كما أنّ عدد عمّال البلدية لا يغطّي حاجة المدينة للنظافة، يعمل يومياً 195 عامل نظافة فقط، في مدينة يصل عدد وحداتها السكنية المشمولة بالخدمات البلدية إلى 80 ألف بناية.
يعني ذلك وجود عامل تنظيف واحد لكل 410 وحدات سكنية، ويعني أيضاً أنّ كل عامل منهم عليه رفع نحو 3 أطنان من النفايات يومياً، وهذا ما يفسّر مشكلة النفايات في داخل وخارج المدينة.
يعزو باسم الحديثي، مدير البيئة في بلدية بعقوبة، وهي الشعبة المعنية بإجراءات النظافة، سبب نقص العمال إلى ضعف التخصيصات المالية، “التخصيصات في موازنة البلدية صفر منذ عشر سنوات، لكن هنالك منحة تأتي للمحافظة بقيمة 300 مليون دينار شهرياً، توزع على 23 بلدية في المحافظة، وحصة بلدية بعقوبة منها تتراوح من 50 – 100 مليون دينار فقط”.
تمنح هذه المبالغ رواتب للعاملين في مجال التنظيف بواقع 250 – 300 ألف دينار شهرياً، فيما ينفق باقي المبلغ لشراء مستلزمات التنظيف والحاويات والأدوات الأخرى.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
مدارس مُهجَّرة: لماذا لن ينتهي "الدوام المزدوج" و"الاكتظاظ" في العراق؟
10 ديسمبر 2024
الهيدروجين الأزرق والشمس.. عن بدائل النفط "الممكنة" في العراق
07 ديسمبر 2024
الأشجار والدولار على المحكّ في سنجار
03 ديسمبر 2024
الصيادون يبيعون "الآرو".. الوجه القاسي للتغيُّر المناخي على سكان الأهوار
28 نوفمبر 2024
تلال متناثرة من النفايات المتراكمة، تلقيها مدينة بعقوبة في موقع الطمر، أصبحت ملاذاً ومصدراً معيشياً لأكثر من مئة فرد، يُعرفون هنا باسم “النبّاشة” أو النبّاشين، يتقاسمون الموقع مع أسراب الطيور، ومئات الكلاب السائبة، وأعداد لا حصر لها من الكائنات المجهرية الدقيقة، التي تسبب الأمراض، وتنشر الأوبئة، وتنقل التلوث عبر أجساد النبّاشة إلى بقيّة السكان.
في موقع الطمر الواقع جنوب شرق بعقوبة، ويبعد عن أقرب الأحياء السكنية بكيلومترين فقط، يتدافع العشرات من النباشة، يتقافزون في مؤخرات كابسات النفايات، بحثاً عن صيد ثمين من قطع الحديد الثقيلة، أو من البلاستيك أو الألمنيوم.
حتى وقت قريب، كان هؤلاء النبّاشة متهمين بالوقوف وراء حرق النفايات، الذي كان يتسبب بسحب دخانية تستمر لأيام أو ساعات طويلة، وتغطي سماء الأجزاء الشرقية من بعقوبة وناحية كنعان، قبل تنظيم عملهم وتسييج موقع الطمر، كما يقول لجمّار المهندس باسم الحديثي، مدير دائرة البيئة في بلدية بعقوبة.
ينفي الحديثي أيّ دور للبلدية في حرق النفايات، “أحياناً النباشة كانوا يحرقون حتى يسهل عليهم فرز النحاس والحديد، وأحياناً يحدث الحريق لأسباب طبيعية، نتيجة تحرر غاز الميثان بسبب ارتفاع درجات الحرارة”.
وحدة سكنية
وفقاً لأرقام البلدية فإنّ مجموع النفايات التي تُنقل من أحياء المدينة يومياً تصل إلى 600 طن، وعدد المنازل التي تشملها الخدمات البلدية تبلغ 80 ألف وحدة سكنية، بما يشكل نحو 7.5 كغم من النفايات لكل أسرة.
كانت دائرة البيئة في ديالى قد وجهت منذ 2018، وقررت تغريم البلدية لأنّها “لم تلتزم بالتوجيهات البيئية من جهة حرق النفايات وعدم السيطرة عليها ووصول غازاتها السامة إلى المناطق السكنية القريبة”، رغم ذلك لم يُغلق الموقع، لعدم وجود “بدائل”، كما تقول البلدية. وفي ما يخص عمل النبّاشة في الموقع، فلا وجود لرخصة قانونية تتيح هذا النوع من العمل، لكن الظروف الإنسانية والمعيشية التي تجبرهم على هذه المشقة، تحول دون منع البلدية لهم من النبش في النفايات، كما يقول مدير دائرة البيئة في البلدية، بالإضافة إلى كثرة أعدادهم، وهذا يُصعّب على الحارس المدني في الموقع التعامل معهم، ومنعهم من الدخول إلى الموقع.
ظروف عمل النبّاشة شديدة الصعوبة، والمخاطر الصحية هناك كثيرة وجدّية، غير أنّهم يواصلون العمل رغم ذلك؛ فلا وجود لفرص عمل بديلة.
معظم من تحدثوا لجمّار من جامعي النفايات كانوا يعانون من جروح وندوب تختلف حدتها من فرد لآخر، أُصيبوا بها خلال عملهم، الذي يبدأ منذ الساعات المبكرة من الصباح وينتهي بعد الغروب، من كل يوم.
يتعرض النباشون لتلك الإصابات بسبب الأدوات الحادة، وقِطع الزجاج التي يتفاجؤون بها غالباً أثناء تقليب أكوام النفايات، أو يسقطون عليها نتيجة التدافع في أوقات الذروة.
بعض تلك الجروح تكون أشدّ خطورة؛ لأنّ ما يتسبب بها هو بقايا من نفايات طبية لمؤسسات صحية، خاصة مثل نيدل الأبر الطبية، أو الكانولات المستخدمة، أو أدوات جراحية أخرى، وتكمن خطورتها بإمكانية التسبب بأمراض انتقالية خطيرة.
يحدث أيضاً أثناء التدافع في مؤخرة كابسات النفايات أن يسقط الجزء العلوي من الكابسة بشكل مفاجئ، وقد حصل ذلك مع أحد الشباب، وتسببت ببتر اثنين من أصابع يده، رغم ذلك استمر بالعمل، ولكن بشكل متقطع كما أخبرنا بذلك رفاقه في النبش.
في هذا الفضاء الملوث، الذي تختلط فيه أصوات النباشين مع الطنين المستمر للحشرات، التي تشن بدورها غارات على أكوام النفايات تارة، وعلى الأجساد تارة أخرى، تعمل “أم مصطفى”، السيدة الأربعينية مع زوجها.
تأتي أم مصطفى برفقة زوجها وطفلها الوحيد وطفل آخر هو ابن شقيق زوجها، (كلا الطفلين لا يزالان في المدرسة الابتدائية)، تقول لجمّار إنّها مضطرة لهذا العمل، بعد أن تركت عملها السابق، كانت تعمل في بساتين التمر، لكنّ ساعات العمل الطويلة، وسوء المعاملة، جعلها تفضل النبش في النفايات، على التعامل مع البشر، “يومياً نجي من الصبح للظهر نجمع الحديد والبلاستك بالستوتة ونرجع”.
بعد أن يجمع النباشون ويفرزون النفايات، يرزمونها على شكل مكعبات مضغوطة، تحملها عجلاتهم التي غالباً ما تكون “الستوتة”، أو سيارات حمل حديثة متوسطة الحجم، ثم تباع لمتعهدين ينقلوها إلى معامل إعادة التدوير في إقليم كردستان.
يبيع النباشون الكيلوغرام الواحد من الحديد بـ 200 دينار، والبلاستيك بـ 250 ديناراً، أمّا الألمنيوم وهو نادر الوجود فيباع بمبلغ يتراوح من 1000 – 1250 ديناراً، وهي مبالغ ليست كبيرة إذ يحتاج العامل إلى جمع نحو 3 أطنان شهرياً ليصل دخله الشهري إلى 400 دولار، لذلك فالتدافع للحصول على المزيد من قطع النفايات له ما يبرره عند النبّاشة.
التحايل على الزمن
البعض من النبّاشة يلجأ في سبيل جمع كميات أكبر إلى تغيير أوقات العمل، للتخلص من المنافسة والتدافع، مصطفى أحد هؤلاء، يأتي في النهار مع زملائه، ثم يعود ليلاً، حتى الساعة الواحدة، مستخدماً مصباحاً يدوياً للإضاءة وجمع النفايات من دون منافسة.
“عمري 23 سنة وأريد أتزوج”، يقول مصطفى لجمّار وهو يتلقط علب البيبسي الفارغة، هو والآخرون كانوا يتحدثون بشكل متقطع نتيجة انهماكهم بالعمل وتنافسهم في ما بينهم على جمع المفيد من أكوام النفايات.
مصطفى ليس وحده من يعمل ليلاً، عشرات النباشين القادمين من أطراف العاصمة بغداد، وغالبيتهم من سكان منطقة حسينية المعامل، يبدأ عملهم في ساعات متأخرة من الليل، ويبقون لما بعد العاشرة صباحاً، ويستخدم هؤلاء سيارات حمل حديثة ومتوسطة الحجم، أمّا الآخرون، الذين يعملون في الموقع، فمعظمهم من الساكنين في عشوائيات شيدت بعد غزو العراق عام 2003، على أرض معسكر سعد، وهو موقع عسكري شهير، شرق بعقوبة.
معظم العاملين هنا كانوا قد تركوا دراستهم مبكراً، وبعض الأطفال والمراهقين لا يزالون مستمرين في الدراسة، ويعملون في أيام العطل، أمّا محمد (29 عاماً) فربما يكون الوحيد الذي يحمل شهادة دبلوم علوم حاسبات، يقول إنّه لم يجد فرصة عمل أخرى تساعده في توفير احتياجات زوجته وابنته الوحيدة.
صلاح مهدي، مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في ديالى، كان قد رصد أوضاع العاملين في أكثر من زيارة ميدانية، يصف لجمّار خطورة العمل هناك، “معظم العاملين من عائلات فقيرة جداً، والبعض منهم يعمل كمتعهد ويجلب معه سيارة حمل كبيرة وعدداً من العمّال، ويقسم العمل بطريقة منظمة، فالبعض يتخصص بجمع الحديد، وآخرون يجمعون الكارتون وهكذا”.
إضافةً إلى خطورة العمل؛ يحذر مهدي من عمالة الأطفال، “رصدنا أمراضاً تنفسية وجلدية لدى الأطفال العاملين في جمع النفايات”.
بالنسبة للتوصيات التي يصدرها مكتب مفوضية حقوق الإنسان، يقول مهدي إنّها لا تؤخذ على محمل الجد، “غالباً ما تحصل استجابة مؤقتة وحلول جزئية ثم تعود الأمور كما كانت بعد فترة قصيرة”، ويضيف ايضاً، “مكبات النفايات غير مسيطر عليها في عموم المحافظة وليست فقط في بعقوبة وبعض البلديات تقوم بحرق ممنهج للتخلص من النفايات كما يحصل في الخالص والمقدادية”.
يعتبر باسم الحديثي، مدير قسم البيئة في البلدية، أنّ ملف مواقع الطمر مشكلة عراقية عامة باستثناء إقليم كردستان، “حلّها يتطلب عشرات الملايين من الدولارات، وهي خارج قدرات أي بلدية”.
تعطّل البيروقراطية وعدم الجدية دخول خط الاستثمار في مجال إعادة تدوير النفايات، أو إنتاج الطاقة منها، فرغم إعلان الحكومة الحالية، في عدة مرات، عن خطوات في هذا الملف؛ لكن على أرض الواقع لم يتغير شيء، ويؤيد مدير البيئة ذلك، “راجعونا عشرات المستثمرين ويأخذون الأوليات والمخططات وما يصير شي وراها”.
صفر ميزانية
الدكتور عاصم جاسم، الخبير البيئي، لا يلمس “جدية عالية” في التحرك لمعالجة التلوّث الناجم عن الطمر غير الصحّي، ويشير أيضاً إلى “الكوارث الصحية” التي يتسبب بها التعامل مع النفايات في المؤسسات البلدية، “الطمر غير الصحي يحول المنطقة إلى موبوءة، فالنفايات التي تترك على الأرض قابلة للتحلل وخاصة بقايا الطعام، أو الحيوانات الميتة، التي تتحلل سريعاً، محررة غاز الميثان، وتساعد في نمو مستعمرات بكتيرية في الأرض”.
أمّا الحرق فقد يطلق العنان لتحلل مختلف النفايات حتى المواد بطيئة التحلل، كما أنّ الموقع بيئة خصبة لتكاثر القوارض والأحياء المجهرية الدقيقة، كما يقول جاسم. بالنسبة لما يحصل في بعقوبة فإنّ موقع الطمر يبعد عن أقرب الأحياء السكنية كيلومترين فقط، وهي مسافة لا تعتبر ضمن الشروط البيئية بحسب الخبير البيئي، لأنّ المدى يسمح بوصول روائح النفايات، وسماء المدينة يُغطّى بسحب دخانية عند حرق النفايات، “الأمطار والسيول تساهم في نقل بقايا النفايات حتى في حال دفنها إلى أماكن أخرى، وقد تتسرب إلى المياه الجوفية، وقد تزحف الأحياء السكنية أكثر فأكثر نحو موقع الطمر، بسبب التوسع السكاني”.
تواجه مدينة بعقوبة صعوبةً في التعامل مع النفايات، ليس على مستوى الطمر غير الصحي فقط، بل يتعداه إلى وجود محطات عشوائية لتجميع النفايات، وقيام بعض الأهالي أو المؤسسات بحرق النفايات داخل المدينة، أو في أطرافها، كما أنّ عدد عمّال البلدية لا يغطّي حاجة المدينة للنظافة، يعمل يومياً 195 عامل نظافة فقط، في مدينة يصل عدد وحداتها السكنية المشمولة بالخدمات البلدية إلى 80 ألف بناية.
يعني ذلك وجود عامل تنظيف واحد لكل 410 وحدات سكنية، ويعني أيضاً أنّ كل عامل منهم عليه رفع نحو 3 أطنان من النفايات يومياً، وهذا ما يفسّر مشكلة النفايات في داخل وخارج المدينة.
يعزو باسم الحديثي، مدير البيئة في بلدية بعقوبة، وهي الشعبة المعنية بإجراءات النظافة، سبب نقص العمال إلى ضعف التخصيصات المالية، “التخصيصات في موازنة البلدية صفر منذ عشر سنوات، لكن هنالك منحة تأتي للمحافظة بقيمة 300 مليون دينار شهرياً، توزع على 23 بلدية في المحافظة، وحصة بلدية بعقوبة منها تتراوح من 50 – 100 مليون دينار فقط”.
تمنح هذه المبالغ رواتب للعاملين في مجال التنظيف بواقع 250 – 300 ألف دينار شهرياً، فيما ينفق باقي المبلغ لشراء مستلزمات التنظيف والحاويات والأدوات الأخرى.