على حافة خسائر متوقعة: هل ينقذ "الذهب" العراق؟ 

صباح نعوش

22 حزيران 2024

يشتري العراق الذهب بكثرة، واستراتيجيته القادمة شراء سبائك أكثر.. لكن لماذا؟

اقرأ أيضاً

“الأجراس لم تعد تقرع”: قبل أن يغادر المسيح بعقوبة 

اتجه العراق في الآونة الأخيرة إلى شراء كميات من الذهب، وأصبح لدى البنك المركزي 142.5 طناً من هذا المعدن في نهاية الربع الأول من العام الحالي، ويعود هذا التزايد إلى تحسن الاحتياطي النقدي الكلي من جهة وإلى التصاعد المستمر لسعر الذهب في السوق العالمية من جهة أخرى. 

ولكن على الرغم من هذه المشتريات المتزايدة، ما تزال مساهمة الذهب ضعيفة في الاحتياطي النقدي الكلي، كما أنه وسيلة من وسائل إدارة الاحتياطي، ولا يجوز إقحامه في أطر أخرى. 

الذهب النقدي هو الذي تملكه المؤسسات المالية كالبنوك المركزية، ويمكن استخدامه في التسويات المالية الدولية، ويوجب صندوق النقد الدولي أن يكون بنسبة نقاء عالية، وهو جزء من الاحتياطي النقدي الكلي للدولة -يسمى كذلك الاحتياطي الرسمي أو الاحتياطي الدولي أو احتياطي الصرف أو احتياطي النقد الأجنبي-. 

أما الذهب التجاري (أو السلعي) فيملكه الأفراد ويوجد في المحال التجارية وبمختلف نسب النقاء، ولا يدخل ضمن الاحتياطي. 

ويقصد بكلمة الذهب أينما وجدت في هذه المقالة الذهب النقدي. 

الذهب وأمريكا 

تتضمن “الخطة الاستراتيجية الثالثة 2024-2026” الصادرة عن البنك المركزي العراقي ستة أهداف رئيسة، أهمها “دعم وتعزيز الاستقرار المالي”، ويتناول هذا الهدف طرق إدارة الاحتياطي النقدي ومنها شراء الذهب. 

يرى البعض أن هذا الارتفاع يدخل بالدرجة الأولى في إطار تحجيم الدولرة، أي تقليص دور الدولار الأمريكي في التعاملات المالية الخارجية للعراق وفي الاحتياطي النقدي الكلي. يظنون أن الذهب يحرر البلد من سيطرة الولايات المتحدة على المبادلات التجارية الدولية ويحد من فاعلية العقوبات التي تفرضها واشنطن على الدول لأسباب سياسية، وبالتالي يؤثر -بحسب رأيهم- استبدال الدولار بالذهب تأثيراً سلبياً على المصالح الأمريكية، وغالباً ما نجد مثل هذه المتبنيات في العراق وإيران والصين وروسيا. 

والواقع أن هذا الطرح غير منطقي لأسباب عدة، بينها أن قرار شراء الذهب من قبل السلطات العامة، سواء في العراق أم في غيره من البلدان النامية والصناعية، يعتمد على عوامل عديدة ترتبط بالعلاقات الدولية وبأسعار الفائدة كما سنرى لاحقاً. 

كما أن تزايد أهمية الذهب لا يتعارض مع المصالح الأمريكية، ففي البلدان الأوروبية الحليفة لواشنطن يتكون القسط الأكبر من الاحتياطي النقدي من الذهب وليس من العملات، فالمعدن يمثل أكثر من ثلثي الاحتياطي النقدي في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، كما يشكل 71 بالمئة من الاحتياطي النقدي الأمريكي، أما في تركيا فيمثل 100 بالمئة. 

وبالمقابل لا يتجاوز الذهب 28.1 بالمئة من الاحتياطي النقدي في روسيا و8.4 بالمئة في العراق و4.9 بالمئة في الصين، مع العلم أن الصين أكبر بلد منتج للذهب في العالم. 

وكذلك لم يقلل الذهب من أهمية الدولار في الاحتياطي النقدي العراقي، فبعد شراء كمية كبيرة يتبين من قراءة ميزان المدفوعات أن مساهمة الذهب في الاحتياطي النقدي ارتفعت بالفعل، ولكن بقي يرافقها ازدياد موجودات العملات وخاصة الدولار، في حين هبطت بشدة قيمة الأوراق المالية (السندات) من 21.8 مليار دولار في 2022 إلى 1.1 مليار دولار في 2023، ومن ذلك نستنتج أن العراق اشترى الذهب ببيع الأوراق المالية وليس الدولار. 

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن العمليات الخاصة بالذهب العراقي تتم عن طريق مؤسسات غربية موالية للولايات المتحدة، ما يجعل تعارض تصرفها مع المصالح الأمريكية غير مرجح، فالعراق يشتري الذهب من البورصات الغربية، والجهة المكلفة بالشراء من قبل البنك المركزي العراقي هو البنك المركزي الفرنسي وبنك جي بي مورغان الأمريكي، ثم يتم تخزين الذهب العراقي لدى بنك فرنسا وبنك إنجلترا. 

الدوافع الحقيقية لشراء كميات كبيرة من الذهب تكمن في ضرورة تنويع مصادر الاحتياطي النقدي، وعدم تأثر أسعاره بالأوقات الاستثنائية كالأوبئة والحروب. 

لكن هذا المعدن على عكس العملات كالدولار واليورو لا يحقق عوائد مالية، لذلك تصبح العملات مبدئياً أفضل منه. 

في حين عندما ترتفع أسعار الذهب بنسبة تفوق معدلات الفائدة على العملة يصبح المعدن أفضل منها، وهذا ما يحدث حالياً، ففي نهاية أيار 2023 كان سعر الأونصة 1963 دولاراً، وارتفع في نهاية أيار 2024 إلى 2343 دولاراً، أي ازداد بنسبة قدرها 19.3 بالمئة، أما سعر الفائدة على الدولار فهو 5.5 بالمئة وعلى اليورو 4.5 بالمئة. 

وبالتالي يترتب على الإبقاء على العملات في خزائن الدولة خسائر مالية، وبالعكس يصبح شراء الذهب مربحاً خاصة في دولة كالعراق لا تملك صندوقاً سيادياً لاستثمار أموالها. 

ارتفاع مقبل 

هناك عوامل تؤثر على سعر المعدن في السوق العالمية، في مقدمتها العلاقات الدولية وأسعار الفائدة على العملات الرئيسة وهي الدولار واليورو. 

تشهد العلاقات الدولية صراعات عسكرية عنيفة وتوترات اقتصادية خطيرة، كالحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتردي العلاقات الأمريكية الصينية والعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على بعض البلدان، وبسبب هذا الوضع تجد الحكومات والشركات والأفراد في الذهب ملاذاً آمناً للأموال، وبالتالي يزداد الطلب عليه فتتصاعد أسعاره. 

العلاقة إذن طردية بين تردي العلاقات الدولية وسعر الذهب، في حين أنها عكسية بين سعر الفائدة وسعر الذهب، فكلما ارتفعت أسعار الفائدة انخفضت أسعار الذهب، لأن تصاعد أسعار الفائدة يقود إلى تكالب الأشخاص على العملة لتحقيق أعلى ربح ممكن، وهكذا يتراجع الطلب على الذهب فينخفض سعره، والعكس صحيح. 

في الوقت الحاضر أسعار الفائدة الأمريكية مرتفعة، وكذلك الأوروبية، الأمر الذي قاد إلى هبوط أسعار الذهب في الآونة الأخيرة، ولكن بنسبة ضئيلة نظراً لاستمرار الصراعات الدولية. ساهم ارتفاع أسعار الفائدة في تباطؤ أنشطة الشركات لأن كلفة الاقتراض عالية، وأعلنت آلاف الشركات إفلاسها فأثرت بشدة على معدلات النمو في بلدانها. 

لذلك صرح الفيدرالي الأمريكي مرات عدة بأن أسعار الفائدة ستنخفض بعد أن يهبط معدل التضخم، وفُسر هذا التصريح على نحو يخدم سعر الذهب. 

ومما يعزز هذا الاتجاه، الانخفاض المتوقع للتضخم في منطقة اليورو، الأمر الذي يقود إلى هبوط أسعار الفائدة على العملة الأوروبية، وقد صرح البنك المركزي الأوروبي بهذا الاتجاه، فضلاً عن أن صندوق النقد الدولي يتوقع تراجع أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم. 

وهكذا أصبحت التوقعات تشير إلى تصاعد أسعار الذهب اعتباراً من الربع الأخير من العام الحالي، فمن المتوقع ارتفاع سعر الأونصة من 2343 دولاراً في منتصف عام 2024 إلى 2652 دولاراً في نهايته، أي بزيادة قدرها 309 دولارات للأونصة. 

ما هو تأثير هذا الارتفاع على الاحتياطي النقدي العراقي؟ 

في نهاية 2023 كان حجم الاحتياطي النقدي الكلي للعراق 112.6 مليار دولار، مكوناً من عملات قدرها 103.1 مليارات دولار وذهب بمبلغ 9.5 مليارات دولار، وفي نهاية 2024 ولأسباب ترتبط بميزان المدفوعات -خاصة تصاعد الواردات السلعية- سيهبط الاحتياطي الكلي إلى 100.5 مليار دولار، أي سيخسر العراق 12.1 مليار دولار.  

يمكن تعويض هذه الخسارة بافتراض أن البنك المركزي العراقي سيقرر تخصيص 90 مليار دولار لشراء الذهب بسعر 2343 دولاراً للأونصة، ما يرفع الاحتياطي النقدي من 100.5 إلى 112.3 مليار دولار نهاية 2024 إذا أصابت التوقعات بشأن ارتفاع أونصة الذهب بمقدار 309 دولارات، أي أن شراء الذهب سيعوض الخسارة المتوقعة، ويعود الاحتياطي النقدي الكلي إلى مستواه لعام 2023 وكأن الخسارة لم تقع.  

تعويض الخسائر 

لتحقيق هذا التعويض ينبغي شراء كميات كبيرة من الذهب، ويتعيّن تنفيذ ذلك بسرعة، لكن البنك المركزي العراقي يرى أن الشراء يجب أن يتم بكميات قليلة وعلى دفعات وليس بكمية كبيرة دفعة واحدة، ويقول المسؤولون إن شراء كمية كبيرة مرة واحدة يقود إلى ارتفاع أسعار الذهب. 

ولابد من تسجيل ملاحظات عدة على هذه السياسة، الأولى أن الخطة الاستراتيجية الثالثة لا تتطلب شراء كميات قليلة، فهي لا تضع أي جدول زمني، والثانية أن شراء كميات قليلة مرات عدة يعبر عن سياسة نقدية مترددة وغير سليمة، ولاسيما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار العوامل المؤثرة على أسعار المعدن بالمفهوم الوارد أعلاه. 

والملاحظة الثالثة أن العراق اشترى 34 طناً من الذهب في حزيران 2022، أي ما يعادل ثلث الكمية الموجودة آنذاك، وهي أكبر عملية شراء للذهب في العراق. 

تمت هذه العملية بـ19 دفعة دامت 13 يوماً، ويرى البنك المركزي أن هذا الأسلوب يضمن عدم ارتفاع أسعار الذهب على الصعيد العالمي، لكن هذا لم يحدث من الناحية العملية. 

أما الملاحظة الرابعة، فعند العودة إلى المعادلة المذكورة أعلاه نستنتج أن على البنك المركزي شراء كميات كبيرة من الذهب فوراً، لأن التأخير يسبب خسارة فادحة تساوي تقريباً 65 مليون دولار يومياً. 

وهناك ملاحظة خامسة بشأن ضرورة استفادة العراق من سياسات البنوك المركزية الأخرى المتعلقة بشراء الذهب، ففي عام 2023 اشترت بولونيا 130 طناً، واشترت الصين 225 طناً. 

سترتفع أسعار الذهب في الأشهر المقبلة -على الرغم من صعوبة معرفة مستوى الارتفاع-، وبالتالي لابد من شراء أكبر كمية ممكنة، شريطة أن يتطابق سعر الشراء مع السعر السائد في البورصات، كما يجب أن تتوافر الشفافية في عمليات الشراء، فعند مراجعة الكتاب الصادر عن البنك المركزي بتاريخ 13 أيلول 2022 والموجه للجنة النزاهة النيابية، يتبين أن البنك لم يجب على السؤال الأهم المتعلق بسعر الشراء. 

ولكن زيادة كمية الذهب ومساهمته في الاحتياطي النقدي لا تعني معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت خطيرة ومستعصية في العراق، كما أن انخفاضها لا يعني تفاقم هذه المشاكل. 

فعلى سبيل المثال يعاني لبنان من أزمة مالية ونقدية خانقة تتمثل بتدهور القيمة التعادلية لليرة وارتفاع معدل التضخم وتفاقم البطالة والفقر وتصاعد الديون الخارجية، وأصبح لبنان مثالاً للاقتصاد المنهار، في حين يملك البنك المركزي اللبناني 286 طناً من الذهب، وهو بذلك يحتل المرتبة العربية الثانية مباشرة بعد السعودية. 

وبالعكس لا تملك الإمارات سوى 74 طناً لا تتجاوز قيمتها خمسة مليارات دولار، لكنها لا تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية خطيرة كالعراق ولبنان، فهي تستثمر فوائضها المالية في صناديقها السيادية التي وصلت أصولها إلى 1829 مليار دولار. 

ودول الخليج الأخرى تستثمر كذلك أموالها في صناديقها السيادية التي أصبحت عملاقة ولها دور اقتصادي هائل وفاعل على الصعيدين المحلي والعالمي، في حين يتخبط العراق منذ خمسة عقود في إيداع فوائضه المالية في المصارف الأجنبية لقاء فوائد. 

وعلى هذا الأساس يجب أن يتم شراء الذهب في العراق ضمن خطة إصلاحية واسعة النطاق تتناول جميع الأدوات التجارية والمالية والاستثمارية والنقدية، وبعد نجاح هذه الخطة يتعين استغلال الاحتياطي النقدي بما فيه الذهب في إنشاء صندوق سيادي عراقي. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

اقرأ أيضاً

“الأجراس لم تعد تقرع”: قبل أن يغادر المسيح بعقوبة 

اتجه العراق في الآونة الأخيرة إلى شراء كميات من الذهب، وأصبح لدى البنك المركزي 142.5 طناً من هذا المعدن في نهاية الربع الأول من العام الحالي، ويعود هذا التزايد إلى تحسن الاحتياطي النقدي الكلي من جهة وإلى التصاعد المستمر لسعر الذهب في السوق العالمية من جهة أخرى. 

ولكن على الرغم من هذه المشتريات المتزايدة، ما تزال مساهمة الذهب ضعيفة في الاحتياطي النقدي الكلي، كما أنه وسيلة من وسائل إدارة الاحتياطي، ولا يجوز إقحامه في أطر أخرى. 

الذهب النقدي هو الذي تملكه المؤسسات المالية كالبنوك المركزية، ويمكن استخدامه في التسويات المالية الدولية، ويوجب صندوق النقد الدولي أن يكون بنسبة نقاء عالية، وهو جزء من الاحتياطي النقدي الكلي للدولة -يسمى كذلك الاحتياطي الرسمي أو الاحتياطي الدولي أو احتياطي الصرف أو احتياطي النقد الأجنبي-. 

أما الذهب التجاري (أو السلعي) فيملكه الأفراد ويوجد في المحال التجارية وبمختلف نسب النقاء، ولا يدخل ضمن الاحتياطي. 

ويقصد بكلمة الذهب أينما وجدت في هذه المقالة الذهب النقدي. 

الذهب وأمريكا 

تتضمن “الخطة الاستراتيجية الثالثة 2024-2026” الصادرة عن البنك المركزي العراقي ستة أهداف رئيسة، أهمها “دعم وتعزيز الاستقرار المالي”، ويتناول هذا الهدف طرق إدارة الاحتياطي النقدي ومنها شراء الذهب. 

يرى البعض أن هذا الارتفاع يدخل بالدرجة الأولى في إطار تحجيم الدولرة، أي تقليص دور الدولار الأمريكي في التعاملات المالية الخارجية للعراق وفي الاحتياطي النقدي الكلي. يظنون أن الذهب يحرر البلد من سيطرة الولايات المتحدة على المبادلات التجارية الدولية ويحد من فاعلية العقوبات التي تفرضها واشنطن على الدول لأسباب سياسية، وبالتالي يؤثر -بحسب رأيهم- استبدال الدولار بالذهب تأثيراً سلبياً على المصالح الأمريكية، وغالباً ما نجد مثل هذه المتبنيات في العراق وإيران والصين وروسيا. 

والواقع أن هذا الطرح غير منطقي لأسباب عدة، بينها أن قرار شراء الذهب من قبل السلطات العامة، سواء في العراق أم في غيره من البلدان النامية والصناعية، يعتمد على عوامل عديدة ترتبط بالعلاقات الدولية وبأسعار الفائدة كما سنرى لاحقاً. 

كما أن تزايد أهمية الذهب لا يتعارض مع المصالح الأمريكية، ففي البلدان الأوروبية الحليفة لواشنطن يتكون القسط الأكبر من الاحتياطي النقدي من الذهب وليس من العملات، فالمعدن يمثل أكثر من ثلثي الاحتياطي النقدي في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، كما يشكل 71 بالمئة من الاحتياطي النقدي الأمريكي، أما في تركيا فيمثل 100 بالمئة. 

وبالمقابل لا يتجاوز الذهب 28.1 بالمئة من الاحتياطي النقدي في روسيا و8.4 بالمئة في العراق و4.9 بالمئة في الصين، مع العلم أن الصين أكبر بلد منتج للذهب في العالم. 

وكذلك لم يقلل الذهب من أهمية الدولار في الاحتياطي النقدي العراقي، فبعد شراء كمية كبيرة يتبين من قراءة ميزان المدفوعات أن مساهمة الذهب في الاحتياطي النقدي ارتفعت بالفعل، ولكن بقي يرافقها ازدياد موجودات العملات وخاصة الدولار، في حين هبطت بشدة قيمة الأوراق المالية (السندات) من 21.8 مليار دولار في 2022 إلى 1.1 مليار دولار في 2023، ومن ذلك نستنتج أن العراق اشترى الذهب ببيع الأوراق المالية وليس الدولار. 

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن العمليات الخاصة بالذهب العراقي تتم عن طريق مؤسسات غربية موالية للولايات المتحدة، ما يجعل تعارض تصرفها مع المصالح الأمريكية غير مرجح، فالعراق يشتري الذهب من البورصات الغربية، والجهة المكلفة بالشراء من قبل البنك المركزي العراقي هو البنك المركزي الفرنسي وبنك جي بي مورغان الأمريكي، ثم يتم تخزين الذهب العراقي لدى بنك فرنسا وبنك إنجلترا. 

الدوافع الحقيقية لشراء كميات كبيرة من الذهب تكمن في ضرورة تنويع مصادر الاحتياطي النقدي، وعدم تأثر أسعاره بالأوقات الاستثنائية كالأوبئة والحروب. 

لكن هذا المعدن على عكس العملات كالدولار واليورو لا يحقق عوائد مالية، لذلك تصبح العملات مبدئياً أفضل منه. 

في حين عندما ترتفع أسعار الذهب بنسبة تفوق معدلات الفائدة على العملة يصبح المعدن أفضل منها، وهذا ما يحدث حالياً، ففي نهاية أيار 2023 كان سعر الأونصة 1963 دولاراً، وارتفع في نهاية أيار 2024 إلى 2343 دولاراً، أي ازداد بنسبة قدرها 19.3 بالمئة، أما سعر الفائدة على الدولار فهو 5.5 بالمئة وعلى اليورو 4.5 بالمئة. 

وبالتالي يترتب على الإبقاء على العملات في خزائن الدولة خسائر مالية، وبالعكس يصبح شراء الذهب مربحاً خاصة في دولة كالعراق لا تملك صندوقاً سيادياً لاستثمار أموالها. 

ارتفاع مقبل 

هناك عوامل تؤثر على سعر المعدن في السوق العالمية، في مقدمتها العلاقات الدولية وأسعار الفائدة على العملات الرئيسة وهي الدولار واليورو. 

تشهد العلاقات الدولية صراعات عسكرية عنيفة وتوترات اقتصادية خطيرة، كالحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتردي العلاقات الأمريكية الصينية والعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على بعض البلدان، وبسبب هذا الوضع تجد الحكومات والشركات والأفراد في الذهب ملاذاً آمناً للأموال، وبالتالي يزداد الطلب عليه فتتصاعد أسعاره. 

العلاقة إذن طردية بين تردي العلاقات الدولية وسعر الذهب، في حين أنها عكسية بين سعر الفائدة وسعر الذهب، فكلما ارتفعت أسعار الفائدة انخفضت أسعار الذهب، لأن تصاعد أسعار الفائدة يقود إلى تكالب الأشخاص على العملة لتحقيق أعلى ربح ممكن، وهكذا يتراجع الطلب على الذهب فينخفض سعره، والعكس صحيح. 

في الوقت الحاضر أسعار الفائدة الأمريكية مرتفعة، وكذلك الأوروبية، الأمر الذي قاد إلى هبوط أسعار الذهب في الآونة الأخيرة، ولكن بنسبة ضئيلة نظراً لاستمرار الصراعات الدولية. ساهم ارتفاع أسعار الفائدة في تباطؤ أنشطة الشركات لأن كلفة الاقتراض عالية، وأعلنت آلاف الشركات إفلاسها فأثرت بشدة على معدلات النمو في بلدانها. 

لذلك صرح الفيدرالي الأمريكي مرات عدة بأن أسعار الفائدة ستنخفض بعد أن يهبط معدل التضخم، وفُسر هذا التصريح على نحو يخدم سعر الذهب. 

ومما يعزز هذا الاتجاه، الانخفاض المتوقع للتضخم في منطقة اليورو، الأمر الذي يقود إلى هبوط أسعار الفائدة على العملة الأوروبية، وقد صرح البنك المركزي الأوروبي بهذا الاتجاه، فضلاً عن أن صندوق النقد الدولي يتوقع تراجع أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم. 

وهكذا أصبحت التوقعات تشير إلى تصاعد أسعار الذهب اعتباراً من الربع الأخير من العام الحالي، فمن المتوقع ارتفاع سعر الأونصة من 2343 دولاراً في منتصف عام 2024 إلى 2652 دولاراً في نهايته، أي بزيادة قدرها 309 دولارات للأونصة. 

ما هو تأثير هذا الارتفاع على الاحتياطي النقدي العراقي؟ 

في نهاية 2023 كان حجم الاحتياطي النقدي الكلي للعراق 112.6 مليار دولار، مكوناً من عملات قدرها 103.1 مليارات دولار وذهب بمبلغ 9.5 مليارات دولار، وفي نهاية 2024 ولأسباب ترتبط بميزان المدفوعات -خاصة تصاعد الواردات السلعية- سيهبط الاحتياطي الكلي إلى 100.5 مليار دولار، أي سيخسر العراق 12.1 مليار دولار.  

يمكن تعويض هذه الخسارة بافتراض أن البنك المركزي العراقي سيقرر تخصيص 90 مليار دولار لشراء الذهب بسعر 2343 دولاراً للأونصة، ما يرفع الاحتياطي النقدي من 100.5 إلى 112.3 مليار دولار نهاية 2024 إذا أصابت التوقعات بشأن ارتفاع أونصة الذهب بمقدار 309 دولارات، أي أن شراء الذهب سيعوض الخسارة المتوقعة، ويعود الاحتياطي النقدي الكلي إلى مستواه لعام 2023 وكأن الخسارة لم تقع.  

تعويض الخسائر 

لتحقيق هذا التعويض ينبغي شراء كميات كبيرة من الذهب، ويتعيّن تنفيذ ذلك بسرعة، لكن البنك المركزي العراقي يرى أن الشراء يجب أن يتم بكميات قليلة وعلى دفعات وليس بكمية كبيرة دفعة واحدة، ويقول المسؤولون إن شراء كمية كبيرة مرة واحدة يقود إلى ارتفاع أسعار الذهب. 

ولابد من تسجيل ملاحظات عدة على هذه السياسة، الأولى أن الخطة الاستراتيجية الثالثة لا تتطلب شراء كميات قليلة، فهي لا تضع أي جدول زمني، والثانية أن شراء كميات قليلة مرات عدة يعبر عن سياسة نقدية مترددة وغير سليمة، ولاسيما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار العوامل المؤثرة على أسعار المعدن بالمفهوم الوارد أعلاه. 

والملاحظة الثالثة أن العراق اشترى 34 طناً من الذهب في حزيران 2022، أي ما يعادل ثلث الكمية الموجودة آنذاك، وهي أكبر عملية شراء للذهب في العراق. 

تمت هذه العملية بـ19 دفعة دامت 13 يوماً، ويرى البنك المركزي أن هذا الأسلوب يضمن عدم ارتفاع أسعار الذهب على الصعيد العالمي، لكن هذا لم يحدث من الناحية العملية. 

أما الملاحظة الرابعة، فعند العودة إلى المعادلة المذكورة أعلاه نستنتج أن على البنك المركزي شراء كميات كبيرة من الذهب فوراً، لأن التأخير يسبب خسارة فادحة تساوي تقريباً 65 مليون دولار يومياً. 

وهناك ملاحظة خامسة بشأن ضرورة استفادة العراق من سياسات البنوك المركزية الأخرى المتعلقة بشراء الذهب، ففي عام 2023 اشترت بولونيا 130 طناً، واشترت الصين 225 طناً. 

سترتفع أسعار الذهب في الأشهر المقبلة -على الرغم من صعوبة معرفة مستوى الارتفاع-، وبالتالي لابد من شراء أكبر كمية ممكنة، شريطة أن يتطابق سعر الشراء مع السعر السائد في البورصات، كما يجب أن تتوافر الشفافية في عمليات الشراء، فعند مراجعة الكتاب الصادر عن البنك المركزي بتاريخ 13 أيلول 2022 والموجه للجنة النزاهة النيابية، يتبين أن البنك لم يجب على السؤال الأهم المتعلق بسعر الشراء. 

ولكن زيادة كمية الذهب ومساهمته في الاحتياطي النقدي لا تعني معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت خطيرة ومستعصية في العراق، كما أن انخفاضها لا يعني تفاقم هذه المشاكل. 

فعلى سبيل المثال يعاني لبنان من أزمة مالية ونقدية خانقة تتمثل بتدهور القيمة التعادلية لليرة وارتفاع معدل التضخم وتفاقم البطالة والفقر وتصاعد الديون الخارجية، وأصبح لبنان مثالاً للاقتصاد المنهار، في حين يملك البنك المركزي اللبناني 286 طناً من الذهب، وهو بذلك يحتل المرتبة العربية الثانية مباشرة بعد السعودية. 

وبالعكس لا تملك الإمارات سوى 74 طناً لا تتجاوز قيمتها خمسة مليارات دولار، لكنها لا تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية خطيرة كالعراق ولبنان، فهي تستثمر فوائضها المالية في صناديقها السيادية التي وصلت أصولها إلى 1829 مليار دولار. 

ودول الخليج الأخرى تستثمر كذلك أموالها في صناديقها السيادية التي أصبحت عملاقة ولها دور اقتصادي هائل وفاعل على الصعيدين المحلي والعالمي، في حين يتخبط العراق منذ خمسة عقود في إيداع فوائضه المالية في المصارف الأجنبية لقاء فوائد. 

وعلى هذا الأساس يجب أن يتم شراء الذهب في العراق ضمن خطة إصلاحية واسعة النطاق تتناول جميع الأدوات التجارية والمالية والاستثمارية والنقدية، وبعد نجاح هذه الخطة يتعين استغلال الاحتياطي النقدي بما فيه الذهب في إنشاء صندوق سيادي عراقي.