"4 طالبات في 5 أمتار".. العيش تحت الرقابة في الأقسام الداخليّة للبنات 

أبرار المير طه

31 أيار 2024

تذهب الطالبة للدراسة بعيداً عن منزلها، فتجد نفسها في مسكن يُشبه السجن إلى حد كبير، وإذا اعترضت على ما يجري، تصبح دراستها الجامعية مهدّدة.

لا تنسى سما تلك اللحظة في أحد أيام عام 2018 عندما كانت مهدّدة بخلع كل ملابسها بحثاً عن دليل يدين إحدى نزيلات المسكن الطلابي المعروف بالقسم الداخلي في المعهد الطبي في ميسان. 

راودها الذعر والشعور بالإهانة أمام تصرف المشرفات على القسم بعدما عثرن على فوط نسائية صحية ملقاة داخل سلة نفايات من دون وضعها في أكياس. أثارت المشرفات جلبة شديدة على خلفية ذلك، وبدأن بتوبيخ الطالبات ووصمهن بالقذارة، وبعد كل ذلك رحن يهددن بتفتيشهن جسدياً لمعرفة صاحبة الفوط من أجل معاقبتها. 

لم تنفذ المشرفات تهديدهن في نهاية المطاف لأنهن أدركن إلى أي مدى نجحن في تخويف الطالبات اللواتي اكتسبن ذكرى سيئة أخرى من ذكريات الحياة المريرة في الأقسام الداخلية. 

هواتف وتوست ومراوح.. كل شيء قيد التفتيش 

يتركّز التفتيش في الأقسام الداخلية على الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة التي يُمنع إدخالها إلى الأقسام. فعندما درست أديان في كلية الهندسة بجامعة ذي قار من عام 2016 حتى 2021 وسكنت أقسامها الداخلية بضع سنوات من هذه المدة، شاهدت كيف تتم عمليات التفتيش عن الهواتف الذكية. 

“المشرفات يفتشن حتى ملابسنا الداخلية بحثاً عن الهواتف”، تقول لـ”جمّار”. 

وتضيف أن شكاوى من أهالي طالبات قادمات من أقضية ونواحي ذي قار على إدارة القسم الداخلي تسببت بإصدار تعميم يمنع إدخال الأجهزة الذكية وتكثيف التفتيش عنها. 

وصارت الإدارة تشترط إزالة الكاميرا من الهاتف أو الحاسوب من أجل تسجيل الطالبة والسماح لها بإدخال هكذا أجهزة، أو أن تستخدم الإصدارات القديمة من الهواتف الخالية من الكاميرات والتقنيات الحديثة. وبشهادة أكثر من طالبة في أكثر من محافظة، يُطلب من الطالبات توقيع تعهد خطي بعدم إدخال الأجهزة الحديثة المزودة بكاميرات إلى القسم الداخلي عند تسجيلهن، أو يتم تبليغهن شفوياً بذلك. 

ومن أجل الاحتفاظ بهاتفها، اضطّرت ريم إلى الاستعانة بمصلّح ليجرده من الكاميرا، وذلك عندما سكنت الأقسام الداخلية في جامعة الموصل من 2018 إلى 2023. 

اقرأ أيضاً

التشدّد الدينيّ في أروقة كلية عراقية: كيف ننجو من وصاية الـ”عمو” والعميد؟ 

وفي القسم الداخليّ لجامعة واسط، لطالما تساءلت مريم عن سبب الخوف المفرط من كاميرا الهاتف، عندما كانت تخضع مع زميلاتها للتفتيش المتواصل خلال مدة دراستها طب الأسنان من عام 2019 حتى 2023. 

نتيجة لذلك، حُرِمَت من توثيق لحظاتها الجامعية في هاتفها، وعندما احتاجته لأغراض الدراسة أبلغت معاونة مدير الأقسام الداخلية بذلك، طالبة منها التحقق من عميد الكلية من صحة مزاعمها، غير أن المسؤولة أخبرتها بأن العميد يعلم بسياسات القسم الداخلي وموافق عليها، ما يجعل طلبها مرفوضاً. 

لكن الرشوة تؤدي مفعولها في هذه الأماكن أيضاً. 

فبإمكان الطالبة إدخال هاتف وغض الطرف عنه إذا جلبت مودم إنترنت تبث منه إلى المشرفات، كما تقول أديان. 

يجرى التفتيش فعلياً وبشكل دوري في الأقسام الداخلية للطالبات، ولا يقتصر على كونه تهديداً فحسب، ويستغرق قرابة ساعتين يومياً تُمنع خلالها مغادرة الغرف. 

“كان هناك تفتيش صباحي ومسائي يشمل أجهزتنا وأجسادنا بطريقة تثير الاشمئزاز”، تقول مريم لـ”جمّار”. 

كان التفتيش في قسم جامعة ذي قار يجرى يومياً أو أسبوعياً وبشكل مفاجئ، ففي أي لحظة تقتحم المشرفات غرف الطالبات من دون طرق الأبواب ليفتشن في أغراضهن وأجسادهن وأي مكان يمكن تخبئة هاتف فيه للتأكد من عدم وجود خرق للقواعد. 

لكن التفتيش في قسم سما كان يجرى عندما تكون الطالبات في الدوام، فتدخل المشرفات إلى غرفهن من دون علمهن للتفتيش في أغراضهن، فضلاً عن إناطة مهمة مراقبة طالبات الأقسام الداخلية حتى بالأساتذة الذين يسارعون إلى إبلاغ إدارة القسم عندما يشاهدون هاتفا ذكيا بحوزة إحداهن أثناء الدوام. 

في القسم الداخلي للجامعة التكنولوجية في بغداد، حيث درست ميس من عام 2014 حتى 2018، يجرى التفتيش أربع مرات تقريباً في الأسبوع، ويشمل حتى محتويات الحواسيب المحمولة، إذ تتأكد المشرفات من عدم وجود أفلام إباحية أو إغرائية في حوزة الطالبات، ومن أجل ذلك، يشاهدن أي فيلم كاملاً إذا عثرن على واحد في حاسوب طالبة، لئلا يحتوي على مشهد حميمي. 

ولا يقتصر التفتيش على الحواسيب والهواتف.. فكل شيء خاضع للفحص حتى المناديل وقطع التوست والجزء العلوي من المراوح السقفية! 

إياكِ والبرمودة 

في أحد الأيام عندما عادت ريم متعبة من الدوام وخلعت قميصها واستلقت على السرير، أفزعها صوت دفع الباب بقوة وصراخ إحدى المشرفات عليها بسبب بقائها بالفانيلة الداخلية والبنطلون. فبحسب قوانين المشرفات، لا يجوز للفتيات النظر إلى بعضهن وهن مرتديات ملابس منزلية كالفانيلة والبرمودة والدشداشة القصيرة، وعليهن الاحتشام حتى حين يكن في مكان لا يدخله الرجال. 

تمتد الرقابة والتفتيش على طالبات الأقسام الداخلية إلى أجسادهن وملبسهن وسلوكهن، فكل قطعة ملابس وكل تصرف يخضع للمحاسبة. 

“قائمة الملابس الممنوعة معدّة من قبل المشرفات، وهي تتغير باستمرار بتغيّر أمزجتهن ومعاييرهن الأخلاقية” تقول ريم لـ”جمّار”. 

أما ميس القادمة من ميسان إلى بغداد، فقد كانت تواجه مصاعب النظرة المسبقة عن مدينتها باعتبارها واحدة من المدن المحافظة، فكان عليها ارتداء ما ينسجم مع كونها من ميسان، والخضوع لتشدد أعلى من التشدد المفروض على طالبات قادمات من مدن أخرى. وطيلة مدة دوامها في الجامعة، خضعت ميس لمقاسات تتعلق بطول القميص وعرض البنطلون وقصر التنورة، وكان عليها الالتزام بتلك المقاسات لتحتفظ بمكانها في القسم الداخلي. 

بعد تخرج ميس بسنة، التحقت رغد بجامعة سامراء لدراسة الهندسة المعمارية، وسكنت القسم الداخلي للجامعة، وواجهت المعاناة ذاتها. 

تتذكر رغد أن إحدى المشرفات منعتها ذات يوم من الذهاب إلى الدوام لأن ملابسها لم تعجبها. 

“هناك تهمة للطالبات الساكنات في الأقسام الداخلية بأنهن متحررات من رقابة الأهل، لذا يمكن أن يقدمن على أفعال غير أخلاقية، وعلى هذا الأساس يتم التعامل المشدد معهن” تقول لـ”جمّار”. 

وبسبب هذا التشدد، اضطرت طالبات غير محجبات إلى ارتداء الحجاب للتخلص من التضييق والتمييز في الأقسام الداخلية. 

وتشمل الرقابة أيضاً سلوكيات الطالبات وعلاقاتهن داخل الحرم الجامعي التي قد تجر عليهن عواقب وخيمة. ففي أحد الأيام اتصلت معاونة مدير الأقسام الداخلية بوالدة ميس لتخبرها بأن ابنتها لا ترافق سوى الشبان في الجامعة، ما أوقعها في مشكلة مع أمها. 

وتروي ميس قصصاً عن اتهام طالبة بتدخين السجائر وأخرى بالسرقة وإبلاغ ذويهن بذلك، ما أدى إلى معاقبتهن بمنعهن من مواصلة الدراسة. 

الموت ولا الخروج 

ولأن خزانات مياه الشرب في القسم غير نظيفة، تضطر الطالبات إلى شراء المياه من كشك قريب، اكتشفن لاحقاً أن مياهه هي الأخرى غير صالحة للشرب. وتضطر الطالبات الفقيرات إلى الشرب من مياه القسم غير النظيفة لأنهن لا يملكن مالاً كافياً ليشترين مياهاً معقمة. 

ولا يحق للطالبات مغادرة القسم من أجل التسوق وشراء المياه. 

“دوام الكلية ينتهي الساعة 14:30، والطالبة التي تتأخر حتى الساعة 14:45 تقع في مشكلة كبيرة ويتصلون بأهلها” تقول أديان. 

ولذلك كانت أديان وزميلاتها ينتظرن شغور إحدى المحاضرات أو التغيب عن محاضرة إذا أردن الخروج في مشوار أو من أجل التسوق ليستطعن العودة قبل نهاية الدوام وتجنب المشاكل. 

ولا يحق لعمال التوصيل الدخول إلى الحرم الجامعي لإيصال طلباتهن من مأكل ومشرب، فكانت هذه مشكلة عويصة لم تُحل إلا بعد مطالبات استمرت عاماً. وكان الحل يكمن في تكليف حارس القسم بالذهاب إلى بوابة الجامعة لتسلم الطلبات مقابل أجور تدفعها له الطالبات. 

وأحياناً تطلب الطالبات من زملائهن شراء بعض الاحتياجات لهن ليتمكنّ من أخذها معهن إلى القسم قبل أن يدخلنه ويُحبسن فيه. 

هذه المعاناة عاشتها مريم أيضاً في جامعة واسط. 

تتذكر مريم أن كل شيء كان يخضع للتفتيش في القسم الداخلي حتى الطعام، إذ تقلبه وتفحصه المشرفات ليتأكدن من عدم احتوائه على أي شيء ممنوع. 

وبعد التفتيش يجري الاتصال بوالد الطالبة للتأكد من أن الطعام مرسل من طرف موثوق لديه، وإذا كان الوالد مشغولاً يتم الاتصال بالوالدة. 

“يمنعون استلام الطالبة الطعام من مصدر غريب” تقول مريم لـ”جمّار”. 

وكما في جامعة ذي قار، يُمنع في جامعة واسط خروج طالبات القسم الداخلي من الحرم الجامعي، وإذا خرجن خلسة عليهن العودة قبل الثانية بعد الظهر ليُسمح لهن بدخول القسم. وإذا جاءت طالبة بعد هذا الوقت يتعين عليها تقديم عذر للتأخير، كأن تكون طالبة دراسات مسائية أو لديها مراجعة طبية، مع إبراز ما يثبت ذلك. 

وفي أيام الامتحانات، كانت المشرفة على القسم تستحصل نسخة من الجدول الامتحاني لكل طالبة لتعرف مواعيد امتحاناتها وتتأكد من أنها ملتزمة بالدخول والخروج وفقاً لهذه المواعيد ولا تذهب إلى أي مكان آخر. 

وبسبب هذه القيود، تأخر إسعاف طالبات تعرضن لأزمات صحية طارئة وكدن يفقدن حياتهن. 

ففي مساء أحد الأيام، هرعت أديان وشريكاتها في الغرفة إلى غرفة المشرفات الليليات ليخبرنهن بضرورة الإسراع بنقل طالبة في غرفتهن كانت تتلوى من الألم إلى المستشفى. لكنهن فوجئن برفض المشرفات نجدة الطالبة. واحدة منهن تذرعت بأن زوجها يرفض خروجها في الليل، وأخرى رفضت أيضاً من دون ذكر سبب واضح. 

“لم يوافقن على الرغم من أن هذا واجبهن، وهناك سيارة في القسم مخصصة لهكذا حالات”، تقول أديان. 

استمرت معاناة الطالبة متألمة من دون إسعافها قرابة ساعتين، ولم تستجب المشرفات لطلبات التحرك إلا بعد تلقيهن تهديداً من الطالبات برفع شكوى ضدهن. وفي النهاية تمكنت أديان وزميلاتها من تأجير تاكسي ونقل الطالبة إلى المستشفى برفقة إحدى المشرفات الليليات، والتي توسلت إليهن بعد العودة من أجل عدم ذكر ما جرى أمام الإدارة هرباً من العقوبة. 

ومرّت مريم بموقف مشابه عندما عانت إحدى زميلاتها من ألم وتعرق شديد في إحدى الليالي، ولم تجد توسلاتهن بالمشرفة نفعاً لنقلها إلى المستشفى. 

“لن تخرجن حتى لو تحولت إلى جثة هامدة” كان رد المشرفة على الطالبات القلقات على حياة زميلتهن. 

وقررت المشرفة أن حالة مرضية واحدة لا تستحق الخروج من القسم ليلاً والذهاب إلى المستشفى. تعاملت الطالبات بذكاء مع قرار المشرفة، فادّعى عدد منهن التعرض لأزمة صحية طارئة، ما أرغمها على القبول بالذهاب إلى المستشفى. 

وإذا كانت هاتان الطالبتان قد حظيتا بفرصة للنجاة، فإن هند مشعان فقدت حياتها عام 2022 عندما رفضت إدارة القسم الداخلي في جامعة الأنبار نقلها إلى المستشفى بعد تعرضها لأزمة قلبية. 

كأنما في سجن.. ظروف لا إنسانية 

لما دخلت ميس الغرفة المخصصة لها في القسم الداخلي للجامعة التكنولوجية في بغداد، وجدت أربع طالبات أخريات يشاركنها مساحة 5 × 4 أمتار، الغرفة شبابيكها مغلفة بأوراق لاصقة معتمة ومقفلة بإحكام من قبل إدارة القسم، فلا يدخل الضوء ولا الهواء، ولا يمكن رؤية ما في الخارج. ولم يكن من متنفس للطالبات سوى ساحة خارجية صغيرة يخرجن إليها في أوقات محددة على طريقة التشميس في السجون، بملابس خاضعة للرقابة وغير مخالفة لمعايير المشرفات. 

أما أديان فعندما وصلت إلى القسم الداخلي في جامعة ذي قار مُنحت مكاناً في غرفة صغيرة تسكنها سبع طالبات لتكون هي الثامنة. كانت الغرفة مليئة بأسرّة مرصوفة بجانب جميع جدرانها، وفيها ثلاجة وخزانات ملابس، ما يجعل المساحة المتبقية منها ضيقة جداً. 

تُفاقِم رداءة المعيشة في الأقسام الداخلية من معاناة الطالبات الخاضعات للرقابة والتفتيش والتدخل في كل شيء.  

كما تعاني الأقسام الداخلية من أزمة نظافة وصحة عامة، إذ تنتشر في القسم أصناف عديدة من الحشرات والقوارض وحتى العقارب، ويضم حمامات ومطبخاً تملؤها القذارة. 

“كانت النفايات متكدسة دائماً بسبب وجود عاملة خدمة واحدة كبيرة في السن ولا تستطيع العمل” تقول أديان. ولهذا السبب تضطر الطالبات لتنظيف القسم دورياً على شكل مجاميع، حيث يجمعن القمامة ويتخلص منها مسؤولون في القسم لاحقاً. 

ولا تتوافر المياه الساخنة في الحمامات، ما يجعل الاستحمام في الشتاء مهمة شاقة، ولاسيما مع عدم توافر وسائل تدفئة ومنع القسم الطالبات من شرائها على نفقتهن الخاصة. 

أما في الصيف، فإن سوء تجهيز الكهرباء يجعل أجهزة التبريد غير مفيدة. 

وكما هو الحال في ذي قار، لا تتوافر المياه الساخنة في أقسام الجامعة التكنولوجية لأن السخانات عاطلة وصنابير المياه متكسرة. لذا كانت الطالبات يقمن بتسخين المياه على الطباخات بأوان معدنية كبيرة يحضرنها معهن من منازلهن من أجل الاستحمام في الشتاء. 

وعندما توافر الماء الساخن لأول مرة، انفجر واحد من الأنابيب أثناء استحمام إحدى الطالبات، ما أدى إلى إصابتها بحروق بليغة نُقلت في إثرها إلى المستشفى. 

ولم يُحاسب أحد -كما تفيد ميس- بعد هذه الحادثة، كما لم يقدم ذوو الطالبة المحترقة شكوى ضد شخص أو جهة. 

“إلى من يشتكون؟ يعرفون جيداً أن لا أحد يستمع إليهم، فاكتفوا بأن ابنتهم نجت من الموت” تقول لـ”جمّار”. 

ولم تكن تجربة سما في القسم الداخلي للمعهد الطبي في ميسان أفضل من الأخريات، فقد سكنت غرفة ضيقة جداً برفقة سبع طالبات، وتشاركت طباخاً واحداً مع 59 طالبة، وثلاجة واحدة مع 11 طالبة. 

“الماء غير نظيف وغاز الطبخ شحيح”، تقول سما. 

ولم تكن في القسم عاملات خدمة، فتلقى مسؤولية التنظيف على الطالبات اللواتي يتعرضن للمحاسبة إذا لم يعجب تنظيفهن المشرفات. 

صمت وصبر 

بينما نجحت ريم ورفيقاتها بفرض كلمتهن وحمل إدارة القسم في جامعة الموصل على الكف عن مضايقتهن وتفتيشهن والتدخل في شؤونهن، لم تنجح الاعتراضات في جامعة ذي قار حيث كانت تدرس أديان. 

أما في الجامعة التكنولوجية، قررت إحدى الطالبات الاعتراض على سوء الخدمات بعد حادثة تعرض زميلة لها لحروق بفعل انفجار أنبوب مياه ساخنة، فأقدمت على جمع تواقيع من زميلاتها لمفاتحة إدارة القسم بموضوع الصيانة، فكان رد الإدارة فصلها بتهمة التحريض وتشويه سمعة القسم الداخلي. 

وبسبب مثل هكذا قرارات تعسفية، يراود الخوف الطالبات من الاعتراض على ما يتعرضن له، فيلتزمن الصمت ويصبرن من أجل حماية مسيرتهن الدراسية. 

تقول مريم إن الاعتراض ليس خياراً متاحاً في جامعة واسط، حيث يتعين على من لا تعجبها قواعد القسم الداخلي توضيب أغراضها والمغادرة. 

اتفقت أكثر من طالبة قابلناها على أن المحاصصة الحزبية المسيطرة على الأقسام الداخلية، تساعد في حماية المسؤولين والمشرفات من أي مساءلة في حال انتهاك القوانين أو فرض قواعد ارتجالية غير مستندة إلى لوائح معتمدة. 

يعزو أيوب عبد الحسين، السكرتير العام لاتحاد طلبة العراق، مشكلات الأقسام الداخلية إلى ما يصفه بالتوجه الحكومي نحو إلغاء مجانية التعليم الذي تقدمه الدولة وتسليمه إلى القطاع الخاص. ويردف أن الحكومة تتعمد إهمال الأقسام الداخلية وحتى المباني الجامعية لدفع الطلبة إلى التوجه نحو الكليات والمعاهد الأهلية التابع أغلبها لأحزاب وجهات متنفذة. 

ويبدي استغرابه من وجود أقسام داخلية في عام 2024 خالية من المياه الصالحة للشرب وحتى من مياه الغسل والكهرباء والإنترنت وسائر مقومات السكن اللائق بالطلبة. كما أنه يشجب تحميل الطلبة تكاليف صيانة وترميم الأقسام الداخلية، وفرض معايير وقيود تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان والأعراف الأكاديمية، ولاسيما في الأقسام الداخلية للطالبات. 

ويشير إلى اتخاذ قرارات غير منطقية أحياناً في بعض الجامعات مثل جامعة بغداد، إذ مُنع نشر غسيل الملابس على سطح الأقسام الداخلية. 

أما عن دور اتحاد الطلبة، فقد قال عبد الحسين إن الاتحاد يحول الشكاوى الواردة من طالبات وطلاب إلى رئاسات الجامعات، فإن لم تستجب يحولها إلى وزارة التعليم، وإذا شاهد تسويفاً من الأخيرة يلجأ إلى أساليب ضغط بديلة كالوقفات الاحتجاجية والاعتصامات والتحدث للإعلام، فضلاً عن اللجوء إلى الجمعيات المعنية بالدفاع عن المرأة عندما يتعلق الأمر بالطالبات. 

وتواصل “جمّار” مع رؤساء أقسام داخلية للتعليق على ما ورد في إحاطات الطالبات، غير أنهم رفضوا التحدث.  

أما وزارة التعليم العالي فلم تجب بشكل واضح على أسئلة من “جمّار” بشأن القيود المفروضة على الطالبات وعمليات التفتيش ومنع استخدام الهواتف الذكية والحواسيب. واكتفى حيدر العبودي، المتحدث باسم الوزارة، بأن “ملف الأقسام الداخلية يحظى بعناية واهتمام الوزارة ويخضع لمحددات الجودة وأعلى مستوى ممكن من الخدمات والإدارة المنظمة”. 

نهاية الكابوس 

في السنة الأخيرة من سنوات دراستها الأربع، قررت أديان مع عدد من طالبات القسم الداخلي المغادرة واستئجار شقة، وذلك بعد تفشي جائحة “كورونا” وخروج الأمور عن السيطرة في القسم. 

“في بداية الجائحة أخبرونا بأنهم سيخفضون أعداد الطالبات في الغرف، لكن الأمر لم يستمر طويلاً بفعل الوساطات، فعاد القسم للامتلاء مجدداً وارتفعت الإصابات بشكل كبير” تقول لنا. 

تمكّنت أديان من استئجار شقّة في النهاية، بينما اختارت مريم في السنة الأخيرة ترك القسم الداخلي، والعيش في منزل العائلة وفضلّت قضاء ساعتين في طريق الذهاب إلى الجامعة ومثلهما في طريق العودة على الخضوع لمعاملة مهينة. 

لكن الخيارات التي توفّرت لأديان ومريم، لا تتوفر لأغلب الطالبات اللواتي يعشن تحت الرقابة في سكن الأقسام الداخلية. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

لا تنسى سما تلك اللحظة في أحد أيام عام 2018 عندما كانت مهدّدة بخلع كل ملابسها بحثاً عن دليل يدين إحدى نزيلات المسكن الطلابي المعروف بالقسم الداخلي في المعهد الطبي في ميسان. 

راودها الذعر والشعور بالإهانة أمام تصرف المشرفات على القسم بعدما عثرن على فوط نسائية صحية ملقاة داخل سلة نفايات من دون وضعها في أكياس. أثارت المشرفات جلبة شديدة على خلفية ذلك، وبدأن بتوبيخ الطالبات ووصمهن بالقذارة، وبعد كل ذلك رحن يهددن بتفتيشهن جسدياً لمعرفة صاحبة الفوط من أجل معاقبتها. 

لم تنفذ المشرفات تهديدهن في نهاية المطاف لأنهن أدركن إلى أي مدى نجحن في تخويف الطالبات اللواتي اكتسبن ذكرى سيئة أخرى من ذكريات الحياة المريرة في الأقسام الداخلية. 

هواتف وتوست ومراوح.. كل شيء قيد التفتيش 

يتركّز التفتيش في الأقسام الداخلية على الهواتف الذكية والحواسيب المحمولة التي يُمنع إدخالها إلى الأقسام. فعندما درست أديان في كلية الهندسة بجامعة ذي قار من عام 2016 حتى 2021 وسكنت أقسامها الداخلية بضع سنوات من هذه المدة، شاهدت كيف تتم عمليات التفتيش عن الهواتف الذكية. 

“المشرفات يفتشن حتى ملابسنا الداخلية بحثاً عن الهواتف”، تقول لـ”جمّار”. 

وتضيف أن شكاوى من أهالي طالبات قادمات من أقضية ونواحي ذي قار على إدارة القسم الداخلي تسببت بإصدار تعميم يمنع إدخال الأجهزة الذكية وتكثيف التفتيش عنها. 

وصارت الإدارة تشترط إزالة الكاميرا من الهاتف أو الحاسوب من أجل تسجيل الطالبة والسماح لها بإدخال هكذا أجهزة، أو أن تستخدم الإصدارات القديمة من الهواتف الخالية من الكاميرات والتقنيات الحديثة. وبشهادة أكثر من طالبة في أكثر من محافظة، يُطلب من الطالبات توقيع تعهد خطي بعدم إدخال الأجهزة الحديثة المزودة بكاميرات إلى القسم الداخلي عند تسجيلهن، أو يتم تبليغهن شفوياً بذلك. 

ومن أجل الاحتفاظ بهاتفها، اضطّرت ريم إلى الاستعانة بمصلّح ليجرده من الكاميرا، وذلك عندما سكنت الأقسام الداخلية في جامعة الموصل من 2018 إلى 2023. 

اقرأ أيضاً

التشدّد الدينيّ في أروقة كلية عراقية: كيف ننجو من وصاية الـ”عمو” والعميد؟ 

وفي القسم الداخليّ لجامعة واسط، لطالما تساءلت مريم عن سبب الخوف المفرط من كاميرا الهاتف، عندما كانت تخضع مع زميلاتها للتفتيش المتواصل خلال مدة دراستها طب الأسنان من عام 2019 حتى 2023. 

نتيجة لذلك، حُرِمَت من توثيق لحظاتها الجامعية في هاتفها، وعندما احتاجته لأغراض الدراسة أبلغت معاونة مدير الأقسام الداخلية بذلك، طالبة منها التحقق من عميد الكلية من صحة مزاعمها، غير أن المسؤولة أخبرتها بأن العميد يعلم بسياسات القسم الداخلي وموافق عليها، ما يجعل طلبها مرفوضاً. 

لكن الرشوة تؤدي مفعولها في هذه الأماكن أيضاً. 

فبإمكان الطالبة إدخال هاتف وغض الطرف عنه إذا جلبت مودم إنترنت تبث منه إلى المشرفات، كما تقول أديان. 

يجرى التفتيش فعلياً وبشكل دوري في الأقسام الداخلية للطالبات، ولا يقتصر على كونه تهديداً فحسب، ويستغرق قرابة ساعتين يومياً تُمنع خلالها مغادرة الغرف. 

“كان هناك تفتيش صباحي ومسائي يشمل أجهزتنا وأجسادنا بطريقة تثير الاشمئزاز”، تقول مريم لـ”جمّار”. 

كان التفتيش في قسم جامعة ذي قار يجرى يومياً أو أسبوعياً وبشكل مفاجئ، ففي أي لحظة تقتحم المشرفات غرف الطالبات من دون طرق الأبواب ليفتشن في أغراضهن وأجسادهن وأي مكان يمكن تخبئة هاتف فيه للتأكد من عدم وجود خرق للقواعد. 

لكن التفتيش في قسم سما كان يجرى عندما تكون الطالبات في الدوام، فتدخل المشرفات إلى غرفهن من دون علمهن للتفتيش في أغراضهن، فضلاً عن إناطة مهمة مراقبة طالبات الأقسام الداخلية حتى بالأساتذة الذين يسارعون إلى إبلاغ إدارة القسم عندما يشاهدون هاتفا ذكيا بحوزة إحداهن أثناء الدوام. 

في القسم الداخلي للجامعة التكنولوجية في بغداد، حيث درست ميس من عام 2014 حتى 2018، يجرى التفتيش أربع مرات تقريباً في الأسبوع، ويشمل حتى محتويات الحواسيب المحمولة، إذ تتأكد المشرفات من عدم وجود أفلام إباحية أو إغرائية في حوزة الطالبات، ومن أجل ذلك، يشاهدن أي فيلم كاملاً إذا عثرن على واحد في حاسوب طالبة، لئلا يحتوي على مشهد حميمي. 

ولا يقتصر التفتيش على الحواسيب والهواتف.. فكل شيء خاضع للفحص حتى المناديل وقطع التوست والجزء العلوي من المراوح السقفية! 

إياكِ والبرمودة 

في أحد الأيام عندما عادت ريم متعبة من الدوام وخلعت قميصها واستلقت على السرير، أفزعها صوت دفع الباب بقوة وصراخ إحدى المشرفات عليها بسبب بقائها بالفانيلة الداخلية والبنطلون. فبحسب قوانين المشرفات، لا يجوز للفتيات النظر إلى بعضهن وهن مرتديات ملابس منزلية كالفانيلة والبرمودة والدشداشة القصيرة، وعليهن الاحتشام حتى حين يكن في مكان لا يدخله الرجال. 

تمتد الرقابة والتفتيش على طالبات الأقسام الداخلية إلى أجسادهن وملبسهن وسلوكهن، فكل قطعة ملابس وكل تصرف يخضع للمحاسبة. 

“قائمة الملابس الممنوعة معدّة من قبل المشرفات، وهي تتغير باستمرار بتغيّر أمزجتهن ومعاييرهن الأخلاقية” تقول ريم لـ”جمّار”. 

أما ميس القادمة من ميسان إلى بغداد، فقد كانت تواجه مصاعب النظرة المسبقة عن مدينتها باعتبارها واحدة من المدن المحافظة، فكان عليها ارتداء ما ينسجم مع كونها من ميسان، والخضوع لتشدد أعلى من التشدد المفروض على طالبات قادمات من مدن أخرى. وطيلة مدة دوامها في الجامعة، خضعت ميس لمقاسات تتعلق بطول القميص وعرض البنطلون وقصر التنورة، وكان عليها الالتزام بتلك المقاسات لتحتفظ بمكانها في القسم الداخلي. 

بعد تخرج ميس بسنة، التحقت رغد بجامعة سامراء لدراسة الهندسة المعمارية، وسكنت القسم الداخلي للجامعة، وواجهت المعاناة ذاتها. 

تتذكر رغد أن إحدى المشرفات منعتها ذات يوم من الذهاب إلى الدوام لأن ملابسها لم تعجبها. 

“هناك تهمة للطالبات الساكنات في الأقسام الداخلية بأنهن متحررات من رقابة الأهل، لذا يمكن أن يقدمن على أفعال غير أخلاقية، وعلى هذا الأساس يتم التعامل المشدد معهن” تقول لـ”جمّار”. 

وبسبب هذا التشدد، اضطرت طالبات غير محجبات إلى ارتداء الحجاب للتخلص من التضييق والتمييز في الأقسام الداخلية. 

وتشمل الرقابة أيضاً سلوكيات الطالبات وعلاقاتهن داخل الحرم الجامعي التي قد تجر عليهن عواقب وخيمة. ففي أحد الأيام اتصلت معاونة مدير الأقسام الداخلية بوالدة ميس لتخبرها بأن ابنتها لا ترافق سوى الشبان في الجامعة، ما أوقعها في مشكلة مع أمها. 

وتروي ميس قصصاً عن اتهام طالبة بتدخين السجائر وأخرى بالسرقة وإبلاغ ذويهن بذلك، ما أدى إلى معاقبتهن بمنعهن من مواصلة الدراسة. 

الموت ولا الخروج 

ولأن خزانات مياه الشرب في القسم غير نظيفة، تضطر الطالبات إلى شراء المياه من كشك قريب، اكتشفن لاحقاً أن مياهه هي الأخرى غير صالحة للشرب. وتضطر الطالبات الفقيرات إلى الشرب من مياه القسم غير النظيفة لأنهن لا يملكن مالاً كافياً ليشترين مياهاً معقمة. 

ولا يحق للطالبات مغادرة القسم من أجل التسوق وشراء المياه. 

“دوام الكلية ينتهي الساعة 14:30، والطالبة التي تتأخر حتى الساعة 14:45 تقع في مشكلة كبيرة ويتصلون بأهلها” تقول أديان. 

ولذلك كانت أديان وزميلاتها ينتظرن شغور إحدى المحاضرات أو التغيب عن محاضرة إذا أردن الخروج في مشوار أو من أجل التسوق ليستطعن العودة قبل نهاية الدوام وتجنب المشاكل. 

ولا يحق لعمال التوصيل الدخول إلى الحرم الجامعي لإيصال طلباتهن من مأكل ومشرب، فكانت هذه مشكلة عويصة لم تُحل إلا بعد مطالبات استمرت عاماً. وكان الحل يكمن في تكليف حارس القسم بالذهاب إلى بوابة الجامعة لتسلم الطلبات مقابل أجور تدفعها له الطالبات. 

وأحياناً تطلب الطالبات من زملائهن شراء بعض الاحتياجات لهن ليتمكنّ من أخذها معهن إلى القسم قبل أن يدخلنه ويُحبسن فيه. 

هذه المعاناة عاشتها مريم أيضاً في جامعة واسط. 

تتذكر مريم أن كل شيء كان يخضع للتفتيش في القسم الداخلي حتى الطعام، إذ تقلبه وتفحصه المشرفات ليتأكدن من عدم احتوائه على أي شيء ممنوع. 

وبعد التفتيش يجري الاتصال بوالد الطالبة للتأكد من أن الطعام مرسل من طرف موثوق لديه، وإذا كان الوالد مشغولاً يتم الاتصال بالوالدة. 

“يمنعون استلام الطالبة الطعام من مصدر غريب” تقول مريم لـ”جمّار”. 

وكما في جامعة ذي قار، يُمنع في جامعة واسط خروج طالبات القسم الداخلي من الحرم الجامعي، وإذا خرجن خلسة عليهن العودة قبل الثانية بعد الظهر ليُسمح لهن بدخول القسم. وإذا جاءت طالبة بعد هذا الوقت يتعين عليها تقديم عذر للتأخير، كأن تكون طالبة دراسات مسائية أو لديها مراجعة طبية، مع إبراز ما يثبت ذلك. 

وفي أيام الامتحانات، كانت المشرفة على القسم تستحصل نسخة من الجدول الامتحاني لكل طالبة لتعرف مواعيد امتحاناتها وتتأكد من أنها ملتزمة بالدخول والخروج وفقاً لهذه المواعيد ولا تذهب إلى أي مكان آخر. 

وبسبب هذه القيود، تأخر إسعاف طالبات تعرضن لأزمات صحية طارئة وكدن يفقدن حياتهن. 

ففي مساء أحد الأيام، هرعت أديان وشريكاتها في الغرفة إلى غرفة المشرفات الليليات ليخبرنهن بضرورة الإسراع بنقل طالبة في غرفتهن كانت تتلوى من الألم إلى المستشفى. لكنهن فوجئن برفض المشرفات نجدة الطالبة. واحدة منهن تذرعت بأن زوجها يرفض خروجها في الليل، وأخرى رفضت أيضاً من دون ذكر سبب واضح. 

“لم يوافقن على الرغم من أن هذا واجبهن، وهناك سيارة في القسم مخصصة لهكذا حالات”، تقول أديان. 

استمرت معاناة الطالبة متألمة من دون إسعافها قرابة ساعتين، ولم تستجب المشرفات لطلبات التحرك إلا بعد تلقيهن تهديداً من الطالبات برفع شكوى ضدهن. وفي النهاية تمكنت أديان وزميلاتها من تأجير تاكسي ونقل الطالبة إلى المستشفى برفقة إحدى المشرفات الليليات، والتي توسلت إليهن بعد العودة من أجل عدم ذكر ما جرى أمام الإدارة هرباً من العقوبة. 

ومرّت مريم بموقف مشابه عندما عانت إحدى زميلاتها من ألم وتعرق شديد في إحدى الليالي، ولم تجد توسلاتهن بالمشرفة نفعاً لنقلها إلى المستشفى. 

“لن تخرجن حتى لو تحولت إلى جثة هامدة” كان رد المشرفة على الطالبات القلقات على حياة زميلتهن. 

وقررت المشرفة أن حالة مرضية واحدة لا تستحق الخروج من القسم ليلاً والذهاب إلى المستشفى. تعاملت الطالبات بذكاء مع قرار المشرفة، فادّعى عدد منهن التعرض لأزمة صحية طارئة، ما أرغمها على القبول بالذهاب إلى المستشفى. 

وإذا كانت هاتان الطالبتان قد حظيتا بفرصة للنجاة، فإن هند مشعان فقدت حياتها عام 2022 عندما رفضت إدارة القسم الداخلي في جامعة الأنبار نقلها إلى المستشفى بعد تعرضها لأزمة قلبية. 

كأنما في سجن.. ظروف لا إنسانية 

لما دخلت ميس الغرفة المخصصة لها في القسم الداخلي للجامعة التكنولوجية في بغداد، وجدت أربع طالبات أخريات يشاركنها مساحة 5 × 4 أمتار، الغرفة شبابيكها مغلفة بأوراق لاصقة معتمة ومقفلة بإحكام من قبل إدارة القسم، فلا يدخل الضوء ولا الهواء، ولا يمكن رؤية ما في الخارج. ولم يكن من متنفس للطالبات سوى ساحة خارجية صغيرة يخرجن إليها في أوقات محددة على طريقة التشميس في السجون، بملابس خاضعة للرقابة وغير مخالفة لمعايير المشرفات. 

أما أديان فعندما وصلت إلى القسم الداخلي في جامعة ذي قار مُنحت مكاناً في غرفة صغيرة تسكنها سبع طالبات لتكون هي الثامنة. كانت الغرفة مليئة بأسرّة مرصوفة بجانب جميع جدرانها، وفيها ثلاجة وخزانات ملابس، ما يجعل المساحة المتبقية منها ضيقة جداً. 

تُفاقِم رداءة المعيشة في الأقسام الداخلية من معاناة الطالبات الخاضعات للرقابة والتفتيش والتدخل في كل شيء.  

كما تعاني الأقسام الداخلية من أزمة نظافة وصحة عامة، إذ تنتشر في القسم أصناف عديدة من الحشرات والقوارض وحتى العقارب، ويضم حمامات ومطبخاً تملؤها القذارة. 

“كانت النفايات متكدسة دائماً بسبب وجود عاملة خدمة واحدة كبيرة في السن ولا تستطيع العمل” تقول أديان. ولهذا السبب تضطر الطالبات لتنظيف القسم دورياً على شكل مجاميع، حيث يجمعن القمامة ويتخلص منها مسؤولون في القسم لاحقاً. 

ولا تتوافر المياه الساخنة في الحمامات، ما يجعل الاستحمام في الشتاء مهمة شاقة، ولاسيما مع عدم توافر وسائل تدفئة ومنع القسم الطالبات من شرائها على نفقتهن الخاصة. 

أما في الصيف، فإن سوء تجهيز الكهرباء يجعل أجهزة التبريد غير مفيدة. 

وكما هو الحال في ذي قار، لا تتوافر المياه الساخنة في أقسام الجامعة التكنولوجية لأن السخانات عاطلة وصنابير المياه متكسرة. لذا كانت الطالبات يقمن بتسخين المياه على الطباخات بأوان معدنية كبيرة يحضرنها معهن من منازلهن من أجل الاستحمام في الشتاء. 

وعندما توافر الماء الساخن لأول مرة، انفجر واحد من الأنابيب أثناء استحمام إحدى الطالبات، ما أدى إلى إصابتها بحروق بليغة نُقلت في إثرها إلى المستشفى. 

ولم يُحاسب أحد -كما تفيد ميس- بعد هذه الحادثة، كما لم يقدم ذوو الطالبة المحترقة شكوى ضد شخص أو جهة. 

“إلى من يشتكون؟ يعرفون جيداً أن لا أحد يستمع إليهم، فاكتفوا بأن ابنتهم نجت من الموت” تقول لـ”جمّار”. 

ولم تكن تجربة سما في القسم الداخلي للمعهد الطبي في ميسان أفضل من الأخريات، فقد سكنت غرفة ضيقة جداً برفقة سبع طالبات، وتشاركت طباخاً واحداً مع 59 طالبة، وثلاجة واحدة مع 11 طالبة. 

“الماء غير نظيف وغاز الطبخ شحيح”، تقول سما. 

ولم تكن في القسم عاملات خدمة، فتلقى مسؤولية التنظيف على الطالبات اللواتي يتعرضن للمحاسبة إذا لم يعجب تنظيفهن المشرفات. 

صمت وصبر 

بينما نجحت ريم ورفيقاتها بفرض كلمتهن وحمل إدارة القسم في جامعة الموصل على الكف عن مضايقتهن وتفتيشهن والتدخل في شؤونهن، لم تنجح الاعتراضات في جامعة ذي قار حيث كانت تدرس أديان. 

أما في الجامعة التكنولوجية، قررت إحدى الطالبات الاعتراض على سوء الخدمات بعد حادثة تعرض زميلة لها لحروق بفعل انفجار أنبوب مياه ساخنة، فأقدمت على جمع تواقيع من زميلاتها لمفاتحة إدارة القسم بموضوع الصيانة، فكان رد الإدارة فصلها بتهمة التحريض وتشويه سمعة القسم الداخلي. 

وبسبب مثل هكذا قرارات تعسفية، يراود الخوف الطالبات من الاعتراض على ما يتعرضن له، فيلتزمن الصمت ويصبرن من أجل حماية مسيرتهن الدراسية. 

تقول مريم إن الاعتراض ليس خياراً متاحاً في جامعة واسط، حيث يتعين على من لا تعجبها قواعد القسم الداخلي توضيب أغراضها والمغادرة. 

اتفقت أكثر من طالبة قابلناها على أن المحاصصة الحزبية المسيطرة على الأقسام الداخلية، تساعد في حماية المسؤولين والمشرفات من أي مساءلة في حال انتهاك القوانين أو فرض قواعد ارتجالية غير مستندة إلى لوائح معتمدة. 

يعزو أيوب عبد الحسين، السكرتير العام لاتحاد طلبة العراق، مشكلات الأقسام الداخلية إلى ما يصفه بالتوجه الحكومي نحو إلغاء مجانية التعليم الذي تقدمه الدولة وتسليمه إلى القطاع الخاص. ويردف أن الحكومة تتعمد إهمال الأقسام الداخلية وحتى المباني الجامعية لدفع الطلبة إلى التوجه نحو الكليات والمعاهد الأهلية التابع أغلبها لأحزاب وجهات متنفذة. 

ويبدي استغرابه من وجود أقسام داخلية في عام 2024 خالية من المياه الصالحة للشرب وحتى من مياه الغسل والكهرباء والإنترنت وسائر مقومات السكن اللائق بالطلبة. كما أنه يشجب تحميل الطلبة تكاليف صيانة وترميم الأقسام الداخلية، وفرض معايير وقيود تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان والأعراف الأكاديمية، ولاسيما في الأقسام الداخلية للطالبات. 

ويشير إلى اتخاذ قرارات غير منطقية أحياناً في بعض الجامعات مثل جامعة بغداد، إذ مُنع نشر غسيل الملابس على سطح الأقسام الداخلية. 

أما عن دور اتحاد الطلبة، فقد قال عبد الحسين إن الاتحاد يحول الشكاوى الواردة من طالبات وطلاب إلى رئاسات الجامعات، فإن لم تستجب يحولها إلى وزارة التعليم، وإذا شاهد تسويفاً من الأخيرة يلجأ إلى أساليب ضغط بديلة كالوقفات الاحتجاجية والاعتصامات والتحدث للإعلام، فضلاً عن اللجوء إلى الجمعيات المعنية بالدفاع عن المرأة عندما يتعلق الأمر بالطالبات. 

وتواصل “جمّار” مع رؤساء أقسام داخلية للتعليق على ما ورد في إحاطات الطالبات، غير أنهم رفضوا التحدث.  

أما وزارة التعليم العالي فلم تجب بشكل واضح على أسئلة من “جمّار” بشأن القيود المفروضة على الطالبات وعمليات التفتيش ومنع استخدام الهواتف الذكية والحواسيب. واكتفى حيدر العبودي، المتحدث باسم الوزارة، بأن “ملف الأقسام الداخلية يحظى بعناية واهتمام الوزارة ويخضع لمحددات الجودة وأعلى مستوى ممكن من الخدمات والإدارة المنظمة”. 

نهاية الكابوس 

في السنة الأخيرة من سنوات دراستها الأربع، قررت أديان مع عدد من طالبات القسم الداخلي المغادرة واستئجار شقة، وذلك بعد تفشي جائحة “كورونا” وخروج الأمور عن السيطرة في القسم. 

“في بداية الجائحة أخبرونا بأنهم سيخفضون أعداد الطالبات في الغرف، لكن الأمر لم يستمر طويلاً بفعل الوساطات، فعاد القسم للامتلاء مجدداً وارتفعت الإصابات بشكل كبير” تقول لنا. 

تمكّنت أديان من استئجار شقّة في النهاية، بينما اختارت مريم في السنة الأخيرة ترك القسم الداخلي، والعيش في منزل العائلة وفضلّت قضاء ساعتين في طريق الذهاب إلى الجامعة ومثلهما في طريق العودة على الخضوع لمعاملة مهينة. 

لكن الخيارات التي توفّرت لأديان ومريم، لا تتوفر لأغلب الطالبات اللواتي يعشن تحت الرقابة في سكن الأقسام الداخلية.