ملك وخليفة وشاه.. عن المثليّة وإرث الاستعمار في العراق

موسى الشديدي

29 أيار 2024

الربط ما بين الممارسات الجنسيّة بين الرجال في مجتمعاتنا العربية والقيم الأمريكية الإمبريالية هو وليد خطاب لا يرتكز على التاريخ الذي وثقته مراجع تاريخية حديثة وقديمة، منها إسلامية..

وبَّخت الحكومة الأمريكية التي تموّل حرب الإبادة في غزة، البرلمان العراقي الذي أنتجه هيكل المحاصصة الطائفية، على إقراره قانوناً يجرم “المثلية الجنسية”، يوم 27 نيسان 2024، بحجة خوفها على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط.

هذا القانون الذي جاء كتعديل لقانون “مكافحة الدعارة” ليجرّم “المثلية الجنسية” أيضاً، كان قد اقترحه النائب المستقل رائد المالكي الذي صرّح أن دافعه هو أن “ثقافة المجتمع العراقي ترفض المثليّة”. جاء هذا بالتزامن مع تغريدة نشرها رئيس فصيل عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، مطالباً البرلمان بتجريم “الشذوذ الجنسي بأطروحته الجديدة، المثلية”، بحجة أنها “مشروع

أمريكي خبيث يستهدف قيم وتقاليد مجتمعنا”، من أجل حماية “القيم والعادات والأخلاق الأصيلة للمجتمع العراقي”. كما صرّح النائب علي شداد مفسراً السبب وراء تصويته لصالح التعديل بكونه “يصب بمصلحة الحفاظ على النسيج الاجتماعي العراقي”.

ترتكز هذه الآراء التي ما فتئت تتكرر في الخطاب السياسي والديني العراقي في العقدين الأخيرين، على مقولة مفادها أن الممارسة الجنسية بين فردين من الجنس نفسه أمر لم يسبق له الظهور في التاريخ العراقي، بل أن الممارسات الجنسية بين الرجال هي استحداث أمريكي كجزء من مشروع واشنطن السياسي الإمبريالي في بناء “عراق جديد”.

الربط ما بين الممارسات الجنسية بين الرجال في مجتمعاتنا العربية والقيم الأمريكية الإمبريالية هو وليد خطاب لا يرتكز على التاريخ الذي وثقته مراجع تاريخية حديثة وقديمة، منها إسلامية.

يرصد الفقيه والمؤلف والمؤرخ المسلم ابن كثير (ت. 1373) في عمله الموسوعي الضخم “البداية والنهاية”، الذي يؤرخ فيه أحداث الخليقة منذ آدم وحواء وحتى علامات الساعة ونهاية الزمان، شيوع الممارسات الجنسية بين الرجال، واصفاً إياها بـ”فاحشة اللواط التي قد ابتلي بها غالب الملوك والأمراء، والتجار والعوام والكتاب، والفقهاء والقضاة ونحوهم، إلا من عصم الله منهم”.1 تكمن أهمية هذا القول -حتى لمن يختلف مع توجه ابن كثير- في أنه صادر عن شخص كاره لـ”لواط”، بيد أنه في الوقت ذاته يعترف بأن الممارسات الجنسية “اللوطية” قائمة ومنذ زمن بعيد في بلادنا، وتنتشر بين غالبية -لا قلة فقط- من الناس، كما أنه لم يقتصر على العوام، بل شاع بين عِلية القوم من الملوك والأمراء.

كان هذا الرصد لابن كثير في المجتمعات العربية عامة، وفي هذه المقالة سنرصد بعضاً من ملامح العلاقات الجنسية بين الرجال في ما يعرف بالعراق اليوم، وتحديداً بين ملوكه وخلفائه وحكامه، في محاولة لفهم كيفية تحوّل هؤلاء، على مدى العقدين الأخيرين وصولاً إلى اليوم، إلى مجرمين دخيلين على الثقافة العراقية وفق ممارساتهم الجنسية.

أول قصة حب عراقية

كان جلجامش -الشخصية الرئيسية في أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات الشرق الأدنى- ملكاً ظالماً تقرّر الآلهة أن تخلق له خصماً تدعوه أنكيدو ليشغله عن ظلم الناس، لكن سرعان ما

تتحوّل الخصومة إلى صداقة تخلّلتها علاقة حميمية عاطفية، بحسب التلميحات الواردة في الملحمة.

قبيل لقائه بأنكيدو، يراود جلجامش حلمين مقدسين، في الحلمين “يميل عليه كما يميل على امرأة”،2 وأنكيدو يقع عليه من السماء كشهاب ثاقب ويلتصق به فلا يستطيع جلجامش إبعاده.3 يلتقي بعدها أنكيدو وجلجامش بصراع لا ينتصر فيه أحد، فيترافقان بعد أن تخبر كاهنة الحب أنكيدو أنه سيُحبّ جلجامش كحُبِّه لنفسه،4 ولما يموت أنكيدو، يفعل جلجامش المستحيل في سبيل إعادته إلى الحياة باحثاً عن ثمرة الخلود من أجل ذلك.

أما العشيقات، فلا نجد أثراً لأي واحدة في حياة جلجامش في الملحمة بأسرها. بل حتى أنه يرفض الزواج من عشتار، آلهة الجنس والشبق، عندما تحاول التقرب منه.5

عشتار نفسها التي أقيم لها طقس عُرف باسم “اللواط المقدّس” من بين الطقوس المقدسة الأخرى التي كانت تقام لها، كما وصفتها الملحمة في عرضها للمجتمع الديني في بلاد ما بين النهرين حينها. وتشير بعض فقرات ملحمة جلجامش إلى أن الممارسات الجنسية بين الرجال لم تكن مألوفة وشائعة فحسب، بل ومقدسة في أوروك، جنوب العراق اليوم. لذا تحث كاهنة الحب في الملحمة أنكيدو بالمضي إلى أهل أوروك تغريه بكثرة “المخنثين”6 في المدينة:

امضِ إلى أوروك المنيعة يا أنكيدو

حيث يزهو الناس دوماً بحلل الأعياد

وكل يوم من أيامهم عيد

حيث الغلمان المخنثون يرتعون

والبغايا المقدّسات بأشكال فاتنة يمرحن

طافحات شهوة لاهيات طرباً 7

اللوح الأول، العمود الخامس

(ترجمة فراس السواح)

يُعلّق فراس سواح في هامش ترجمته للنص،8 “كانت أطراف معبد عشتار في ذلك الزمن تعجّ باللوطيين الذين يمارسون البغاء المقدس”، ويُسمّي حكمت بشير الأسود هؤلاء الذين يرتعون في أوروك بـ”العشتاريين”، “الذين كانوا أكثر قرباً وعلاقة مع الإلهة عشتار حيث كان الكهنة الخاصين بعبادة عشتار لوطية وكانوا أيضاً يجيدون الرقص وكذلك ما يعرف بمصطلح cross-dressing”.9

وفي أسطورة إله الطاعون البابلية يرد وصف لمدينة عشتار أوروك بأنها:

مدينة البغايا المقدسة والغلمان والخصيان وفي وسطها معبد عشتار الذي يعجّ بالمخنثين ممن نالت الآلهة من رجولتهم10

ترجمة فراس سواح

ما يعني أن أرض وثقافة وتراث بلاد الرافدين لم تعرف الممارسات الجنسية ما بين الذكور منذ وقت بعيد جداً فحسب، بل قدّستها كذلك.

خليفة بغداد وعشيقه

فتح المسلمون العراق عام 636 م بعد أن كان تحت حكم الفرس المجوس، وبنى الخليفة أبو جعفر المنصور بغداد “دار السلام” عام 768 م لتكون عاصمة لدولته العباسية التي ستحكم ثلث العالم القديم، بعدما ثبّت أسس دولته على أنقاض دولة الأمويين، لتصير بغداد قبلة العالم في الفن والثقافة والتقدّم. كان المجتمع في عصره الذهبي آنذاك، حيث كانت مذاهب الإسلام تُصاغ في بغداد، وسط حركة ترجمة وتدوين نشطة.

وكان أن وصلتنا من حركة التدوين تلك، الكثير من الكتب التي رصدت الحياة الجنسية في المجتمع المسلم في العصر العباسي. دوّنت العديد من هذه الكتب، العلاقات الجنسية بين الرجال لأديب ل محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء”،كتاب ” مثلاًالعوام وغيرهم. فكان من (ت. والعالم المسلم الراغب الأصفهاني1108. م) الذي عاش في بغداد وكتب كتابه هذا فيها “فرّ من حمص إلى بغداد، فرأى كثرة الإجارة (أي كان قد ه خبر غلامومن بين ما جاء في

وكان أن وصلتنا من حركة التدوين تلك، الكثير من الكتب التي رصدت الحياة الجنسية في المجتمع المسلم في العصر العباسي. دوّنت العديد من هذه الكتب، العلاقات الجنسية بين الرجال من العوام وغيرهم. فكان مثلاً كتاب “محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء”، للأديب والعالم المسلم الراغب الأصفهاني (ت. 1108 م) الذي عاش في بغداد وكتب كتابه هذا فيها. ومن بين ما جاء فيه خبر غلام كان قد “فرّ من حمص إلى بغداد، فرأى كثرة الإجارة (أي ممارسة الغلمان الجنس مع الذكور مقابل المال) فاستردّته (أي طلبت عودته) أمه لعمارة طاحونة له بحمص، فكتب إليها: يا أماه، إن استاً (أي مؤخرة) بالعراق خير من طاحونة بحمص11.

كما جمع القاضي المسلم شهاب الدين أحمد التيفاشي في كتابه “نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب”، العديد من قصص وأشعار ونوادر مثل هؤلاء المؤاجرين في فصل كامل يذكر فيه عشق أبي نواس، الشاعر البغدادي العباسي الشهير الذي يقف تمثاله شامخاً في بغداد إلى اليوم، للشاعر والبة بن الحباب في علاقتهما العاطفية الجنسيّة الطويلة.

ويوثق الكتاب تقبل الإفصاح العلني لاشتهاء الرجال للرجال في بغداد حينها، حيث نقل عن الجماز “كنت أنا وأبو نواس ونحن أحداث، قاعدين بباب عثمان إذ مرّ بنا أحمد بن عبد الوهاب الثقفي، وهو غلام حسن الوجه، فقال له أبو نواس: قبلني قبلة، فقال: امدحني ببيت حتى أفعل. فقال:

حبك يا أحمد أضناني

يا قمرا في شخص إنسان

فقبّله قبلة، فقلت: ما شأني أنا؟ فقال: امتدحني. فقلت:

بذلت للأول ما يشتهي

فابذل أبا العباس للثاني فقبلني”.12

كان “اللواط” شائعاً وعلنياً وله حيّز في المجال العام، يدونه الأدباء في كتبهم، ويلقيه الشعراء في قصائدهم، ولم تقتصر ممارسته على عامة الناس من المؤاجرين والشعراء فحسب، بل والخلفاء أيضاً.

فقد اشتهر أمر عشق حفيد هارون الرشيد أمير المؤمنين الواثق (ت. 847 م) لغلام مصري يدعى مهج. سرق الولد شغاف قلب الخليفة بدلعه ورقته، فقال فيه:

مهج يملك المهج بسجى اللحظ والدعج

حسن القد مخطف ذو دلال وذو غنج

ليس للعين إن بدا عنه باللحظ منعرج

وكان الخليفة يعد “مُهج” مالكاً له لا العكس، وتحديداً حين يغضب على الخليفة ويخاصمه.

يروي المؤرخ والفقيه جلال الدين السيوطي ردة فعل الخليفة لما سمع مهج “يقول لبعض الخدم: والله إنه ليروم أن أكلمه (يقصد الخليفة) من أمس فما أفعل”، فقال الواثق:

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ما أنت إلا مليك جار إذا قدرا لولا الهوى لتجارينا على قدر وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى13

ولم يكن الخليفة الواثق وحده، في هذا الإفصاح حول حبه لذكر، فعمه الخليفة الأمين بن هارون الرشيد (ت. 813 م) هو الآخر لمّا عاتبه بعضهم على حبه لغلام اسمه كوثر، رد عليهم باستغراب تدخلهم في هذا الشأن:

ما يريد الناس من صـ ـب بمن يهوى كثيب

كوثر ديني ودنيا ي وسقمي وطبيبي

أعجز الناس الذي يلحـ ـى محبا في حبيب14

بقي الإفصاح الجنسي عن “اللواط” قائماً في الحيّز العام حتى نهاية الدولة العباسية مع احتلال التتار لبغداد وتدميرها عام 1258 م.

على الرغم مما عاشه أهل بغداد من انعدام الاستقرار السياسي بعد سقوطها على يد المغول، حيث نازعتهم قوى أجنبية عديدة من تتار وتركمان وغيرهم، إلا أن الإنتاج الأدبي حول “العلاقات اللوطية” لم ينقطع عنها.

فقد جمع الشاعر صفيّ الدين الحلي (ت. 1339 م) بين تشيّعه وحبه لغلام اسمه حسين في تلك الفترة قائلاً:

إذا ما قلَّبوا في الحشر قلبي رأوا بين الضلوع هوى حسينِ

سميُّك كـان مقتولاً بظلمٍ وأنت ظلمتني وجلبت حيني

كما كان رافضاً للنساء والجواري، مقبلاً على الغلمان والشبان ذوي الأقراط15 كما عهدتهم البيئة الجنسيّة السائدة في الفترة العباسية.

خلياني من فترة النسوانِ وانعشاني بنشطة الغلمانِ

ليس يصبو لربّة الخال قلبي بل برب الأقراط جنّ جناني

فاخليا من فلانة خرق سمعي واملآ مسمعي بذكر فلانِ

إن رآه ذوو البصائر قالوا غير مستحسن وصال الغواني

الاستعمار ووصم الممارسات المحليّة

استرجع الشاه عباس الأول -المشهور بحبّ الذكور- بغداد من العثمانيين عام 1623 لتصير جزءاً من الدولة الصفوية.

تزامن هذا التحوّل مع بداية توافد الرحالة الدبلوماسيين الغربيين على المنطقة والذين امتعضوا من هذه الممارسات الجنسيّة العلنية. اشمئز المستشرقون الذين زاروا مجتمعاتنا من ممارسات جنسية كانت مقبولة فيها بينما رفضتها مجتمعاتهم التي كانت منغلقة وغير متسامحة مع مثل هذه الحرية الجنسية.

كان أحد هؤلاء هو توماس هربرت، المبعوث الغربي في بلاط الشاه عباس في أصفهان عام 1626 م، الذي أبدى استغرابه من أن “الراقصين الخليعين من الذكور والإناث يحظون بالتقدير”، ووصف تقرّب راقصي الشاه عباس الذكور الجنسي من الجمهور بأنها “رذيلة بغيضة للغاية، وملعونة للغاية، وغير طبيعية لدرجة أن قبحها يفتح أبواب الجحيم قبل أوانها”.16 كما وصف أن لهؤلاء “المخنثين” لوحات عديدة في وضعيات غرامية تملأ قصر الشاه الذي كان قد موّل رسمها بنفسه؛ لوحات وصف ديلا فالي (ت. 1652 م) المستشرق والرحالة الإيطالي، وضعيات الرجال فيها بـ”الفاسقة”.17

ناقش المستشرق البريطاني ريتشارد بيرتون في ترجمته لألف ليلة وليلة المكوّنة من عشرة مجلدات (1885م) “الفحش المطلق الذي يخدش، دون شك، مشاعر القرّاء الإنجليز، حتى أقلهم احتشاما، عنصر يتعلق بالأساس بما يسميه جيراننا (يقصد الفرنسيين) الرذيلة المنافية للطبيعة”.18 في المقالة الختامية التي أرفقها بالترجمة صنَّف قصص الغلمان في ألف ليلة وليلة

إلى ثلاث فئات “الفئة الثانية هي مرحلة الشذوذ، وهي المرحلة الأكثر ضراوة والأشد جدية، مثل فجور أبي نواس مع الغلمان الثلاثة”، ونجد جيمس سيلك باكنغهام أحد المستشرقين في أوائل القرن التاسع عشر يلتقي بـ”الفاحشة” لأول مرة في بغداد عام 1827م، مشمئزاً من رؤيته “لشبان متبرجين في بغداد” وعند علمه بذهابهم لممارسة “الفسق الذي لا يصح ذكر اسمه” يصدم من صدق ما اعتقد أنه شائعات، “لكنه لم يكن مجرد شائعات”.19

أدى تزايد الاستعمار والتوسع الغربي في المستعمرات إلى وصم الممارسات الجنسية المثلية التي كانت سائدة بين المجتمعات المحلية. فمثلاً يشير باحث الأنثروبولوجيا شارلز ليندهولم، عام 1982، إلى أن “الممارسات المثلية، في شمال باكستان، كانت أكثر انتشارا في الجيل السابق. إذ أسقط النفوذ الغربي نوعاً من العار على الممارسات المثلية، على الأقل بين الفئات الأكثر تعلماً”.20

وفي المجتمع العراقي، شقّت هذه الوصمة اتجاه الممارسات الجنسية المثلية التي كانت معلنة وسائدة قبل الاستعمار طريقها إلى المجتمع، فمثلاً نشر إحسان وبرجيتا العيسى عام 1969 بحثاً في المجلة الدولية للطب النفسي مفادها “أن التقبل التام للمثلية الجنسية” الذي كان شائعا بين الطلاب العراقيين الذين شملهم الاستطلاع، قد “تغيّر”.21

شهد الإنتاج الثقافي تحوّلاته في هذا الاتجاه أيضاً.

فبينما كانت قصة أبي نواس الجنسية مع الغلمان موجودة في طبعة ألف ليلة وليلة العربية لعام 1836 فقد حذفت من طبعة 1930 نهائياً.22 كما تبنت النخبة العلمانية من المفكرين العراقيين مثل المفكر والباحث في علم الاجتماع، علي الوردي -رمز العلمانية في العراق- هذا الخطاب، بحيث بات أقرب إلى ما كتبه المستشرقون أمثال هربرت وبيرتون وباكنغاهم منها إلى كلام شعراء بغداد المعروفين من الحلي وأبي نواس والخليفتين الواثق والأمين.

كتب الوردي في كتابه “أسطورة الأدب الرفيع، في معرض ردّه على الدكتور محيي الدين حول “الشذوذ الجنسي”23 في الأدب العربي، يقول “له أن يتذكر كيف انتشر الشذوذ عندنا في العهد العثماني فلقد كان الرجل لا يتحرّج أن يجلس في المقهى وغلامه بجانبه يتغنج”.24 يشير الوردي إلى التقبل المجتمعي للممارسات الجنسية بين الذكور كأمر سلبي، مستشرفاً تحولات على الممارسات الجنسية في المجتمع، قائلاً “فالعرب في القرن القادم سوف لا يستطيعون التغزل بالغلمان مع وجود الهيفاوات (الرشيقات) الدعجاوات (المكحلات العيون) حولهم في كل مكان”.25 وهو ما ثبت بطلانه.

تجريم الممارسات المثلية.. إرث استعماري

لم يشهد العراق سنّ قانون يجرم الممارسات الجنسية المثلية حتى استعماره من البريطانيين عام 1917، حيث كان المستعمر البريطاني قد سن قانون عقوبات عام 1860 في الهند لتطبيقه على المستعمرات، نصت المادة 377 منه على عقاب “المجامعة بخلاف الطبيعة”، بالنفي لمدة تصل إلى 20 عاما أو السجن لمدة تصل إلى 10 أعوام. اقتبست عبارة “مجامعة بخلاف الطبيعة” من الكتاب المقدس المسيحي، حيث وردت في رد رسالة القديس بوسل إلى أهل رومية (الإصحاح 1 الآية 27).

وبعد أن استقل العراق عام 1932، أصدرت وزارة العدل العراقية أول قانون عقوبات عراقي عام 1969 دون تجريم الممارسات الجنسية المثلية فيه.

بالعودة إلى القانون الحالي، فإن ارتكاز خطاب مناهضي الممارسات الجنسية المثلية، بادعاء أنها نتيجة تأثير غربي، مغلوط، إذ أن القانون الذي يحظر المثلية -وليس الممارسات المثلية ذاتها- هو الذي ورث من الاستعمار الأجنبي في بلادنا.

كما أننا لا ندعي بالضرورة أن حكام بغداد الذين ذكرناهم أمثلة على الانفتاح الجنسي في العصور السابقة كانوا أبطالا أخياراً، بل نستدل على ما توفّر من نصوص عنهم وعن مجتمعاتهم لإثبات عدم دقة الحجج التي تقوم عليها مساعي التجريم اليوم، حيث تجمع وثائق من حقب تاريخية مختلفة على وجود من مارس هذه الممارسات بشكل علني ومتقبل في التراث العراقي، ولم يكن ذلك منتشراً بين عامة الناس فقط، بل تمكّن بعض ممارسي الجنس المثلي من حكم العراق كله.

بيد أن البرلمان العراقي والفصائل المسلحة المهيمنة عليه يحاربون هذا الإرث الذي كان من لب المجتمع وليس دخيلاً عليه، يحاولون تكرار ما فعله الاستعمار، عبر سنّ قانون يجرّم ما وصمه الاستعمار البريطاني بحجة حماية التراث والهوية العراقية بدل الاعتراف بوجود هذه الممارسات الجنسية في صميمها، سواء أأعجبنا ذلك أم لم يعجبنا كما هو حال الفقيه ابن كثير.

ملاحظة: التزمت باستخدام المصطلحات التي استعملت في كل مرحلة زمنية، واعتمدت عليها في وصف الممارسات “المثلية” جنسياً، لعدم تشويه التطوّر الزمني لظهور واستخدام تلك المصطلحات والهويات والمفاهيم، مع التحفظ على استخدام بعضها اليوم بشكل واصم.

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

وبَّخت الحكومة الأمريكية التي تموّل حرب الإبادة في غزة، البرلمان العراقي الذي أنتجه هيكل المحاصصة الطائفية، على إقراره قانوناً يجرم “المثلية الجنسية”، يوم 27 نيسان 2024، بحجة خوفها على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط.

هذا القانون الذي جاء كتعديل لقانون “مكافحة الدعارة” ليجرّم “المثلية الجنسية” أيضاً، كان قد اقترحه النائب المستقل رائد المالكي الذي صرّح أن دافعه هو أن “ثقافة المجتمع العراقي ترفض المثليّة”. جاء هذا بالتزامن مع تغريدة نشرها رئيس فصيل عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، مطالباً البرلمان بتجريم “الشذوذ الجنسي بأطروحته الجديدة، المثلية”، بحجة أنها “مشروع

أمريكي خبيث يستهدف قيم وتقاليد مجتمعنا”، من أجل حماية “القيم والعادات والأخلاق الأصيلة للمجتمع العراقي”. كما صرّح النائب علي شداد مفسراً السبب وراء تصويته لصالح التعديل بكونه “يصب بمصلحة الحفاظ على النسيج الاجتماعي العراقي”.

ترتكز هذه الآراء التي ما فتئت تتكرر في الخطاب السياسي والديني العراقي في العقدين الأخيرين، على مقولة مفادها أن الممارسة الجنسية بين فردين من الجنس نفسه أمر لم يسبق له الظهور في التاريخ العراقي، بل أن الممارسات الجنسية بين الرجال هي استحداث أمريكي كجزء من مشروع واشنطن السياسي الإمبريالي في بناء “عراق جديد”.

الربط ما بين الممارسات الجنسية بين الرجال في مجتمعاتنا العربية والقيم الأمريكية الإمبريالية هو وليد خطاب لا يرتكز على التاريخ الذي وثقته مراجع تاريخية حديثة وقديمة، منها إسلامية.

يرصد الفقيه والمؤلف والمؤرخ المسلم ابن كثير (ت. 1373) في عمله الموسوعي الضخم “البداية والنهاية”، الذي يؤرخ فيه أحداث الخليقة منذ آدم وحواء وحتى علامات الساعة ونهاية الزمان، شيوع الممارسات الجنسية بين الرجال، واصفاً إياها بـ”فاحشة اللواط التي قد ابتلي بها غالب الملوك والأمراء، والتجار والعوام والكتاب، والفقهاء والقضاة ونحوهم، إلا من عصم الله منهم”.1 تكمن أهمية هذا القول -حتى لمن يختلف مع توجه ابن كثير- في أنه صادر عن شخص كاره لـ”لواط”، بيد أنه في الوقت ذاته يعترف بأن الممارسات الجنسية “اللوطية” قائمة ومنذ زمن بعيد في بلادنا، وتنتشر بين غالبية -لا قلة فقط- من الناس، كما أنه لم يقتصر على العوام، بل شاع بين عِلية القوم من الملوك والأمراء.

كان هذا الرصد لابن كثير في المجتمعات العربية عامة، وفي هذه المقالة سنرصد بعضاً من ملامح العلاقات الجنسية بين الرجال في ما يعرف بالعراق اليوم، وتحديداً بين ملوكه وخلفائه وحكامه، في محاولة لفهم كيفية تحوّل هؤلاء، على مدى العقدين الأخيرين وصولاً إلى اليوم، إلى مجرمين دخيلين على الثقافة العراقية وفق ممارساتهم الجنسية.

أول قصة حب عراقية

كان جلجامش -الشخصية الرئيسية في أطول وأكمل ملحمة عرفتها حضارات الشرق الأدنى- ملكاً ظالماً تقرّر الآلهة أن تخلق له خصماً تدعوه أنكيدو ليشغله عن ظلم الناس، لكن سرعان ما

تتحوّل الخصومة إلى صداقة تخلّلتها علاقة حميمية عاطفية، بحسب التلميحات الواردة في الملحمة.

قبيل لقائه بأنكيدو، يراود جلجامش حلمين مقدسين، في الحلمين “يميل عليه كما يميل على امرأة”،2 وأنكيدو يقع عليه من السماء كشهاب ثاقب ويلتصق به فلا يستطيع جلجامش إبعاده.3 يلتقي بعدها أنكيدو وجلجامش بصراع لا ينتصر فيه أحد، فيترافقان بعد أن تخبر كاهنة الحب أنكيدو أنه سيُحبّ جلجامش كحُبِّه لنفسه،4 ولما يموت أنكيدو، يفعل جلجامش المستحيل في سبيل إعادته إلى الحياة باحثاً عن ثمرة الخلود من أجل ذلك.

أما العشيقات، فلا نجد أثراً لأي واحدة في حياة جلجامش في الملحمة بأسرها. بل حتى أنه يرفض الزواج من عشتار، آلهة الجنس والشبق، عندما تحاول التقرب منه.5

عشتار نفسها التي أقيم لها طقس عُرف باسم “اللواط المقدّس” من بين الطقوس المقدسة الأخرى التي كانت تقام لها، كما وصفتها الملحمة في عرضها للمجتمع الديني في بلاد ما بين النهرين حينها. وتشير بعض فقرات ملحمة جلجامش إلى أن الممارسات الجنسية بين الرجال لم تكن مألوفة وشائعة فحسب، بل ومقدسة في أوروك، جنوب العراق اليوم. لذا تحث كاهنة الحب في الملحمة أنكيدو بالمضي إلى أهل أوروك تغريه بكثرة “المخنثين”6 في المدينة:

امضِ إلى أوروك المنيعة يا أنكيدو

حيث يزهو الناس دوماً بحلل الأعياد

وكل يوم من أيامهم عيد

حيث الغلمان المخنثون يرتعون

والبغايا المقدّسات بأشكال فاتنة يمرحن

طافحات شهوة لاهيات طرباً 7

اللوح الأول، العمود الخامس

(ترجمة فراس السواح)

يُعلّق فراس سواح في هامش ترجمته للنص،8 “كانت أطراف معبد عشتار في ذلك الزمن تعجّ باللوطيين الذين يمارسون البغاء المقدس”، ويُسمّي حكمت بشير الأسود هؤلاء الذين يرتعون في أوروك بـ”العشتاريين”، “الذين كانوا أكثر قرباً وعلاقة مع الإلهة عشتار حيث كان الكهنة الخاصين بعبادة عشتار لوطية وكانوا أيضاً يجيدون الرقص وكذلك ما يعرف بمصطلح cross-dressing”.9

وفي أسطورة إله الطاعون البابلية يرد وصف لمدينة عشتار أوروك بأنها:

مدينة البغايا المقدسة والغلمان والخصيان وفي وسطها معبد عشتار الذي يعجّ بالمخنثين ممن نالت الآلهة من رجولتهم10

ترجمة فراس سواح

ما يعني أن أرض وثقافة وتراث بلاد الرافدين لم تعرف الممارسات الجنسية ما بين الذكور منذ وقت بعيد جداً فحسب، بل قدّستها كذلك.

خليفة بغداد وعشيقه

فتح المسلمون العراق عام 636 م بعد أن كان تحت حكم الفرس المجوس، وبنى الخليفة أبو جعفر المنصور بغداد “دار السلام” عام 768 م لتكون عاصمة لدولته العباسية التي ستحكم ثلث العالم القديم، بعدما ثبّت أسس دولته على أنقاض دولة الأمويين، لتصير بغداد قبلة العالم في الفن والثقافة والتقدّم. كان المجتمع في عصره الذهبي آنذاك، حيث كانت مذاهب الإسلام تُصاغ في بغداد، وسط حركة ترجمة وتدوين نشطة.

وكان أن وصلتنا من حركة التدوين تلك، الكثير من الكتب التي رصدت الحياة الجنسية في المجتمع المسلم في العصر العباسي. دوّنت العديد من هذه الكتب، العلاقات الجنسية بين الرجال لأديب ل محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء”،كتاب ” مثلاًالعوام وغيرهم. فكان من (ت. والعالم المسلم الراغب الأصفهاني1108. م) الذي عاش في بغداد وكتب كتابه هذا فيها “فرّ من حمص إلى بغداد، فرأى كثرة الإجارة (أي كان قد ه خبر غلامومن بين ما جاء في

وكان أن وصلتنا من حركة التدوين تلك، الكثير من الكتب التي رصدت الحياة الجنسية في المجتمع المسلم في العصر العباسي. دوّنت العديد من هذه الكتب، العلاقات الجنسية بين الرجال من العوام وغيرهم. فكان مثلاً كتاب “محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء”، للأديب والعالم المسلم الراغب الأصفهاني (ت. 1108 م) الذي عاش في بغداد وكتب كتابه هذا فيها. ومن بين ما جاء فيه خبر غلام كان قد “فرّ من حمص إلى بغداد، فرأى كثرة الإجارة (أي ممارسة الغلمان الجنس مع الذكور مقابل المال) فاستردّته (أي طلبت عودته) أمه لعمارة طاحونة له بحمص، فكتب إليها: يا أماه، إن استاً (أي مؤخرة) بالعراق خير من طاحونة بحمص11.

كما جمع القاضي المسلم شهاب الدين أحمد التيفاشي في كتابه “نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب”، العديد من قصص وأشعار ونوادر مثل هؤلاء المؤاجرين في فصل كامل يذكر فيه عشق أبي نواس، الشاعر البغدادي العباسي الشهير الذي يقف تمثاله شامخاً في بغداد إلى اليوم، للشاعر والبة بن الحباب في علاقتهما العاطفية الجنسيّة الطويلة.

ويوثق الكتاب تقبل الإفصاح العلني لاشتهاء الرجال للرجال في بغداد حينها، حيث نقل عن الجماز “كنت أنا وأبو نواس ونحن أحداث، قاعدين بباب عثمان إذ مرّ بنا أحمد بن عبد الوهاب الثقفي، وهو غلام حسن الوجه، فقال له أبو نواس: قبلني قبلة، فقال: امدحني ببيت حتى أفعل. فقال:

حبك يا أحمد أضناني

يا قمرا في شخص إنسان

فقبّله قبلة، فقلت: ما شأني أنا؟ فقال: امتدحني. فقلت:

بذلت للأول ما يشتهي

فابذل أبا العباس للثاني فقبلني”.12

كان “اللواط” شائعاً وعلنياً وله حيّز في المجال العام، يدونه الأدباء في كتبهم، ويلقيه الشعراء في قصائدهم، ولم تقتصر ممارسته على عامة الناس من المؤاجرين والشعراء فحسب، بل والخلفاء أيضاً.

فقد اشتهر أمر عشق حفيد هارون الرشيد أمير المؤمنين الواثق (ت. 847 م) لغلام مصري يدعى مهج. سرق الولد شغاف قلب الخليفة بدلعه ورقته، فقال فيه:

مهج يملك المهج بسجى اللحظ والدعج

حسن القد مخطف ذو دلال وذو غنج

ليس للعين إن بدا عنه باللحظ منعرج

وكان الخليفة يعد “مُهج” مالكاً له لا العكس، وتحديداً حين يغضب على الخليفة ويخاصمه.

يروي المؤرخ والفقيه جلال الدين السيوطي ردة فعل الخليفة لما سمع مهج “يقول لبعض الخدم: والله إنه ليروم أن أكلمه (يقصد الخليفة) من أمس فما أفعل”، فقال الواثق:

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ما أنت إلا مليك جار إذا قدرا لولا الهوى لتجارينا على قدر وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى13

ولم يكن الخليفة الواثق وحده، في هذا الإفصاح حول حبه لذكر، فعمه الخليفة الأمين بن هارون الرشيد (ت. 813 م) هو الآخر لمّا عاتبه بعضهم على حبه لغلام اسمه كوثر، رد عليهم باستغراب تدخلهم في هذا الشأن:

ما يريد الناس من صـ ـب بمن يهوى كثيب

كوثر ديني ودنيا ي وسقمي وطبيبي

أعجز الناس الذي يلحـ ـى محبا في حبيب14

بقي الإفصاح الجنسي عن “اللواط” قائماً في الحيّز العام حتى نهاية الدولة العباسية مع احتلال التتار لبغداد وتدميرها عام 1258 م.

على الرغم مما عاشه أهل بغداد من انعدام الاستقرار السياسي بعد سقوطها على يد المغول، حيث نازعتهم قوى أجنبية عديدة من تتار وتركمان وغيرهم، إلا أن الإنتاج الأدبي حول “العلاقات اللوطية” لم ينقطع عنها.

فقد جمع الشاعر صفيّ الدين الحلي (ت. 1339 م) بين تشيّعه وحبه لغلام اسمه حسين في تلك الفترة قائلاً:

إذا ما قلَّبوا في الحشر قلبي رأوا بين الضلوع هوى حسينِ

سميُّك كـان مقتولاً بظلمٍ وأنت ظلمتني وجلبت حيني

كما كان رافضاً للنساء والجواري، مقبلاً على الغلمان والشبان ذوي الأقراط15 كما عهدتهم البيئة الجنسيّة السائدة في الفترة العباسية.

خلياني من فترة النسوانِ وانعشاني بنشطة الغلمانِ

ليس يصبو لربّة الخال قلبي بل برب الأقراط جنّ جناني

فاخليا من فلانة خرق سمعي واملآ مسمعي بذكر فلانِ

إن رآه ذوو البصائر قالوا غير مستحسن وصال الغواني

الاستعمار ووصم الممارسات المحليّة

استرجع الشاه عباس الأول -المشهور بحبّ الذكور- بغداد من العثمانيين عام 1623 لتصير جزءاً من الدولة الصفوية.

تزامن هذا التحوّل مع بداية توافد الرحالة الدبلوماسيين الغربيين على المنطقة والذين امتعضوا من هذه الممارسات الجنسيّة العلنية. اشمئز المستشرقون الذين زاروا مجتمعاتنا من ممارسات جنسية كانت مقبولة فيها بينما رفضتها مجتمعاتهم التي كانت منغلقة وغير متسامحة مع مثل هذه الحرية الجنسية.

كان أحد هؤلاء هو توماس هربرت، المبعوث الغربي في بلاط الشاه عباس في أصفهان عام 1626 م، الذي أبدى استغرابه من أن “الراقصين الخليعين من الذكور والإناث يحظون بالتقدير”، ووصف تقرّب راقصي الشاه عباس الذكور الجنسي من الجمهور بأنها “رذيلة بغيضة للغاية، وملعونة للغاية، وغير طبيعية لدرجة أن قبحها يفتح أبواب الجحيم قبل أوانها”.16 كما وصف أن لهؤلاء “المخنثين” لوحات عديدة في وضعيات غرامية تملأ قصر الشاه الذي كان قد موّل رسمها بنفسه؛ لوحات وصف ديلا فالي (ت. 1652 م) المستشرق والرحالة الإيطالي، وضعيات الرجال فيها بـ”الفاسقة”.17

ناقش المستشرق البريطاني ريتشارد بيرتون في ترجمته لألف ليلة وليلة المكوّنة من عشرة مجلدات (1885م) “الفحش المطلق الذي يخدش، دون شك، مشاعر القرّاء الإنجليز، حتى أقلهم احتشاما، عنصر يتعلق بالأساس بما يسميه جيراننا (يقصد الفرنسيين) الرذيلة المنافية للطبيعة”.18 في المقالة الختامية التي أرفقها بالترجمة صنَّف قصص الغلمان في ألف ليلة وليلة

إلى ثلاث فئات “الفئة الثانية هي مرحلة الشذوذ، وهي المرحلة الأكثر ضراوة والأشد جدية، مثل فجور أبي نواس مع الغلمان الثلاثة”، ونجد جيمس سيلك باكنغهام أحد المستشرقين في أوائل القرن التاسع عشر يلتقي بـ”الفاحشة” لأول مرة في بغداد عام 1827م، مشمئزاً من رؤيته “لشبان متبرجين في بغداد” وعند علمه بذهابهم لممارسة “الفسق الذي لا يصح ذكر اسمه” يصدم من صدق ما اعتقد أنه شائعات، “لكنه لم يكن مجرد شائعات”.19

أدى تزايد الاستعمار والتوسع الغربي في المستعمرات إلى وصم الممارسات الجنسية المثلية التي كانت سائدة بين المجتمعات المحلية. فمثلاً يشير باحث الأنثروبولوجيا شارلز ليندهولم، عام 1982، إلى أن “الممارسات المثلية، في شمال باكستان، كانت أكثر انتشارا في الجيل السابق. إذ أسقط النفوذ الغربي نوعاً من العار على الممارسات المثلية، على الأقل بين الفئات الأكثر تعلماً”.20

وفي المجتمع العراقي، شقّت هذه الوصمة اتجاه الممارسات الجنسية المثلية التي كانت معلنة وسائدة قبل الاستعمار طريقها إلى المجتمع، فمثلاً نشر إحسان وبرجيتا العيسى عام 1969 بحثاً في المجلة الدولية للطب النفسي مفادها “أن التقبل التام للمثلية الجنسية” الذي كان شائعا بين الطلاب العراقيين الذين شملهم الاستطلاع، قد “تغيّر”.21

شهد الإنتاج الثقافي تحوّلاته في هذا الاتجاه أيضاً.

فبينما كانت قصة أبي نواس الجنسية مع الغلمان موجودة في طبعة ألف ليلة وليلة العربية لعام 1836 فقد حذفت من طبعة 1930 نهائياً.22 كما تبنت النخبة العلمانية من المفكرين العراقيين مثل المفكر والباحث في علم الاجتماع، علي الوردي -رمز العلمانية في العراق- هذا الخطاب، بحيث بات أقرب إلى ما كتبه المستشرقون أمثال هربرت وبيرتون وباكنغاهم منها إلى كلام شعراء بغداد المعروفين من الحلي وأبي نواس والخليفتين الواثق والأمين.

كتب الوردي في كتابه “أسطورة الأدب الرفيع، في معرض ردّه على الدكتور محيي الدين حول “الشذوذ الجنسي”23 في الأدب العربي، يقول “له أن يتذكر كيف انتشر الشذوذ عندنا في العهد العثماني فلقد كان الرجل لا يتحرّج أن يجلس في المقهى وغلامه بجانبه يتغنج”.24 يشير الوردي إلى التقبل المجتمعي للممارسات الجنسية بين الذكور كأمر سلبي، مستشرفاً تحولات على الممارسات الجنسية في المجتمع، قائلاً “فالعرب في القرن القادم سوف لا يستطيعون التغزل بالغلمان مع وجود الهيفاوات (الرشيقات) الدعجاوات (المكحلات العيون) حولهم في كل مكان”.25 وهو ما ثبت بطلانه.

تجريم الممارسات المثلية.. إرث استعماري

لم يشهد العراق سنّ قانون يجرم الممارسات الجنسية المثلية حتى استعماره من البريطانيين عام 1917، حيث كان المستعمر البريطاني قد سن قانون عقوبات عام 1860 في الهند لتطبيقه على المستعمرات، نصت المادة 377 منه على عقاب “المجامعة بخلاف الطبيعة”، بالنفي لمدة تصل إلى 20 عاما أو السجن لمدة تصل إلى 10 أعوام. اقتبست عبارة “مجامعة بخلاف الطبيعة” من الكتاب المقدس المسيحي، حيث وردت في رد رسالة القديس بوسل إلى أهل رومية (الإصحاح 1 الآية 27).

وبعد أن استقل العراق عام 1932، أصدرت وزارة العدل العراقية أول قانون عقوبات عراقي عام 1969 دون تجريم الممارسات الجنسية المثلية فيه.

بالعودة إلى القانون الحالي، فإن ارتكاز خطاب مناهضي الممارسات الجنسية المثلية، بادعاء أنها نتيجة تأثير غربي، مغلوط، إذ أن القانون الذي يحظر المثلية -وليس الممارسات المثلية ذاتها- هو الذي ورث من الاستعمار الأجنبي في بلادنا.

كما أننا لا ندعي بالضرورة أن حكام بغداد الذين ذكرناهم أمثلة على الانفتاح الجنسي في العصور السابقة كانوا أبطالا أخياراً، بل نستدل على ما توفّر من نصوص عنهم وعن مجتمعاتهم لإثبات عدم دقة الحجج التي تقوم عليها مساعي التجريم اليوم، حيث تجمع وثائق من حقب تاريخية مختلفة على وجود من مارس هذه الممارسات بشكل علني ومتقبل في التراث العراقي، ولم يكن ذلك منتشراً بين عامة الناس فقط، بل تمكّن بعض ممارسي الجنس المثلي من حكم العراق كله.

بيد أن البرلمان العراقي والفصائل المسلحة المهيمنة عليه يحاربون هذا الإرث الذي كان من لب المجتمع وليس دخيلاً عليه، يحاولون تكرار ما فعله الاستعمار، عبر سنّ قانون يجرّم ما وصمه الاستعمار البريطاني بحجة حماية التراث والهوية العراقية بدل الاعتراف بوجود هذه الممارسات الجنسية في صميمها، سواء أأعجبنا ذلك أم لم يعجبنا كما هو حال الفقيه ابن كثير.

ملاحظة: التزمت باستخدام المصطلحات التي استعملت في كل مرحلة زمنية، واعتمدت عليها في وصف الممارسات “المثلية” جنسياً، لعدم تشويه التطوّر الزمني لظهور واستخدام تلك المصطلحات والهويات والمفاهيم، مع التحفظ على استخدام بعضها اليوم بشكل واصم.