فوزي كريم.. عن الوحيد في وادي الأسئلة المتفجّرة 

علي محمود خضير

17 أيار 2024

كان فوزي كريم ضدّ الوهم الذي يُخرج الفن والأدب من معناه الجماليّ ويحوّله إلى صراع أفكار لا روح فيها ولا تجربة فردية خاصة.. عن الشاعر الوحيد في وادي الأسئلة..

“ما أجملَ ذكرى من أحببتَ، إذا ما ضعتَ بغاباتِ الذكرى، 
من دونِ دليلْ”.  

فوزي كريم، “العزلة وقرينها” – 1996 

حين رأيتُ فوزي كريم لأوّل مرة في لوبي فندق بالنجف، خلال ملتقى عالم الشعر الأول عام 2011 بدا لي أنني أُشاهد نجماً سينمائياً. قامة معتدلة الطول، وجه هادئ، وعينان عميقتان. لحية ساحر أو أمير، وصوتٌ آتٍ من وادي الأساطير.  

كان فوزي كريم أسطورة حيّة بالنسبة لنا، نحن الشعراء الشباب الخارجين من جحيم أمريكا-صدام حسين 2003. لم نره سوى على صفحات الكتب والمجلّات. نجمٌ يُفاصل زملاءه الستينيين، ويُقرّع قصيدة النثر والحداثة الشعرية ورموزها. لكننا أحببناه.  

شاعر لا سياج 

كنتُ أكتب قصيدة النثر وأهيم بالحداثة وأتعبّد في محراب رموزها. لكنني أحببت فوزي كريم ولم أنفر من نقده الحاد لكل ما أَحبّبت وتعبّدت. بل وجدتني أنجذب لمداره، وأُفتن بحواره، وانهمك في النقاش معه لساعات دون أي حساسيّة رغم صراحته القاسية، وبروده اللندنيّ، وواحديّة آرائه، وصمديتها.  

لماذا يا ترى؟ 

لقد كان فوزي كريم صادقاً. لا يقول الأشياء بأكثر من وجه. ولا يبحث عن منفعة شخصية في قول. لم يرد كسبنا، أو تأليبنا، أو ضمَّنا لحاشيته. كان يُدلي ما عنده بارتباك المشفق، وحيرة المرتاب، وعذاب المحبّ. كنا نشعر قربه بشيء من الألفة المحببة، وهذا نادرٌ في المشهد الثقافيّ العراقيّ، وهو مشهد تكاره بامتياز. 

من بين نجوم الجيل الستينيّ والسبعينيّ في الشعر الذين أحاطوا أنفسهم بسياج حديدي عالٍ يفصلهم عنا، بل أكاد أقول إنهم تجاهلونا تماماً كأننا لم نكن، بدا فوزي لنا بلا سياج فاصل. خط نحيف على التراب صُنع برهافة غصن الأثل والدفلى كان بيننا وبينه، عبرناه من دون أن نشعر. 

ظل السلوك الشخصيّ، الاجتماعيّ، في ميدان الثقافة العراقيّة، ودلالاته، بعيداً عن الدراسة المستحقة، على الرغم من أهميّته، وتأثيره الجوهري، على المواقف والأحداث. بل أن الأحكام والمواقف النقديّة في الأعم الأغلب من لحظات الحروب، ولحظات السلام، الثقافية العراقيّة، تعود الى جذر المواقف الشخصية في النهاية. وقد كان فوزي كريم من أقل الشعراء العراقيين تأثّراً بهذا المجال الجاذب الخطير. لقد كانت “حروب” الرجل آتية من المواقف التي تتطلبها خياراته الفنية والأدبية، لا ردود أفعاله الشخصية على الآخرين؛ ولذا فأن نقد فوزي يُحلّل الظاهرة والموقف والفكرة، لا الشخوص المتبنّين لها.  

ولي في هذا الشأن حكاية معه، ففي أيلول 2007 أقمنا فعالية في نادي الشعر بالبصرة بمناسبة مرور 150 عاماً على كتاب “أزهار الشر” لبودلير، نسقها الشاعر صفاء خلف وعلي محمود خضير. كانت ورقتي شهادة جمالية مختصرة عن بودلير، فيما ذهبت بعض الأوراق لمناقشة الكتاب، وقد أشار بعض المشاركين، لاعتبار أن أزهار الشر كان علامة من علامات قصيدة النثر المبكرة. كتب فوزي كريم مقالة انتقد فيها حماسة الأشكال الشعرية التي تأخذ البعض لحدود مجانبة الحقائق، فكتاب “أزهار الشر” كتاب قصائد موزونة، ولا أثر لقصيدة النثر فيه. وهو لا يصلح أن يكون مثالاً للتبشير بالنثر. 

ناقش كريم يومها، الفكرة، مجردة، بلا تجريح شخصيّ، واستعمل لغة دقيقة، علمية، مهذبةً، لا تحامل مسبق فيها ولا انتقاص أو اتهام. وقد كان درساً مؤثراً. 

وفي العودة للقاء النجف. 

لم أعرف كيف ائتلفتُ بتلك السرعة معه، أو ربما يكون فيض كرمه الإنساني واحتواؤه هو من أوحى لي بذلك. أحسست أنني أعرفه وأن صداقة سابقة جمعتنا، لا أنسى بهجته وهو يتنقل بين وجوهنا، تعلو محياه أمارات طفل فطن: دهشة، وتعجب وإعجاب واستنكار وتساؤل وسخرية واستغراق. 

بدا فوزي كريم هائماً، وحيداً في وادي الأسئلة التي لا تولّد سوى المزيد من الأسئلة، كان ضالاً مثلنا نحن الذين خرجنا من تنور القصف والشعارات الى واجهة الأحداث الثقافية بلا فهم جاد لما يجري. وحين جئناه لكي نستزيد ونفهم وجدناه يسعى قبلنا ليقطف ثمار الأسئلة، مقلباً الأزمنة بعصا ساحر، تلتمع عيناه مع كل عبارة جيدة تلفت انتباهه فيقاربها تجويداً واستقصاءً مجرداً من الأهواء والكليشهات المكرورة.  

احتدم النقاش: كيف تأتي القصيدة؟ أي لغة نبتكر؟ الشعر الأرضي أم السوبرماني؟ ما معنى الشعرية؟ جدلية المصطلحات. روح الشعر الشرقية. الخبرة الروحية. الحداثة؟ جيل ما بعد التغيير.. 

بادرته لماذا لا نسجّل حوارنا؟ 

-ممتاز. لكن ليس الآن. بعد العشاء. علينا أن ننتهي منه، قبل موعد دوائي الليلي. 

وحتى يصير الحوار أكثر فائدة، دعوت كل شعراء ما عرف وقتها بجيل التغيير ممن كانوا مدعوين في الملتقى. استمر الحوار لثلاث ساعات. تمتّع فيه فوزي بحضور الفكرة ووضوحها، وحسن الإصغاء. وقد لمستُ فيه حرصاً أبوياً بأن نستفيد من أخطاء الأجيال السابقة. وبلا أبوة أو أستذة حاول كريم الإيحاء بأهمية أن نبني تجربتنا على معمار الكتب والمنجز، لا منابر المهرجانات ولمعان الشهرة وهاوية الميديا المسكرة.  

“لقد كان لنا معلمون نقتدي بهم. أشفق على جيلكم، ومن يأتون بعدكم، لأنكم بلا معلم يأخذ بالأيدي”. لقد تخيّر كل منا معلمه، إن ابتلاءً كالكتابة لا مناص فيه من التقفي والاتساق؛ سواء مع الهوى، أو سواه. 

المدة الطويلة التي قضاها كريم في الخارج صنعت تشويشاً هائلاً عن صورة ما يحدث في الداخل العراقي على صعيد الأدب. لم يكن ليصدّق، مهما حاولنا، أن ثمة من أمكنه النجاة من رحى الإيديولوجيا وغسل الأدمغة ومديريات التوجيه السياسي. لم يصدّق وجود شعراء لا تستهويهم السياسة الحزبية، ولا يقدمون أشعارهم قرباناً لعقائد مغلقة واستعدائية. وأن ثمة من يُربّي طريقته الفردية، تائهاً، بلا راية. مشدوداً إلى حواره الداخلي وعذاباته وحساسيته.  

لقد باءت محاولاتنا كلها بالفشل  

واحدة من خلاصات فوزي التي حارب لأجلها هي اليقظة من السقوط في الوهم. وهم امتلاك الحقيقة الواحدة في الأدب والشعر. وهم الاسترخاء لإملاءات سلطة الإعلام الثقافي. وهم المهرجان، وما يصنعه من توحّد مع الجمهور. 

“سمعت أنكم تدعون بجيل التغيير. ما معنى جيل التغيير؟ هل استيقظتم صباحاً لتجدوا أنفسكم جيل التغيير؟ فكروا في ذلك”.  وقتها شعرنا بأن الأستاذ يستكثر علينا تسمية الجيل، نحن جيل أيضاً كما كنتم جيلاً وقت الستينيات. همس بعضنا لبعض حنقاً. 

لكنني الآن أدرك أن المراد أبعد. ليس مهماً التسميات. المهم إدراك معناها وإحرازه حقاً. لا الاستسلام لنشوة الوهم بها من دون ما يعزز استحقاقها من منجز ورؤى وإضافة. 

 الآن، حين أُراجع مسيرة العشرين سنة الماضية أجد الوهم الثقافيّ هو السمة الوحيدة في المشهد الثقافيّ العربيّ والعراقيّ -مع استثناءات نادرة- فكل قوم بما لديهم فرحون. مشهد، في الحقيقة، لا يختلف البتة، عن الصراع السياسي: حزب العمود. حزب النثر. حزب الرواية. حزب التفعيلة… والكل فرقة ناجية مبشرة. والباقي في النار! 

كان فوزي كريم ضد الوهم الذي يُخرج الفن والأدب من معناه الجمالي ويحوّله إلى صراع أفكار لا روح فيها ولا تجربة فردية خاصة.  

فوزي كان هائماً، وكل هائم ناجٍ من حشود الديكة المتصارعة. 

التقيت فوزي كريم في ثلاث مناسبات: النجف وبغداد والبصرة، في مهرجانات شعرية دُعي إليها. كانت رفقة تلك الأيام أغزر ما انتفعت به من مهرجانات الشعر في العراق. جاءت جلساتنا على هامش الندوات لمناقشة طويلة ومستفيضة عن كتبه وأفكاره، لمست توقه لمعرفة المحاولات الجديدة ما بعد الاحتلال. 

سأورد هنا حادثة وقعت في آخر زيارة، لما فيها من دلالة. 

في مهرجان المربد، كانت الجلسة “الشعرية” في جامعة البصرة شديدة الصخب والفوضى، القاعة مكتظة وبلا تكييف، لا هواء، ثرثرة ودخان سجائر، تدافع مصورين، شعراء يطاردون عريف الحفل وآخرون يقبّلون رئيس المهرجان في رجاء. الكلّ يتلهف لفرصة على منصة مهرجان بلا استماع. نادى العريف -وهو شاعر بغداديّ “مشهور”- باسم فوزي كريم، كنا نجلس معاً في منتصف القاعة، لم يستجب الشاعر للمنادي. لحظات الصمت التي أعقبت دعوة العريف كانت ثقيلة ومفاجئة، الحقائق ثقيلة ومرّة عادة. حاول العريف النيل من فوزي بكلمات معيبة ومخجلة نقلتها الفضائيات، ظل هو صامتاً مبتسماً، أكملنا جلسة الاستماع، على عكس الشعراء المشاركين، حيث كان أغلبهم يغادر القاعة بمجرد انتهاء قصيدته. قال ونحن نغادر: “سيظنون أنني متعالٍ، مخطئون، يفرحني أن أقرأ لخمسة أشخاص فقط ينصتون على طاولة”. 

صرّح رئيس المهرجان بعد الحادثة: لن يرى فوزي كريم “المربد” بعد اليوم! لن يرى البصرة! وقد كان ذلك. 

كنتُ بين عراقين، عراق مضى تمثّل في ابتسامة الشاعر وعراق جاثم مثلته كلمات العريف وتهديد رئيسه. 

أزعم أننا حتى الآن لم نكتشف فوزي كريم بعد، بالأخص نثره الغني، الشامل. إن يومياته، مثلاً، درس مفتوح لكل طالب نفع ومتعة. وهي في الآن ذاته درسٌ في جمال الأسلوب وفرادته. مثلما هي وثيقة نادرة لمرحلة بالغة التعقيد سياسياً واجتماعياً وثقافياً. لا أعتقد أن هناك كاتباً عراقياً قارب، ببراعة لا مراء فيها، وشمول يحسد عليه، الموضوعات التي كتب فيها فوزي كريم في الشعر، والنقد، والترجمة، والتشكيل، والموسيقى، واليوميات، ومتابعة العروض المسرحية. وإن كتاباً مثل “ثياب الإمبراطور”، وحده، برهان، على براعة التشخيص، وعبقرية المعالجة، وقوة الحجة، بغض النظر إن اتفقنا معه أو لا. 

بعد لقاء عالم الشعر في النجف التقينا في البصرة.  

الفاصل بين اللقاءين بضعة أسابيع. 

-“مشتاقلك أستاذ” 

-“هاي شنو. ذاك اليوم تشاوفنا. شوكت لحكت تشتاق؟!”. 

لقد مرت اليوم خمس سنوات بالتمام.  

فهل تكفي لتلويحة اشتياق بلا ملامة ذلك “الشاحب النحيل”.1 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“ما أجملَ ذكرى من أحببتَ، إذا ما ضعتَ بغاباتِ الذكرى، 
من دونِ دليلْ”.  

فوزي كريم، “العزلة وقرينها” – 1996 

حين رأيتُ فوزي كريم لأوّل مرة في لوبي فندق بالنجف، خلال ملتقى عالم الشعر الأول عام 2011 بدا لي أنني أُشاهد نجماً سينمائياً. قامة معتدلة الطول، وجه هادئ، وعينان عميقتان. لحية ساحر أو أمير، وصوتٌ آتٍ من وادي الأساطير.  

كان فوزي كريم أسطورة حيّة بالنسبة لنا، نحن الشعراء الشباب الخارجين من جحيم أمريكا-صدام حسين 2003. لم نره سوى على صفحات الكتب والمجلّات. نجمٌ يُفاصل زملاءه الستينيين، ويُقرّع قصيدة النثر والحداثة الشعرية ورموزها. لكننا أحببناه.  

شاعر لا سياج 

كنتُ أكتب قصيدة النثر وأهيم بالحداثة وأتعبّد في محراب رموزها. لكنني أحببت فوزي كريم ولم أنفر من نقده الحاد لكل ما أَحبّبت وتعبّدت. بل وجدتني أنجذب لمداره، وأُفتن بحواره، وانهمك في النقاش معه لساعات دون أي حساسيّة رغم صراحته القاسية، وبروده اللندنيّ، وواحديّة آرائه، وصمديتها.  

لماذا يا ترى؟ 

لقد كان فوزي كريم صادقاً. لا يقول الأشياء بأكثر من وجه. ولا يبحث عن منفعة شخصية في قول. لم يرد كسبنا، أو تأليبنا، أو ضمَّنا لحاشيته. كان يُدلي ما عنده بارتباك المشفق، وحيرة المرتاب، وعذاب المحبّ. كنا نشعر قربه بشيء من الألفة المحببة، وهذا نادرٌ في المشهد الثقافيّ العراقيّ، وهو مشهد تكاره بامتياز. 

من بين نجوم الجيل الستينيّ والسبعينيّ في الشعر الذين أحاطوا أنفسهم بسياج حديدي عالٍ يفصلهم عنا، بل أكاد أقول إنهم تجاهلونا تماماً كأننا لم نكن، بدا فوزي لنا بلا سياج فاصل. خط نحيف على التراب صُنع برهافة غصن الأثل والدفلى كان بيننا وبينه، عبرناه من دون أن نشعر. 

ظل السلوك الشخصيّ، الاجتماعيّ، في ميدان الثقافة العراقيّة، ودلالاته، بعيداً عن الدراسة المستحقة، على الرغم من أهميّته، وتأثيره الجوهري، على المواقف والأحداث. بل أن الأحكام والمواقف النقديّة في الأعم الأغلب من لحظات الحروب، ولحظات السلام، الثقافية العراقيّة، تعود الى جذر المواقف الشخصية في النهاية. وقد كان فوزي كريم من أقل الشعراء العراقيين تأثّراً بهذا المجال الجاذب الخطير. لقد كانت “حروب” الرجل آتية من المواقف التي تتطلبها خياراته الفنية والأدبية، لا ردود أفعاله الشخصية على الآخرين؛ ولذا فأن نقد فوزي يُحلّل الظاهرة والموقف والفكرة، لا الشخوص المتبنّين لها.  

ولي في هذا الشأن حكاية معه، ففي أيلول 2007 أقمنا فعالية في نادي الشعر بالبصرة بمناسبة مرور 150 عاماً على كتاب “أزهار الشر” لبودلير، نسقها الشاعر صفاء خلف وعلي محمود خضير. كانت ورقتي شهادة جمالية مختصرة عن بودلير، فيما ذهبت بعض الأوراق لمناقشة الكتاب، وقد أشار بعض المشاركين، لاعتبار أن أزهار الشر كان علامة من علامات قصيدة النثر المبكرة. كتب فوزي كريم مقالة انتقد فيها حماسة الأشكال الشعرية التي تأخذ البعض لحدود مجانبة الحقائق، فكتاب “أزهار الشر” كتاب قصائد موزونة، ولا أثر لقصيدة النثر فيه. وهو لا يصلح أن يكون مثالاً للتبشير بالنثر. 

ناقش كريم يومها، الفكرة، مجردة، بلا تجريح شخصيّ، واستعمل لغة دقيقة، علمية، مهذبةً، لا تحامل مسبق فيها ولا انتقاص أو اتهام. وقد كان درساً مؤثراً. 

وفي العودة للقاء النجف. 

لم أعرف كيف ائتلفتُ بتلك السرعة معه، أو ربما يكون فيض كرمه الإنساني واحتواؤه هو من أوحى لي بذلك. أحسست أنني أعرفه وأن صداقة سابقة جمعتنا، لا أنسى بهجته وهو يتنقل بين وجوهنا، تعلو محياه أمارات طفل فطن: دهشة، وتعجب وإعجاب واستنكار وتساؤل وسخرية واستغراق. 

بدا فوزي كريم هائماً، وحيداً في وادي الأسئلة التي لا تولّد سوى المزيد من الأسئلة، كان ضالاً مثلنا نحن الذين خرجنا من تنور القصف والشعارات الى واجهة الأحداث الثقافية بلا فهم جاد لما يجري. وحين جئناه لكي نستزيد ونفهم وجدناه يسعى قبلنا ليقطف ثمار الأسئلة، مقلباً الأزمنة بعصا ساحر، تلتمع عيناه مع كل عبارة جيدة تلفت انتباهه فيقاربها تجويداً واستقصاءً مجرداً من الأهواء والكليشهات المكرورة.  

احتدم النقاش: كيف تأتي القصيدة؟ أي لغة نبتكر؟ الشعر الأرضي أم السوبرماني؟ ما معنى الشعرية؟ جدلية المصطلحات. روح الشعر الشرقية. الخبرة الروحية. الحداثة؟ جيل ما بعد التغيير.. 

بادرته لماذا لا نسجّل حوارنا؟ 

-ممتاز. لكن ليس الآن. بعد العشاء. علينا أن ننتهي منه، قبل موعد دوائي الليلي. 

وحتى يصير الحوار أكثر فائدة، دعوت كل شعراء ما عرف وقتها بجيل التغيير ممن كانوا مدعوين في الملتقى. استمر الحوار لثلاث ساعات. تمتّع فيه فوزي بحضور الفكرة ووضوحها، وحسن الإصغاء. وقد لمستُ فيه حرصاً أبوياً بأن نستفيد من أخطاء الأجيال السابقة. وبلا أبوة أو أستذة حاول كريم الإيحاء بأهمية أن نبني تجربتنا على معمار الكتب والمنجز، لا منابر المهرجانات ولمعان الشهرة وهاوية الميديا المسكرة.  

“لقد كان لنا معلمون نقتدي بهم. أشفق على جيلكم، ومن يأتون بعدكم، لأنكم بلا معلم يأخذ بالأيدي”. لقد تخيّر كل منا معلمه، إن ابتلاءً كالكتابة لا مناص فيه من التقفي والاتساق؛ سواء مع الهوى، أو سواه. 

المدة الطويلة التي قضاها كريم في الخارج صنعت تشويشاً هائلاً عن صورة ما يحدث في الداخل العراقي على صعيد الأدب. لم يكن ليصدّق، مهما حاولنا، أن ثمة من أمكنه النجاة من رحى الإيديولوجيا وغسل الأدمغة ومديريات التوجيه السياسي. لم يصدّق وجود شعراء لا تستهويهم السياسة الحزبية، ولا يقدمون أشعارهم قرباناً لعقائد مغلقة واستعدائية. وأن ثمة من يُربّي طريقته الفردية، تائهاً، بلا راية. مشدوداً إلى حواره الداخلي وعذاباته وحساسيته.  

لقد باءت محاولاتنا كلها بالفشل  

واحدة من خلاصات فوزي التي حارب لأجلها هي اليقظة من السقوط في الوهم. وهم امتلاك الحقيقة الواحدة في الأدب والشعر. وهم الاسترخاء لإملاءات سلطة الإعلام الثقافي. وهم المهرجان، وما يصنعه من توحّد مع الجمهور. 

“سمعت أنكم تدعون بجيل التغيير. ما معنى جيل التغيير؟ هل استيقظتم صباحاً لتجدوا أنفسكم جيل التغيير؟ فكروا في ذلك”.  وقتها شعرنا بأن الأستاذ يستكثر علينا تسمية الجيل، نحن جيل أيضاً كما كنتم جيلاً وقت الستينيات. همس بعضنا لبعض حنقاً. 

لكنني الآن أدرك أن المراد أبعد. ليس مهماً التسميات. المهم إدراك معناها وإحرازه حقاً. لا الاستسلام لنشوة الوهم بها من دون ما يعزز استحقاقها من منجز ورؤى وإضافة. 

 الآن، حين أُراجع مسيرة العشرين سنة الماضية أجد الوهم الثقافيّ هو السمة الوحيدة في المشهد الثقافيّ العربيّ والعراقيّ -مع استثناءات نادرة- فكل قوم بما لديهم فرحون. مشهد، في الحقيقة، لا يختلف البتة، عن الصراع السياسي: حزب العمود. حزب النثر. حزب الرواية. حزب التفعيلة… والكل فرقة ناجية مبشرة. والباقي في النار! 

كان فوزي كريم ضد الوهم الذي يُخرج الفن والأدب من معناه الجمالي ويحوّله إلى صراع أفكار لا روح فيها ولا تجربة فردية خاصة.  

فوزي كان هائماً، وكل هائم ناجٍ من حشود الديكة المتصارعة. 

التقيت فوزي كريم في ثلاث مناسبات: النجف وبغداد والبصرة، في مهرجانات شعرية دُعي إليها. كانت رفقة تلك الأيام أغزر ما انتفعت به من مهرجانات الشعر في العراق. جاءت جلساتنا على هامش الندوات لمناقشة طويلة ومستفيضة عن كتبه وأفكاره، لمست توقه لمعرفة المحاولات الجديدة ما بعد الاحتلال. 

سأورد هنا حادثة وقعت في آخر زيارة، لما فيها من دلالة. 

في مهرجان المربد، كانت الجلسة “الشعرية” في جامعة البصرة شديدة الصخب والفوضى، القاعة مكتظة وبلا تكييف، لا هواء، ثرثرة ودخان سجائر، تدافع مصورين، شعراء يطاردون عريف الحفل وآخرون يقبّلون رئيس المهرجان في رجاء. الكلّ يتلهف لفرصة على منصة مهرجان بلا استماع. نادى العريف -وهو شاعر بغداديّ “مشهور”- باسم فوزي كريم، كنا نجلس معاً في منتصف القاعة، لم يستجب الشاعر للمنادي. لحظات الصمت التي أعقبت دعوة العريف كانت ثقيلة ومفاجئة، الحقائق ثقيلة ومرّة عادة. حاول العريف النيل من فوزي بكلمات معيبة ومخجلة نقلتها الفضائيات، ظل هو صامتاً مبتسماً، أكملنا جلسة الاستماع، على عكس الشعراء المشاركين، حيث كان أغلبهم يغادر القاعة بمجرد انتهاء قصيدته. قال ونحن نغادر: “سيظنون أنني متعالٍ، مخطئون، يفرحني أن أقرأ لخمسة أشخاص فقط ينصتون على طاولة”. 

صرّح رئيس المهرجان بعد الحادثة: لن يرى فوزي كريم “المربد” بعد اليوم! لن يرى البصرة! وقد كان ذلك. 

كنتُ بين عراقين، عراق مضى تمثّل في ابتسامة الشاعر وعراق جاثم مثلته كلمات العريف وتهديد رئيسه. 

أزعم أننا حتى الآن لم نكتشف فوزي كريم بعد، بالأخص نثره الغني، الشامل. إن يومياته، مثلاً، درس مفتوح لكل طالب نفع ومتعة. وهي في الآن ذاته درسٌ في جمال الأسلوب وفرادته. مثلما هي وثيقة نادرة لمرحلة بالغة التعقيد سياسياً واجتماعياً وثقافياً. لا أعتقد أن هناك كاتباً عراقياً قارب، ببراعة لا مراء فيها، وشمول يحسد عليه، الموضوعات التي كتب فيها فوزي كريم في الشعر، والنقد، والترجمة، والتشكيل، والموسيقى، واليوميات، ومتابعة العروض المسرحية. وإن كتاباً مثل “ثياب الإمبراطور”، وحده، برهان، على براعة التشخيص، وعبقرية المعالجة، وقوة الحجة، بغض النظر إن اتفقنا معه أو لا. 

بعد لقاء عالم الشعر في النجف التقينا في البصرة.  

الفاصل بين اللقاءين بضعة أسابيع. 

-“مشتاقلك أستاذ” 

-“هاي شنو. ذاك اليوم تشاوفنا. شوكت لحكت تشتاق؟!”. 

لقد مرت اليوم خمس سنوات بالتمام.  

فهل تكفي لتلويحة اشتياق بلا ملامة ذلك “الشاحب النحيل”.1