ذكرى فالح عبد الجبار.. الانشغال بالدولة "بالعة" و"مبتلعة"
26 شباط 2024
حظي فالح عبد الجبار باهتمامٍ في حياته وبعد موته لم يتفوّق عليه بذلك عالم اجتماع آخر سوى علي الوردي.. عن عالم اجتماع انشغل بالدولة "بالعة" و"مبتلعة"..
كان فالح عبد الجبار في قمّة نشاطه المعرفي عندما حلّ عليه الموتُ في 26 شباط عام 2018. توقّف قلبُ عالم الاجتماع المولود في بغداد عام 1946، ليغلق باب مشغله البحثي الذي اتسم بالمقاربة المركبة، فهو عدو الأحادية وكل أشكال التبسيطات.
كانت كتاباته صارمةً علمياً، إلا أنها دائماً ما نهلت من الأدب واستفادت منه، إذ استشهد بالكتابات الأدبية وعناوين الروايات وفحواها، مثل “مستعمرة العقاب” لكافكا في وصف أفعال “داعش”، و”مذلون مهانون” لدوستويفسكي لوصف التهميش في ظل الحكومات التسلطية والشمولية التي مرّت على العراق، وكذلك “قصة موت معلن” لماركيز، التي يُمكن أن تكون، وبشكل درامي، قصة المجتمع العراقي خلال قرنٍ.
عبد الجبار كان شيوعياً، لكنه غادر الحزب، دون التخلي عن مكاسب المدرسة الماركسية في علم الاجتماع، وهي التي شغلته لتدفعه إلى ترجمة كتاب “رأس المال ” لكارل ماركس، أحد أهم الكتب الضخمة في تاريخ الفكر العالمي.
ويُمكن القول إن عبد الجبار حظي باهتمامٍ في حياته وبعد موته لم يتفوق عليه بذلك عالم اجتماع آخر سوى علي الوردي، صاحب الريادة ومؤسِّس قسم علم الاجتماع في الحقل الأكاديمي العراقي.
خلال حياته التي تنقّل فيها بين المنافي والجامعات والأبحاث الميدانية والنظرية، درس عبد الجبار قصة المجتمع العراقي، وحلّل عناصرها وفواعلها، وغاص في أشد تفاصيلها محليّةً، واستفاد من أكثر المناهج تعقيداً..
فمن أين بدأت قصّةُ فالح عبد الجبار الاجتماعية؟ وإلى أين انتهت؟
صعود “اللوياثان“ العراقي
استعار فالح عبد الجبار مصطلح “اللوياثان” ليشير به إلى الدولة التي تبتلع المجتمع ولا تبنيه، وقد استعير المصطلحُ من الأدبيات المسيحية القديمة، وهو يعني الوحشَ البحري الذي يبتلع كلَّ شيء أمامه. وقد شاع في الأدبيات السياسية بدءاً من المنظر السياسي الشهير توماس هوبز، من خلال كتابه “اللوياثان”.
ينطلق عبد الجبار من ركيزةٍ نظريةٍ تتمحور عليها جميعُ طروحاته في علم الاجتماع، وهي أن هناك عمليتين: تشكُّلُ الدولة، وبناءُ الأمة. الأولى جهاز حكم قهري والثانية تمثيل طوعي للمجتمع، وما بين التشكّل والبناء علاقة وشيجة، لكنهما مستقلان نظرياً عند محاولة الفهم الاجتماعية.
شخّص صاحب “العمامة والأفندي” أزمةً مستمرةً في الشرق الأوسط، تتلخّص بتضخّم الدولة على حساب المجتمع، واختلال أحد الأمرين يعني تحقق ما يسمى بـ”الدولة الفاشلة”.
وفي العراق، هناك اختلال في تمثيل المجتمع، سواء على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، أو الثقافي، في جميع مراحل الدولة العراقية، منذ العهد الملكي حتى حكم البعث الأخير، لكن بنسبٍ مختلفةٍ لكل مرحلةٍ.
باعتقاد عبد الجبار لم تستجبِ الحكوماتُ الملكيةُ للحراك الاجتماعي الذي أطلقته، حيث نشأت طبقاتٌ جديدةٌ -وسطى ودنيا- بفعل عمليات التكامل/الاندماج الوطني، لكنها أبعِدت عن التمثيل السياسي والتوزيع الاقتصادي، وهذا مفهوم من ناحية كون الملكية ذات نزعةٍ إقطاعيةٍ أرستقراطيةٍ، حيث الاحتكار للسلطة والمنافع بيد الطبقة العليا المالكة! وهذا أدى إلى أن تكون تلك الطبقات المبعدة رأسَ حربةٍ في المعارضة، خاصّة وأنها تتكون من عمال، وطلبة، وفلاحين، وحرفيين.. لكن العنصر الحاسم كان لطبقة الضباط المحترفين، من غير الشريفيين المناصرين للملكية.
بعد صعود الحكومات العسكرية، القاسمية والعارفيتين، ألغيتِ المؤسساتُ الدستوريةُ، فما تبقى من إيجابيات سابقة تنتمي للعهد الملكي، ولو كانت قليلةً، قد جرى إلغاؤها بالكامل، وصار التركيزُ منصبّاً على مصالح الطبقة الوسطى -لكن ضمن حدود مناطقية-، لكونها موئل الضباط الأحرار الذين قادوا الدولة آنذاك. لكن هذا لم يمنع من التشتت داخل الطبقة الوسطى، ما دامتِ المؤسساتُ ملغيةً، حيث المؤسسات ضابط إيقاعي للتعارضات والمنافسات وتعدد المصالح. ولهذا السبب تكررت محاولات الانقلاب، وصولاً لحكومة البعث الأخيرة التي وعت هذه المشكلةَ، فحاولت ردمَ مشكلة التمرّد والانقلابات داخل طبقة الحكم، فضخمت الدولة بشكلٍ مهوِّلٍ على حساب تفتيت المجتمع.
المجتمع.. من إلى
الخروج من المجتمع التقليدي نحو المجتمع الحضري كان مكلفاً جداً، وأودى بحياة الدولة العراقية، إذ أن المجتمع التقليدي الذي سبق الدولة الملكية مكون من عشائرَ وطبقاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ كالحرفيين والسادة والمُلّاك، وهذه تكتلات ما قبل الدولة الوطنية.
فبعد أن جاء مشروع الدولة الوطنية وحاول تطبيق عملية الاندماج الاجتماعي، نجح في تخليص المجتمع من سمته التقليدية، لكنه لم يعزِّز المجتمعَ بالسمة المدنية، وإنما جرّد المجتمعَ من تكتلاته التقليدية ليكون بلا تكتلاتٍ، وهذا هو المجتمع الجماهيري المذرَّر، بمعنى مجموعة ذراتٍ متساويةٍ مع بعضها أمام السلطة.
وقد نشأ في العراق مجتمع متفتت، وذلك، وفق عبد الجبار، نتيجة لتقويض أسس النفوذ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لطبقات أصحاب النفوذ. فقد عمل قانونُ الإصلاح الزراعي على تقليص ملكية الأراضي من ملّاكها، وكذلك عملية تفكيك القبائل، حيث اقتصاد السوق حوّلَ شيوخَ القبائل وأتباعَهم إلى مقاولين جشعين، مضافاً لإلغاء التمثيل القبلي نتيجة إلغاء البرلمان.
كانت الغاية من تقويض النفوذ هي التحول من المحاصصة الزراعية نحو العلاقات التجارية القائمة على عامل “المزارع الحر”. لكن العملية لم تنجح مطلقاً، الأمر الذي جرّد المجتمعَ من إحدى الكوابح لطغيان السلطة ومركزتها المفرطة، فلطالما كان ملّاكُ الأراضي يخلقون التوازن نتيجة استقلاليتهم، بصرف النظر عن سلبياتهم، إذ أن الحديث ليس عن امتداح دور هذا العامل من عدمه، بل لتحديد دوره السابق، والفراغ الناشئ عن إلغائه بلا بدائل كان من الضروري طرحُها حتى لا تؤول الأمورُ إلى ما آلت إليه.
عملتِ الدولةُ أيضاً على تقليص طبقات المقاولين والرأسماليين وأصحاب العقارات، وهذا جعل الطرف الأقوى في الطبقات الوسطى يضعف ويخوى، مقابل الطرف الأضعف، أي طرف أصحاب الرواتب ذي الصفة الزبائنية.
وترافق كلُّ ذلك مع نمو المجتمع الحضري في المدن، بعد حدوث هجرة واسعة من الريف بداية من أواخر العهد الملكي واستمرت الهجرة بالتصاعد مع الحكومات التالية. لكن هذا التضخّم كان مأساوياً، فالمهاجرون تركوا مجتمعهم البائس دون رجعةٍ، لكن المدن لم تكن مهيأةً لاستقبالهم، وهذا جعل منهم مهمشين يسكنون في أطراف المدن، ولطالما استُخدموا في خدمة التيارات الشعبوية.
تضخّم المجتمعِ الحضري أدى إلى نمو الطبقات ذات التعليم الحديث، والتي تعتمد على بيع معرفتها في السوق، وبالتالي تكون تحت يد الدولة المركزية لا محالة؛ على الرغم من أن نمو هذه الطبقة ليس مضراً بحد ذاته، بل إن نموه في سياق استقلالية الدولة، يسخّره لصالح تفتيت المجتمع.
المجتمع الجماهيري
بدلاً عن المجتمع الحضري، تخّلق في العراق، على العكس من ذلك، مجتمع جماهيري، حاضن للاستبدادية والشمولية، لكونه لا يملك دفاعاتٍ ذاتيةً تجعل بينه وبين السلطة وسيطاً. وبانتفاء المؤسسات الوسيطة، كالنقابات والاتحادات والجمعيات والأحزاب والبرلمانات، والتي تسمى بمؤسسات المجتمع المدني، أصبح المجتمعُ مجرّداً، لا يملك غطاء يحمي به نفسه من جور السلطة، ناهيك عن المشاركة في إدارتها والتأثير عليها.
الحال هذه، حاول فالح عبد الجبار في “كتاب الدولة، اللوياثان الجديد”، الصادر عام 2017، رسمَ خطوط الصدع بين تشكُّل الدولة نحو التضخّم، وبناء الأمة المختل نحو التفتت.
حدد صاحب “المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب”، آليات استقلالية الدولة بأربع شروط، أولاً، نمو البيروقراطية (الجهاز الإداري)، فمن جهةٍ توسّعتِ الوظائفُ بشكلٍ كبيرٍ، ومن جهة أخرى توسّعتْ أدواتُ العنف الشرعي تجاه المجتمع، حيث الاهتمام البالغ بالمؤسسة العسكرية بشكلٍ خاصٍ وجهاز الأمن بشكلٍ عامٍ. هذا التوسع كمي محض لا نوعية فيه، فتلك الأعداد الكبيرة قد انضوت تحت المؤسسات الإدارية كما تحت مؤسسات الأمن، مما خلق من الأخيرة وحشاً كاسراً وعملاقاً. ولأنه لا نقابات هنالك ولا اتحادات، فهذه الأعداد تقع مباشرةً تحت رحمة السلطة المركزية، ومجبرة على الخضوع لها وإلا ستنال نصيبَها من القهر.
ثانياً، ريعية النفط، وذلك بعد الطفرة الكبيرة في أسعار النفط في السبعينيات، مما جعل الدولة تركن النظام الضريبي جانباً، وتعتمد سياسةً اقتصاديةً لا علاقة عضوية لها مع المجتمع. فالدولة مالكة للاقتصاد، توزِّعه كهباتٍ وأعطياتٍ لمن يدعمها، مما خلق طبقةً زبائنيةً. هذه الزبائنية رغم أنها محصورة بالطبقة الوسطى، لكنها لم تكن متساويةً بحدود الطبقة، فهي محصورة بالطبقة الوسطى ذات الولاء للسلطة، وذات العلاقة القرابية بعشيرة الحاكم. تضخّمتِ الطبقةُ الوسطى ذات الرواتب على حساب الطبقة الوسطى ذات الملكية، ما مثّل خسارةً كبيرةً جداً لقوة الطبقة الوسطى ككتلة، وتفريغها من قوتها الدافعة نحو التحديث والاستقرار.
ثالثاً، الاقتصاد الأوامري، وذلك بفعل الاندراج في موجة مشاريع التنمية، حيث تتجاوز الدولة دورها التنظيمي للاقتصاد، لتصبح مالكةً للاقتصاد من جهةٍ، وموزِّعةً له من جهةٍ ثانيةٍ. بدأ هذا الأمرُ مع الحكومات العسكرية، وبلغ ذروته مع حكومة البعث الشمولية. ساعد على ذلك الطفرة النفطية في السبعينيات، فريعية الاقتصاد تساعد على نمو اقتصاد أوامري مركزي، إذ السلطة السياسية تتحكم بالاقتصاد، مما يؤدي لأن تمارس السلطةُ إحكامَها المباشر على الاتحادات والنقابات والمصارف وعموم الصناعات والزراعة والتجارة والخدمات وغيرها مما يفترض أن تكون مستقلة.
ورابعاً، صعود النزعة الشعبوية، وهي ممارسة إيديولوجية تصدر من النظام الحاكم تسعى لكسب الشرعية. ولأن هنالك تصادماً بين أجهزة الحكم المتينة وبين المجتمع الهش، فسوف يكون هذا محفزاً للسلطة على ممارسة عملية الإقناع واكتساب رضى المجتمع بآليات مباشرة كالتعبئة الجماهيرية والوطنية الشوفينية وما شاكل من مستلزمات الحكومات الشمولية/التوتاليتارية.
بعد غزو الكويت عام 1990، وما تلاها من حربٍ مدمرةٍ على العراق، لجأت دولةُ البعث والمجتمع، على حدٍ سواء، إلى الدين والقبيلة. كان اندفاع المجتمع إلى هاتين النزعتين نتيجة لحيلولة السلطة بينه وبين الروابط المدنية البديلة عن الروابط التقليدية، بينما لجأت السلطة إلى هاتين النزعتين بعدما خوت شرعيتها القوموية القامعة!
مركَّب العمامة والأفندي
حاول فالح عبد الجبار التوغلَ عميقاً في تحليل المجتمع العراقي في كتابه “العمامة والأفندي، سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني”، الصادر عام 2010، متبنياً منهج “البنيوية الشرطية”، الذي يرى الظاهرةَ الشيعيةَ نتيجة اختلالاتٍ إقليميةٍ أو محليةٍ، فالظاهرة موضوع الكتاب ليست إرثاً من رد الفعل تجاه الجماعة الظالمة، ولا إرثاً جوهرياً لا يتزحزح، بل هي تفاعل مع المجريات. وهنا اتجاهان، الأول هو النموذج الاجتماعي الذي يرى الظاهرة استجابةً لعوامل التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية عالمياً وإقليمياً. أما الثاني، فهو النموذج المحلي، الذي يراها استجابةً للتمييز الطائفي الذي تمارسه الأنظمةُ الاستبداديةُ.
يعتقد عبد الجبار بخصوصية الظاهرة الشيعية عراقياً، فمن جانبٍ هي استجابة للنزعة الأصولية في إقليم الشرق الأوسط، ومن جانب آخر يرى السياق المحلي هو الممهِّد والدافع والمؤطِّر لهذه الاستجابة.
بخصوص الجانب الإقليميً، هناك موجة الأصولية التي اجتاحت الشرق الأوسط، وكان مضمونها الدفاع عن الخصوصية الإسلامية ضد الغزو الثقافي المتمثل بالعلمانية والاشتراكية واقتصاد السوق والديمقراطية، فكان أول حزب أُسِّس هو الإخوان المسلمون عام 1926، ثم حزب التحرير، وبعده “جماعتي إسلامي”، وأخيراً حزب الدعوة ما بعد 1958. ولاحقاً انتقل حزب الدعوة من الأصولية إلى الطائفية، فلم يكتفِ بالرد على التيارين الاشتراكي والرأسمالي، بل، بسبب القمع البعثي المفرط، تعمَّق في المظالم الفئوية، لكنه في ما بعد، أي بعد الثورة الإسلامية في إيران 1979، انتقل للنموذج الشعبوي الراديكالي، لماذا هذا الانتقال؟
يجب العودة هنا إلى الجانب المحلي. يعتقد عبد الجبار أن الشيعة مروا بثلاثة تحوّلاتٍ أساسيةٍ خلال قرنٍ، ففي أواخر العهد العثماني حاولت الدولةُ العثمانيةُ فرضَ السلطة المركزية للمدينة على القبائل البدوية، فجاءت القبائل إلى المدن الشيعية المقدسة، هم المعروف عنهم ضعف تدينهم، فكانوا أن تحولوا إلى متدينين شيعة، ولذلك صار الشيعة أغلبيةً سكانيةً، لكنها غير متعلمة مثل عموم سكان المدينة الذين هم أقلية سنية متعلمة، نتيجة لعلاقاتها مع الدولة العثمانية.
أما التحوّل الثاني، فهو تضاؤل القبائل مقابل الريف في العهد الملكي، وذلك بفعل التوجه الإقطاعي وعمليات تمليك الأراضي لرؤساء العشائر، الأمر الذي قيّدهم بالمكان ومنع عنهم عمليات التنقّل البدوية.
والتحوّل الثالث للشيعة كان منذ عام 1948، عندما حدثت عمليةُ تسفير اليهود، فتركوا مكانَ الهيمنة التجارية شاغراً للشيعة، فكانت متانة الطبقتين التجارية وملّاك الأراضي الشيعيتين أن جعلت من الطبقة السياسية هي الأخرى متينة بعض الشيء، وتمثّل ذلك بحزبين هما الحزب الوطني بقيادة جعفر أبو التمن، وحزب النهضة بقيادة أمين الجرجفي.
لكن الإقصاء الذي مورس بحق الحزبين، وكذلك توجيه الضربات القاصمة بحق الطبقة التجارية وملّاك الأراضي بفعل قوانين الإصلاح الزراعي، أعطى الثقل لمجموعاتٍ جماهيريةٍ مهمّشةٍ، وهي ذات نزعة راديكالية، مختلفة تماماً عن المجموعات النخبوية السياسية والاقتصادية. أي أن غلق منافذ التمثيل الشيعي صنع ردَّ فعلٍ طاغياً وواسعاً من قبل الجماهير التي هاجرت من البداوة إلى الريف، ومن الريف إلى المدينة. فهي جماهير انقطعت عن أصلها التقليدي، لكنها لم تجد ممثلاً لها في المجتمع الحديث، وذلك بفعل آليات القمع والإقصاء التي اتبعتها الحكوماتُ العسكريةُ، هذا الإقصاء لم يتِحْ لها أن تندرج ضمن عملية الاندماج في المدينة، لذا اشتعلت عملية معاكسة، راديكالية/جذرية في طبيعتها، شعبوية، لا نخبوية خاضعة لمسارات دستورية ومؤسسية، فهي تطالب بالتغيير الكامل وتعتمد إيديولوجيا تعبويةً.
هنا برز نسقان هما رجل الدين التقليدي “العمامة” من جهةٍ، وقادة هيئات الشعائر الحسينية المنحدرين من عوائل الطبقات الوسطى من جهةٍ ثانيةٍ. فالأولون يمثّلون المؤسسة الدينية، أي التدين الذي درسه ماكس فيبر، فهو تدين قانوني، نصي، أخلاقي صارم. بينما الثانون يمثلون التدين الشعبي، وهو الذي درسه دوركهايم، فهو تدين يعتمد كاريزما الشخص، وجوهره الطقوس. حاولت العمامةُ الإصلاحَ وذلك بتفعيل العلاقة بين المرجع الديني والمقلّدين بعدما أصيبت بالجمود كما يعتقدون، بينما حاول الأفنديون تنشيط الممارسات الشعائرية، المتمثلة بمجالس عاشوراء ومجالس العزاء والمواكب والتشابيه وزيارة الأربعينية، باتجاهاتٍ سياسيةٍ. فالشعائر ذات بعدين، بحسب عبد الجبار: فضاء تعبيرٍ، وأداة تعبئةٍ.
جرَّ الأفنديةُ رجالَ الدين باتجاه إنشاء منظماتٍ حزبيةٍ ذات شكل حديث، بخلاف ما كانت العمامةُ تريد بادئ الأمر، فإصلاحها لا يتجاوز نطاق المؤسسة الدينية. ورغم ذلك، فالغلبة النوعية كانت لرجال الدين.
المجتمع الذي بلا رأس
بعد سقوط نظام البعث 2003، انتقل العراق إلى مرحلة “اللادولة”. فبينما كان عراق ما قبل السقوط يمثل اللوياثان، فما بعده يمثل الفلتان، فالمجتمع هو البديل عن الدولة، بكل طوائفه المحتربة وجماعاته المتشظية. لقد واجه العراقُ حربَ الجميع ضد الجميع، حيث أُطلِقتِ النوازعُ البدائيةُ من عقالها، متمثلة بالثأر والنهب واستهداف المؤسسات الخدمية، وجاءت هذه الانفلاتات بفعل سياسات اتبعتها الإدارة الأمريكية في تفكيك منظومة الحكم السابق، مضافاً إلى الإرث الدموي والعنف المحتقن الذي غلى داخل العراقيين خلال حروب لم تنقطع.
يعتقد عبد الجبار أن الولايات المتحدة مارست سياسة الاحتواء في التسعينيات تجاه حكومة البعث الأخيرة عبر ثلاثة إجراءاتٍ متتاليةٍ بانَ فشلُها بشكلٍ واضحٍ، الأول تمثل بالعقوبات الاقتصادية التي لم تضعفِ النظامَ الشمولي، بل أضرّت بالمجتمع. الثاني، برنامج نزع حيازة أسلحة الدمار الشامل الذي مارسته لجنة “اليونسكوم”، والتي افتضح أمر تخابرها وطردت من العراق. الثالث، قضم السيادة العراقية بفرض الحظر الجوي في الشمال والجنوب دون نتيجةٍ تذكر.
فشلُ هذا الاحتواء مضافاً لعوامل أخرى، مثل تفجيرات 11 أيلول 2001، والنجاح السريع في إزالة حكم طالبان، وصعود المحافظين الجدد بإيديولوجيا جديدةٍ، كل ذلك أطمع الولايات المتحدة باحتلال العراق، وذلك وفقاً لغايتين تحددتا بمؤسستين مختلفتين بشكلٍ كبيرٍ، يعتبرهما عبد الجبار أشبه بالقبيلتين: وزارة الدفاع ووزارة الخارجية.
القبيلتان تدمرقطتان
يرى مؤلف “كتاب اللادولة” الذي صدر بعد وفاته عام 2021م، أن خطة وزارة الدفاع تمثّلت بما يسمى بديمقراطية الحد الأعلى، أي دمقرطة العراق بالكامل وتحقيق العلمانية فيه، وذلك لكي يكون العراق نموذجاً ريادياً في الشرق الأوسط بدل السعودية الحليف غير الموثوق به. أما خطة وزارة الخارجية فتتمثل بديمقراطية الحد الأدنى، أي نزع السلاح وتحقيق تغييرٍ محدودٍ. سمي الأولون بالمثاليين والثانون بالواقعيين.
وفق عبد الجبار، فإن “البنتاغون” تمتلك الإقدام والرؤية، لكنها من دون معرفةٍ بتفاصيل واقع العراق وعموم الشرق الأوسط تكفي لأن تتحقق الرؤيةَ بنجاحٍ. بينما العكس مع وزارة الخارجية (الواقعيون)، فهي تمتلك المعرفة عبر مؤسساتها البحثية التي جنّدت الكثيرَ فيها، لكن هذه المعرفةَ متضخمةٌ لدرجة العشوائية، وهي مفرغةٌ من رؤيةٍ سليمةٍ، حيث تربو على رؤية استشراقيةٍ باليةٍ ترى العالم العربي ذا طبيعةٍ تسلطيةٍ تستعصي على الديمقراطية ولا يمكن تحقيقها فيه.
تبنّت وزارة الدفاع بشكلٍ شبه حرفي خطة “التطهير والإصلاح”، التي توفق بين خطتين بالأصل، الأولى هي التي اتبعتها ألمانيا بعد النازية، والثانية اتبعتها اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وهي خطة جيدة مبدئياً، لكنها ذات أخطاء في التوقيت والكيفية المطبقة بها، أي أن نقص المعرفة بالعراق، والذي تعانيه وزارة الدفاع، قد ألقى بظلاله المشؤومة هنا. كانت الخطة قد استهدفت عدة محاور، من أهمها قضية اجتثاث البعث. وهنا ثلاثة اتجاهات انقسم وفقها اللاعبون السياسيون، الأول هو المقاربة الشمولية – الإيديولوجية، ممثلة بأحمد الجلبي، ترى وجوب تفكيك كافة أجهزة العنف لأجل طرد البعثيين بالكامل من كافة المجالات، أما المقاربة الثانية فهي المعتدلة-البراغماتية، تبناها إياد علاوي، ترى وجوب تطهير أجهزة العنف، لا تفكيكها. والمقاربة الثالثة مؤسسية – قانونية، تبناها الكرد والحزب الشيوعي، ترى التفكيك الجزئي والمرحلي لأجهزة العنف.
البديل الذي تبنّاه عبد الجبار هو المقاربة المركّبة، والتي توفِّق بين آلية “التطهير” الألماني ضد النازية بخصوص الأعضاء الكبار ذوي الجرائم، وآلية “المصالحة والاعتذار” الجنوب إفريقية في ما يخص كبار البعث الذين لا تبعات عليهم، وآلية “نسيان الماضي” المعروفة عن تشيلي بنوشيه، بخصوص الأعضاء الصغار الذين لا تبعات عليهم.
سبب هذا الاختيار البديل، هو أن الخيار الشمولي المأخوذ به كانت له نتائج كارثية، على حد النتائج التي حصلت مع المحور الآخر، ألا وهو تفكيك أجهزة الأمن عامة. فلقد كان وراء هذ الإجراء قناعة إيديولوجية عند سلطة التحالف المؤقت، ترى أن الجيش العراقي أشبه بالجيش النازي، مخترق بالبعث والولاء للرئيس المخلوع، ولا يمكن إصلاحه، كما أن إلغاء التشكيلات العسكرية أوهم قادةَ المعارضة بأنها تلاشت. والحال أن الطرفين لم ينتبها إلى أن الجيش لم يعد مسيساً منذ الثمانينات، وبدرجة أشد قي التسعينيات، وهذا التفكيك خلق فراغاً مرعباً، حوّلَ الجنودَ السابقين إلى معدمين مفقرين ومتمردين محتملين، مضافاً إلى أنه قد وضع 4.5 مليون قطعة سلاح بمتناول المتمردين والجمهور. وأخيراً، زاد هذا الأمرُ من حدة الشعور بالخسارة الوطنية لدى الجمهور، وهو الأمر الذي راهن عليه المتمردون لاستمالة عواطفهم باتجاه العنف المضاد والشامل، أي حالة “اللادولة” تماماً.
ومما تمحور عليه برنامج التطهير والإصلاح، إعادة تركيب النظام السياسي، فكان واضحاً أن الخطة المتبعة هي تفكيك مركزية بغداد على عموم المحافظات، لكنه تفكيك قانوني شكلي وليس فعلياً، كما جرى تشكيل هيئةٍ رمزيةٍ تسمى “مجلس الحكم” التي لا سلطة فعلية لها، وهي بمثابة الحل الوسط بين حكومة انتقالية موعودة مسبقاً، وبين سلطة التحالف المؤقتة ذات السلطة الفعلية والشاملة.
وعلاوة على الوصاية، فإن سلطة التحالف اصطدمت بحاجزي اللغة والمعايير الثقافية المختلفة للعراقيين، فلم يوجد من يتقن العربية ضمن إدارتها، وكانت توقّعاتُ العراقيين منها عاليةً تخص تحقيق الخدمات التي تعودوا عليها.
وأخيراً، قضية التحوّل الليبرالي للاقتصاد، فقد أطلقتْ سلطةُ التحالف عمليةً انتهت بالفشل لفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية، مستهدفة أمرين: إعادة الإعمار، وإصلاح السوق. وكانت قد اصطدمت بإرثٍ سياسة الرعاية الحكومية التي تفضّل المكاسب الاجتماعية على الحريات، والدولانية على حساب اقتصاد السوق، واصطدمت بسياسة الاقتصاد الأوامري الذي يتيح بعض المجال للقطاع الخاص، لكن ليس الحر تماماً، بل القطاع الخاص الموالي للحزب الحاكم والمرتبط به قرابياً.
الطائفية السنية المتأخرة
إذا كانت الحركةُ الشيعية المتأزمة، بتظلميتها الطائفية نسبياً خلال القرن العشرين وراديكاليتها الشعبوية، هي وليد رحم النزعة الدولانية المهمِلة لبناء الأمة، فإن صعود الطائفية السنية وتطوّراتها المذهلة نحو دولة الخلافة الداعشية هي وليدة اللادولة التي سادت بعد 2003.
لقد انتقل العراق من الشمولية الدولانية ذات النزعة الإيديولوجية بعهد البعث، إلى سياسة الهوية ذات النزعة الطائفية المحتربة حيناً والمتهادنة حيناً آخر في عهد النظام الجديد.
اختلال بناء الأمة بعد سقوط البعث جرى على أساس توافق شيعي_كردي، دون الطرف السني الذي مني بخسارةٍ عسكريةٍ تمثّلت بسقوط البعث الذي كان له فيه الكأس المعلى من جهةٍ، وخسارةٍ اجتماعيةٍ تجاه الصعود المدوي للتدين الشعبي الشيعي، بكل ثقل مظالمه المحتقنة طوال عقودٍ من جهةٍ ثانيةٍ، علاوة على الهزيمة السياسية نتيجة ذلك التوافق الكردي_الشيعي من جهةٍ ثالثةٍ.
ومن مفارقات الزمن، بحسب عبد الجبار، أن العراق بعد هزيمة 1967 كان الوحيد في الشرق الأوسط الذي حافظ على علمانيته ونزعته القومية مقابل صعود الأصولية الإسلامية، ولكن بعد خفوت هذه النزعة في العالم العربي مطلع الألفية، اجتاحت العراقَ وبقي هو الأكثر خضوعاً ومعاناةً لها!
حاول مؤلِّف كتاب “دولة الخلافة – التقدم إلى الماضي”، الصادر عام 2016، دراسة المجتمع المحلي، أي المجتمع السني تحديداً، من خلال تحليل إيديولوجيا التيار التكفيري المستقل نسبياً في تطوّراته، وكذلك من خلال تحليل الدولة الفاشلة، أي دولة اللادولة التي سادت بعد السقوط.
يعتقد مؤلف ” في الأحوال والأهوال” أن المجتمع بعامة، والمجتمع السني بخاصة، ليس خالياً من التمايز، ولا يؤلِّف كتلةً سوسيولوجيةً واحدةً، بل هو متغيّر وسيّال ومتعدد زمانياً ومكانياً وطبقياً. ونتيجةً لهذا الأمر، فإن فكرة كون المجتمع السني يمثّل “حاضنة” لداعش شيء مجانب للصواب. فهذه المقولة لا تأخذ بنظر الاعتبار هذا التشظي داخل المجتمع المحلي للسنّة بالعراق. يتجلى هذا التعدد من خلال دراسة مخيال الجماعات المتعددة، وهو مخيال مستفاد من “منهجية الفهم” لدى ماكس فيبر، ففئات كل مجتمع لها تمثّلاتها/ فهمهما/ مخيالها، وهو متعدد بتعدد الأزمنة والأمكنة والمصالح الطبقية.
يعود عبد الجبار إلى المآل الذي آلت إليه عمليةُ بناء شرعية النظام في أواخر عهد البعث، ويعدها إرهاصاً للتيار التكفيري. فلقد بنى النظامُ شرعيتَه في التسعينيات على العودة للنزعة القبائلية من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ، النزعة الدينية المتمثلة بالحملة الإيمانية والتي بموجبها جرت عمليات واسعة لاستقطاب السلفيين من الخارج وبناء المساجد لهم وتخصيص موارد خاصة. وبعد سقوط البعث، انضم الكثيرُ من المتمردين البعثيين، الذين اجتثوا دون خطةٍ محكمةٍ، إلى السلفيين هؤلاء. شكّل هؤلاء جبهةً واسعةً استقطبت الكثيرَ من أفراد المجتمع المحلي الناقمين تجاه الحكومة ذات الأغلبية الشيعية، وتجاه الجانب المسالم من السنة الذين يشاركون الشيعة في العملية السياسية، حيث جرت تسميتهم بـ”سنة المالكي”. كما هناك فئة ليست مسالمة حد المشاركة، ولا ناقمة حد العنف، بل تتبع سبل المعارضة بالاحتجاج، هذه الأخيرة بلغت ذروتها في عام 2013، وواجهت أشد أنواع القمع، مما حدا بالكثير منهم للانضمام إلى تيار العنف، وبآخرين إلى تيار التشفي والشماتة.
لقد جُرِّد المجتمعُ السني من دفاعاته الذاتية، ليس فقط تجاه السلطة عبر التمثيل السياسي الكافي، ولا عبر مسارات الاحتجاج السلمي، بل جُرِّد بالدرجة الأساس من دفاعاته تجاه التيار التكفيري الذي نما وتطوّر كثيراً بعد إلغاء الصحوات التي مثّلت مقاومةَ المجتمع السني لهجمات التيار التكفيري منذ عام 2004.
كانت أمام هذا المجتمع، بالمقابل، نخبٌ شيعيةٌ، كانت وما تزال، تفهم الديمقراطيةَ كحكمٍ للأغلبية، وتؤوّل الدستور التعددي بشكلٍ ينقل “الأغلبية” من المفهوم السياسي إلى المفهوم الهوياتي. فسياسة الهوية تنتج تغالب الهويات عبر صراعها على المناصب السياسية الكفيلة بحلب موارد الدولة. فبفضل الريعية الاقتصادية المستمرة لا يزال الاقتصاد غير منفصل عن السلطة السياسية، ولا يحتاج الأمر سوى تعبئة الجماهير باسم مظالم الهوية لدى النخب الشيعية، وبالنتيجة فإن في المقابل السني فكرة “الضحية” التي عشعشت في مخيال المجتمع المحلي، رغم تشظي فئاته وشرائحه، وهي من ستحدد مصيره ما بعد “داعش”، مثلما حددته سابقاً.
النقطة المحورية في تحليل عبد الجبار هي أن سياسة الهوية ذات طبيعةٍ متشظيةٍ، ولا تستعدي الآخر وتجره لمستواه فحسب، بل تخلق التشظياتِ داخل الجماعة الواحدة، وهو واضح من خلال انشقاقات الجماعة الشيعية لجماعاتٍ ضمنيةٍ ليست على وئامٍ، حيث الصراع على من يمثِّل الهويةَ على أشده. وهذا الأمر يشبه تماماً الدولانية التي تركِّز على تشكّل الدولة على حساب بناء الأمة، فيكون مآلها الأخير انهيار الدولة ليس على مستوى الأمة (الجماعة الوطنية) فحسب، بل على مستوى جهاز الدولة الحاكم بالذات، وتلك مفارقةٌ ذات عبرةٍ.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
كان فالح عبد الجبار في قمّة نشاطه المعرفي عندما حلّ عليه الموتُ في 26 شباط عام 2018. توقّف قلبُ عالم الاجتماع المولود في بغداد عام 1946، ليغلق باب مشغله البحثي الذي اتسم بالمقاربة المركبة، فهو عدو الأحادية وكل أشكال التبسيطات.
كانت كتاباته صارمةً علمياً، إلا أنها دائماً ما نهلت من الأدب واستفادت منه، إذ استشهد بالكتابات الأدبية وعناوين الروايات وفحواها، مثل “مستعمرة العقاب” لكافكا في وصف أفعال “داعش”، و”مذلون مهانون” لدوستويفسكي لوصف التهميش في ظل الحكومات التسلطية والشمولية التي مرّت على العراق، وكذلك “قصة موت معلن” لماركيز، التي يُمكن أن تكون، وبشكل درامي، قصة المجتمع العراقي خلال قرنٍ.
عبد الجبار كان شيوعياً، لكنه غادر الحزب، دون التخلي عن مكاسب المدرسة الماركسية في علم الاجتماع، وهي التي شغلته لتدفعه إلى ترجمة كتاب “رأس المال ” لكارل ماركس، أحد أهم الكتب الضخمة في تاريخ الفكر العالمي.
ويُمكن القول إن عبد الجبار حظي باهتمامٍ في حياته وبعد موته لم يتفوق عليه بذلك عالم اجتماع آخر سوى علي الوردي، صاحب الريادة ومؤسِّس قسم علم الاجتماع في الحقل الأكاديمي العراقي.
خلال حياته التي تنقّل فيها بين المنافي والجامعات والأبحاث الميدانية والنظرية، درس عبد الجبار قصة المجتمع العراقي، وحلّل عناصرها وفواعلها، وغاص في أشد تفاصيلها محليّةً، واستفاد من أكثر المناهج تعقيداً..
فمن أين بدأت قصّةُ فالح عبد الجبار الاجتماعية؟ وإلى أين انتهت؟
صعود “اللوياثان“ العراقي
استعار فالح عبد الجبار مصطلح “اللوياثان” ليشير به إلى الدولة التي تبتلع المجتمع ولا تبنيه، وقد استعير المصطلحُ من الأدبيات المسيحية القديمة، وهو يعني الوحشَ البحري الذي يبتلع كلَّ شيء أمامه. وقد شاع في الأدبيات السياسية بدءاً من المنظر السياسي الشهير توماس هوبز، من خلال كتابه “اللوياثان”.
ينطلق عبد الجبار من ركيزةٍ نظريةٍ تتمحور عليها جميعُ طروحاته في علم الاجتماع، وهي أن هناك عمليتين: تشكُّلُ الدولة، وبناءُ الأمة. الأولى جهاز حكم قهري والثانية تمثيل طوعي للمجتمع، وما بين التشكّل والبناء علاقة وشيجة، لكنهما مستقلان نظرياً عند محاولة الفهم الاجتماعية.
شخّص صاحب “العمامة والأفندي” أزمةً مستمرةً في الشرق الأوسط، تتلخّص بتضخّم الدولة على حساب المجتمع، واختلال أحد الأمرين يعني تحقق ما يسمى بـ”الدولة الفاشلة”.
وفي العراق، هناك اختلال في تمثيل المجتمع، سواء على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، أو الثقافي، في جميع مراحل الدولة العراقية، منذ العهد الملكي حتى حكم البعث الأخير، لكن بنسبٍ مختلفةٍ لكل مرحلةٍ.
باعتقاد عبد الجبار لم تستجبِ الحكوماتُ الملكيةُ للحراك الاجتماعي الذي أطلقته، حيث نشأت طبقاتٌ جديدةٌ -وسطى ودنيا- بفعل عمليات التكامل/الاندماج الوطني، لكنها أبعِدت عن التمثيل السياسي والتوزيع الاقتصادي، وهذا مفهوم من ناحية كون الملكية ذات نزعةٍ إقطاعيةٍ أرستقراطيةٍ، حيث الاحتكار للسلطة والمنافع بيد الطبقة العليا المالكة! وهذا أدى إلى أن تكون تلك الطبقات المبعدة رأسَ حربةٍ في المعارضة، خاصّة وأنها تتكون من عمال، وطلبة، وفلاحين، وحرفيين.. لكن العنصر الحاسم كان لطبقة الضباط المحترفين، من غير الشريفيين المناصرين للملكية.
بعد صعود الحكومات العسكرية، القاسمية والعارفيتين، ألغيتِ المؤسساتُ الدستوريةُ، فما تبقى من إيجابيات سابقة تنتمي للعهد الملكي، ولو كانت قليلةً، قد جرى إلغاؤها بالكامل، وصار التركيزُ منصبّاً على مصالح الطبقة الوسطى -لكن ضمن حدود مناطقية-، لكونها موئل الضباط الأحرار الذين قادوا الدولة آنذاك. لكن هذا لم يمنع من التشتت داخل الطبقة الوسطى، ما دامتِ المؤسساتُ ملغيةً، حيث المؤسسات ضابط إيقاعي للتعارضات والمنافسات وتعدد المصالح. ولهذا السبب تكررت محاولات الانقلاب، وصولاً لحكومة البعث الأخيرة التي وعت هذه المشكلةَ، فحاولت ردمَ مشكلة التمرّد والانقلابات داخل طبقة الحكم، فضخمت الدولة بشكلٍ مهوِّلٍ على حساب تفتيت المجتمع.
المجتمع.. من إلى
الخروج من المجتمع التقليدي نحو المجتمع الحضري كان مكلفاً جداً، وأودى بحياة الدولة العراقية، إذ أن المجتمع التقليدي الذي سبق الدولة الملكية مكون من عشائرَ وطبقاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ كالحرفيين والسادة والمُلّاك، وهذه تكتلات ما قبل الدولة الوطنية.
فبعد أن جاء مشروع الدولة الوطنية وحاول تطبيق عملية الاندماج الاجتماعي، نجح في تخليص المجتمع من سمته التقليدية، لكنه لم يعزِّز المجتمعَ بالسمة المدنية، وإنما جرّد المجتمعَ من تكتلاته التقليدية ليكون بلا تكتلاتٍ، وهذا هو المجتمع الجماهيري المذرَّر، بمعنى مجموعة ذراتٍ متساويةٍ مع بعضها أمام السلطة.
وقد نشأ في العراق مجتمع متفتت، وذلك، وفق عبد الجبار، نتيجة لتقويض أسس النفوذ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لطبقات أصحاب النفوذ. فقد عمل قانونُ الإصلاح الزراعي على تقليص ملكية الأراضي من ملّاكها، وكذلك عملية تفكيك القبائل، حيث اقتصاد السوق حوّلَ شيوخَ القبائل وأتباعَهم إلى مقاولين جشعين، مضافاً لإلغاء التمثيل القبلي نتيجة إلغاء البرلمان.
كانت الغاية من تقويض النفوذ هي التحول من المحاصصة الزراعية نحو العلاقات التجارية القائمة على عامل “المزارع الحر”. لكن العملية لم تنجح مطلقاً، الأمر الذي جرّد المجتمعَ من إحدى الكوابح لطغيان السلطة ومركزتها المفرطة، فلطالما كان ملّاكُ الأراضي يخلقون التوازن نتيجة استقلاليتهم، بصرف النظر عن سلبياتهم، إذ أن الحديث ليس عن امتداح دور هذا العامل من عدمه، بل لتحديد دوره السابق، والفراغ الناشئ عن إلغائه بلا بدائل كان من الضروري طرحُها حتى لا تؤول الأمورُ إلى ما آلت إليه.
عملتِ الدولةُ أيضاً على تقليص طبقات المقاولين والرأسماليين وأصحاب العقارات، وهذا جعل الطرف الأقوى في الطبقات الوسطى يضعف ويخوى، مقابل الطرف الأضعف، أي طرف أصحاب الرواتب ذي الصفة الزبائنية.
وترافق كلُّ ذلك مع نمو المجتمع الحضري في المدن، بعد حدوث هجرة واسعة من الريف بداية من أواخر العهد الملكي واستمرت الهجرة بالتصاعد مع الحكومات التالية. لكن هذا التضخّم كان مأساوياً، فالمهاجرون تركوا مجتمعهم البائس دون رجعةٍ، لكن المدن لم تكن مهيأةً لاستقبالهم، وهذا جعل منهم مهمشين يسكنون في أطراف المدن، ولطالما استُخدموا في خدمة التيارات الشعبوية.
تضخّم المجتمعِ الحضري أدى إلى نمو الطبقات ذات التعليم الحديث، والتي تعتمد على بيع معرفتها في السوق، وبالتالي تكون تحت يد الدولة المركزية لا محالة؛ على الرغم من أن نمو هذه الطبقة ليس مضراً بحد ذاته، بل إن نموه في سياق استقلالية الدولة، يسخّره لصالح تفتيت المجتمع.
المجتمع الجماهيري
بدلاً عن المجتمع الحضري، تخّلق في العراق، على العكس من ذلك، مجتمع جماهيري، حاضن للاستبدادية والشمولية، لكونه لا يملك دفاعاتٍ ذاتيةً تجعل بينه وبين السلطة وسيطاً. وبانتفاء المؤسسات الوسيطة، كالنقابات والاتحادات والجمعيات والأحزاب والبرلمانات، والتي تسمى بمؤسسات المجتمع المدني، أصبح المجتمعُ مجرّداً، لا يملك غطاء يحمي به نفسه من جور السلطة، ناهيك عن المشاركة في إدارتها والتأثير عليها.
الحال هذه، حاول فالح عبد الجبار في “كتاب الدولة، اللوياثان الجديد”، الصادر عام 2017، رسمَ خطوط الصدع بين تشكُّل الدولة نحو التضخّم، وبناء الأمة المختل نحو التفتت.
حدد صاحب “المجتمع المدني في عراق ما بعد الحرب”، آليات استقلالية الدولة بأربع شروط، أولاً، نمو البيروقراطية (الجهاز الإداري)، فمن جهةٍ توسّعتِ الوظائفُ بشكلٍ كبيرٍ، ومن جهة أخرى توسّعتْ أدواتُ العنف الشرعي تجاه المجتمع، حيث الاهتمام البالغ بالمؤسسة العسكرية بشكلٍ خاصٍ وجهاز الأمن بشكلٍ عامٍ. هذا التوسع كمي محض لا نوعية فيه، فتلك الأعداد الكبيرة قد انضوت تحت المؤسسات الإدارية كما تحت مؤسسات الأمن، مما خلق من الأخيرة وحشاً كاسراً وعملاقاً. ولأنه لا نقابات هنالك ولا اتحادات، فهذه الأعداد تقع مباشرةً تحت رحمة السلطة المركزية، ومجبرة على الخضوع لها وإلا ستنال نصيبَها من القهر.
ثانياً، ريعية النفط، وذلك بعد الطفرة الكبيرة في أسعار النفط في السبعينيات، مما جعل الدولة تركن النظام الضريبي جانباً، وتعتمد سياسةً اقتصاديةً لا علاقة عضوية لها مع المجتمع. فالدولة مالكة للاقتصاد، توزِّعه كهباتٍ وأعطياتٍ لمن يدعمها، مما خلق طبقةً زبائنيةً. هذه الزبائنية رغم أنها محصورة بالطبقة الوسطى، لكنها لم تكن متساويةً بحدود الطبقة، فهي محصورة بالطبقة الوسطى ذات الولاء للسلطة، وذات العلاقة القرابية بعشيرة الحاكم. تضخّمتِ الطبقةُ الوسطى ذات الرواتب على حساب الطبقة الوسطى ذات الملكية، ما مثّل خسارةً كبيرةً جداً لقوة الطبقة الوسطى ككتلة، وتفريغها من قوتها الدافعة نحو التحديث والاستقرار.
ثالثاً، الاقتصاد الأوامري، وذلك بفعل الاندراج في موجة مشاريع التنمية، حيث تتجاوز الدولة دورها التنظيمي للاقتصاد، لتصبح مالكةً للاقتصاد من جهةٍ، وموزِّعةً له من جهةٍ ثانيةٍ. بدأ هذا الأمرُ مع الحكومات العسكرية، وبلغ ذروته مع حكومة البعث الشمولية. ساعد على ذلك الطفرة النفطية في السبعينيات، فريعية الاقتصاد تساعد على نمو اقتصاد أوامري مركزي، إذ السلطة السياسية تتحكم بالاقتصاد، مما يؤدي لأن تمارس السلطةُ إحكامَها المباشر على الاتحادات والنقابات والمصارف وعموم الصناعات والزراعة والتجارة والخدمات وغيرها مما يفترض أن تكون مستقلة.
ورابعاً، صعود النزعة الشعبوية، وهي ممارسة إيديولوجية تصدر من النظام الحاكم تسعى لكسب الشرعية. ولأن هنالك تصادماً بين أجهزة الحكم المتينة وبين المجتمع الهش، فسوف يكون هذا محفزاً للسلطة على ممارسة عملية الإقناع واكتساب رضى المجتمع بآليات مباشرة كالتعبئة الجماهيرية والوطنية الشوفينية وما شاكل من مستلزمات الحكومات الشمولية/التوتاليتارية.
بعد غزو الكويت عام 1990، وما تلاها من حربٍ مدمرةٍ على العراق، لجأت دولةُ البعث والمجتمع، على حدٍ سواء، إلى الدين والقبيلة. كان اندفاع المجتمع إلى هاتين النزعتين نتيجة لحيلولة السلطة بينه وبين الروابط المدنية البديلة عن الروابط التقليدية، بينما لجأت السلطة إلى هاتين النزعتين بعدما خوت شرعيتها القوموية القامعة!
مركَّب العمامة والأفندي
حاول فالح عبد الجبار التوغلَ عميقاً في تحليل المجتمع العراقي في كتابه “العمامة والأفندي، سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني”، الصادر عام 2010، متبنياً منهج “البنيوية الشرطية”، الذي يرى الظاهرةَ الشيعيةَ نتيجة اختلالاتٍ إقليميةٍ أو محليةٍ، فالظاهرة موضوع الكتاب ليست إرثاً من رد الفعل تجاه الجماعة الظالمة، ولا إرثاً جوهرياً لا يتزحزح، بل هي تفاعل مع المجريات. وهنا اتجاهان، الأول هو النموذج الاجتماعي الذي يرى الظاهرة استجابةً لعوامل التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية عالمياً وإقليمياً. أما الثاني، فهو النموذج المحلي، الذي يراها استجابةً للتمييز الطائفي الذي تمارسه الأنظمةُ الاستبداديةُ.
يعتقد عبد الجبار بخصوصية الظاهرة الشيعية عراقياً، فمن جانبٍ هي استجابة للنزعة الأصولية في إقليم الشرق الأوسط، ومن جانب آخر يرى السياق المحلي هو الممهِّد والدافع والمؤطِّر لهذه الاستجابة.
بخصوص الجانب الإقليميً، هناك موجة الأصولية التي اجتاحت الشرق الأوسط، وكان مضمونها الدفاع عن الخصوصية الإسلامية ضد الغزو الثقافي المتمثل بالعلمانية والاشتراكية واقتصاد السوق والديمقراطية، فكان أول حزب أُسِّس هو الإخوان المسلمون عام 1926، ثم حزب التحرير، وبعده “جماعتي إسلامي”، وأخيراً حزب الدعوة ما بعد 1958. ولاحقاً انتقل حزب الدعوة من الأصولية إلى الطائفية، فلم يكتفِ بالرد على التيارين الاشتراكي والرأسمالي، بل، بسبب القمع البعثي المفرط، تعمَّق في المظالم الفئوية، لكنه في ما بعد، أي بعد الثورة الإسلامية في إيران 1979، انتقل للنموذج الشعبوي الراديكالي، لماذا هذا الانتقال؟
يجب العودة هنا إلى الجانب المحلي. يعتقد عبد الجبار أن الشيعة مروا بثلاثة تحوّلاتٍ أساسيةٍ خلال قرنٍ، ففي أواخر العهد العثماني حاولت الدولةُ العثمانيةُ فرضَ السلطة المركزية للمدينة على القبائل البدوية، فجاءت القبائل إلى المدن الشيعية المقدسة، هم المعروف عنهم ضعف تدينهم، فكانوا أن تحولوا إلى متدينين شيعة، ولذلك صار الشيعة أغلبيةً سكانيةً، لكنها غير متعلمة مثل عموم سكان المدينة الذين هم أقلية سنية متعلمة، نتيجة لعلاقاتها مع الدولة العثمانية.
أما التحوّل الثاني، فهو تضاؤل القبائل مقابل الريف في العهد الملكي، وذلك بفعل التوجه الإقطاعي وعمليات تمليك الأراضي لرؤساء العشائر، الأمر الذي قيّدهم بالمكان ومنع عنهم عمليات التنقّل البدوية.
والتحوّل الثالث للشيعة كان منذ عام 1948، عندما حدثت عمليةُ تسفير اليهود، فتركوا مكانَ الهيمنة التجارية شاغراً للشيعة، فكانت متانة الطبقتين التجارية وملّاك الأراضي الشيعيتين أن جعلت من الطبقة السياسية هي الأخرى متينة بعض الشيء، وتمثّل ذلك بحزبين هما الحزب الوطني بقيادة جعفر أبو التمن، وحزب النهضة بقيادة أمين الجرجفي.
لكن الإقصاء الذي مورس بحق الحزبين، وكذلك توجيه الضربات القاصمة بحق الطبقة التجارية وملّاك الأراضي بفعل قوانين الإصلاح الزراعي، أعطى الثقل لمجموعاتٍ جماهيريةٍ مهمّشةٍ، وهي ذات نزعة راديكالية، مختلفة تماماً عن المجموعات النخبوية السياسية والاقتصادية. أي أن غلق منافذ التمثيل الشيعي صنع ردَّ فعلٍ طاغياً وواسعاً من قبل الجماهير التي هاجرت من البداوة إلى الريف، ومن الريف إلى المدينة. فهي جماهير انقطعت عن أصلها التقليدي، لكنها لم تجد ممثلاً لها في المجتمع الحديث، وذلك بفعل آليات القمع والإقصاء التي اتبعتها الحكوماتُ العسكريةُ، هذا الإقصاء لم يتِحْ لها أن تندرج ضمن عملية الاندماج في المدينة، لذا اشتعلت عملية معاكسة، راديكالية/جذرية في طبيعتها، شعبوية، لا نخبوية خاضعة لمسارات دستورية ومؤسسية، فهي تطالب بالتغيير الكامل وتعتمد إيديولوجيا تعبويةً.
هنا برز نسقان هما رجل الدين التقليدي “العمامة” من جهةٍ، وقادة هيئات الشعائر الحسينية المنحدرين من عوائل الطبقات الوسطى من جهةٍ ثانيةٍ. فالأولون يمثّلون المؤسسة الدينية، أي التدين الذي درسه ماكس فيبر، فهو تدين قانوني، نصي، أخلاقي صارم. بينما الثانون يمثلون التدين الشعبي، وهو الذي درسه دوركهايم، فهو تدين يعتمد كاريزما الشخص، وجوهره الطقوس. حاولت العمامةُ الإصلاحَ وذلك بتفعيل العلاقة بين المرجع الديني والمقلّدين بعدما أصيبت بالجمود كما يعتقدون، بينما حاول الأفنديون تنشيط الممارسات الشعائرية، المتمثلة بمجالس عاشوراء ومجالس العزاء والمواكب والتشابيه وزيارة الأربعينية، باتجاهاتٍ سياسيةٍ. فالشعائر ذات بعدين، بحسب عبد الجبار: فضاء تعبيرٍ، وأداة تعبئةٍ.
جرَّ الأفنديةُ رجالَ الدين باتجاه إنشاء منظماتٍ حزبيةٍ ذات شكل حديث، بخلاف ما كانت العمامةُ تريد بادئ الأمر، فإصلاحها لا يتجاوز نطاق المؤسسة الدينية. ورغم ذلك، فالغلبة النوعية كانت لرجال الدين.
المجتمع الذي بلا رأس
بعد سقوط نظام البعث 2003، انتقل العراق إلى مرحلة “اللادولة”. فبينما كان عراق ما قبل السقوط يمثل اللوياثان، فما بعده يمثل الفلتان، فالمجتمع هو البديل عن الدولة، بكل طوائفه المحتربة وجماعاته المتشظية. لقد واجه العراقُ حربَ الجميع ضد الجميع، حيث أُطلِقتِ النوازعُ البدائيةُ من عقالها، متمثلة بالثأر والنهب واستهداف المؤسسات الخدمية، وجاءت هذه الانفلاتات بفعل سياسات اتبعتها الإدارة الأمريكية في تفكيك منظومة الحكم السابق، مضافاً إلى الإرث الدموي والعنف المحتقن الذي غلى داخل العراقيين خلال حروب لم تنقطع.
يعتقد عبد الجبار أن الولايات المتحدة مارست سياسة الاحتواء في التسعينيات تجاه حكومة البعث الأخيرة عبر ثلاثة إجراءاتٍ متتاليةٍ بانَ فشلُها بشكلٍ واضحٍ، الأول تمثل بالعقوبات الاقتصادية التي لم تضعفِ النظامَ الشمولي، بل أضرّت بالمجتمع. الثاني، برنامج نزع حيازة أسلحة الدمار الشامل الذي مارسته لجنة “اليونسكوم”، والتي افتضح أمر تخابرها وطردت من العراق. الثالث، قضم السيادة العراقية بفرض الحظر الجوي في الشمال والجنوب دون نتيجةٍ تذكر.
فشلُ هذا الاحتواء مضافاً لعوامل أخرى، مثل تفجيرات 11 أيلول 2001، والنجاح السريع في إزالة حكم طالبان، وصعود المحافظين الجدد بإيديولوجيا جديدةٍ، كل ذلك أطمع الولايات المتحدة باحتلال العراق، وذلك وفقاً لغايتين تحددتا بمؤسستين مختلفتين بشكلٍ كبيرٍ، يعتبرهما عبد الجبار أشبه بالقبيلتين: وزارة الدفاع ووزارة الخارجية.
القبيلتان تدمرقطتان
يرى مؤلف “كتاب اللادولة” الذي صدر بعد وفاته عام 2021م، أن خطة وزارة الدفاع تمثّلت بما يسمى بديمقراطية الحد الأعلى، أي دمقرطة العراق بالكامل وتحقيق العلمانية فيه، وذلك لكي يكون العراق نموذجاً ريادياً في الشرق الأوسط بدل السعودية الحليف غير الموثوق به. أما خطة وزارة الخارجية فتتمثل بديمقراطية الحد الأدنى، أي نزع السلاح وتحقيق تغييرٍ محدودٍ. سمي الأولون بالمثاليين والثانون بالواقعيين.
وفق عبد الجبار، فإن “البنتاغون” تمتلك الإقدام والرؤية، لكنها من دون معرفةٍ بتفاصيل واقع العراق وعموم الشرق الأوسط تكفي لأن تتحقق الرؤيةَ بنجاحٍ. بينما العكس مع وزارة الخارجية (الواقعيون)، فهي تمتلك المعرفة عبر مؤسساتها البحثية التي جنّدت الكثيرَ فيها، لكن هذه المعرفةَ متضخمةٌ لدرجة العشوائية، وهي مفرغةٌ من رؤيةٍ سليمةٍ، حيث تربو على رؤية استشراقيةٍ باليةٍ ترى العالم العربي ذا طبيعةٍ تسلطيةٍ تستعصي على الديمقراطية ولا يمكن تحقيقها فيه.
تبنّت وزارة الدفاع بشكلٍ شبه حرفي خطة “التطهير والإصلاح”، التي توفق بين خطتين بالأصل، الأولى هي التي اتبعتها ألمانيا بعد النازية، والثانية اتبعتها اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وهي خطة جيدة مبدئياً، لكنها ذات أخطاء في التوقيت والكيفية المطبقة بها، أي أن نقص المعرفة بالعراق، والذي تعانيه وزارة الدفاع، قد ألقى بظلاله المشؤومة هنا. كانت الخطة قد استهدفت عدة محاور، من أهمها قضية اجتثاث البعث. وهنا ثلاثة اتجاهات انقسم وفقها اللاعبون السياسيون، الأول هو المقاربة الشمولية – الإيديولوجية، ممثلة بأحمد الجلبي، ترى وجوب تفكيك كافة أجهزة العنف لأجل طرد البعثيين بالكامل من كافة المجالات، أما المقاربة الثانية فهي المعتدلة-البراغماتية، تبناها إياد علاوي، ترى وجوب تطهير أجهزة العنف، لا تفكيكها. والمقاربة الثالثة مؤسسية – قانونية، تبناها الكرد والحزب الشيوعي، ترى التفكيك الجزئي والمرحلي لأجهزة العنف.
البديل الذي تبنّاه عبد الجبار هو المقاربة المركّبة، والتي توفِّق بين آلية “التطهير” الألماني ضد النازية بخصوص الأعضاء الكبار ذوي الجرائم، وآلية “المصالحة والاعتذار” الجنوب إفريقية في ما يخص كبار البعث الذين لا تبعات عليهم، وآلية “نسيان الماضي” المعروفة عن تشيلي بنوشيه، بخصوص الأعضاء الصغار الذين لا تبعات عليهم.
سبب هذا الاختيار البديل، هو أن الخيار الشمولي المأخوذ به كانت له نتائج كارثية، على حد النتائج التي حصلت مع المحور الآخر، ألا وهو تفكيك أجهزة الأمن عامة. فلقد كان وراء هذ الإجراء قناعة إيديولوجية عند سلطة التحالف المؤقت، ترى أن الجيش العراقي أشبه بالجيش النازي، مخترق بالبعث والولاء للرئيس المخلوع، ولا يمكن إصلاحه، كما أن إلغاء التشكيلات العسكرية أوهم قادةَ المعارضة بأنها تلاشت. والحال أن الطرفين لم ينتبها إلى أن الجيش لم يعد مسيساً منذ الثمانينات، وبدرجة أشد قي التسعينيات، وهذا التفكيك خلق فراغاً مرعباً، حوّلَ الجنودَ السابقين إلى معدمين مفقرين ومتمردين محتملين، مضافاً إلى أنه قد وضع 4.5 مليون قطعة سلاح بمتناول المتمردين والجمهور. وأخيراً، زاد هذا الأمرُ من حدة الشعور بالخسارة الوطنية لدى الجمهور، وهو الأمر الذي راهن عليه المتمردون لاستمالة عواطفهم باتجاه العنف المضاد والشامل، أي حالة “اللادولة” تماماً.
ومما تمحور عليه برنامج التطهير والإصلاح، إعادة تركيب النظام السياسي، فكان واضحاً أن الخطة المتبعة هي تفكيك مركزية بغداد على عموم المحافظات، لكنه تفكيك قانوني شكلي وليس فعلياً، كما جرى تشكيل هيئةٍ رمزيةٍ تسمى “مجلس الحكم” التي لا سلطة فعلية لها، وهي بمثابة الحل الوسط بين حكومة انتقالية موعودة مسبقاً، وبين سلطة التحالف المؤقتة ذات السلطة الفعلية والشاملة.
وعلاوة على الوصاية، فإن سلطة التحالف اصطدمت بحاجزي اللغة والمعايير الثقافية المختلفة للعراقيين، فلم يوجد من يتقن العربية ضمن إدارتها، وكانت توقّعاتُ العراقيين منها عاليةً تخص تحقيق الخدمات التي تعودوا عليها.
وأخيراً، قضية التحوّل الليبرالي للاقتصاد، فقد أطلقتْ سلطةُ التحالف عمليةً انتهت بالفشل لفصل السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية، مستهدفة أمرين: إعادة الإعمار، وإصلاح السوق. وكانت قد اصطدمت بإرثٍ سياسة الرعاية الحكومية التي تفضّل المكاسب الاجتماعية على الحريات، والدولانية على حساب اقتصاد السوق، واصطدمت بسياسة الاقتصاد الأوامري الذي يتيح بعض المجال للقطاع الخاص، لكن ليس الحر تماماً، بل القطاع الخاص الموالي للحزب الحاكم والمرتبط به قرابياً.
الطائفية السنية المتأخرة
إذا كانت الحركةُ الشيعية المتأزمة، بتظلميتها الطائفية نسبياً خلال القرن العشرين وراديكاليتها الشعبوية، هي وليد رحم النزعة الدولانية المهمِلة لبناء الأمة، فإن صعود الطائفية السنية وتطوّراتها المذهلة نحو دولة الخلافة الداعشية هي وليدة اللادولة التي سادت بعد 2003.
لقد انتقل العراق من الشمولية الدولانية ذات النزعة الإيديولوجية بعهد البعث، إلى سياسة الهوية ذات النزعة الطائفية المحتربة حيناً والمتهادنة حيناً آخر في عهد النظام الجديد.
اختلال بناء الأمة بعد سقوط البعث جرى على أساس توافق شيعي_كردي، دون الطرف السني الذي مني بخسارةٍ عسكريةٍ تمثّلت بسقوط البعث الذي كان له فيه الكأس المعلى من جهةٍ، وخسارةٍ اجتماعيةٍ تجاه الصعود المدوي للتدين الشعبي الشيعي، بكل ثقل مظالمه المحتقنة طوال عقودٍ من جهةٍ ثانيةٍ، علاوة على الهزيمة السياسية نتيجة ذلك التوافق الكردي_الشيعي من جهةٍ ثالثةٍ.
ومن مفارقات الزمن، بحسب عبد الجبار، أن العراق بعد هزيمة 1967 كان الوحيد في الشرق الأوسط الذي حافظ على علمانيته ونزعته القومية مقابل صعود الأصولية الإسلامية، ولكن بعد خفوت هذه النزعة في العالم العربي مطلع الألفية، اجتاحت العراقَ وبقي هو الأكثر خضوعاً ومعاناةً لها!
حاول مؤلِّف كتاب “دولة الخلافة – التقدم إلى الماضي”، الصادر عام 2016، دراسة المجتمع المحلي، أي المجتمع السني تحديداً، من خلال تحليل إيديولوجيا التيار التكفيري المستقل نسبياً في تطوّراته، وكذلك من خلال تحليل الدولة الفاشلة، أي دولة اللادولة التي سادت بعد السقوط.
يعتقد مؤلف ” في الأحوال والأهوال” أن المجتمع بعامة، والمجتمع السني بخاصة، ليس خالياً من التمايز، ولا يؤلِّف كتلةً سوسيولوجيةً واحدةً، بل هو متغيّر وسيّال ومتعدد زمانياً ومكانياً وطبقياً. ونتيجةً لهذا الأمر، فإن فكرة كون المجتمع السني يمثّل “حاضنة” لداعش شيء مجانب للصواب. فهذه المقولة لا تأخذ بنظر الاعتبار هذا التشظي داخل المجتمع المحلي للسنّة بالعراق. يتجلى هذا التعدد من خلال دراسة مخيال الجماعات المتعددة، وهو مخيال مستفاد من “منهجية الفهم” لدى ماكس فيبر، ففئات كل مجتمع لها تمثّلاتها/ فهمهما/ مخيالها، وهو متعدد بتعدد الأزمنة والأمكنة والمصالح الطبقية.
يعود عبد الجبار إلى المآل الذي آلت إليه عمليةُ بناء شرعية النظام في أواخر عهد البعث، ويعدها إرهاصاً للتيار التكفيري. فلقد بنى النظامُ شرعيتَه في التسعينيات على العودة للنزعة القبائلية من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ، النزعة الدينية المتمثلة بالحملة الإيمانية والتي بموجبها جرت عمليات واسعة لاستقطاب السلفيين من الخارج وبناء المساجد لهم وتخصيص موارد خاصة. وبعد سقوط البعث، انضم الكثيرُ من المتمردين البعثيين، الذين اجتثوا دون خطةٍ محكمةٍ، إلى السلفيين هؤلاء. شكّل هؤلاء جبهةً واسعةً استقطبت الكثيرَ من أفراد المجتمع المحلي الناقمين تجاه الحكومة ذات الأغلبية الشيعية، وتجاه الجانب المسالم من السنة الذين يشاركون الشيعة في العملية السياسية، حيث جرت تسميتهم بـ”سنة المالكي”. كما هناك فئة ليست مسالمة حد المشاركة، ولا ناقمة حد العنف، بل تتبع سبل المعارضة بالاحتجاج، هذه الأخيرة بلغت ذروتها في عام 2013، وواجهت أشد أنواع القمع، مما حدا بالكثير منهم للانضمام إلى تيار العنف، وبآخرين إلى تيار التشفي والشماتة.
لقد جُرِّد المجتمعُ السني من دفاعاته الذاتية، ليس فقط تجاه السلطة عبر التمثيل السياسي الكافي، ولا عبر مسارات الاحتجاج السلمي، بل جُرِّد بالدرجة الأساس من دفاعاته تجاه التيار التكفيري الذي نما وتطوّر كثيراً بعد إلغاء الصحوات التي مثّلت مقاومةَ المجتمع السني لهجمات التيار التكفيري منذ عام 2004.
كانت أمام هذا المجتمع، بالمقابل، نخبٌ شيعيةٌ، كانت وما تزال، تفهم الديمقراطيةَ كحكمٍ للأغلبية، وتؤوّل الدستور التعددي بشكلٍ ينقل “الأغلبية” من المفهوم السياسي إلى المفهوم الهوياتي. فسياسة الهوية تنتج تغالب الهويات عبر صراعها على المناصب السياسية الكفيلة بحلب موارد الدولة. فبفضل الريعية الاقتصادية المستمرة لا يزال الاقتصاد غير منفصل عن السلطة السياسية، ولا يحتاج الأمر سوى تعبئة الجماهير باسم مظالم الهوية لدى النخب الشيعية، وبالنتيجة فإن في المقابل السني فكرة “الضحية” التي عشعشت في مخيال المجتمع المحلي، رغم تشظي فئاته وشرائحه، وهي من ستحدد مصيره ما بعد “داعش”، مثلما حددته سابقاً.
النقطة المحورية في تحليل عبد الجبار هي أن سياسة الهوية ذات طبيعةٍ متشظيةٍ، ولا تستعدي الآخر وتجره لمستواه فحسب، بل تخلق التشظياتِ داخل الجماعة الواحدة، وهو واضح من خلال انشقاقات الجماعة الشيعية لجماعاتٍ ضمنيةٍ ليست على وئامٍ، حيث الصراع على من يمثِّل الهويةَ على أشده. وهذا الأمر يشبه تماماً الدولانية التي تركِّز على تشكّل الدولة على حساب بناء الأمة، فيكون مآلها الأخير انهيار الدولة ليس على مستوى الأمة (الجماعة الوطنية) فحسب، بل على مستوى جهاز الدولة الحاكم بالذات، وتلك مفارقةٌ ذات عبرةٍ.