"يختلفون بس على طريقة قتلنا".. البرلمان يُشرّع الإعدامات الميدانية لمجتمعات الميم عين + 

سيف علي

23 شباط 2024

"أخاف يصير العراق مصيدة لأفراد مجتمع الميم عين وميدرون شوكت يموتون بيها وميكدرون يطلعون منها".. عن مجتمعات الميم عين + وهي تواجه تشريعات الإعدام والمؤبد..

“حسّيت برعب وخوف محد يكدر يتصوره.. مُجرد أفكّر إنه آني ممكن انقتل وانعدم بشكل قانوني وعادي بس لأن آني من مجتمع الميم عين، وبطريقة وحشيّة وهمجيّة همين، ما أكدر أوصف شصار بيه واني اشوف النواب بالبرلمان يتناقشون بالطريقة الي يريدون يقتلونا بيها”.  

راودت هذه المشاعر والأفكار يوسف، وهو شاب مثلي عراقي في مطلع عشرينياته، عندما كان يشاهد يوم الأول من شباط 2024 مآل جلسة البرلمان العراقي الذي أنهى مناقشة مقترح لتعديل قانون مكافحة البغاء المقر عام 1988، والمراد منه تجريم مجتمع الميم عين + والعلاقات المثلية بالتراضي، وفرض عقوبة السجن المؤبد أو الإعدام على أفراده! 

يُظهر بعض نواب البرلمان حماساً بتشديد عقوبات القانون، وقد وسّعت الفئات المجرمَّة فيه لتضم كل شخص أو مؤسسة مغايرة لما اعتبره المساندون لمقترح القانون “كياناً” عراقياً واحداً متجانساً أو مسانداً له بالرأي أو الممارسة، من أعضاء مجتمع الميم عين + إلى مؤسسات المجتمع المدني إلى الصحافة المستقلة إلى العاملين في القطاع الصحي، وحتى المجال العام حيث ينادي بـ”السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي”.  

وتجري عملية خلط بين العلاقات المثلية بالتراضي والعبور الجنسي والجندري بالبغاء وتجريمهما واعتبارها جرائم “مخلة بالشرف” والدعوة لاعتماد الرأي الفقهي والشرعي في إقرار العقوبات؛ والخلط هذا هو امتداد لحملة حكومية وسياسة مبنية بالكامل على معلومات مضللة وآراء تتناقض حتى مع الدستور العراقي، ونشأت في بيئة عُد لها منذ سنوات واشتدت وطأتها في العام الماضي مع تنامي خطابات الكراهية والتحريض ضد مجتمع الميم عين في العراق وشيطنة مصطلح الجندر ومنعه، والحملات التي تمثلت بإحراق أعلام مجتمع الميم عين وتمزيق كتاب الانجليزي لمجرد احتوائه على ألوان قوس قزح.  

هو إطباق آخر على حريات العراقيات والعراقيين..  

تشريع للقتل   

لا يوجد قانون يجرم العلاقات المثلية بالتراضي في العراق، ولا حتى قانون العقوبات المقر نهاية ستينيات القرن الماضي، الذي يجرمها إلى جانب البغاء في حالة كانت بالخداع أو بالإكراه والقوة والتهديد، ولا قانون يمنع العبور الجندري. هذا التحول في خطاب الكراهية الموجه من الدولة والسلطات الدينية والفصائل العسكرية ضد مجتمعات الميم عين + تفاقم بعد عام 2003، مع العلم أنه كان موجوداً خلال سلطة البعث على شكل ممارسات، لكنه لم يجرم بقانون.  

وبدل أن يُنظر إلى غياب المنع كعدم تدخل وتعدٍ للدولة على الحريات الشخصية، وأهمها حرية الرأي والمعتقد والصحة الجسدية، ارتأى النائب رائد حمدان المالكي، عضو اللجنة القانونية، أن ثمة “نقصاً تشريعياً في مجال الشذوذ الجنسي” يتطلب “معالجة”، وأعلن موجز الدائرة الإعلامية لمجلس النواب العراقي “ضرورة تشريع تعديل قانون مكافحة البغاء بما ينسجم مع طبيعة القيم الاجتماعية للشعب العراقي”. 

قدم المالكي في تموز الماضي مقترحاً لتعديل قانون مكافحة البغاء بحيث يضيف مكافحة “الشذوذ الجنسي المتمثل بالعلاقات المثلية” إلى القانون، معرّفاً إياها على أنها “ارتباط بين شخصين من جنس واحد ذكر وذكر أو أنثى وأنثى لغرض إقامة علاقة جنسية مستمرة”. كما يجرّم العبور الجنسي والجندري معرفاً إياه بـ”التخنث / التشبّه بالنساء”، سواء من خلال اللبس أو من خلال تناول الهورمونات، متقصداً العابرات تحديداً (أي المرأة التي جنسها البيولوجي ذكر). 

التعدي الصارخ على حرية التعبير والرأي والمعتقد والخصوصية والمساواة يظهر في زجّ العلاقات بالتراضي في قانون سُنّ قبل حوالي أربعين عاماً لمكافحة علاقات بالإكراه أو مقابل مادي!  

لا يتوقف المقترح عند تجريم أعضاء وعضوات مجتمعات الميم، بل يمتد إلى مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الصحافية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تساند أو تنشر أو تدافع عن حقوق مجتمع الميم كذلك، وتهديدها بالسجن سبع سنوات، ما يعني أيضاً انتهاكاً للحق في تأسيس جمعيات. 

مقترح القانون الذي يستعرض المشرعون والمشرعات من خلاله حرصهم الشديد على “الحفاظ على كيان المجتمع العراقي من الانحلال الخلقي”، حدّد إنزال أشد العقوبات بمن “يقوم بعلاقة شذوذ مثلي”: الإعدام والسجن المؤبد لعلاقة بالتراضي بين بالغين. 

“لمعرفة جسامة العقوبة يجب أن نلاحظ أن المشرع العراقي نص في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل على عقوبة الأم التي تقتل ابنها حديث الولادة اتقاءً للعار بالسجن لمدة لا تزيد عن عشر سنوات فقط! وكذلك إذا تم قتل الزوجة من الزوج أو أحد محارمها في حالة تلبسها بالزنا فتكون عقوبة القاتل الحبس لمدة ثلاث سنوات فقط! لماذا المشرع لم يرفع العقوبة على هؤلاء بينما قام بفرض عقوبات صارمة للمثليين جنسياً ومن تمت علاقتهم بالتراضي”، عقب لنا محامٍ فضل عدم ذكر اسمه. 

استسهال المساندين للتعديل بإنزال عقوبة الإعدام بأعضاء وعضوات مجتمع الميم لا يأتي من فراغ.  

تتلقى مؤسسة گالا عراق (منصّة متخصّصة بحقوق مجتمع الميم عين في العراق) رسائل شبه يومية لأشخاص يتعرضون لمختلف أنواع العنف حتى دون هذا القانون. يقول أحد القائمين عليها، “نحن نقتل بالفعل بشكل مستمر في العراق، ولا يمكننا حتى الظهور أو التعبير عن أنفسنا”. 

يضيف عضو فريق گالا عراق، “المليشيات والعائلة والمجتمع، كل شيء ضدنا، لا نحتاج لقانون إعدام، فالعراق بالنسبة لمنظمة العفو الدولية واحد من تسع دول تعاقب على المثلية بالإعدام، فحتى لو لم يحتوِ القانون سابقاً على الإعدام، إلا أنه يمارس علينا من قبل المحاكم الشرعية والميليشيات المسلحة”. وهو ما أكدته مؤسسة هيومن رايتس واتش في بيانها الذي طالب الحكومة العراقية بسحب مشروع القانون في آب العام الماضي.  

يقترب القانون من أن يكون تشريعاً للمحاكمات الميدانية خارج القانون التي تطال مجتمع الميم منذ عقدين على الأقل، كان ضحيتها الأخيرة “سمسم” في الديوانية، ولذلك يخشى بعض أعضاء مجتمع الميم عين + من تحويل هذه الميليشيات وغيرها من جهات فاسدة القانون إلى أداة تصفية حسابات ضدهم. 

“كأفراد مجتمع الميم عين بالعراق فاحنا اصلا خاتلين حتى بعدم وجود هالقانون، والي يريد يقتلنا ميحتاج ادلة او هالخطوات الطويلة مال المحكمة، بس الجانب الايجابي انه ممكن يفيدنا إذا قررنا اللجوء”، تقول غدير وهي فتاة عابرة. 

يأتي تعديل المقترح امتداداً لحرب تكثفت في العام الأخير على النساء ومجتمع الميم عين والمجتمع المدني وحرية التعبير عبر استغلال أداة التشريع بالاعتماد على معلومات مضللة ونشرها. يظهر ذلك أيضاً في التناقض القائم بين نص التعديل المقترح وبين البيان الذي أصدره المكتب الإعلامي للبرلمان عقب نقاش البرلمانيين والبرلمانيات حول المقترح، حيث أعلن “حظر استخدام تسمية (الجندر) في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني”، في الوقت الذي يستخدم مقترح القانون نفسه مفردة جندر -ولو بهدف منع من يرغب بـ”تغيير الجنس البيولوجي للشخص بناء على الرغبات والميول النفسية بتغيير الهوية الجندرية“! 

محاكم شرعية وفقهية تحت قبة البرلمان  

لم تكن الطريق سلسة لسنّ تعديل قانون مكافحة البغاء ليشمل تجريم المثلية – والذي بدأ منذ عامين على الأقل- فقد وصل حتى المحكمة الاتحادية لكي يتمكن مقدمه المالكي من عرضه على البرلمان، وذلك بعد أن قام محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان السابق، بسحب مسودة تعديل القانون وإلغائها ما عُدّ التفافاً منه على القانون بسبب “ضغوطات خارجية”. أشار الحلبوسي في مقابلة متلفزة إلى أن القانون المقترح يتعارض “مع الوضع الدولي العالمي”، مؤكداً في الوقت ذاته أن “عُرفنا وعاداتنا وتقاليدنا ترفض رفضاً قاطعاً مثل هذه الحالات الشاذة”، مؤكداً أن لا حاجة حتى لقانون “يحرّم الفاحشة.. اكو قانون سماوي إلهي وعدنه دين الي يرفض”. 

بيد أن المحكمة الاتحادية العليا قبلت طعناً كان قد قدمه المالكي بقرار الحلبوسي. 

عدّت أعلى سلطة قضائية أن نصوص القانون المشددة “جديرة بأن تكون ضمن المنظومة التشريعية العراقية”، معتبرة العقوبات الواردة في القانون “رادعة لمعالجة حالات مستجدة ودخيلة على المجتمع العراقي”، ورأت أن لـ”المثلية”، من بين أمور أخرى، تأثيراً سلبياً خطيراً على عموم الشعب. 

وبهذا، منحت الضوء الأخضر للنواب، بالذهاب أبعد في تشديد العقوبات وتوسيع شبكة المشمولين بها. 

أكد محسن المندلاوي (الذي حلّ مؤقتاً محل الحلبوسي) أثناء الجلسة على أن “البرلمان يمثل إرادة الشعب في سن تشريعاته ولا يخضع للتأثيرات الخارجية”، لافتا إلى “مضي المجلس بتشريع مقترح تعديل قانون مكافحة البغاء رقم (8) لسنة 1988”. 

للحد من هذه “التأثيرات الخارجية” التي لم يسمها القانون بالاسم، دعا البرلمان في جلسته التي ناقشت القانون مطلع شباط إلى تقديم احتجاج رسمي لدى البعثات الدبلوماسية التي طالبت بعدم المضي بتشريعه. 

ولكن مجتمع الميم والمدافعين عنه يرون أن دعوة القائمين على القانون باعتماد الرأي الفقهي والشرعي في تحديد نوع العقوبات المشمولة بالقانون، وهو ما اختتم به المالكي بيانه بعد الجلسة بـ”طاعة لأوامر مرجعيتنا الدينية العليا”، هي بحد ذاتها تدخل خارجي واختراق يضاف إلى سلسلة من القوانين والتعديلات التي تستغل البرلمانيات والبرلمانيون سلطتهم لتشريعها.  

كما ترى مجتمعات الميم باعتماد الرأي الفقهي والشرعي على أنه دعوة لإقامة محاكم شرعية كتلك التي كانت تقوم بها الفصائل المسلحة لتصفية مجتمع الميم عين سابقاً، كما حدث في مجازر “الايمو” في 2012 التي قام بها جيش المهدي، الفصيل المسلح التابع لمقتدى الصدر، بل ويقارنون مع نظام “داعش”، “هل العراق دولة دينية تحكمها المليشيات والمراجع والفقهاء، أم دولة مؤسسات؟ لماذا ما نزال نرى ونسمع أشياء تذكرنا بداعش في كل مكان”، يتساءل أحمد، وهو مثلي عراقي في أوائل عشرينياته. 

وفق أحد العاملين في كوير شيعة (منصة كويرية عراقية)، فأن “الرأي الشرعي والفقهي التقليدي لدى أغلب رجال الدين المسلمين والمراجع في وقتنا الحالي هو القتل”، قبل أن يضيف “ولكن الاختلاف في طريقة القتل فقط”. 

ترصد المنصة الكويرية طرق قتل عدة في الفقه، منها الضرب بالسيف والرمي من شاهق والحرق، “فهل سنرى الحكومات العراقية تقوم بمحاكم تفتيش شرعية وتعدمنا بمثل هذه الطرق كما كانت داعش تفعل؟”. 

أحزاب تشرين والمنظمات الدولية.. هل من مُجيب؟ 

“بوقت المظاهرات جنت مثل الكل مأيس من البلد كله مو بس الحكومة فمع أنه اني ادري انو الناس الي انتخبتهم عندهم أفكار إسلامية متشددة بس اخذتني العاطفة بذاك الوقت انو همه الصوت الوحيد المعارض وگلت من الممكن انو يكونون زينين او يتحسنون بالمستقبل بس اتضحلي انو همه يمثلون” هايدن، وهو شاب مثلي في مطلع العشرينيات. 

هايدن، مثل كُثر من أفراد مجتمع الميم في العراق، كانوا قد علقوا آمالاً على تظاهرات تشرين والأحزاب المنبثقة منها للسعي في الوقوف أمام تشريع هذا القانون لكونه يتعارض مع قوانين ومعاهدات حقوق الإنسان، كما ويتعارض مع الأفكار المدنية التي انبثقت منها التظاهرات، ولكن في الواقع كان أعضاء قائمة “إشراقة كانون” من أول الداعمين لهذا القانون، كما شكر علاء الركابي الأمين العام لحركة “امتداد” آنذاك البرلمان على هذا القانون وطالب بالمضي بتشريعاته حتى وإن كانت هناك ضغوط دولية لمنع تشريعه، يُضاف إليه عدد من النواب المستقلين الذين دخلوا البرلمان على كونهم أصوات تشرين المدنية لصناعة التغيير من الداخل، وبذلك يترك هؤلاء النواب أفراد مجتمع الميم عين لمواجهة عقوبة الإعدام رغم انتخابهم. 

الإحباط وخيبة الأمل من مواقف النواب المدنيين والمستقلين من القانون يمتد إلى المنظمات الدولية، والتي يعتبر المدافعون عن حقوق مجتمع الميم عين في العراق أنها لا تولي اهتماماً خاصاً بالموضوع، بل تكتفي بحديث خجول وكأنه إسقاط واجب. “أنا أتخيّل لو أن هذا القانون كان في دولة أخرى، لشاهدنا ردة فعل مختلفة كلياً، فنفس هذه المنظمات التي تقوم بحملات كبيرة على أقل اضطهاد لأفراد مجتمع الميم عين في الغرب، لا تهتم لنا ونحن نواجه الاعدام هنا، فنحن كعراقيين حياتنا لا قيمة لها بالنسبة لهم ابداً”، يقول أحد العاملين في بغداد برايد (منصة لحقوق مجتمع الميم عين في العراق). 

“أخاف يصير العراق مصيدة لأفراد مجتمع الميم عين وميدرون شوكت يموتون بيها وميكدرون يطلعون منها”، يقول سجاد، وهو شاب مثلي في أوائل العشرينيات حيث يجد نفسه وغيره من المثليين والمثليات والعابرين والعابرات والكويريين والكويريات وكل مغايرة ومغاير لمن يعده القانون “شاذاً” في مقتلة مستمرة دون حماية.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

“حسّيت برعب وخوف محد يكدر يتصوره.. مُجرد أفكّر إنه آني ممكن انقتل وانعدم بشكل قانوني وعادي بس لأن آني من مجتمع الميم عين، وبطريقة وحشيّة وهمجيّة همين، ما أكدر أوصف شصار بيه واني اشوف النواب بالبرلمان يتناقشون بالطريقة الي يريدون يقتلونا بيها”.  

راودت هذه المشاعر والأفكار يوسف، وهو شاب مثلي عراقي في مطلع عشرينياته، عندما كان يشاهد يوم الأول من شباط 2024 مآل جلسة البرلمان العراقي الذي أنهى مناقشة مقترح لتعديل قانون مكافحة البغاء المقر عام 1988، والمراد منه تجريم مجتمع الميم عين + والعلاقات المثلية بالتراضي، وفرض عقوبة السجن المؤبد أو الإعدام على أفراده! 

يُظهر بعض نواب البرلمان حماساً بتشديد عقوبات القانون، وقد وسّعت الفئات المجرمَّة فيه لتضم كل شخص أو مؤسسة مغايرة لما اعتبره المساندون لمقترح القانون “كياناً” عراقياً واحداً متجانساً أو مسانداً له بالرأي أو الممارسة، من أعضاء مجتمع الميم عين + إلى مؤسسات المجتمع المدني إلى الصحافة المستقلة إلى العاملين في القطاع الصحي، وحتى المجال العام حيث ينادي بـ”السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي”.  

وتجري عملية خلط بين العلاقات المثلية بالتراضي والعبور الجنسي والجندري بالبغاء وتجريمهما واعتبارها جرائم “مخلة بالشرف” والدعوة لاعتماد الرأي الفقهي والشرعي في إقرار العقوبات؛ والخلط هذا هو امتداد لحملة حكومية وسياسة مبنية بالكامل على معلومات مضللة وآراء تتناقض حتى مع الدستور العراقي، ونشأت في بيئة عُد لها منذ سنوات واشتدت وطأتها في العام الماضي مع تنامي خطابات الكراهية والتحريض ضد مجتمع الميم عين في العراق وشيطنة مصطلح الجندر ومنعه، والحملات التي تمثلت بإحراق أعلام مجتمع الميم عين وتمزيق كتاب الانجليزي لمجرد احتوائه على ألوان قوس قزح.  

هو إطباق آخر على حريات العراقيات والعراقيين..  

تشريع للقتل   

لا يوجد قانون يجرم العلاقات المثلية بالتراضي في العراق، ولا حتى قانون العقوبات المقر نهاية ستينيات القرن الماضي، الذي يجرمها إلى جانب البغاء في حالة كانت بالخداع أو بالإكراه والقوة والتهديد، ولا قانون يمنع العبور الجندري. هذا التحول في خطاب الكراهية الموجه من الدولة والسلطات الدينية والفصائل العسكرية ضد مجتمعات الميم عين + تفاقم بعد عام 2003، مع العلم أنه كان موجوداً خلال سلطة البعث على شكل ممارسات، لكنه لم يجرم بقانون.  

وبدل أن يُنظر إلى غياب المنع كعدم تدخل وتعدٍ للدولة على الحريات الشخصية، وأهمها حرية الرأي والمعتقد والصحة الجسدية، ارتأى النائب رائد حمدان المالكي، عضو اللجنة القانونية، أن ثمة “نقصاً تشريعياً في مجال الشذوذ الجنسي” يتطلب “معالجة”، وأعلن موجز الدائرة الإعلامية لمجلس النواب العراقي “ضرورة تشريع تعديل قانون مكافحة البغاء بما ينسجم مع طبيعة القيم الاجتماعية للشعب العراقي”. 

قدم المالكي في تموز الماضي مقترحاً لتعديل قانون مكافحة البغاء بحيث يضيف مكافحة “الشذوذ الجنسي المتمثل بالعلاقات المثلية” إلى القانون، معرّفاً إياها على أنها “ارتباط بين شخصين من جنس واحد ذكر وذكر أو أنثى وأنثى لغرض إقامة علاقة جنسية مستمرة”. كما يجرّم العبور الجنسي والجندري معرفاً إياه بـ”التخنث / التشبّه بالنساء”، سواء من خلال اللبس أو من خلال تناول الهورمونات، متقصداً العابرات تحديداً (أي المرأة التي جنسها البيولوجي ذكر). 

التعدي الصارخ على حرية التعبير والرأي والمعتقد والخصوصية والمساواة يظهر في زجّ العلاقات بالتراضي في قانون سُنّ قبل حوالي أربعين عاماً لمكافحة علاقات بالإكراه أو مقابل مادي!  

لا يتوقف المقترح عند تجريم أعضاء وعضوات مجتمعات الميم، بل يمتد إلى مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الصحافية ومواقع التواصل الاجتماعي التي تساند أو تنشر أو تدافع عن حقوق مجتمع الميم كذلك، وتهديدها بالسجن سبع سنوات، ما يعني أيضاً انتهاكاً للحق في تأسيس جمعيات. 

مقترح القانون الذي يستعرض المشرعون والمشرعات من خلاله حرصهم الشديد على “الحفاظ على كيان المجتمع العراقي من الانحلال الخلقي”، حدّد إنزال أشد العقوبات بمن “يقوم بعلاقة شذوذ مثلي”: الإعدام والسجن المؤبد لعلاقة بالتراضي بين بالغين. 

“لمعرفة جسامة العقوبة يجب أن نلاحظ أن المشرع العراقي نص في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل على عقوبة الأم التي تقتل ابنها حديث الولادة اتقاءً للعار بالسجن لمدة لا تزيد عن عشر سنوات فقط! وكذلك إذا تم قتل الزوجة من الزوج أو أحد محارمها في حالة تلبسها بالزنا فتكون عقوبة القاتل الحبس لمدة ثلاث سنوات فقط! لماذا المشرع لم يرفع العقوبة على هؤلاء بينما قام بفرض عقوبات صارمة للمثليين جنسياً ومن تمت علاقتهم بالتراضي”، عقب لنا محامٍ فضل عدم ذكر اسمه. 

استسهال المساندين للتعديل بإنزال عقوبة الإعدام بأعضاء وعضوات مجتمع الميم لا يأتي من فراغ.  

تتلقى مؤسسة گالا عراق (منصّة متخصّصة بحقوق مجتمع الميم عين في العراق) رسائل شبه يومية لأشخاص يتعرضون لمختلف أنواع العنف حتى دون هذا القانون. يقول أحد القائمين عليها، “نحن نقتل بالفعل بشكل مستمر في العراق، ولا يمكننا حتى الظهور أو التعبير عن أنفسنا”. 

يضيف عضو فريق گالا عراق، “المليشيات والعائلة والمجتمع، كل شيء ضدنا، لا نحتاج لقانون إعدام، فالعراق بالنسبة لمنظمة العفو الدولية واحد من تسع دول تعاقب على المثلية بالإعدام، فحتى لو لم يحتوِ القانون سابقاً على الإعدام، إلا أنه يمارس علينا من قبل المحاكم الشرعية والميليشيات المسلحة”. وهو ما أكدته مؤسسة هيومن رايتس واتش في بيانها الذي طالب الحكومة العراقية بسحب مشروع القانون في آب العام الماضي.  

يقترب القانون من أن يكون تشريعاً للمحاكمات الميدانية خارج القانون التي تطال مجتمع الميم منذ عقدين على الأقل، كان ضحيتها الأخيرة “سمسم” في الديوانية، ولذلك يخشى بعض أعضاء مجتمع الميم عين + من تحويل هذه الميليشيات وغيرها من جهات فاسدة القانون إلى أداة تصفية حسابات ضدهم. 

“كأفراد مجتمع الميم عين بالعراق فاحنا اصلا خاتلين حتى بعدم وجود هالقانون، والي يريد يقتلنا ميحتاج ادلة او هالخطوات الطويلة مال المحكمة، بس الجانب الايجابي انه ممكن يفيدنا إذا قررنا اللجوء”، تقول غدير وهي فتاة عابرة. 

يأتي تعديل المقترح امتداداً لحرب تكثفت في العام الأخير على النساء ومجتمع الميم عين والمجتمع المدني وحرية التعبير عبر استغلال أداة التشريع بالاعتماد على معلومات مضللة ونشرها. يظهر ذلك أيضاً في التناقض القائم بين نص التعديل المقترح وبين البيان الذي أصدره المكتب الإعلامي للبرلمان عقب نقاش البرلمانيين والبرلمانيات حول المقترح، حيث أعلن “حظر استخدام تسمية (الجندر) في مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني”، في الوقت الذي يستخدم مقترح القانون نفسه مفردة جندر -ولو بهدف منع من يرغب بـ”تغيير الجنس البيولوجي للشخص بناء على الرغبات والميول النفسية بتغيير الهوية الجندرية“! 

محاكم شرعية وفقهية تحت قبة البرلمان  

لم تكن الطريق سلسة لسنّ تعديل قانون مكافحة البغاء ليشمل تجريم المثلية – والذي بدأ منذ عامين على الأقل- فقد وصل حتى المحكمة الاتحادية لكي يتمكن مقدمه المالكي من عرضه على البرلمان، وذلك بعد أن قام محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان السابق، بسحب مسودة تعديل القانون وإلغائها ما عُدّ التفافاً منه على القانون بسبب “ضغوطات خارجية”. أشار الحلبوسي في مقابلة متلفزة إلى أن القانون المقترح يتعارض “مع الوضع الدولي العالمي”، مؤكداً في الوقت ذاته أن “عُرفنا وعاداتنا وتقاليدنا ترفض رفضاً قاطعاً مثل هذه الحالات الشاذة”، مؤكداً أن لا حاجة حتى لقانون “يحرّم الفاحشة.. اكو قانون سماوي إلهي وعدنه دين الي يرفض”. 

بيد أن المحكمة الاتحادية العليا قبلت طعناً كان قد قدمه المالكي بقرار الحلبوسي. 

عدّت أعلى سلطة قضائية أن نصوص القانون المشددة “جديرة بأن تكون ضمن المنظومة التشريعية العراقية”، معتبرة العقوبات الواردة في القانون “رادعة لمعالجة حالات مستجدة ودخيلة على المجتمع العراقي”، ورأت أن لـ”المثلية”، من بين أمور أخرى، تأثيراً سلبياً خطيراً على عموم الشعب. 

وبهذا، منحت الضوء الأخضر للنواب، بالذهاب أبعد في تشديد العقوبات وتوسيع شبكة المشمولين بها. 

أكد محسن المندلاوي (الذي حلّ مؤقتاً محل الحلبوسي) أثناء الجلسة على أن “البرلمان يمثل إرادة الشعب في سن تشريعاته ولا يخضع للتأثيرات الخارجية”، لافتا إلى “مضي المجلس بتشريع مقترح تعديل قانون مكافحة البغاء رقم (8) لسنة 1988”. 

للحد من هذه “التأثيرات الخارجية” التي لم يسمها القانون بالاسم، دعا البرلمان في جلسته التي ناقشت القانون مطلع شباط إلى تقديم احتجاج رسمي لدى البعثات الدبلوماسية التي طالبت بعدم المضي بتشريعه. 

ولكن مجتمع الميم والمدافعين عنه يرون أن دعوة القائمين على القانون باعتماد الرأي الفقهي والشرعي في تحديد نوع العقوبات المشمولة بالقانون، وهو ما اختتم به المالكي بيانه بعد الجلسة بـ”طاعة لأوامر مرجعيتنا الدينية العليا”، هي بحد ذاتها تدخل خارجي واختراق يضاف إلى سلسلة من القوانين والتعديلات التي تستغل البرلمانيات والبرلمانيون سلطتهم لتشريعها.  

كما ترى مجتمعات الميم باعتماد الرأي الفقهي والشرعي على أنه دعوة لإقامة محاكم شرعية كتلك التي كانت تقوم بها الفصائل المسلحة لتصفية مجتمع الميم عين سابقاً، كما حدث في مجازر “الايمو” في 2012 التي قام بها جيش المهدي، الفصيل المسلح التابع لمقتدى الصدر، بل ويقارنون مع نظام “داعش”، “هل العراق دولة دينية تحكمها المليشيات والمراجع والفقهاء، أم دولة مؤسسات؟ لماذا ما نزال نرى ونسمع أشياء تذكرنا بداعش في كل مكان”، يتساءل أحمد، وهو مثلي عراقي في أوائل عشرينياته. 

وفق أحد العاملين في كوير شيعة (منصة كويرية عراقية)، فأن “الرأي الشرعي والفقهي التقليدي لدى أغلب رجال الدين المسلمين والمراجع في وقتنا الحالي هو القتل”، قبل أن يضيف “ولكن الاختلاف في طريقة القتل فقط”. 

ترصد المنصة الكويرية طرق قتل عدة في الفقه، منها الضرب بالسيف والرمي من شاهق والحرق، “فهل سنرى الحكومات العراقية تقوم بمحاكم تفتيش شرعية وتعدمنا بمثل هذه الطرق كما كانت داعش تفعل؟”. 

أحزاب تشرين والمنظمات الدولية.. هل من مُجيب؟ 

“بوقت المظاهرات جنت مثل الكل مأيس من البلد كله مو بس الحكومة فمع أنه اني ادري انو الناس الي انتخبتهم عندهم أفكار إسلامية متشددة بس اخذتني العاطفة بذاك الوقت انو همه الصوت الوحيد المعارض وگلت من الممكن انو يكونون زينين او يتحسنون بالمستقبل بس اتضحلي انو همه يمثلون” هايدن، وهو شاب مثلي في مطلع العشرينيات. 

هايدن، مثل كُثر من أفراد مجتمع الميم في العراق، كانوا قد علقوا آمالاً على تظاهرات تشرين والأحزاب المنبثقة منها للسعي في الوقوف أمام تشريع هذا القانون لكونه يتعارض مع قوانين ومعاهدات حقوق الإنسان، كما ويتعارض مع الأفكار المدنية التي انبثقت منها التظاهرات، ولكن في الواقع كان أعضاء قائمة “إشراقة كانون” من أول الداعمين لهذا القانون، كما شكر علاء الركابي الأمين العام لحركة “امتداد” آنذاك البرلمان على هذا القانون وطالب بالمضي بتشريعاته حتى وإن كانت هناك ضغوط دولية لمنع تشريعه، يُضاف إليه عدد من النواب المستقلين الذين دخلوا البرلمان على كونهم أصوات تشرين المدنية لصناعة التغيير من الداخل، وبذلك يترك هؤلاء النواب أفراد مجتمع الميم عين لمواجهة عقوبة الإعدام رغم انتخابهم. 

الإحباط وخيبة الأمل من مواقف النواب المدنيين والمستقلين من القانون يمتد إلى المنظمات الدولية، والتي يعتبر المدافعون عن حقوق مجتمع الميم عين في العراق أنها لا تولي اهتماماً خاصاً بالموضوع، بل تكتفي بحديث خجول وكأنه إسقاط واجب. “أنا أتخيّل لو أن هذا القانون كان في دولة أخرى، لشاهدنا ردة فعل مختلفة كلياً، فنفس هذه المنظمات التي تقوم بحملات كبيرة على أقل اضطهاد لأفراد مجتمع الميم عين في الغرب، لا تهتم لنا ونحن نواجه الاعدام هنا، فنحن كعراقيين حياتنا لا قيمة لها بالنسبة لهم ابداً”، يقول أحد العاملين في بغداد برايد (منصة لحقوق مجتمع الميم عين في العراق). 

“أخاف يصير العراق مصيدة لأفراد مجتمع الميم عين وميدرون شوكت يموتون بيها وميكدرون يطلعون منها”، يقول سجاد، وهو شاب مثلي في أوائل العشرينيات حيث يجد نفسه وغيره من المثليين والمثليات والعابرين والعابرات والكويريين والكويريات وكل مغايرة ومغاير لمن يعده القانون “شاذاً” في مقتلة مستمرة دون حماية.