تلاميذ لا يصلون إلى المدارس: وَحْل التعليم في الريف
28 كانون الثاني 2024
تتوحّل الطرق بسبب الأمطار، فتغلق غالبية مدارس الريف أبوابَها. ولكن حتى عندما يتمكّن الأطفال من الوصول، فإن انعدام مياه الشرب والمرافق الصحية، تجبرهم على قضاء حاجاتهم في محيط المدارس، لكنه أمر محرج للفتيات.. عن طلاب يخوضون في وحل الطرقات والتعليم في العراق..
كان الوحل اللزج أمام دائرة الزراعة في ناحية سومر جنوب شرقي محافظة الديوانية، يبتلع أقدام المارّة والتلاميذ الصغار المتجهين إلى مدارسهم. في ذلك المكان الذي يقع خارج الزمن بالمعنى التاريخي، لم يعلُ سلطةَ الطين شيئاً، ولا يشير غرق أقدام القافزين إلى أن العراق يعيش في القرن الواحد والعشرين. إنه مشهد يعود إلى مطلع شتاء عام 2018 وثّقتُه أثناء تغطيتي الصحفية لآثار تغيُّر المناخ على العراق، ولم يتغيّر فيه شيء سوى اتّساع الوحل.
حين تهطل الأمطار على ريف العراق، تنعدم صلاحيةُ الطرق فتُهجَرُ، فتغلق غالبية المدارس أبوابَها، بينما يحمل المراجعون آثار الأمطار والطين، مع رُزَم الأوراق والمستمسكات، إلى مكاتب الموظفين. ينتظر المعلمون والتلاميذ أياماً كي تتصلب الطرق فتصير سالكة مجدداً، أما في الأيام غير الممطرة فتغرق الطرق وعابروها بالغبار.
يقطع معلمو مدرسة الشعب الابتدائية، الواقعة في قرية تبعد عن مركز محافظة الديوانية ما يقارب 30 كيلومتراً. يقطعون الطريق الترابي إلى هذه المدرسة بسيارات من مركز المحافظة أو الأقضية القريبة، بينما يقصدها التلاميذ الصغار مشياً على الأقدام من القرى المحيطة بها. فـ”الشعب” المدرسة، وحيدة في المنطقة ولا تقاسمها مدرسةٌ أخرى المهمة.
كغيرها، من القليلات في أرياف العراق، تُغلَق المدرسة لما يصل الى أسبوع أو عشرة أيام مع كلّ مرة يسقط المطر، ذلك أن السيارات غير قادرة على الوصول إليها بسبب الطرق الترابية. تفصل مسافات تتراوح بين 6 الى 7 كلم قريةَ الشعب عن باقي القرى المحيطة بها، فيستغرق التلاميذ معدل ساعة من الزمن للوصول إليها، إن أذِن الطقس وعشوائية العطل الرسمية بذلك.
تتكوّن “الشعب” المدرسة، من ثلاث غرف طينية مُسقّفة بجذوع النخيل في بيتٍ خالٍ من أدنى الخدمات، تبرّع به أحد سكان القرية لصغار المنطقة وأصدقائهم المجاورين. فهو بالتالي مكان لا يصلح للتعليم، وربما للحياة.
الريف كله خارج تغطية التعليم
في القرى التي تبدو فيها الأحوال أفضل مما هي عليه الحال في قرية الشعب، تتكون المدارس من كرفانات لا تكفي عدد الصفوف، مما يجبر المعلمين على تجميع التلاميذ من صفوف مختلفة في كرفان واحد أحياناً. وتفتقد مدرسة الشعب كما المدارس الأخرى في ريف محافظات العراق ومدنه، للمرافق الصحية والمياه الصالحة للشرب، ناهيك عن انعدام وسائل التدفئة والتبريد. إنه مشهد يتكرر في غالبية القرى في العراق إن لم نقل جميعها.
يفتقر العراق، وريفه على وجه الخصوص للأبنية المدرسية الكافية فيتكدّس التلاميذ في صفوف دراسة متهالكة. وبما أنها قليلة، فليست كل القرى تنال حظّ مجاورة مدرسة، وخصوصاً المدارس الثانوية الأقل عدداً، ما يدفع الأسر إلى حرمان الأطفال، وخصوصاً الفتيات من التعليم بعد إكمال المرحلة الابتدائية بحجة هذه المسافة، وتجسيداً لأعراف اجتماعية تضع الأنثى بمراتب أدنى.
يتكرّر مشهد قرية الشعب ومحيطاتها في ريف محافظة ميسان أيضاً: المسافات بين القرى شاسعة ولا توصلها طرق مواصلات ببعضها، الأمر الذي يجبر الطلاب على المشي. وهناك مشكلة أخرى تواجه التلاميذ في الطرقات وهي انتشار الكلاب السائبة في غالبية المساحات الواقعة بين القرى.
يواجه التلاميذ انعدام المياه الصالحة للشرب والمرافق الصحية الضرورية للأطفال، الأمر الذي يجبرهم على قضاء حاجاتهم في محيط المدارس أثناء فترات الاستراحة، إنما الأمر محرج للفتيات حيث لا يمكنهن فعل ذلك. ولا يقتصر غياب الخدمات على المدراس القديمة، بل حتى المدارس الجديدة والمشيّدة حديثاً تفتقر لخدمات المياه الصالحة للشرب وكذلك المياه في المرافق الصحية، ما يضعها خارج الاستخدام.
البؤس
يخالف هذا الواقع التعليمي البائس في العراق الخطط الحكومية بشأن التعليم في الريف. ففي فقرة بعنوان “تبني التنمية الريفية لتحقيق النمو المتوازن والعدالة الاجتماعية والأمن الغذائي” ضمن تقرير متابعة تنفيذ الخطة الاستراتيجية لوزارة التخطيط لعام 2022، جاء التالي:
- تعزيز استقرار السكان في القرى والمدن الصغيرة بما يسهم في تحقيق فرص عمل في الريف ونشر التنمية المكانية وتقليل التركز في المدن الكبرى.
- تبني وتوجيه تنمية اقتصادية وبشرية داعمة للتنمية المكانية الريفية تحقق العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية بإنشاء المشاريع الإنتاجية والخدمية في المحافظات والأقضية والنواحي.
- توجيه الإنفاق المالي لتعزيز البنى التحتية للمناطق الريفية.
- تبني ودعم وتعزيز المشاريع الزراعية بما يضمن تحقيق الأمن الغذائي.
- تبني برامج داعمة للمجتمع الريفي (المرأة والاقتصاد).
وبما أن الزراعة عنصرٌ حاسمٌ في الاقتصاد المتنوع الذي يمكن أن يساعد أيضاً في الحدّ من الفقر، تم تحديدها بموجب خطة التنمية الاقتصادية للفترة 2013-2017، كواحدة من خمس قطاعات يتم التركيز عليها للاستثمار بهدف تنويع مصادر النمو وكذلك الحدّ من عدم المساواة الاقتصادية بين المناطق الحضرية والريفية في العراق. وحددت خطة التنمية (2018-2022) الزيادة المستهدفة في مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 4.5 في المئة في عام 2015 إلى 5.2 في المئة في عام 2022؛ ورفع معدل نمو القطاع إلى 8.4 بالمئة سنوياً. وكانت النساء في المناطق الريفية يشكلن نقطة التركيز الرئيسية في هذه المشاريع.
ما يمكن ملاحظته في سياق هذه المشاريع الحكومية، هو فصام تام بين السياسات المعلن عنها وبين واقع الريف العراقي المنسي تماماً، خاصة إن التنميةَ الريفية تنطلق من التعليم والاستثمار في الرأسمال البشري قبل أيّ شيء آخر، بينما يعاني هذا القطاع من تراجع كبير في عموم العراق، بحسب تقرير صادر عن مجموعة البنك الدولي عام 2022.
الخسارات
وقد صنفت وثيقة البنك الدولي المعنونة (تقرير المناخ والتنمية) نظام التعليم في العراق على أنه أضعف الأنظمة في المنطقة. وتشير التقديرات بحسب الوثيقة نفسها إلى أن الطفل المولود في العراق لن يصل إلا إلى 40 بالمئة من إمكاناته، مما يعكس مستوىً منخفضاً للغاية من رأس المال البشري. تالياً، لا يتقدم العراق من ناحية النظام التعليمي إلا على اليمن ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.
وفي ما يخص استقرار سكان الريف والعدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية، كما جاء في الخطط الحكومية، فتنسفها هجرةُ أكثر من 11 ألف عائلة من سكان مناطق الأهوار عام 2023 وحده، وتوجههم إلى المدن جرّاء الخسارات الناجمة عن الجفاف في السنين الأخيرة. وإن نمَّ ذلك عن شيء، فهو ينمّ عن تراجع حاد لمصادر الرزق وارتفاع الفقر بين سكان الريف الذين تبلغ أعدادهم 12 مليوناً من مجموع سكان العراق.
ولا تقتصر خسارات اقتصادات الريف، بما في ذلك الزراعة، على مناطق الأهوار فقط، بل تشمل الريف العراقي بأكمله حسب بيانات تعود إلى وزارة التخطيط حول الواقع الزراعي الذي أصابه شلل شبه تام جراء التصحّر والجفاف خلال السنوات الأخيرة. وتشير الأرقام إلى أن 70 في المئة من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة والإنتاج -بما في ذلك الأراضي الصحراوية- تصحرت ولم تعد صالحة للإنتاج. وبحسب تقرير لبعثة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، يفقد البلد نحو 400 ألف دونم من الأراضي الزراعية سنوياً جرّاء آثار تغيّر المناخ، أي أن خسارة التربة الغنية الصالحة للزراعة، تعادل ضعف مساحة العاصمة بغداد سنوياً.
تالياً، وبناءً على البيانات المذكورة التي تشمل عامي 2020-2021، ويؤكد عليها الجهاز المركزي للإحصاء، فإن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة والإنتاج في العراق لا تتجاوز 30 بالمئة، وهي أيضاً تتعرض لضغوطات مناخية وبشرية هائلة يأتي في مقدمتها الاستغلال المفرط والتوسّع العمراني.
الحرمان
يعد حرمان الصغار من التعليم وتضاعف الأعباء الاجتماعية-الاقتصادية على النساء، أحد أبرز ملامح هذا التدهور الزراعي الحاصل في الريف العراقي. إن التعليم في القرى الجنوبية مثلاً، يزداد سوءاً لأسباب كثيرة، تأتي في مقدمتها قلّة المدارس في الأرياف والأحوال المعيشية الصعبة التي تدفع الكثير من الأهالي إلى تشغيل أولادهم في تربية المواشي والمتبقي من الزراعة بدل الاستثمار في التعليم.
من هنا، لا يمكن اعتماد الوثائق والبيانات الحكومية في ما يخصّ التعليم والتنمية البشرية في الريف، لأن التفاوت الواضح بين واقع الأرياف من ناحية التعليم والخدمات الصحية والتنمية وبين بيانات وزارة التخطيط، يحتاج إلى تقصٍ ميداني لمعرفة الحقيقة. وبما أن التعليم يدخل في قلب التنمية البشرية، يمكن التطرق إلى تحدٍّ آخر يواجه التعليم في الريف العراقي، وهو نقص كبير في الكادر التعليمي، في وقت تعاني بعض المدارس في المدن من فائض كبير من أعداد المعلمين.
في الظاهر، يتعلق هذا الأمر بتسوية في المِلاكات التربوية، وهي من المشكلات المستفحلة في قطاع التربية والتعليم في العراق، إنما هو في الحقيقة غياب شبه مطلق للاستثمار في الرأسمال البشري تعود أسبابه الرئيسية إلى نظام التعليم في العراق. فعلى الرغم من أن تسوية المِلاكات التعليمية تدخل ضمن التخطيط والاستثمار في الرأسمال البشري وفق احتياجات المناطق والمدارس، تتم في أغلب الأوقات مع بداية الفصل الدراسي فضلاً عن التدخلات والوساطات لصالح المدينة.
ففي وقت تشير بيانات مديرية التربية في محافظة مثل ميسان إلى أن احتياجها الفعلي للكوادر التربوية يبلغ 16 ألف درجة وظيفية لمعالجة النقص، تم تعيين أكثر من 30 ألف موظف بين معلّمٍ وفنيٍ وإداري في محافظة الديوانية فقط خلال عام 2023. وفي الغالب لا يتم الاستثمار في المورد البشري الكبير، وتكتفي مديريات التربية بتوزيعهم على المدارس في المدن دون تخطيط مسبق.
إنها صورة جلية عن التعليم في العراق، ولا حرج إذا أراد المرء الاطلاع على ما يجري في عملية التعليم ذاتها. على سبيل المثال يتأخر توزيع الكتب والقرطاسية بين شهر ونصف أو شهرين في القرى، أي أن امتحانات النصف الأول من السنة بدأت، بينما لم يحصل التلاميذ بعد على مستلزمات التعليم، ما يساهم في تراجع مستوى التعليم والمزيد من التهميش بحق سكان الريف.
“يمدّون المياه العفنة والمالحة للأطفال، والمنطقة منكوبة منذ السبعينات”، هذا ما يقوله عراقيٌّ من منطقة الجرف بقضاء الوركاء في محافظة المثنى، الأرض ذاتها التي ولدت فيها ملحمة جلجامش، فلا استغراب من تصنيف النظام التعليمي في العراق ضمن أضعف الأنظمة التعليمية في المنطقة.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
كان الوحل اللزج أمام دائرة الزراعة في ناحية سومر جنوب شرقي محافظة الديوانية، يبتلع أقدام المارّة والتلاميذ الصغار المتجهين إلى مدارسهم. في ذلك المكان الذي يقع خارج الزمن بالمعنى التاريخي، لم يعلُ سلطةَ الطين شيئاً، ولا يشير غرق أقدام القافزين إلى أن العراق يعيش في القرن الواحد والعشرين. إنه مشهد يعود إلى مطلع شتاء عام 2018 وثّقتُه أثناء تغطيتي الصحفية لآثار تغيُّر المناخ على العراق، ولم يتغيّر فيه شيء سوى اتّساع الوحل.
حين تهطل الأمطار على ريف العراق، تنعدم صلاحيةُ الطرق فتُهجَرُ، فتغلق غالبية المدارس أبوابَها، بينما يحمل المراجعون آثار الأمطار والطين، مع رُزَم الأوراق والمستمسكات، إلى مكاتب الموظفين. ينتظر المعلمون والتلاميذ أياماً كي تتصلب الطرق فتصير سالكة مجدداً، أما في الأيام غير الممطرة فتغرق الطرق وعابروها بالغبار.
يقطع معلمو مدرسة الشعب الابتدائية، الواقعة في قرية تبعد عن مركز محافظة الديوانية ما يقارب 30 كيلومتراً. يقطعون الطريق الترابي إلى هذه المدرسة بسيارات من مركز المحافظة أو الأقضية القريبة، بينما يقصدها التلاميذ الصغار مشياً على الأقدام من القرى المحيطة بها. فـ”الشعب” المدرسة، وحيدة في المنطقة ولا تقاسمها مدرسةٌ أخرى المهمة.
كغيرها، من القليلات في أرياف العراق، تُغلَق المدرسة لما يصل الى أسبوع أو عشرة أيام مع كلّ مرة يسقط المطر، ذلك أن السيارات غير قادرة على الوصول إليها بسبب الطرق الترابية. تفصل مسافات تتراوح بين 6 الى 7 كلم قريةَ الشعب عن باقي القرى المحيطة بها، فيستغرق التلاميذ معدل ساعة من الزمن للوصول إليها، إن أذِن الطقس وعشوائية العطل الرسمية بذلك.
تتكوّن “الشعب” المدرسة، من ثلاث غرف طينية مُسقّفة بجذوع النخيل في بيتٍ خالٍ من أدنى الخدمات، تبرّع به أحد سكان القرية لصغار المنطقة وأصدقائهم المجاورين. فهو بالتالي مكان لا يصلح للتعليم، وربما للحياة.
الريف كله خارج تغطية التعليم
في القرى التي تبدو فيها الأحوال أفضل مما هي عليه الحال في قرية الشعب، تتكون المدارس من كرفانات لا تكفي عدد الصفوف، مما يجبر المعلمين على تجميع التلاميذ من صفوف مختلفة في كرفان واحد أحياناً. وتفتقد مدرسة الشعب كما المدارس الأخرى في ريف محافظات العراق ومدنه، للمرافق الصحية والمياه الصالحة للشرب، ناهيك عن انعدام وسائل التدفئة والتبريد. إنه مشهد يتكرر في غالبية القرى في العراق إن لم نقل جميعها.
يفتقر العراق، وريفه على وجه الخصوص للأبنية المدرسية الكافية فيتكدّس التلاميذ في صفوف دراسة متهالكة. وبما أنها قليلة، فليست كل القرى تنال حظّ مجاورة مدرسة، وخصوصاً المدارس الثانوية الأقل عدداً، ما يدفع الأسر إلى حرمان الأطفال، وخصوصاً الفتيات من التعليم بعد إكمال المرحلة الابتدائية بحجة هذه المسافة، وتجسيداً لأعراف اجتماعية تضع الأنثى بمراتب أدنى.
يتكرّر مشهد قرية الشعب ومحيطاتها في ريف محافظة ميسان أيضاً: المسافات بين القرى شاسعة ولا توصلها طرق مواصلات ببعضها، الأمر الذي يجبر الطلاب على المشي. وهناك مشكلة أخرى تواجه التلاميذ في الطرقات وهي انتشار الكلاب السائبة في غالبية المساحات الواقعة بين القرى.
يواجه التلاميذ انعدام المياه الصالحة للشرب والمرافق الصحية الضرورية للأطفال، الأمر الذي يجبرهم على قضاء حاجاتهم في محيط المدارس أثناء فترات الاستراحة، إنما الأمر محرج للفتيات حيث لا يمكنهن فعل ذلك. ولا يقتصر غياب الخدمات على المدراس القديمة، بل حتى المدارس الجديدة والمشيّدة حديثاً تفتقر لخدمات المياه الصالحة للشرب وكذلك المياه في المرافق الصحية، ما يضعها خارج الاستخدام.
البؤس
يخالف هذا الواقع التعليمي البائس في العراق الخطط الحكومية بشأن التعليم في الريف. ففي فقرة بعنوان “تبني التنمية الريفية لتحقيق النمو المتوازن والعدالة الاجتماعية والأمن الغذائي” ضمن تقرير متابعة تنفيذ الخطة الاستراتيجية لوزارة التخطيط لعام 2022، جاء التالي:
- تعزيز استقرار السكان في القرى والمدن الصغيرة بما يسهم في تحقيق فرص عمل في الريف ونشر التنمية المكانية وتقليل التركز في المدن الكبرى.
- تبني وتوجيه تنمية اقتصادية وبشرية داعمة للتنمية المكانية الريفية تحقق العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية بإنشاء المشاريع الإنتاجية والخدمية في المحافظات والأقضية والنواحي.
- توجيه الإنفاق المالي لتعزيز البنى التحتية للمناطق الريفية.
- تبني ودعم وتعزيز المشاريع الزراعية بما يضمن تحقيق الأمن الغذائي.
- تبني برامج داعمة للمجتمع الريفي (المرأة والاقتصاد).
وبما أن الزراعة عنصرٌ حاسمٌ في الاقتصاد المتنوع الذي يمكن أن يساعد أيضاً في الحدّ من الفقر، تم تحديدها بموجب خطة التنمية الاقتصادية للفترة 2013-2017، كواحدة من خمس قطاعات يتم التركيز عليها للاستثمار بهدف تنويع مصادر النمو وكذلك الحدّ من عدم المساواة الاقتصادية بين المناطق الحضرية والريفية في العراق. وحددت خطة التنمية (2018-2022) الزيادة المستهدفة في مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 4.5 في المئة في عام 2015 إلى 5.2 في المئة في عام 2022؛ ورفع معدل نمو القطاع إلى 8.4 بالمئة سنوياً. وكانت النساء في المناطق الريفية يشكلن نقطة التركيز الرئيسية في هذه المشاريع.
ما يمكن ملاحظته في سياق هذه المشاريع الحكومية، هو فصام تام بين السياسات المعلن عنها وبين واقع الريف العراقي المنسي تماماً، خاصة إن التنميةَ الريفية تنطلق من التعليم والاستثمار في الرأسمال البشري قبل أيّ شيء آخر، بينما يعاني هذا القطاع من تراجع كبير في عموم العراق، بحسب تقرير صادر عن مجموعة البنك الدولي عام 2022.
الخسارات
وقد صنفت وثيقة البنك الدولي المعنونة (تقرير المناخ والتنمية) نظام التعليم في العراق على أنه أضعف الأنظمة في المنطقة. وتشير التقديرات بحسب الوثيقة نفسها إلى أن الطفل المولود في العراق لن يصل إلا إلى 40 بالمئة من إمكاناته، مما يعكس مستوىً منخفضاً للغاية من رأس المال البشري. تالياً، لا يتقدم العراق من ناحية النظام التعليمي إلا على اليمن ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.
وفي ما يخص استقرار سكان الريف والعدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية، كما جاء في الخطط الحكومية، فتنسفها هجرةُ أكثر من 11 ألف عائلة من سكان مناطق الأهوار عام 2023 وحده، وتوجههم إلى المدن جرّاء الخسارات الناجمة عن الجفاف في السنين الأخيرة. وإن نمَّ ذلك عن شيء، فهو ينمّ عن تراجع حاد لمصادر الرزق وارتفاع الفقر بين سكان الريف الذين تبلغ أعدادهم 12 مليوناً من مجموع سكان العراق.
ولا تقتصر خسارات اقتصادات الريف، بما في ذلك الزراعة، على مناطق الأهوار فقط، بل تشمل الريف العراقي بأكمله حسب بيانات تعود إلى وزارة التخطيط حول الواقع الزراعي الذي أصابه شلل شبه تام جراء التصحّر والجفاف خلال السنوات الأخيرة. وتشير الأرقام إلى أن 70 في المئة من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة والإنتاج -بما في ذلك الأراضي الصحراوية- تصحرت ولم تعد صالحة للإنتاج. وبحسب تقرير لبعثة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، يفقد البلد نحو 400 ألف دونم من الأراضي الزراعية سنوياً جرّاء آثار تغيّر المناخ، أي أن خسارة التربة الغنية الصالحة للزراعة، تعادل ضعف مساحة العاصمة بغداد سنوياً.
تالياً، وبناءً على البيانات المذكورة التي تشمل عامي 2020-2021، ويؤكد عليها الجهاز المركزي للإحصاء، فإن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة والإنتاج في العراق لا تتجاوز 30 بالمئة، وهي أيضاً تتعرض لضغوطات مناخية وبشرية هائلة يأتي في مقدمتها الاستغلال المفرط والتوسّع العمراني.
الحرمان
يعد حرمان الصغار من التعليم وتضاعف الأعباء الاجتماعية-الاقتصادية على النساء، أحد أبرز ملامح هذا التدهور الزراعي الحاصل في الريف العراقي. إن التعليم في القرى الجنوبية مثلاً، يزداد سوءاً لأسباب كثيرة، تأتي في مقدمتها قلّة المدارس في الأرياف والأحوال المعيشية الصعبة التي تدفع الكثير من الأهالي إلى تشغيل أولادهم في تربية المواشي والمتبقي من الزراعة بدل الاستثمار في التعليم.
من هنا، لا يمكن اعتماد الوثائق والبيانات الحكومية في ما يخصّ التعليم والتنمية البشرية في الريف، لأن التفاوت الواضح بين واقع الأرياف من ناحية التعليم والخدمات الصحية والتنمية وبين بيانات وزارة التخطيط، يحتاج إلى تقصٍ ميداني لمعرفة الحقيقة. وبما أن التعليم يدخل في قلب التنمية البشرية، يمكن التطرق إلى تحدٍّ آخر يواجه التعليم في الريف العراقي، وهو نقص كبير في الكادر التعليمي، في وقت تعاني بعض المدارس في المدن من فائض كبير من أعداد المعلمين.
في الظاهر، يتعلق هذا الأمر بتسوية في المِلاكات التربوية، وهي من المشكلات المستفحلة في قطاع التربية والتعليم في العراق، إنما هو في الحقيقة غياب شبه مطلق للاستثمار في الرأسمال البشري تعود أسبابه الرئيسية إلى نظام التعليم في العراق. فعلى الرغم من أن تسوية المِلاكات التعليمية تدخل ضمن التخطيط والاستثمار في الرأسمال البشري وفق احتياجات المناطق والمدارس، تتم في أغلب الأوقات مع بداية الفصل الدراسي فضلاً عن التدخلات والوساطات لصالح المدينة.
ففي وقت تشير بيانات مديرية التربية في محافظة مثل ميسان إلى أن احتياجها الفعلي للكوادر التربوية يبلغ 16 ألف درجة وظيفية لمعالجة النقص، تم تعيين أكثر من 30 ألف موظف بين معلّمٍ وفنيٍ وإداري في محافظة الديوانية فقط خلال عام 2023. وفي الغالب لا يتم الاستثمار في المورد البشري الكبير، وتكتفي مديريات التربية بتوزيعهم على المدارس في المدن دون تخطيط مسبق.
إنها صورة جلية عن التعليم في العراق، ولا حرج إذا أراد المرء الاطلاع على ما يجري في عملية التعليم ذاتها. على سبيل المثال يتأخر توزيع الكتب والقرطاسية بين شهر ونصف أو شهرين في القرى، أي أن امتحانات النصف الأول من السنة بدأت، بينما لم يحصل التلاميذ بعد على مستلزمات التعليم، ما يساهم في تراجع مستوى التعليم والمزيد من التهميش بحق سكان الريف.
“يمدّون المياه العفنة والمالحة للأطفال، والمنطقة منكوبة منذ السبعينات”، هذا ما يقوله عراقيٌّ من منطقة الجرف بقضاء الوركاء في محافظة المثنى، الأرض ذاتها التي ولدت فيها ملحمة جلجامش، فلا استغراب من تصنيف النظام التعليمي في العراق ضمن أضعف الأنظمة التعليمية في المنطقة.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.