غجر كردستان.. عن "هوستا" الذي بدل "حمولة حمار" بحياة حديثة
23 كانون الثاني 2024
نحو 50 ألف "هوستا" أو غجري، يعيشون في إقليم كردستان، أكبر الهواجس التي يواجهونها هي محنة الماضي، وقبول الحاضر، وهذا صراع يومي يعيشه "الهوستا" وشكّل أزمة جيلية بين الأبناء والأباء..
يعمل يونس ظاهر بيرو (48 عاماً) رئيساً لقبائل الغجر في إقليم كردستان، يحاول والفريق الذي معه وضع حد لمعاناة أبناء جلدته، وتحسین أوضاعهم المعيشية، والحد من حياة الترحال، ونمط العيش الذي كان يعيشه أجدادهم.
أثمرت جهود بيرو وفريقه خلال السنوات الماضية في تحقيق بعض التغييرات في مجتمعه؛ ونجح “الهوستا” في الاستقرار أخيراً بعد قرون من الترحال، وصار لديهم مجمعات سكنية، مثل تلك الموجودة في محافظة دهوك، كمجمعي ادار ورزكاري، لكنهم ما يزالون يكافحون من أجل الحصول على حقوقهم الكاملة، والتعامل معهم على أنهم مواطنون، بكامل ما تحمله هذه الصفة من حقوق.
يقول بيرو في حديث مع جمّار، “تمكنّا من عمل تغيير في مجتمعنا الذي كان يعاني الأمّية والتخلّف، وغياب الأفراد الذين يمتلكون القدرات والمؤهلات للعمل خارج المجتمع الغجري”. اليوم هناك أكثر من 200 خريج يحمل شهادة البكالوريوس من شباب وفتيات الغجر، فضلاً عن المئات من خريجي مرحلة الإعدادية، وهذا ساهم بحسب بيرو في بناء جيل يمكنه الاعتماد على نفسه، وهو جيل يختلف تماماً عن الآباء والأجداد.
ليسوا رحّالة فقط، إنهم ثوّار وضباط
كان غالبية الغجر في إقليم كردستان يعيشون نمط حياة قاسية، التنقل والترحال من منطقة لأخرى هو السمة الطاغية على حياتهم، ويعتمد أغلبهم على ممارسة مهن وحرف ذاتية، أبرزها الصناعات اليدوية، كصناعة الغرابيل والسلال والأواني الخشبية، وبعض الآلات الموسيقية، كالطبل والمزمار والدفوف والطنبور، فضلاً عن أدائهم الفني المتميز في الحفلات والمناسبات.
في السنوات القليلة الماضية تغيّر نمط حياة الغجر في محافظة دهوك بشكل خاص وملحوظ، فحياة الترحال والتنقل بين المناطق باتت شبه غائبة عن يوميات الغجر، كما أن جيلاً مسلحاً بالمؤهلات العلمية والمهنية بدأ يصعد، ويشق طريقه لإيجاد موطئ قدم له وسط المجتمع المحلي في إقليم كردستان.
الاستقرار، وترك حياة الترحال، غيّر طريقة تفكير الغجر نحو الحياة، فهم يعون أهمية العمل مع الجهات الحكومية وشركات القطاعين الخاص والعام، لتوفير فرص العمل لهم، وعن هذا يقول يونس ظاهر بيرو، رئيس قبائل الغجر، “إن عدداً من الشبان يعملون حالياً في مؤسسات حكومية وأمنية وسياسية ومنظمات مجتمع مدني، فضلاً عن توغل العديد من شباب الغجر في صفوف قوات البيشمركة”.
لم يقف الغجر عند الانخراط بحياة مختلفة عن حياة أسلافهم وحسب، بل تدرجوا بهذا الانخراط، وذهبوا بعيداً في طموحهم نحو الاستقرار، لذلك أصبحوا يتبوؤون مناصب عسكرية رفيعة، وقبل ذلك يقول بيرو إن شعبه شارك شعب إقليم كردستان في ثوراته ضد أنظمة الحكم السابقة في العراق، كما شاركوا في الحرب ضد داعش ضمن قوات البيشمركة، “قدموا كوكبة من الشهداء في تلك الحرب، ولم نمارس أية خيانة ضد شعب كردستان في تاريخنا”.
الهوستا
رغم التحوّل إلى حياة الاستقرار؛ إلا أن بعض العوائل -التي استقرّت أيضاً- ما تزال تمارس حرفتها التي توارثتها من الأجداد، مثل محمود عزيز (65 عاماً) الذي يعمل منذ 45 سنةً في حِرفة الأعمال اليدوية، “أنا أصنع السلال وأقفاص الطيور والفؤوس والمناجل والسكاكين والسواطير ومهود الأطفال، وأدوات إعداد الخبز الصاج، وغيرها من المستلزمات اليدوية” وهو فخور بعمله.
تطور الحياة الحديثة، وأدواتها تسبب بتراجع الطلب على ما يصنعه محمود عزيز وأولاده، الذين علمهم المهنة أيضاً، ويذكر لجمّار أن شراء منتجهم ما يزال يحظى بالإقبال في القرى، أما في المدن فتراجع الطلب عليها بسبب “غزو الأجهزة المتطورة للأسواق، كما أن النساء لم يعدن يصنعن الخبز في البيت كالسنوات السابقة، حيث يعتمد أغلبهن على خبز الأفران الجاهز” هكذا يصف عزيز العرض والطلب على منتجاته.
لا يريد محمود عزيز ترك “مهنة آبائه” رغم أن “الناس تشتري ما يصنع رأفةً به” وإصراره على المواصلة هو جزء من شغفه الذي لا يريد التخلي عنه، “أتجوّل بين حين وآخر لبيع ما أصنعه في القرى والمناطق النائية، مهنتي تذكرني بنمط حياة أجدادي التي فُقدت هذه الأيام”.
يفضل محمود أن يناديه الناس باسم “هوستا” وتعني باللغة بالكردية “الشخص المحترف الماهر” بدلاً عن مناداته بالغجري، فقديماً كان يطلق على الغجر تسمية “هوستا” وهو دلالة لغوية على أن هذا المجتمع منتج.
هناك تسمية أخرى ينادى بها الهوستا أو الغجر في إقليم كردستان، وهي “قرج” وتعني باللغة التركية بيت الشَعر، وهي الخيمة السوداء المصنوعة من شَعر الماعز، التي كان الغجر يستخدمونها عند استقرارهم في أي مكان يرحلون إليه.
وحتى لا تندثر الأعمال اليدوية للهوستا، قدّم الغجر مقترحاً لحكومة إقليم كردستان بإقامة ورشة للمهن والأعمال اليدوية التقليدية التي يمارسونها، فضلاً عن مراكز لحفظ التراث الشفاهي من والأغاني والموسيقى الغجرية، لكنهم وحتى كتابة هذا التقرير لم يتلقوا الرد.
يحبون الباجة والديك
يفضل الغجر في إقليم كردستان الديك الطازج، في قائمة طعامهم، و”الباجة” أيضاً أكلة محببة لهم، لا يمر أسبوع دون وجود الديك على “السُفرة”، أما “الباجة” فهي غذاء الشتاء، إنهم يفضلون الطعام الدسم
على موائدهم، وهذا ينطبق على الحلوى كذلك، مثل المحلبي والجوز واللوز والفستق.
يتحدث يونس ظاهر بيرو، عن التغيّر الكبير الذي حدث لمجتمعه في السنوات الأخيرة، “أوضاعنا تختلف بشكل كبير عن أوضاع الغجر في المناطق العراقية الأخرى كما أنها لا تقارن مع السنوات الماضية”.
يصف بيرو كيف كان أغلب الغجر يعيشون حياة الفاقة، ولا يملكون سوى المستلزمات التي يحملونها على ظهور دوابهم أينما رحلوا، بحثاً عن لقمة خبز، لكنهم الآن صاروا يعيشون في المنازل ويقودون السيارات، ونادراً ما تخلو وجبات طعام العائلة من اللحوم المتنوعة.
يتراوح عدد المواطنين الغجر في العراق بين خمسين ألفاً و200 ألف نسمة، وفقاً للدليل العالمي للأقليات والشعوب الأصلية لعام 2021. وتعترف بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) بست مجموعات أو عشائر غجرية في العراق، وتسميهم “الروما” مُشددةً على أنهم يقاسون من “تحيز وتمييز وسوء أحوال معيشية على نحو مُطلق”.
“الروما” أو “الدوم” وفقاً للتعريف الأممي، هم مجموعات فرعية متداخلة، لكنها متّحدة بفعل جذور تاريخية مشتركة، وخصائص مجتمعية لغوية، وتتعرض إلى تمييز متشابه في جميع البلدان من قبل مجموعات الأغلبية.
اعترف العراق بمواطنة الغجر على مضضٍ في مراحل متفرقة، وفقاً لانتقائية تمييزية قائمة على التوظيف السياسي، وقد منح العهد الملكي بعضاً من الغجر الجنسية العراقية عام 1924.
صراع الأجيال والحياة
فهيمة حسين (55 عاماً) تستذكر بشوق وحنين أيام حياتها السابقة، التي أمضت أغلبها في الترحال من منطقة لأخرى، قبل حصولها على مسكن في “مجمّع ادار” الخاص بالغجر في محافظة دهوك، الذي يضم 264 وحدة سكنية.
فهيمة تصف لجمّار كيف كانت الحياة في السابق أفضل، رغم أنهم حالياً يملكون منازل وسيارات، ولديهم مستلزمات الطعام والشراب والحياة السهلة، “نأكل طعاماً جيداً لكنني لست مرتاحة مع هذا النمط من الحياة، في السابق كانت جميع ممتلكات أسرتنا لا تتجاوز حمولة حمار واحد فقط، وكنا في تجوال وترحال دائم من قرية إلى قرية أو بلدة الى أخرى”.
تضيف فهيمة التي تحنّ لحياة الترحال، أنهم سابقاً، كل ما يجمعونه من المال يصرفونه في اليوم ذاته، بشراء الطعام وبعض الاحتياجات الضرورية، “لم نكن نفكر في امتلاك المنازل والسيارات والمستلزمات الأخرى، وكنا يومياً نفرح ونرقص ونغني، كنا سعداء، أما الآن كل تفكيرنا في شراء وامتلاك المستلزمات والأشياء الكمالية التي لا تنتهي”.
“في السابق كنت أشعر بأن هذه الأرض كلها مملكتي وأجوب فيها مع عائلتي كيفما أريد وننصب خيامنا في أي بقعة نرغب في البقاء فيها دون خوف ونمضي ليالينا بالسمر والغناء والفرح” لكن الحال تغير الآن، بالنسبة لفهيمة، وتعتقد أن الغجر صاروا أسرى بين جدران البيوت.
بالنسبة لجيل فهيمة من الغجر، وخاصة أولئك الذين لم يتقبلوا الواقع الجديد، والطريقة الأخرى بالعيش في مستقرات دائمة، وترك فكرة الترحال، فإنه من الصعوبة إقناعهم بأن الحياة التي ولدوا ونشؤوا عليها لم يعد لها متسع في هذا العالم، لا تريد فهيمة، وهذا مفهوم له حيزه عند ذلك الجيل، أن تتقبل فكرة أن الأنامل التي كانت رشيقة في غزل الصوف وحياكة الألبسة المزركشة بالألوان، والنقش عليها، صارت الآن لا تفعل شيء سوى تقليب الشاشات، في التلفاز والموبايل.
جزء من هذا الشعور ينبع من الحزن على ضياع الفلكلور الغجري، وهو إرث شفاهي، الكثير من الأغاني والألعاب لم تعد تحظى باهتمام الأجيال الجديدة، وهذا ما يجعل الحياة في نظر الآباء والأجداد، تفقد حرارتها.
وعلى الرغم من أنها تعيش في مجمع سكني خاص بالغجر، ويضم مركزاً ثقافياً ومدرسة ومسجد، ويشهد المجمع نشاطات اجتماعية متنوعة؛ إلا أن فهيمة تحنّ إلى الماضي، “ليت تلك الأيام تعود من جديد، رغم الفاقة التي كنا نعيشها كانت صحتي جيدة من كثرة التنقل والعمل والحركة، الآن أنا مصابة بالسكري بسبب الجلوس المستمر وقلة الحركة”.
يوم دولي وحقوق ناقصة
للغجر يوم دولي، هو الثامن من كل أبريل في السنة، تسميه الأمم المتحدة، اليوم الدولي للروما، وتصفهم بأنهم “أكبر مجموعة سكانية مهمّشة حيث تعرّضت للاضطهاد لمئات السنين”.
يتحدث بيار بافي، الباحث الاجتماعي لجمّار، عن الغجر العراقيين، وعن الصراع الذي تعيشه هذه المجموعة البشرية، حيث الشباب الذي يسعى إلى مواكبة العصر والتطور التكنولوجي والحضاري، فيما يريد كبار السن الحفاظ على العادات والتقاليد، وخصوصية المجتمع، وهذا الصراع بين الجيلين سيستمر لسنوات بحسب بافي، لكنه “سينتهي لصالح جيل الشباب الذي يرغب بكسر الطوق عليهم والانخراط في المجتمع العام وإيجاد موطئ قدم لهم لأداء دورهم”.
لكن بالنسبة لبافي، ومن وجهة نظر علم الاجتماع، هناك ضرورة للحفاظ على تراث وثقافة الغجر، كونهم ساهموا بدورهم في الكثير من الصناعات اليدوية، وإثراء الغناء والموسيقى الشعبية، باعتبارها جزء من التراث الإنساني، وهم بالنسبة للأمم المتحدة، “ليسوا ضحايا للنزاعات فقط، بل هم أيضاً عناصر لا تُقدّر بثمن من أجل السلام والتضامن”.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
يعمل يونس ظاهر بيرو (48 عاماً) رئيساً لقبائل الغجر في إقليم كردستان، يحاول والفريق الذي معه وضع حد لمعاناة أبناء جلدته، وتحسین أوضاعهم المعيشية، والحد من حياة الترحال، ونمط العيش الذي كان يعيشه أجدادهم.
أثمرت جهود بيرو وفريقه خلال السنوات الماضية في تحقيق بعض التغييرات في مجتمعه؛ ونجح “الهوستا” في الاستقرار أخيراً بعد قرون من الترحال، وصار لديهم مجمعات سكنية، مثل تلك الموجودة في محافظة دهوك، كمجمعي ادار ورزكاري، لكنهم ما يزالون يكافحون من أجل الحصول على حقوقهم الكاملة، والتعامل معهم على أنهم مواطنون، بكامل ما تحمله هذه الصفة من حقوق.
يقول بيرو في حديث مع جمّار، “تمكنّا من عمل تغيير في مجتمعنا الذي كان يعاني الأمّية والتخلّف، وغياب الأفراد الذين يمتلكون القدرات والمؤهلات للعمل خارج المجتمع الغجري”. اليوم هناك أكثر من 200 خريج يحمل شهادة البكالوريوس من شباب وفتيات الغجر، فضلاً عن المئات من خريجي مرحلة الإعدادية، وهذا ساهم بحسب بيرو في بناء جيل يمكنه الاعتماد على نفسه، وهو جيل يختلف تماماً عن الآباء والأجداد.
ليسوا رحّالة فقط، إنهم ثوّار وضباط
كان غالبية الغجر في إقليم كردستان يعيشون نمط حياة قاسية، التنقل والترحال من منطقة لأخرى هو السمة الطاغية على حياتهم، ويعتمد أغلبهم على ممارسة مهن وحرف ذاتية، أبرزها الصناعات اليدوية، كصناعة الغرابيل والسلال والأواني الخشبية، وبعض الآلات الموسيقية، كالطبل والمزمار والدفوف والطنبور، فضلاً عن أدائهم الفني المتميز في الحفلات والمناسبات.
في السنوات القليلة الماضية تغيّر نمط حياة الغجر في محافظة دهوك بشكل خاص وملحوظ، فحياة الترحال والتنقل بين المناطق باتت شبه غائبة عن يوميات الغجر، كما أن جيلاً مسلحاً بالمؤهلات العلمية والمهنية بدأ يصعد، ويشق طريقه لإيجاد موطئ قدم له وسط المجتمع المحلي في إقليم كردستان.
الاستقرار، وترك حياة الترحال، غيّر طريقة تفكير الغجر نحو الحياة، فهم يعون أهمية العمل مع الجهات الحكومية وشركات القطاعين الخاص والعام، لتوفير فرص العمل لهم، وعن هذا يقول يونس ظاهر بيرو، رئيس قبائل الغجر، “إن عدداً من الشبان يعملون حالياً في مؤسسات حكومية وأمنية وسياسية ومنظمات مجتمع مدني، فضلاً عن توغل العديد من شباب الغجر في صفوف قوات البيشمركة”.
لم يقف الغجر عند الانخراط بحياة مختلفة عن حياة أسلافهم وحسب، بل تدرجوا بهذا الانخراط، وذهبوا بعيداً في طموحهم نحو الاستقرار، لذلك أصبحوا يتبوؤون مناصب عسكرية رفيعة، وقبل ذلك يقول بيرو إن شعبه شارك شعب إقليم كردستان في ثوراته ضد أنظمة الحكم السابقة في العراق، كما شاركوا في الحرب ضد داعش ضمن قوات البيشمركة، “قدموا كوكبة من الشهداء في تلك الحرب، ولم نمارس أية خيانة ضد شعب كردستان في تاريخنا”.
الهوستا
رغم التحوّل إلى حياة الاستقرار؛ إلا أن بعض العوائل -التي استقرّت أيضاً- ما تزال تمارس حرفتها التي توارثتها من الأجداد، مثل محمود عزيز (65 عاماً) الذي يعمل منذ 45 سنةً في حِرفة الأعمال اليدوية، “أنا أصنع السلال وأقفاص الطيور والفؤوس والمناجل والسكاكين والسواطير ومهود الأطفال، وأدوات إعداد الخبز الصاج، وغيرها من المستلزمات اليدوية” وهو فخور بعمله.
تطور الحياة الحديثة، وأدواتها تسبب بتراجع الطلب على ما يصنعه محمود عزيز وأولاده، الذين علمهم المهنة أيضاً، ويذكر لجمّار أن شراء منتجهم ما يزال يحظى بالإقبال في القرى، أما في المدن فتراجع الطلب عليها بسبب “غزو الأجهزة المتطورة للأسواق، كما أن النساء لم يعدن يصنعن الخبز في البيت كالسنوات السابقة، حيث يعتمد أغلبهن على خبز الأفران الجاهز” هكذا يصف عزيز العرض والطلب على منتجاته.
لا يريد محمود عزيز ترك “مهنة آبائه” رغم أن “الناس تشتري ما يصنع رأفةً به” وإصراره على المواصلة هو جزء من شغفه الذي لا يريد التخلي عنه، “أتجوّل بين حين وآخر لبيع ما أصنعه في القرى والمناطق النائية، مهنتي تذكرني بنمط حياة أجدادي التي فُقدت هذه الأيام”.
يفضل محمود أن يناديه الناس باسم “هوستا” وتعني باللغة بالكردية “الشخص المحترف الماهر” بدلاً عن مناداته بالغجري، فقديماً كان يطلق على الغجر تسمية “هوستا” وهو دلالة لغوية على أن هذا المجتمع منتج.
هناك تسمية أخرى ينادى بها الهوستا أو الغجر في إقليم كردستان، وهي “قرج” وتعني باللغة التركية بيت الشَعر، وهي الخيمة السوداء المصنوعة من شَعر الماعز، التي كان الغجر يستخدمونها عند استقرارهم في أي مكان يرحلون إليه.
وحتى لا تندثر الأعمال اليدوية للهوستا، قدّم الغجر مقترحاً لحكومة إقليم كردستان بإقامة ورشة للمهن والأعمال اليدوية التقليدية التي يمارسونها، فضلاً عن مراكز لحفظ التراث الشفاهي من والأغاني والموسيقى الغجرية، لكنهم وحتى كتابة هذا التقرير لم يتلقوا الرد.
يحبون الباجة والديك
يفضل الغجر في إقليم كردستان الديك الطازج، في قائمة طعامهم، و”الباجة” أيضاً أكلة محببة لهم، لا يمر أسبوع دون وجود الديك على “السُفرة”، أما “الباجة” فهي غذاء الشتاء، إنهم يفضلون الطعام الدسم
على موائدهم، وهذا ينطبق على الحلوى كذلك، مثل المحلبي والجوز واللوز والفستق.
يتحدث يونس ظاهر بيرو، عن التغيّر الكبير الذي حدث لمجتمعه في السنوات الأخيرة، “أوضاعنا تختلف بشكل كبير عن أوضاع الغجر في المناطق العراقية الأخرى كما أنها لا تقارن مع السنوات الماضية”.
يصف بيرو كيف كان أغلب الغجر يعيشون حياة الفاقة، ولا يملكون سوى المستلزمات التي يحملونها على ظهور دوابهم أينما رحلوا، بحثاً عن لقمة خبز، لكنهم الآن صاروا يعيشون في المنازل ويقودون السيارات، ونادراً ما تخلو وجبات طعام العائلة من اللحوم المتنوعة.
يتراوح عدد المواطنين الغجر في العراق بين خمسين ألفاً و200 ألف نسمة، وفقاً للدليل العالمي للأقليات والشعوب الأصلية لعام 2021. وتعترف بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) بست مجموعات أو عشائر غجرية في العراق، وتسميهم “الروما” مُشددةً على أنهم يقاسون من “تحيز وتمييز وسوء أحوال معيشية على نحو مُطلق”.
“الروما” أو “الدوم” وفقاً للتعريف الأممي، هم مجموعات فرعية متداخلة، لكنها متّحدة بفعل جذور تاريخية مشتركة، وخصائص مجتمعية لغوية، وتتعرض إلى تمييز متشابه في جميع البلدان من قبل مجموعات الأغلبية.
اعترف العراق بمواطنة الغجر على مضضٍ في مراحل متفرقة، وفقاً لانتقائية تمييزية قائمة على التوظيف السياسي، وقد منح العهد الملكي بعضاً من الغجر الجنسية العراقية عام 1924.
صراع الأجيال والحياة
فهيمة حسين (55 عاماً) تستذكر بشوق وحنين أيام حياتها السابقة، التي أمضت أغلبها في الترحال من منطقة لأخرى، قبل حصولها على مسكن في “مجمّع ادار” الخاص بالغجر في محافظة دهوك، الذي يضم 264 وحدة سكنية.
فهيمة تصف لجمّار كيف كانت الحياة في السابق أفضل، رغم أنهم حالياً يملكون منازل وسيارات، ولديهم مستلزمات الطعام والشراب والحياة السهلة، “نأكل طعاماً جيداً لكنني لست مرتاحة مع هذا النمط من الحياة، في السابق كانت جميع ممتلكات أسرتنا لا تتجاوز حمولة حمار واحد فقط، وكنا في تجوال وترحال دائم من قرية إلى قرية أو بلدة الى أخرى”.
تضيف فهيمة التي تحنّ لحياة الترحال، أنهم سابقاً، كل ما يجمعونه من المال يصرفونه في اليوم ذاته، بشراء الطعام وبعض الاحتياجات الضرورية، “لم نكن نفكر في امتلاك المنازل والسيارات والمستلزمات الأخرى، وكنا يومياً نفرح ونرقص ونغني، كنا سعداء، أما الآن كل تفكيرنا في شراء وامتلاك المستلزمات والأشياء الكمالية التي لا تنتهي”.
“في السابق كنت أشعر بأن هذه الأرض كلها مملكتي وأجوب فيها مع عائلتي كيفما أريد وننصب خيامنا في أي بقعة نرغب في البقاء فيها دون خوف ونمضي ليالينا بالسمر والغناء والفرح” لكن الحال تغير الآن، بالنسبة لفهيمة، وتعتقد أن الغجر صاروا أسرى بين جدران البيوت.
بالنسبة لجيل فهيمة من الغجر، وخاصة أولئك الذين لم يتقبلوا الواقع الجديد، والطريقة الأخرى بالعيش في مستقرات دائمة، وترك فكرة الترحال، فإنه من الصعوبة إقناعهم بأن الحياة التي ولدوا ونشؤوا عليها لم يعد لها متسع في هذا العالم، لا تريد فهيمة، وهذا مفهوم له حيزه عند ذلك الجيل، أن تتقبل فكرة أن الأنامل التي كانت رشيقة في غزل الصوف وحياكة الألبسة المزركشة بالألوان، والنقش عليها، صارت الآن لا تفعل شيء سوى تقليب الشاشات، في التلفاز والموبايل.
جزء من هذا الشعور ينبع من الحزن على ضياع الفلكلور الغجري، وهو إرث شفاهي، الكثير من الأغاني والألعاب لم تعد تحظى باهتمام الأجيال الجديدة، وهذا ما يجعل الحياة في نظر الآباء والأجداد، تفقد حرارتها.
وعلى الرغم من أنها تعيش في مجمع سكني خاص بالغجر، ويضم مركزاً ثقافياً ومدرسة ومسجد، ويشهد المجمع نشاطات اجتماعية متنوعة؛ إلا أن فهيمة تحنّ إلى الماضي، “ليت تلك الأيام تعود من جديد، رغم الفاقة التي كنا نعيشها كانت صحتي جيدة من كثرة التنقل والعمل والحركة، الآن أنا مصابة بالسكري بسبب الجلوس المستمر وقلة الحركة”.
يوم دولي وحقوق ناقصة
للغجر يوم دولي، هو الثامن من كل أبريل في السنة، تسميه الأمم المتحدة، اليوم الدولي للروما، وتصفهم بأنهم “أكبر مجموعة سكانية مهمّشة حيث تعرّضت للاضطهاد لمئات السنين”.
يتحدث بيار بافي، الباحث الاجتماعي لجمّار، عن الغجر العراقيين، وعن الصراع الذي تعيشه هذه المجموعة البشرية، حيث الشباب الذي يسعى إلى مواكبة العصر والتطور التكنولوجي والحضاري، فيما يريد كبار السن الحفاظ على العادات والتقاليد، وخصوصية المجتمع، وهذا الصراع بين الجيلين سيستمر لسنوات بحسب بافي، لكنه “سينتهي لصالح جيل الشباب الذي يرغب بكسر الطوق عليهم والانخراط في المجتمع العام وإيجاد موطئ قدم لهم لأداء دورهم”.
لكن بالنسبة لبافي، ومن وجهة نظر علم الاجتماع، هناك ضرورة للحفاظ على تراث وثقافة الغجر، كونهم ساهموا بدورهم في الكثير من الصناعات اليدوية، وإثراء الغناء والموسيقى الشعبية، باعتبارها جزء من التراث الإنساني، وهم بالنسبة للأمم المتحدة، “ليسوا ضحايا للنزاعات فقط، بل هم أيضاً عناصر لا تُقدّر بثمن من أجل السلام والتضامن”.