نظرة العراق على فلسطين والفلسطينيين: من النكبة إلى الطوفان
16 كانون الثاني 2024
ثلاث موجات لجوء فلسطيني إلى العراق، انتهت أخيراً بالهروب منه، وأنظمة عراقية كثيرة نادت بفلسطين وقضيتها، لكن مرادها كان شيئاً آخر غير فلسطين، ويتكرّر اليوم مع الفصائل المسلحة والحكومة! 7 عقود من نظرة العراق على فلسطين والفلسطينيين..
لم ينطفئ ضوء القضية الفلسطينية في العقلية العراقية، منذ نكبة 1948 وقبلها، لكن، ولأنها قضية شديدة التعقيد والتشابك بذاتها وبالنسبة لبلاد الرافدين، خفتت أحياناً، وأشعلتها أحداثٌ جسام أو استقطابات سياسية أحايين أخرى، ولأن عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023 كانت ضخمة بحد ذاتها، فكانت عودة القضية إلى الحضور في السياق العراقي أمراً حتمياً، بيد أن التعاطي معها هذه المرة كان من زوايا اختلفت عما كان عليه في السابق.
هذه المقالة تبحث في بعض تفصيلات القضية الفلسطينية وأبعادها وانعكاساتها المستقبلية على العراق.
اللجوء إلى العراق والنزوح عنه: موجات الهجرة المتعاقبة
تقدّر مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين والسلطات العراقية، عدد الفلسطينيين الذين عاشوا في العراق فترة ما بين النكبة عام 1948 وغزو واحتلال العراق عام 2003 بـنحو 34 ألف فلسطيني، جاؤوا إلى العراق على شكل موجات ثلاث، وعاشوا في محافظات بغداد والبصرة والموصل والنجف وبابل. كانت الموجة الأولى عام 1948 عندما عاد الجيش العراقي من قتاله في فلسطين مصطحباً مجموعة كبيرة من الفلسطينيين المدنيين أو الذين انخرطوا في القتال مع الجيش العراقي ضد الجيش الإسرائيلي ولم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم في مُدن وقرى قضاءي حيفا ويافا. بقي الفلسطينيون ضمن إشراف وزارة الدفاع العراقية حتى عام 1950، حين تحولت مسؤولية ملفهم إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وتحديداً “مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين” لتدير شؤونهم وتمنحهم منحاً مالية ومعونات غذائية وتنظّم وضعهم الاجتماعي بتوفير مساكن مؤقتة “لحين حلّ قضيتهم”.
وصل الفلسطينيون إلى العراق لاجئين في موجة ثانية في أعقاب نكسة حزيران عام 1967 التي قادت لاحتلال الجيش الإسرائيلي باقي الأراضي الفلسطينية، فتضاعفت عمليات التهجير القسري بقوة السلاح، وطالت آلاف الفلسطينيين الذين لجئوا إلى مختلف دول العالم، ومنهم أولئك الواصلون إلى بلاد ما بين النهرين.
كانت الموجة الثالثة، والأخيرة، لنزوح فلسطينيين إلى العراق أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991 عندما احتل نظام صدام حسين الكويت. إذ قادت هذه العمليات العسكرية إلى خروج الفلسطينيين من الدولة المغزوّة إلى الدولة الغازية، وبرعاية الجيش العراقي الذي سيطر على كل جغرافيا الكويت آنذاك.
بالعموم، لم يمنح العراق إطاراً رسمياً للتعامل مع الفلسطينيين الذين أتوا بعد عام 1950، إذ عدت مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين فقط من دخل العراق بين عامي 1948 و1950 لاجئاً رسمياً، أما من قَدِم بعدها فلم يعترف به كلاجئ، ما عقّد أوضاعهم القانونية. ولقناعة العراق بضرورة إبقاء جذور الفلسطينيين ممتدة في أرضهم، فقد وجد أن توطينهم قد يقود لإنهاء قضيتهم، لذلك فلم يمنح هؤلاء الجنسية العراقية.
بيد أن ذلك لم يؤثر على وضع الفلسطينيين في العراق، إذ استفادوا من النظام المجاني للجامعات والمدارس، ومثلها المؤسسات الصحية والخدمية، وسمح لهم بالعمل ومزاولة النشاطات التجارية. وفي عام 2001 صدر قرار مجلس قيادة الثورة رقم 202 الذي نص على أن يعامل الفلسطيني معاملة العراقي عدا خدمة العلم والحصول على الجنسية العراقية، فضلاً عن منعهم من ممارسة الحقوق السياسية كالترشح والانتخاب.
لكن هذا الوضع سرعان ما تعقد بشكل كبير بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، حيث بدأ تنظيم وضعهم القانوني على الأراضي العراقية يتعقّد، إذ واجهوا تحديات حقيقية في تجديد إقاماتهم وتصاريح العمل، لاسيما بعد توتر الوضع الأمني وتورط بعض المقاتلين العرب -ومنهم فلسطينيون- بعمليات إرهابية مع تنظيم “القاعدة” نفذت في المدن العراقية.
قبل ذلك وبعده، تعرض فلسطينيو العراق للقتل والملاحقة والتضييق والاعتقال والتحقيقات المطولة. ووفق الإحصائيات فأن أكثر من 200 فلسطيني لقي مصرعه على أيدي فصائل شيعية بين أعوام 2003 – 2006.
دفعت هذه الأحداث الفلسطينيين إلى هجرة جديدة، وهذه المرة من العراق إلى دول أخرى كالأردن –مخيم الرويشد وسوريا –مخيم الوليد، وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. كان السفر إلى هذه الدول يجري خلال التهريب، وقليل منه عبر مؤسسات الهجرة التابعة للمنظمات الدولية ومكاتب الهجرة التابعة للدول.
وقد دخل وضع الفلسطينيين القانوني في العراق نفقاً جديداً من التعقيد عام 2017 حينما أُلغي قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 202 وصدر قرار رقم 76، والذي ترتب على إثره قطع الراتب التقاعدي عن عائلة المتوفي الفلسطيني في العراق، وعدم منح الفلسطينيين المواد الغذائية التي توزع على جميع العراقيين ضمن ما يعرف بـ”الحصة التموينية”، وعدم شمولهم بمعونات الرعاية الاجتماعية، ومنعهم من العمل، فتضرر أكثر من 9 آلاف شخص، مما قادهم إلى مزيد من الهجرة.
وتشير التقديرات إلى أن الفلسطينيين المتواجدين في العراق الآن – نعني من تبقى من فلسطينيي موجات الهجرة الثلاث– أقل من 4 آلاف شخص، وهؤلاء تحد القوانين من حصولهم على الحقوق المدنية، كمزاولة العمل والنشاطات التجارية.
القضية الفلسطينية في العقلية العراقية الحاكمة
دخل العراق كداعم ومناصر للقضية الفلسطينية من مختلف الاتجاهات، سواء على أساس الدعم المسلح منذ أربعينيات القرن المنصرم، أو على مستوى العلاقات الثنائية بين العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت رسمياً عام 1964، وبقي موقف العراق ثابتاً على هذا الوضع رغم تباين الأنظمة السياسية الحاكمة.
قبل عام 2003، استخدم النظام السياسي القضية الفلسطينية كبوصلة لتوجهاته القومية التي كان ينادي بها، واستطاع حينها إقناع الطيف الأوسع من المجتمع العربي بإن العراق رأس حربة هذه القضية، فحظي النظام وحزبه البعث وقمة هرمه صدام حسين، مكاسب دعائية وترويجية ضخمة.
بينما مرت القضية الفلسطينية في عقلية النظام الحاكم بعد عام 2003 بتقلبات عديدة، حيث بدأت الحكومات العراقية المتعاقبة تتراجع عن المواقف الداعمة لفلسطين، ولم يعد يذكر صانع القرار العراقي الشيء الكثير عنها، لا بل بدأت القرارات تلاحق الفلسطينيين في العراق وتدفعهم نحو مغادرته، خاصة مع وجود الميليشيات التي قتلتهم وهجرتهم واستولت على بعض ممتلكاتهم، ثم عبّأت الرأي العام الطائفي ضدهم، فطاردت من بقي منهم بتهم الإرهاب ودعمه، فتراجعت القضية الفلسطينية في العقلية العراقية بشكل كبير.
شيئاً فشيئاً، تغير الموقف من هذه القضية تماشياً مع إيران التي تدعم محور المقاومة، الذي تمثل الفصائل المسلحة العراقية جزءاً رئيساً منه، وصارت هذه الفصائل التي هجّر بعضها عام 2003 الفلسطينيين من العراق وقتلهم وخطفهم، صارت تحتفي بيوم القدس العالمي، وأخذ قادتها يتحدثون عن اقتراب موعد تحرير فلسطين.
عودة فكرة التهجير الفلسطيني إلى العراق من جديد
بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023، عاودت إسرائيل طرح مخطط تهجير الفلسطينيين، وخصوصاً سكان قطاع غزة، وتوزيعهم على دول متعددة مثل تركيا ومصر والعراق.
وسبق لملف تهجير الفلسطينيين من غزّة أن طُرح في وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، كما جرت محاولات نقاشه بين الحكومتين الإسرائيلية والمصرية باستحياء- عام 2010، بيد أنه لم يحظ بهذا النقاش والإدانة من قبل.
وتُطرح صحراء الأنبار، منذ أعوام، كمساحة يمكن دفع اللاجئين الفلسطينيين من قطاع غزة إليها، برعاية أمريكية وكجزء من شرط يمكن ان تفرضه الولايات المتحدة لدعم العراق في مختلف المجالات، لكن تبقى هذه الطروحات غير رسمية حتى الآن، وهي مرفوضة بشكل مباشر من قبل الحكومة العراقية.
رغم ذلك، فإن صحيفة “إسرائيل اليوم” نقلت تسريبات تفيد بتأييد أعضاء في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، ومن الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لفكرة مشروع قانون أمريكي، يفرض تهجيراً قسرياً على سكان غزة. وقد ورد اسم العراق، بالإضافة لمصر وتركيا واليمن، كوجهات لاستقبال المهجرين قسراً!
إعادة تعريف القضية الفلسطينية بعد الطوفان
طوت عملية طوفان الأقصى مرحلة سابقة مهمة ومعقدة من التعاطي الاجتماعي العراقي مع القضية الفلسطينية، وبدأت مع بدايتها، مرحلة تعاطٍ جديدة تشكلت معها ملامح السردية الجديدة في العراق، إذ بتنا نتحدث عن موقف عراقي عام داعم للقضية الفلسطينية بعيد عن موقف الفصائل العراقية المسلحة، وبعيد عن ثنائية الشيعة والسنة السياسية. معطىً انساني، ذي بعد قومي قد يحمل ملامح دينية أحياناً، يمثل أغلبية المجتمع العراقي الذي بدأ ينظر للقضية الفلسطينية بعيداً عن القوى السياسية التي صاغت رؤى معقدة وإشكالية لهذه القضية في مختلف مراحل حكم العراق.
أسهمت عملية طوفان الأقصى وفداحة العدوان الإسرائيلي المدمر على غزة، ببلورة المجتمع العراقي لتصوّرات تبتعد عن موقف الفصائل المسلحة والموقف الحكومي الرسمي العراقي. كما تحرر المجتمع من تشويه القضية الفلسطينية، تحديداً بعد 2003، إذ غذت الفصائل المسلحة المجتمع العراقي بسردية أن العرب بشكل عام، ومنهم الفلسطينيون، كانوا يقتلون الشيعة والعراقيين بالعمليات الارهابية.
خامساً : طوفان الأقصى وإعادة تعريف العراق في العقلية الإيرانية
بالنظر إلى الترددات الإقليمية لعملية طوفان الأقصى، يمكن القول إن أكثر المستفيدين اقليمياً من العملية هي إيران. ورغم إنكارها العلم بالعملية والتنسيق لها، فقد تعاطت معها بسرعة وتحدثت بشكل صريح عن إمكانية التفاوض في ما يخص الرهائن والأسرى الذين احتجزتهم حماس.
ثم انتقلت إيران للحديث عن حلفائها وأصدقائها في المنطقة، وعلى رأسهم العراق، الذي تنظر إليه كساحة لتصفية الحسابات، حيث تنسج طهران الشراكات مع جماعات عراقية محلية مستعدة لخدمة المشروع الإيراني كونها مرتبطة بمحركات عقائدية تعمل وتصدر توجيهات من إيران.
استخدمت إيران العراق في مختلف المراحل بعد عام 2003 كورقة للضغط على المجتمع الغربي وإسرائيل بشكل خاص، وكان هناك دور كبير للفصائل المسلحة العراقية المرتبطة بإيران ايديولوجياً وتنظيمياً، والتي تستمد أفكارها ومواقفها العامة من فكرة ولاية الفقيه؛ ودائماً ما يمثل الموقف الفصائلي العراقي موقفَ الجمهورية الاسلامية الإيرانية. بهذا الصدد فيمكن قراءة شعارات يوم القدس العالمي وتحرير القدس التي كانت ترفع من قبل الفصائل العراقية، على أنها لم تكن إلّا مادة للاستهلاك الإعلامي، حيث لم يُسجل لهذه الفصائل سلوك حقيقي بدعم القضية الفلسطينية وتركزت كل عملياتها وأعمالها على توسيع نفوذ إيران في المنطقة.
لكن، وبالتوازي مع استمرار الحرب في غزة، والدعم الأمريكي الكبير لآلة الحرب الإسرائيلية، بدأ تحالف فصائل عراقية، أطلق على نفسه “المقاومة الإسلامية في العراق” عمليات ضد مواقع تواجد القوات الأمريكية في العراق وسوريا. أحصت واشنطن، حتى الرابع من كانون الثاني الجاري، أكثر من 115 هجوماً ضد قواتها في العراق وسوريا منذ 17 تشرين الأول ٢٠٢٣، أي بعد 10 أيام على اندلاع الحرب في غزة.
تبع ذلك رد أمريكي أكثر من مرة، بين قصف مواقع تابعة للفصائل الحليفة للمحور الإيراني في العراق وسوريا، واغتيال “أبو تقوى”، القائد الكبير في حركة النجباء، بطائرة مسيرة في الرابع من كانون الثاني ٢٠٢٤ في موقع حكومي ببغداد.
تنشر واشنطن 2500 عسكري في العراق ونحو 900 في سوريا، في إطار مكافحة تنظيم “داعش” ضمن التحالف الدولي الذي أنشئ عام 2014. بالإضافة لبعض الصواريخ والطائرات المسيرة التي انطلقت باتجاه مواقع أمريكية في العراق وسوريا، ادّعت “المقاومة الإسلامية في العراق” أنها استهدفت مدينة حيفا بصاروخ طويل المدى وأطلقت واحداً آخر باتجاه الجولان المحتل، كردّ على اغتيال القائد في النجباء ومرافقه. كما تحدث محمد شياع السوداني رئيس الوزراء عن توجه الحكومة نحو العمل مع التحالف الدولي على إيجاد جدول زمني لإنهاء مهمته وتواجده في العراق.
لا يُعرف إن كانت الفصائل العراقية ستوسع عملياتها أم ستظل ملتزمة بما بات يعرف بـ”قواعد الاشتباك”، ولا يعرف تأثير استمرار العمليات بهذه الوتيرة أو بوتيرة أكبر على علاقة العراق بالولايات المتحدة ومصالحه الكبيرة المرتبطة بواشنطن، لكن بات معروفاً أن هذه الفصائل تمتلك قدرة الإزعاج والإحراج؛ إزعاج واشنطن وقوات التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، وإحراج المستوى السياسي في العراق، الحكومة ومَن ورائها، المنبثقة من الحلقة ذاتها التي تنطلق منها الصواريخ والمسيرات. كما لا يمكن معرفة قدرة الحكومة وأحزابها القريبة من إيران على إخراج القوات الأمريكية-التحالف.
وعلى كلّ حال، فإن هناك فلسطين والفلسطينيين الذين يتعاطف ويتضامن معهم العراقيون، وهناك فلسطين التي استخدمت، على مدار عقود، كورقة للثبات أو التوسع في السلطة في العراق.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
لم ينطفئ ضوء القضية الفلسطينية في العقلية العراقية، منذ نكبة 1948 وقبلها، لكن، ولأنها قضية شديدة التعقيد والتشابك بذاتها وبالنسبة لبلاد الرافدين، خفتت أحياناً، وأشعلتها أحداثٌ جسام أو استقطابات سياسية أحايين أخرى، ولأن عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023 كانت ضخمة بحد ذاتها، فكانت عودة القضية إلى الحضور في السياق العراقي أمراً حتمياً، بيد أن التعاطي معها هذه المرة كان من زوايا اختلفت عما كان عليه في السابق.
هذه المقالة تبحث في بعض تفصيلات القضية الفلسطينية وأبعادها وانعكاساتها المستقبلية على العراق.
اللجوء إلى العراق والنزوح عنه: موجات الهجرة المتعاقبة
تقدّر مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين والسلطات العراقية، عدد الفلسطينيين الذين عاشوا في العراق فترة ما بين النكبة عام 1948 وغزو واحتلال العراق عام 2003 بـنحو 34 ألف فلسطيني، جاؤوا إلى العراق على شكل موجات ثلاث، وعاشوا في محافظات بغداد والبصرة والموصل والنجف وبابل. كانت الموجة الأولى عام 1948 عندما عاد الجيش العراقي من قتاله في فلسطين مصطحباً مجموعة كبيرة من الفلسطينيين المدنيين أو الذين انخرطوا في القتال مع الجيش العراقي ضد الجيش الإسرائيلي ولم يتمكنوا من العودة إلى منازلهم في مُدن وقرى قضاءي حيفا ويافا. بقي الفلسطينيون ضمن إشراف وزارة الدفاع العراقية حتى عام 1950، حين تحولت مسؤولية ملفهم إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وتحديداً “مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين” لتدير شؤونهم وتمنحهم منحاً مالية ومعونات غذائية وتنظّم وضعهم الاجتماعي بتوفير مساكن مؤقتة “لحين حلّ قضيتهم”.
وصل الفلسطينيون إلى العراق لاجئين في موجة ثانية في أعقاب نكسة حزيران عام 1967 التي قادت لاحتلال الجيش الإسرائيلي باقي الأراضي الفلسطينية، فتضاعفت عمليات التهجير القسري بقوة السلاح، وطالت آلاف الفلسطينيين الذين لجئوا إلى مختلف دول العالم، ومنهم أولئك الواصلون إلى بلاد ما بين النهرين.
كانت الموجة الثالثة، والأخيرة، لنزوح فلسطينيين إلى العراق أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991 عندما احتل نظام صدام حسين الكويت. إذ قادت هذه العمليات العسكرية إلى خروج الفلسطينيين من الدولة المغزوّة إلى الدولة الغازية، وبرعاية الجيش العراقي الذي سيطر على كل جغرافيا الكويت آنذاك.
بالعموم، لم يمنح العراق إطاراً رسمياً للتعامل مع الفلسطينيين الذين أتوا بعد عام 1950، إذ عدت مديرية شؤون اللاجئين الفلسطينيين فقط من دخل العراق بين عامي 1948 و1950 لاجئاً رسمياً، أما من قَدِم بعدها فلم يعترف به كلاجئ، ما عقّد أوضاعهم القانونية. ولقناعة العراق بضرورة إبقاء جذور الفلسطينيين ممتدة في أرضهم، فقد وجد أن توطينهم قد يقود لإنهاء قضيتهم، لذلك فلم يمنح هؤلاء الجنسية العراقية.
بيد أن ذلك لم يؤثر على وضع الفلسطينيين في العراق، إذ استفادوا من النظام المجاني للجامعات والمدارس، ومثلها المؤسسات الصحية والخدمية، وسمح لهم بالعمل ومزاولة النشاطات التجارية. وفي عام 2001 صدر قرار مجلس قيادة الثورة رقم 202 الذي نص على أن يعامل الفلسطيني معاملة العراقي عدا خدمة العلم والحصول على الجنسية العراقية، فضلاً عن منعهم من ممارسة الحقوق السياسية كالترشح والانتخاب.
لكن هذا الوضع سرعان ما تعقد بشكل كبير بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، حيث بدأ تنظيم وضعهم القانوني على الأراضي العراقية يتعقّد، إذ واجهوا تحديات حقيقية في تجديد إقاماتهم وتصاريح العمل، لاسيما بعد توتر الوضع الأمني وتورط بعض المقاتلين العرب -ومنهم فلسطينيون- بعمليات إرهابية مع تنظيم “القاعدة” نفذت في المدن العراقية.
قبل ذلك وبعده، تعرض فلسطينيو العراق للقتل والملاحقة والتضييق والاعتقال والتحقيقات المطولة. ووفق الإحصائيات فأن أكثر من 200 فلسطيني لقي مصرعه على أيدي فصائل شيعية بين أعوام 2003 – 2006.
دفعت هذه الأحداث الفلسطينيين إلى هجرة جديدة، وهذه المرة من العراق إلى دول أخرى كالأردن –مخيم الرويشد وسوريا –مخيم الوليد، وتركيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. كان السفر إلى هذه الدول يجري خلال التهريب، وقليل منه عبر مؤسسات الهجرة التابعة للمنظمات الدولية ومكاتب الهجرة التابعة للدول.
وقد دخل وضع الفلسطينيين القانوني في العراق نفقاً جديداً من التعقيد عام 2017 حينما أُلغي قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 202 وصدر قرار رقم 76، والذي ترتب على إثره قطع الراتب التقاعدي عن عائلة المتوفي الفلسطيني في العراق، وعدم منح الفلسطينيين المواد الغذائية التي توزع على جميع العراقيين ضمن ما يعرف بـ”الحصة التموينية”، وعدم شمولهم بمعونات الرعاية الاجتماعية، ومنعهم من العمل، فتضرر أكثر من 9 آلاف شخص، مما قادهم إلى مزيد من الهجرة.
وتشير التقديرات إلى أن الفلسطينيين المتواجدين في العراق الآن – نعني من تبقى من فلسطينيي موجات الهجرة الثلاث– أقل من 4 آلاف شخص، وهؤلاء تحد القوانين من حصولهم على الحقوق المدنية، كمزاولة العمل والنشاطات التجارية.
القضية الفلسطينية في العقلية العراقية الحاكمة
دخل العراق كداعم ومناصر للقضية الفلسطينية من مختلف الاتجاهات، سواء على أساس الدعم المسلح منذ أربعينيات القرن المنصرم، أو على مستوى العلاقات الثنائية بين العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت رسمياً عام 1964، وبقي موقف العراق ثابتاً على هذا الوضع رغم تباين الأنظمة السياسية الحاكمة.
قبل عام 2003، استخدم النظام السياسي القضية الفلسطينية كبوصلة لتوجهاته القومية التي كان ينادي بها، واستطاع حينها إقناع الطيف الأوسع من المجتمع العربي بإن العراق رأس حربة هذه القضية، فحظي النظام وحزبه البعث وقمة هرمه صدام حسين، مكاسب دعائية وترويجية ضخمة.
بينما مرت القضية الفلسطينية في عقلية النظام الحاكم بعد عام 2003 بتقلبات عديدة، حيث بدأت الحكومات العراقية المتعاقبة تتراجع عن المواقف الداعمة لفلسطين، ولم يعد يذكر صانع القرار العراقي الشيء الكثير عنها، لا بل بدأت القرارات تلاحق الفلسطينيين في العراق وتدفعهم نحو مغادرته، خاصة مع وجود الميليشيات التي قتلتهم وهجرتهم واستولت على بعض ممتلكاتهم، ثم عبّأت الرأي العام الطائفي ضدهم، فطاردت من بقي منهم بتهم الإرهاب ودعمه، فتراجعت القضية الفلسطينية في العقلية العراقية بشكل كبير.
شيئاً فشيئاً، تغير الموقف من هذه القضية تماشياً مع إيران التي تدعم محور المقاومة، الذي تمثل الفصائل المسلحة العراقية جزءاً رئيساً منه، وصارت هذه الفصائل التي هجّر بعضها عام 2003 الفلسطينيين من العراق وقتلهم وخطفهم، صارت تحتفي بيوم القدس العالمي، وأخذ قادتها يتحدثون عن اقتراب موعد تحرير فلسطين.
عودة فكرة التهجير الفلسطيني إلى العراق من جديد
بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023، عاودت إسرائيل طرح مخطط تهجير الفلسطينيين، وخصوصاً سكان قطاع غزة، وتوزيعهم على دول متعددة مثل تركيا ومصر والعراق.
وسبق لملف تهجير الفلسطينيين من غزّة أن طُرح في وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، كما جرت محاولات نقاشه بين الحكومتين الإسرائيلية والمصرية باستحياء- عام 2010، بيد أنه لم يحظ بهذا النقاش والإدانة من قبل.
وتُطرح صحراء الأنبار، منذ أعوام، كمساحة يمكن دفع اللاجئين الفلسطينيين من قطاع غزة إليها، برعاية أمريكية وكجزء من شرط يمكن ان تفرضه الولايات المتحدة لدعم العراق في مختلف المجالات، لكن تبقى هذه الطروحات غير رسمية حتى الآن، وهي مرفوضة بشكل مباشر من قبل الحكومة العراقية.
رغم ذلك، فإن صحيفة “إسرائيل اليوم” نقلت تسريبات تفيد بتأييد أعضاء في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكيين، ومن الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لفكرة مشروع قانون أمريكي، يفرض تهجيراً قسرياً على سكان غزة. وقد ورد اسم العراق، بالإضافة لمصر وتركيا واليمن، كوجهات لاستقبال المهجرين قسراً!
إعادة تعريف القضية الفلسطينية بعد الطوفان
طوت عملية طوفان الأقصى مرحلة سابقة مهمة ومعقدة من التعاطي الاجتماعي العراقي مع القضية الفلسطينية، وبدأت مع بدايتها، مرحلة تعاطٍ جديدة تشكلت معها ملامح السردية الجديدة في العراق، إذ بتنا نتحدث عن موقف عراقي عام داعم للقضية الفلسطينية بعيد عن موقف الفصائل العراقية المسلحة، وبعيد عن ثنائية الشيعة والسنة السياسية. معطىً انساني، ذي بعد قومي قد يحمل ملامح دينية أحياناً، يمثل أغلبية المجتمع العراقي الذي بدأ ينظر للقضية الفلسطينية بعيداً عن القوى السياسية التي صاغت رؤى معقدة وإشكالية لهذه القضية في مختلف مراحل حكم العراق.
أسهمت عملية طوفان الأقصى وفداحة العدوان الإسرائيلي المدمر على غزة، ببلورة المجتمع العراقي لتصوّرات تبتعد عن موقف الفصائل المسلحة والموقف الحكومي الرسمي العراقي. كما تحرر المجتمع من تشويه القضية الفلسطينية، تحديداً بعد 2003، إذ غذت الفصائل المسلحة المجتمع العراقي بسردية أن العرب بشكل عام، ومنهم الفلسطينيون، كانوا يقتلون الشيعة والعراقيين بالعمليات الارهابية.
خامساً : طوفان الأقصى وإعادة تعريف العراق في العقلية الإيرانية
بالنظر إلى الترددات الإقليمية لعملية طوفان الأقصى، يمكن القول إن أكثر المستفيدين اقليمياً من العملية هي إيران. ورغم إنكارها العلم بالعملية والتنسيق لها، فقد تعاطت معها بسرعة وتحدثت بشكل صريح عن إمكانية التفاوض في ما يخص الرهائن والأسرى الذين احتجزتهم حماس.
ثم انتقلت إيران للحديث عن حلفائها وأصدقائها في المنطقة، وعلى رأسهم العراق، الذي تنظر إليه كساحة لتصفية الحسابات، حيث تنسج طهران الشراكات مع جماعات عراقية محلية مستعدة لخدمة المشروع الإيراني كونها مرتبطة بمحركات عقائدية تعمل وتصدر توجيهات من إيران.
استخدمت إيران العراق في مختلف المراحل بعد عام 2003 كورقة للضغط على المجتمع الغربي وإسرائيل بشكل خاص، وكان هناك دور كبير للفصائل المسلحة العراقية المرتبطة بإيران ايديولوجياً وتنظيمياً، والتي تستمد أفكارها ومواقفها العامة من فكرة ولاية الفقيه؛ ودائماً ما يمثل الموقف الفصائلي العراقي موقفَ الجمهورية الاسلامية الإيرانية. بهذا الصدد فيمكن قراءة شعارات يوم القدس العالمي وتحرير القدس التي كانت ترفع من قبل الفصائل العراقية، على أنها لم تكن إلّا مادة للاستهلاك الإعلامي، حيث لم يُسجل لهذه الفصائل سلوك حقيقي بدعم القضية الفلسطينية وتركزت كل عملياتها وأعمالها على توسيع نفوذ إيران في المنطقة.
لكن، وبالتوازي مع استمرار الحرب في غزة، والدعم الأمريكي الكبير لآلة الحرب الإسرائيلية، بدأ تحالف فصائل عراقية، أطلق على نفسه “المقاومة الإسلامية في العراق” عمليات ضد مواقع تواجد القوات الأمريكية في العراق وسوريا. أحصت واشنطن، حتى الرابع من كانون الثاني الجاري، أكثر من 115 هجوماً ضد قواتها في العراق وسوريا منذ 17 تشرين الأول ٢٠٢٣، أي بعد 10 أيام على اندلاع الحرب في غزة.
تبع ذلك رد أمريكي أكثر من مرة، بين قصف مواقع تابعة للفصائل الحليفة للمحور الإيراني في العراق وسوريا، واغتيال “أبو تقوى”، القائد الكبير في حركة النجباء، بطائرة مسيرة في الرابع من كانون الثاني ٢٠٢٤ في موقع حكومي ببغداد.
تنشر واشنطن 2500 عسكري في العراق ونحو 900 في سوريا، في إطار مكافحة تنظيم “داعش” ضمن التحالف الدولي الذي أنشئ عام 2014. بالإضافة لبعض الصواريخ والطائرات المسيرة التي انطلقت باتجاه مواقع أمريكية في العراق وسوريا، ادّعت “المقاومة الإسلامية في العراق” أنها استهدفت مدينة حيفا بصاروخ طويل المدى وأطلقت واحداً آخر باتجاه الجولان المحتل، كردّ على اغتيال القائد في النجباء ومرافقه. كما تحدث محمد شياع السوداني رئيس الوزراء عن توجه الحكومة نحو العمل مع التحالف الدولي على إيجاد جدول زمني لإنهاء مهمته وتواجده في العراق.
لا يُعرف إن كانت الفصائل العراقية ستوسع عملياتها أم ستظل ملتزمة بما بات يعرف بـ”قواعد الاشتباك”، ولا يعرف تأثير استمرار العمليات بهذه الوتيرة أو بوتيرة أكبر على علاقة العراق بالولايات المتحدة ومصالحه الكبيرة المرتبطة بواشنطن، لكن بات معروفاً أن هذه الفصائل تمتلك قدرة الإزعاج والإحراج؛ إزعاج واشنطن وقوات التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، وإحراج المستوى السياسي في العراق، الحكومة ومَن ورائها، المنبثقة من الحلقة ذاتها التي تنطلق منها الصواريخ والمسيرات. كما لا يمكن معرفة قدرة الحكومة وأحزابها القريبة من إيران على إخراج القوات الأمريكية-التحالف.
وعلى كلّ حال، فإن هناك فلسطين والفلسطينيين الذين يتعاطف ويتضامن معهم العراقيون، وهناك فلسطين التي استخدمت، على مدار عقود، كورقة للثبات أو التوسع في السلطة في العراق.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج“.