"كم يوماً نامت وهي مرتاحة؟".. أمهات العراق العاملات إلى الأبد
04 كانون الثاني 2024
قضت أمي حياة كاملة من العمل المنزلي، منذ قبل زواجها في منزل أهلها ومن ثم في بيت العيال ولاحقاً في منزلها؛ قضت حوالي 45 عاماً من حياتها مسؤولة عن أعمال منزلية. تتبعها في ذلك الآن "جناتها" ومثلهن في ذلك ملايين من النساء العراقيات.. عن أمي وأمهات العراق العاملات إلى الأبد..
في آذار 1992 التحقت أمي بعائلة السيد شغيدل مطرود بوظيفة “زوجة كريم”.
في اليوم التالي للعرس قامت العروس لتكتشف أنها باتت “موظفة” أيضاً، فراحت تنظف ما تركه ضيوف الزفاف الذي غنى فيه كريم منصور حتى الصباح.
في ذلك المنزل الصغير وسط مدينة الثورة ببغداد، باشرت زينب سلمان أعمالها.
كانت ساعات العمل مقبولة إلى حد كبير، فثمة نسوة أخريات في المنزل، مثل جدتي وعمتي اللواتي يقتسمن معها الأعمال المنزلية: فهناك الطبخ (قبل أن يدخل الدلفري قاموس الحياة العراقية)، التنظيف (قبل أن تدخل المكنسة الكهربائية)، ثم الخبز (قبل أن يتكفل مخبز الزقاق بذلك)، وغسل أدوات المطبخ (قبل ماكينة غسيل الصحون)، ثم هناك غسل الملابس (قبل أن تدخل الغسالات بيوتنا)، يتبعه كيَّها للملابس اللامتناهي حتى اللحظة.
زينب أماً
كان ذلك كله قبل أن يولد لزينب أبناء.
جئت أنا البكر مبكراً في نهاية 1992.. كنت على عجلة من أمري. ثم تفاقم طائل العمل المنزلي بمجيء أخوتي، واحداً تلو الآخر حتى أصبحنا خمسة أطفال: لكل واحد إضبارته، ملفه واحتياجاته. وبما أنه لم يعيّن وقتها مدير موارد بشرية، تكلفت أمي بذلك.
ثم سرعان ما دخلنا المدرسة، نحن وأبينا الذي كان يسهر على كتابة رسالة الماجستير، مواظبة ألا تقطع عنه الشاي.
ازدادت ساعات عملها بشكل غير مسبوق، حيث صارت زينب تصحو صباحاً منطلقة في رحلة تجهيز الأطفال للمدرسة وتحضير وجبة الإفطار، ثم تنتقل لعملها في المنزل قبل أن تبدأ بالطبخ للصغار الذين سيأتون بعد قليل من المدرسة، لتبدأ عصراً رحلة تعليمهم ومراجعة الدروس وجمع أحذيتهم لغسلها، بعدها تباشر في تجهيز العشاء وغسل الملابس وغيرها، ولا ينتهي اليوم إلا وقد أنجزت كل ما على مكتب أمومتها من معاملات.
قبل زواجها بعام واحد تخرجت زينب من معهد الفنون التطبيقية بوصفها باحثة اجتماعية، لكن تلك الباحثة لم تمارس مهنتها ولو ليوم واحد.
أفكر أحياناً، كم كانت ستكون حياتها شاقة لو عملت موظفة خارج المنزل أيضاً.. أفكر بالأمهات العاملات. من أين تأتي الأمهات بتلك الطاقة على التدبير والشقاء؟
تلك الأعوام.. التسعينيات
مع نهاية التسعينيات لم تعد وظيفة زينب أمي تقتصر على الالتزامات المنزلية فحسب، إذ واجهت الموظفة الأبدية في المنزل جملة من التحديات، مثل أي موظف في الدولة أو القطاع الخاص، أبرزها ما تلازم مع ضرب الحصار الاقتصادي حياة العراقيين.
أتذكر جيداً شح الوقود في هذه السنوات. عندها اضطرت زينب أن تجمع الخشب والورق المقوى لتصنع خبزا لذيذاً بـ”تنور الطين”، حيث كانت تنحني لخلط الحنطة مع الماء والملح في لهيب حرارة الفرن القاسية في عز صيف العراق.
كانت أياماً تقلص وقتها حجم المائدة، ومعه كان حجم منزلنا يتقلص.
حين تزوج عمي، تغيرت خارطة المنزل وبالتالي فقد قلّ حجم المطبخ.. قُضم نصفه تقريباً. كان ذلك مناسباً لمواد المطبخ الشحيحة، لكنه أصبح لا يتسع لأكثر من فردين. بذلك أيضاً تحول إلى جحيم صغير حين تشغّل النار فيه.. متران مربعان هو كل ما تبقى لأمي من أجل صنع الطعام.
لم يكن هذا التحدي الأبرز؛ فقد اضطر الأب في نهاية الأمر لمقارعة وحش الحصار في الذهاب إلى ليبيا من أجل العمل، تاركاً الزوجة لوظيفتها لثلاثة أعوام. فباتت تفاصيل المشقة غائبة عنه: كم ليلة بكى فيها الأطفال.. كم يوماً اجتاحت الإنفلونزا المنزل.. كم يوماً نامت وهي مرتاحة..
كل هذه المتاعب غير المحسوبة اجتماعياً واقتصادياً لا يمكن إيجازها ولا تقديم بيانات دقيقة حولها، بل تترك أمهاتنا وحيدات يحصين المهام دون تثبيت في أي ملف.. هناك في خفاء البيوت.
لا عطلة ولا تقاعد في بيوتنا
بعد مضي 32 عاماً على تعيينها في مهمة إدارة شؤون المنزل، لم تُحل زينب إلى التقاعد حتى الآن.
لكن من أجل الإنصاف، لا ننسى أنها حصلت على إجازة أمومة في ست مناسبات: خمس أثناء حملها بنا نحن الأبناء الخمسة، والسادسة حملها بطفل لم يكتب له أن يولد.
في المحصلة، قضت أمي حوالي 1590 يوماً تقريباً من حياتها وهي حامل.
ومع ذلك، وطوال العقود الثلاث الماضية لم حصلت على إجازة زمنية او إجازة مرضية، ولم تأخذ إجازة دون راتب، كما أنها لم تذهب إلا في إيفادين إلى الخارج: مرة إلى السعودية من أجل العمرة، ومرة إلى إيران من أجل زيارة الإمام الرضا.
وأرى من الواجب أن أشير إلى أنها حصلت على ترقية فخمة عام 2004، حيث أصبحت سيدة المنزل الأولى، بعد أن انتقلنا من بيت “العيال” إلى منزل الأب.
لكن مسؤوليات أخرى تولدت مع الترقيات، فقد كبرت مساحة المنزل ومتطلبات الأطفال بعد أن اقترب بعضهم من دخول الدراسة الثانوية. ومع خمسة طلاب، أصبحت ساعات عملها تقترب من 18 ساعة؛ ست منهن للنوم فقط من أجل الاستعداد لليوم التالي؛ وهي ساعات كانت لا تحصل عليها دائماً.
أيتقاعدن يوماً؟
عام 2008 حصلت أمي على “ترقية أخرى” حين تزوج أخي الأكبر. صار لديها “جنة” (كَنَّة) الآن.
توالت بعدها الترقيات مع كل “جنة” حيث بتن داعماتٍ لها في العمل المنزلي.. “موظفات” أخريات في بيوت العائلات.
وفي مثل هذا الوضع تبدأ الأمهات عادة في مرحلة جديدة، اذ تخف أعباؤهن في العمل المنزلي، فيتولين نساء المنزل الأصغر عمراً زمام الأمور.
باتت مهام أمي الآن محدودة.
لم تعد تطبخ أو تمسح التلفاز من أخبار البارحة، وليس في وسعها غسل “الطارمة” (مقدمة المنزل) كما هو الحال من عقدين، فقد تراجع المجهود البدني للعاملة الأزلية. لا يمكن القول إنها في مرحلة الشيخوخة، فهي ما تزال في مقتبل الستين، فما زالت تحافظ على نشاطها رغم أمراض تقدم العمر.
لكنها ليست زينب “القديمة” التي اعتدنا عليها تقوم بكل شيء.. إنها ليست زينب التي تصحو في الخامسة صباحاً وتضع الشاي على النار لتذهب إلى الفرن لجلب الصمون، ولا زينب التي تحضر اجتماع الأمهات في المدرسة، وفي الوقت نفسه تمر على السوق لتشتري كل ما يخص المنزل قبل أن تذهب لمراقبة قدر الرز.
أصبحت وظيفتها “مستشار”، تعطي الخطط والتعليمات. صارت لديها فسحة، أو نوع من الوقت الخاص تشاهد فيه تطبيقها المفضل الـ”تيك توك”..
لقد مضى على “تنحيها” عن مهام المنزل خمس سنوات تقريباً، مع ذلك لا يمكن القول انها تقاعدت تماماً، فما زالت لديها بعض المهام علماً أني وأبي ما زلنا في البيت. تبقى هي المسؤولة حتى الآن عن وضع أول إبريق شاي على النار كما جرت العادة، ثم تبدأ ما تسميها رحلة “النده” أي تجعلنا أبي وأنا نستيقظ، كما أنها تصرّ على كي وغسل ملابسنا بنفسها.
أعمار تُقضى في العمل المنزلي
قضت أمي حياة كاملة من العمل المنزلي، منذ قبل زواجها في منزل أهلها ومن ثم في بيت العيال ولاحقاً في منزلها، أي أنها قضت حوالي 45 عاماً من حياتها مسؤولة عن أعمال منزلية. تتبعها في ذلك الآن “جناتها” ومثلهن في ذلك ملايين من النساء العراقيات.. وكأن العمل المنزلي “مكتوب” عليهنَّ في هذه البلاد.
المرعب أحياناً أن من فرط المسؤولية والضغط الاجتماعي الذي لا يقيس المرأة إلا من خلال بيتها وزوجها وأطفالها، تلتهي النساء في غمرة التعب المستمر عن أنفسهن وعن صحتهن الجسدية والنفسية. فلا يرين ما أصاب أجسادهن وأرواحهن من تعب إلا بعد سنين.
مع سردية الإخلاص للمطبخ والأعمال اليومية التي تتوارثها ملايين النساء العراقيات جيلاً بعد جيل، حيث تبدأ حياتهن من المطبخ وتنتهي إليه، حياة شاقة فيها السكين والأواني أولوية، فيها حبل الغسيل غاية، وتحضير حقائب المدرسة مسؤولية كبيرة، عراقيات عشن بهذا الشكل كل حياتهن دون أن يُعرف عنهن أدنى تفصيلة، عن تفضيلاتهن الشخصية، عن أحلامهن، كثر منهن سجينات هذه المنازل.. وكأن لا سيناريو آخر لحياتهن ولا غاية لهن سوى “اكلج طيب عاشت ايدج”!
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
في آذار 1992 التحقت أمي بعائلة السيد شغيدل مطرود بوظيفة “زوجة كريم”.
في اليوم التالي للعرس قامت العروس لتكتشف أنها باتت “موظفة” أيضاً، فراحت تنظف ما تركه ضيوف الزفاف الذي غنى فيه كريم منصور حتى الصباح.
في ذلك المنزل الصغير وسط مدينة الثورة ببغداد، باشرت زينب سلمان أعمالها.
كانت ساعات العمل مقبولة إلى حد كبير، فثمة نسوة أخريات في المنزل، مثل جدتي وعمتي اللواتي يقتسمن معها الأعمال المنزلية: فهناك الطبخ (قبل أن يدخل الدلفري قاموس الحياة العراقية)، التنظيف (قبل أن تدخل المكنسة الكهربائية)، ثم الخبز (قبل أن يتكفل مخبز الزقاق بذلك)، وغسل أدوات المطبخ (قبل ماكينة غسيل الصحون)، ثم هناك غسل الملابس (قبل أن تدخل الغسالات بيوتنا)، يتبعه كيَّها للملابس اللامتناهي حتى اللحظة.
زينب أماً
كان ذلك كله قبل أن يولد لزينب أبناء.
جئت أنا البكر مبكراً في نهاية 1992.. كنت على عجلة من أمري. ثم تفاقم طائل العمل المنزلي بمجيء أخوتي، واحداً تلو الآخر حتى أصبحنا خمسة أطفال: لكل واحد إضبارته، ملفه واحتياجاته. وبما أنه لم يعيّن وقتها مدير موارد بشرية، تكلفت أمي بذلك.
ثم سرعان ما دخلنا المدرسة، نحن وأبينا الذي كان يسهر على كتابة رسالة الماجستير، مواظبة ألا تقطع عنه الشاي.
ازدادت ساعات عملها بشكل غير مسبوق، حيث صارت زينب تصحو صباحاً منطلقة في رحلة تجهيز الأطفال للمدرسة وتحضير وجبة الإفطار، ثم تنتقل لعملها في المنزل قبل أن تبدأ بالطبخ للصغار الذين سيأتون بعد قليل من المدرسة، لتبدأ عصراً رحلة تعليمهم ومراجعة الدروس وجمع أحذيتهم لغسلها، بعدها تباشر في تجهيز العشاء وغسل الملابس وغيرها، ولا ينتهي اليوم إلا وقد أنجزت كل ما على مكتب أمومتها من معاملات.
قبل زواجها بعام واحد تخرجت زينب من معهد الفنون التطبيقية بوصفها باحثة اجتماعية، لكن تلك الباحثة لم تمارس مهنتها ولو ليوم واحد.
أفكر أحياناً، كم كانت ستكون حياتها شاقة لو عملت موظفة خارج المنزل أيضاً.. أفكر بالأمهات العاملات. من أين تأتي الأمهات بتلك الطاقة على التدبير والشقاء؟
تلك الأعوام.. التسعينيات
مع نهاية التسعينيات لم تعد وظيفة زينب أمي تقتصر على الالتزامات المنزلية فحسب، إذ واجهت الموظفة الأبدية في المنزل جملة من التحديات، مثل أي موظف في الدولة أو القطاع الخاص، أبرزها ما تلازم مع ضرب الحصار الاقتصادي حياة العراقيين.
أتذكر جيداً شح الوقود في هذه السنوات. عندها اضطرت زينب أن تجمع الخشب والورق المقوى لتصنع خبزا لذيذاً بـ”تنور الطين”، حيث كانت تنحني لخلط الحنطة مع الماء والملح في لهيب حرارة الفرن القاسية في عز صيف العراق.
كانت أياماً تقلص وقتها حجم المائدة، ومعه كان حجم منزلنا يتقلص.
حين تزوج عمي، تغيرت خارطة المنزل وبالتالي فقد قلّ حجم المطبخ.. قُضم نصفه تقريباً. كان ذلك مناسباً لمواد المطبخ الشحيحة، لكنه أصبح لا يتسع لأكثر من فردين. بذلك أيضاً تحول إلى جحيم صغير حين تشغّل النار فيه.. متران مربعان هو كل ما تبقى لأمي من أجل صنع الطعام.
لم يكن هذا التحدي الأبرز؛ فقد اضطر الأب في نهاية الأمر لمقارعة وحش الحصار في الذهاب إلى ليبيا من أجل العمل، تاركاً الزوجة لوظيفتها لثلاثة أعوام. فباتت تفاصيل المشقة غائبة عنه: كم ليلة بكى فيها الأطفال.. كم يوماً اجتاحت الإنفلونزا المنزل.. كم يوماً نامت وهي مرتاحة..
كل هذه المتاعب غير المحسوبة اجتماعياً واقتصادياً لا يمكن إيجازها ولا تقديم بيانات دقيقة حولها، بل تترك أمهاتنا وحيدات يحصين المهام دون تثبيت في أي ملف.. هناك في خفاء البيوت.
لا عطلة ولا تقاعد في بيوتنا
بعد مضي 32 عاماً على تعيينها في مهمة إدارة شؤون المنزل، لم تُحل زينب إلى التقاعد حتى الآن.
لكن من أجل الإنصاف، لا ننسى أنها حصلت على إجازة أمومة في ست مناسبات: خمس أثناء حملها بنا نحن الأبناء الخمسة، والسادسة حملها بطفل لم يكتب له أن يولد.
في المحصلة، قضت أمي حوالي 1590 يوماً تقريباً من حياتها وهي حامل.
ومع ذلك، وطوال العقود الثلاث الماضية لم حصلت على إجازة زمنية او إجازة مرضية، ولم تأخذ إجازة دون راتب، كما أنها لم تذهب إلا في إيفادين إلى الخارج: مرة إلى السعودية من أجل العمرة، ومرة إلى إيران من أجل زيارة الإمام الرضا.
وأرى من الواجب أن أشير إلى أنها حصلت على ترقية فخمة عام 2004، حيث أصبحت سيدة المنزل الأولى، بعد أن انتقلنا من بيت “العيال” إلى منزل الأب.
لكن مسؤوليات أخرى تولدت مع الترقيات، فقد كبرت مساحة المنزل ومتطلبات الأطفال بعد أن اقترب بعضهم من دخول الدراسة الثانوية. ومع خمسة طلاب، أصبحت ساعات عملها تقترب من 18 ساعة؛ ست منهن للنوم فقط من أجل الاستعداد لليوم التالي؛ وهي ساعات كانت لا تحصل عليها دائماً.
أيتقاعدن يوماً؟
عام 2008 حصلت أمي على “ترقية أخرى” حين تزوج أخي الأكبر. صار لديها “جنة” (كَنَّة) الآن.
توالت بعدها الترقيات مع كل “جنة” حيث بتن داعماتٍ لها في العمل المنزلي.. “موظفات” أخريات في بيوت العائلات.
وفي مثل هذا الوضع تبدأ الأمهات عادة في مرحلة جديدة، اذ تخف أعباؤهن في العمل المنزلي، فيتولين نساء المنزل الأصغر عمراً زمام الأمور.
باتت مهام أمي الآن محدودة.
لم تعد تطبخ أو تمسح التلفاز من أخبار البارحة، وليس في وسعها غسل “الطارمة” (مقدمة المنزل) كما هو الحال من عقدين، فقد تراجع المجهود البدني للعاملة الأزلية. لا يمكن القول إنها في مرحلة الشيخوخة، فهي ما تزال في مقتبل الستين، فما زالت تحافظ على نشاطها رغم أمراض تقدم العمر.
لكنها ليست زينب “القديمة” التي اعتدنا عليها تقوم بكل شيء.. إنها ليست زينب التي تصحو في الخامسة صباحاً وتضع الشاي على النار لتذهب إلى الفرن لجلب الصمون، ولا زينب التي تحضر اجتماع الأمهات في المدرسة، وفي الوقت نفسه تمر على السوق لتشتري كل ما يخص المنزل قبل أن تذهب لمراقبة قدر الرز.
أصبحت وظيفتها “مستشار”، تعطي الخطط والتعليمات. صارت لديها فسحة، أو نوع من الوقت الخاص تشاهد فيه تطبيقها المفضل الـ”تيك توك”..
لقد مضى على “تنحيها” عن مهام المنزل خمس سنوات تقريباً، مع ذلك لا يمكن القول انها تقاعدت تماماً، فما زالت لديها بعض المهام علماً أني وأبي ما زلنا في البيت. تبقى هي المسؤولة حتى الآن عن وضع أول إبريق شاي على النار كما جرت العادة، ثم تبدأ ما تسميها رحلة “النده” أي تجعلنا أبي وأنا نستيقظ، كما أنها تصرّ على كي وغسل ملابسنا بنفسها.
أعمار تُقضى في العمل المنزلي
قضت أمي حياة كاملة من العمل المنزلي، منذ قبل زواجها في منزل أهلها ومن ثم في بيت العيال ولاحقاً في منزلها، أي أنها قضت حوالي 45 عاماً من حياتها مسؤولة عن أعمال منزلية. تتبعها في ذلك الآن “جناتها” ومثلهن في ذلك ملايين من النساء العراقيات.. وكأن العمل المنزلي “مكتوب” عليهنَّ في هذه البلاد.
المرعب أحياناً أن من فرط المسؤولية والضغط الاجتماعي الذي لا يقيس المرأة إلا من خلال بيتها وزوجها وأطفالها، تلتهي النساء في غمرة التعب المستمر عن أنفسهن وعن صحتهن الجسدية والنفسية. فلا يرين ما أصاب أجسادهن وأرواحهن من تعب إلا بعد سنين.
مع سردية الإخلاص للمطبخ والأعمال اليومية التي تتوارثها ملايين النساء العراقيات جيلاً بعد جيل، حيث تبدأ حياتهن من المطبخ وتنتهي إليه، حياة شاقة فيها السكين والأواني أولوية، فيها حبل الغسيل غاية، وتحضير حقائب المدرسة مسؤولية كبيرة، عراقيات عشن بهذا الشكل كل حياتهن دون أن يُعرف عنهن أدنى تفصيلة، عن تفضيلاتهن الشخصية، عن أحلامهن، كثر منهن سجينات هذه المنازل.. وكأن لا سيناريو آخر لحياتهن ولا غاية لهن سوى “اكلج طيب عاشت ايدج”!