"استقيلي ورجعي وره الولادة".. المحرومات من إجازة الحمل والأمومة

أبرار المير طه

28 كانون الأول 2023

"انتِ ما راح تكونين فعالة بالشغل فالأفضل ترتاحين"، لم تفهم إيمان المغزى من كلمات المدير في بادئ الأمر، واعتقدت أنه متعاطف معها خاصة بسبب التعب المصاحب للفترة الأولى من الحمل الذي بدأت تشعره به، لكنه أوضح لها بأنه يريد منها تقديم استقالتها والعودة للعمل بعد الولادة.. عن عاملات محرومات من إجازة الحمل والأمومة.

حين دخلت مرام (33 عاماً) التي تعمل في إحدى الجامعات العراقية في الشهر التاسع للحمل قبل خمس سنوات، سعت كغيرها من الموظفات للحصول على إجازة ما قبل الوضع مدتها 21 يوماً حسب قانون الخدمة المدنية، لكنها سرعان ما اصطدمت بواقع تمييزي يحرمها من حق الحصول عليها بسبب تشغيلها بصفة أجر يومي. 

مشاقّ الحصول على إجازة الوضع والأمومة للمرأة العراقية العاملة تصعّب حياة المعيّنات بصفة أجر يومي وحياة أطفالهن، ولكنها لا تقتصر عليهن فحسب، إذ تصارع المرأة العراقية العاملة سواء في القطاع العام أو الخاص لتحصل على حقها وحق طفلها بإجازة وضع وأمومة مدفوعتين، فتواجه العديدات الطرد من العمل وإنهاء الخدمات عند وصولهن للأشهر الأخيرة من الحمل، فيما اضطرت أخريات، كيلا يواجهن هذا المصير، للعودة إلى العمل بعد مدة قصيرة جداً من ولادتهن. 

العاملات في المؤقت 

معاناة كبيرة تواجهها العاملات بأنماط عمل مؤقتة في القطاع الحكومي، وخصوصاً الأجر اليومي، وهو نمط من التشغيل الحكومي غير خاضع لضوابط التعيين الحكومي المعتمدة، مثل موافقة رئاسة الوزراء والوزارة المعنية على التعيين، وإنما يقتصر التشغيل على موافقة المدراء العامين في الوزارات. وهذا النمط من التشغيل لا تُضمن بموجبه حقوقٌ عديدة، مثل البطالة والضمان الاجتماعي وإجازات الوضع، أسوة بالملاك الدائم. 

علماً بأن قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960 المعدل الساري في القطاع الحكومي، يمنح العاملة الحامل إجازة حمل وولادة قبل الوضع وبعده أمدها اثنان وسبعون يوماً براتب تام، وفقاً للمادة 43 (٦)، إلا أن هذه القوانين لا تُطبق على العاملات بأجر يومي بالمؤسسات ذاتها، الأمر الذي يخلق تمييزا صريحا ضد هذه الفئات. 

وهكذا اكتشفت مرام، والتي تعاني من مشاكل صحية تعقد من عملية الولادة وتتوجب إجراء عملية قيصرية، عندما سعت لتحصيل إجازة، بأنها محرومة ليس فقط من إجازة ما قبل الوضع، بل من إجازة الأمومة كذلك، وأنها ليست مشمولة بكافة الحقوق التي تتمتع بها قريناتها الموظفات في الدائرة ذاتها.  

بدلاً من فترة الراحة والتحضر للولادة، قضت مرام الأيام السابقة للولادة بالبحث عن حلّ. 

“رحت حجيت وية رئيس القسم وشرحتله وضعي وكتله انا مريضة وراح اسوي عملية قيصرية وشرحتله وضعي الصحي بالكامل، لكنه رد عليّ بأسلوب جداً مستفز.. إي سويها وداومي ثاني يوم شكو بيها.. وكتها طلعت من عنده والدمعة بعيني”، تقول. 

أمام هذا الاستخفاف بصحتها، قرّرت مرام مقابلة رئيس الجامعة الذي تعاطف معها وقرر منحها إجازة مرضية مدتها 21 يوماً فقط وبدون مستحقات مالية. وحتى تستثمر هذه المدة القصيرة، اضطرت للاستمرار في العمل حتى يوم واحد قبل موعد الولادة التي تمت بعملية قيصرية. 

وبانقضاء هذه الفترة القصيرة نسبياً لامرأة قد وضعت مولودها للتوّ، وبعملية قيصرية، عادت مرام إلى عملها مثقلة بأوجاع جسدية ونفسية. 

“كان ألماً لا ينسى، الجو بارد وجروح العملية لم تشف بعد بشكل كامل حين انتهت الإجازة، لم أكن أستطيع المشي كثيراً وغير مهيأة للعودة إلى العمل.. حالتي النفسية لم أكن أحسد عليها، فالشعور بالألم عند اضطراري لترك طفلي الذي لم يتجاوز عمره العشرين يوماً كل صباح عند والدتي يقطع روحي.. رافقه إحساس بتأنيب الضمير والتقصير”. 

لا يختلف كثيراً حال العاملات بأجر يومي في وزارة النفط عنه في التعليم العالي، فحتى عندما حاول مجلس الوزراء تنظيم هذه الصفة من التشغيل في الأعوام الأخيرة بالوزارة، مثلاً عن طريق أمر رئاسة الوزراء المرقم 192 في 2021 لضمان حقوق العاملين، لم تلتفت الوزارة لحال الأمهات المعينات فيها، من بينهن أفراح (27 عاماً) وهي مهندسة كهرباء في إحدى الشركات التابعة لوزارة النفط، والتي كانت في نهاية الشهر الثامن من حملها حين بدأت العمل في الشركة. 

حين وصلت منتصف الشهر التاسع من حملها زادت معاناة أفراح التي كانت لا تملك وفق قرار التشغيل هذا إجازة اعتيادية ولا إجازات ما قبل الوضع، تقول “كنت كل يوم اخذه اجازة يكصونه مني وصلت مرحله على وشك الولادة وانه ما عندي إجازة أبد لا قبل الوضع ولا بعد الوضع”. 

مع ولادة أفراح لطفلها، صدر قرار من الشركة يعطي للأمهات إجازة أمومة ثلاثة أشهر فقط بدون راتب وبدون احتساب مدة الإجازة خدمة فعلية، لكن سرعان ما صدر بعده بأيام قرار وزاري آخر يلغي القرار القديم ويعتبر الثلاثة أشهر هذه محسوبة الراتب والخدمة. 

ولكن لم تكد أفراح تفرح بالخبر حتى اكتشفت أنها غير مشمولة بالقرار الأخير بحجة أن ولادتها كانت قبل القرار بأيام، ولم تسعفها الاعتراضات العديدة التي طالبت فيها بالإنصاف دون أن تلقى أي ردّ.  

قصة أفراح، لم تكن الوحيدة من نوعها في الوزارة، إذ رصدنا قصص عدد من العاملات في مختلف الشركات التابعة للوزارة ووزارات أخرى لاقين مصيرا مشابها باختلاف سياقات القصص، من بينهن صديقة أفراح، والتي عادت للعمل بعد أسبوع واحد من ولادتها لطفلها بعملية قيصرية. 

في القطاع الخاص.. إما حامل أو عاملة  

أما العاملات في القطاع الخاص فتحتكم إجازاتهن لقانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015، وتحدد وفق المادة 87 بمدة لا تقل عن أربعة عشر أسبوعاً في السنة بأجر كامل.  

بيد أن ضعف الرقابة على تطبيق قانون العمل في القطاع الخاص، يسفر عن عدم أمان وظيفي إضافي للنساء، أحد ملامحه التعامل مع العاملات الحوامل اللواتي تتنصل الشركات عن منحهن حقهن بإجازة الأمومة بأساليب مختلفة، منها إنهاء خدمات العاملات الحوامل أو الضغط عليهن لتقديم استقالاتهن. 

نور (24 عاماً)، وهي خريجة إدارة واقتصاد تروي كيف تغيّرت معاملة المديرين معها تماماً بمجرد وصولها للشهر الخامس من الحمل. 

وتضيف نور، التي عملت لأكثر من سنتين كمحاسبة في إحدى شركات المقاولات، “أصبحت أُحاسَب على أمور لم أكن أُحاسب عليها سابقاً، كالتأخير لدقائق مثلاً، واتهامات دائمة بالتقصير، بدايةً لم اكترث للأمر وحاولت التأقلم معه وبرّرته بحرصهم على عملهم ولأني أيضاً كنت أحب عملي ولا أريد خسارته”. 

وتكمل “بالشهر السادس ازدادت المحاسبة والجو المشحون وازداد الكلام من قبيل انتي قل تركيزج بسبب الحمل.. تتأخرين بسبب الحمل.. وكأن كل امر يحدث سببه الحمل حتى بالأمور الطبيعية والتي لم يكونوا يحاسبون عليها قبلاً.. كأنما يتصيدون في المي العكرة”. 

شعرت نور أنها “تجازى” لكونها حاملا، وأثرت “الحرب النفسية” كما وصفتها عليها، فاضطرت لترك العمل بعد الضغط النفسي الذي تعرضت له، خصوصاً عندما بات الضغط يؤثر على صحتها في الأشهر الخامسة والسادسة للحمل حيث كانت تعود إلى البيت باكية ومتعبة نفسياً. 

“الشركات تعمل جاهدة على تطفيش الموظفة الحامل، ليس في الأشهر الأخيرة للحمل فحسب، إنما يبدأون بهذا الأمر فور علمهم بأنها حامل”، لخصت نور. 

تنظر شركات القطاع الخاص للنساء الحوامل كأعباء مالية غير ملزمين بتسديدها لذلك تلجأ لإنهاء خدمات العاملات الحوامل لديها أو إجبارهن على تقديم استقالة تحت الضغط، الأمر الذي اختبرته ايمان (24 عاماً) أيضاً، والتي كانت تعمل في إحدى شركات المواد الغذائية، حيث اضطرت لتقديم استقالتها في الاشهر الأولى من حملها. 

“انتِ ما راح تكونين فعالة بالشغل فالأفضل ترتاحين”، لم تفهم إيمان المغزى من كلمات المدير في بادئ الأمر، واعتقدت أنه متعاطف معها خاصة بسبب التعب المصاحب للفترة الأولى من الحمل الذي بدأت تشعره به، لكنه أوضح لها بأنه يريد منها تقديم استقالتها والعودة للعمل بعد الولادة. 

وفعلاً قدمت إيمان استقالتها وتركت العمل ولكن لم تحصل على مستحقاتها المالية للشهر الأخير في العمل. 

ما العمل؟ 

القطاع الخاص لا يرغب بالمرأة المتزوجة أصلاً ولا يعينونها. 

هذا ما أكدته انتصار جبار، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام لنقابات عمال العراق، حيث أن “جزءاً من المشاكل التي تواجهنا، هي أن المرأة العاملة التي تعود إلى الوظيفة بعد إجازة الوضع تُفاجأ بإنهاء خدماتها أو بتغيير مكان عملها، والذي يعد مخالفة صريحة لقانون العمل والاتفاقات الدولية.. ولكن غالباً لا تعرف المرأة كيف تتصرف وإلى من تشتكي، فيهدر حقها”.  

يفاقم ذلك عدم انضمام فئة كبيرة من العمال، وخاصة النساء، في القطاع الخاص تحديداً لنقابات تضمن لهن حقوقهن وتساعدهن على تقديم شكاوى في حال تعرضهن لحيف، إما لتخوفهم من الانضمام لنقابة وإما لقلة المعرفة؛ بيد أن الانتماء إلى نقابة ليس شرطاً لكي يقدم العامل شكوى ضد مخالفات أرباب العمل.  

ولكن كثراً أيضاً لا يعرفون آلية تقديم الشكاوى. 

“اعرف اكو قوانين عمل بالقطاع الخاص لكن ما ماشية عدنا، وحتى لو قررتي تشتكين عليهم فوين تشتكين، وحتى بعقد العمل ما ذاكرين انتي الج اجازة امومة يعني راح تكون قضية خسرانة”، تقول نور.  

كما أن قانون العمل العراقي، والذي يعد أحد القوانين المتقدمة بالمنطقة، غير مفعل تقريباً على أرض الواقع ولم يبذل مجهود في تسليط الضوء عليه إعلامياً، لذا بقي جزء كبير من العاملين جاهلين بحقوقهم القانونية، وخاصة النساء، أردفت جبار. 

وفي هذا الشأن، يؤكد المحامي والخبير القانوني محمد جمعة أن المشكلة ليست بقانون العمل الذي يحوي مواد تنصف المرأة، لكن المشكلة تكمن بعدم التزام أصحاب الشركات ببنوده، ذلك لأن غرامة الإخلال بالقانون تقدر بخمسمائة ألف دينار وهي قليلة ولا تردع المشغلين. 

إلى ذلك كله، يُضاف غياب آلية تفتيش ورقابة ناجعة حكومية، حيث تعلل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية المخولة بإدارتها بنقص كوادر التفتيش، وهو أمر أكده تقرير صادر عن منظمة العمل الدولة ووكالات دولية أخرى بعنوان “تشخيص الاقتصاد غير المنظم في العراق” عام 2021، والذي بين أنـه منـذ العـام 2018 تـم توظيـف 231 مفتـش عمـل فـي العـراق، بينمـا فـي إقليـم كردسـتان العـراق فقـد كان هنـاك 21 مفتشاً فقط! علاوة على تقارير عن سوء الإدارة داخل قسم تفتيش العمل. 

يؤكد جمعة ضرورة تفعيل الدور الرقابي لأن الكثير من النساء العاملات ينقصهن الوعي والثقافة القانونية الكافية للذهاب إلى المحكمة والمطالبة بحقوقهن. إضافة إلى التكلفة المادية والقيود الاجتماعية التي قد تحدّ من قدرتهن على ذلك. 

لا تقتصر مسألة التمييز تجاه المرأة الحامل على مسائل إجازات الوضع والأمومة، بل تعتبر تفرعاً عن صورة ومكانة المرأة في المخيال العراقي الأبوي الذي يخترق عالم العمل أيضاً، حيث يُنظر إلى الموظفات على أنهن غير جديرات بالعمل ويزاحمن الرجال على وظائفهم، بل وأن مكانهن الحقيقي هو المنزل والتربية فقط لمجرد خروجهن لإجازة الوضع والأمومة!  

لا تنقضِ التجربة باندمال جروح عمليات الولادة وكبر الرضع، بل تبقى آثار الصدمة ترافق الأمهات العاملات، فيما يحاولن أن يحافظن على عملهن بل والتطور فيه رغم كل المعوقات المجتمعة كنساء وزوجات وأمهات وعاملات.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

حين دخلت مرام (33 عاماً) التي تعمل في إحدى الجامعات العراقية في الشهر التاسع للحمل قبل خمس سنوات، سعت كغيرها من الموظفات للحصول على إجازة ما قبل الوضع مدتها 21 يوماً حسب قانون الخدمة المدنية، لكنها سرعان ما اصطدمت بواقع تمييزي يحرمها من حق الحصول عليها بسبب تشغيلها بصفة أجر يومي. 

مشاقّ الحصول على إجازة الوضع والأمومة للمرأة العراقية العاملة تصعّب حياة المعيّنات بصفة أجر يومي وحياة أطفالهن، ولكنها لا تقتصر عليهن فحسب، إذ تصارع المرأة العراقية العاملة سواء في القطاع العام أو الخاص لتحصل على حقها وحق طفلها بإجازة وضع وأمومة مدفوعتين، فتواجه العديدات الطرد من العمل وإنهاء الخدمات عند وصولهن للأشهر الأخيرة من الحمل، فيما اضطرت أخريات، كيلا يواجهن هذا المصير، للعودة إلى العمل بعد مدة قصيرة جداً من ولادتهن. 

العاملات في المؤقت 

معاناة كبيرة تواجهها العاملات بأنماط عمل مؤقتة في القطاع الحكومي، وخصوصاً الأجر اليومي، وهو نمط من التشغيل الحكومي غير خاضع لضوابط التعيين الحكومي المعتمدة، مثل موافقة رئاسة الوزراء والوزارة المعنية على التعيين، وإنما يقتصر التشغيل على موافقة المدراء العامين في الوزارات. وهذا النمط من التشغيل لا تُضمن بموجبه حقوقٌ عديدة، مثل البطالة والضمان الاجتماعي وإجازات الوضع، أسوة بالملاك الدائم. 

علماً بأن قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960 المعدل الساري في القطاع الحكومي، يمنح العاملة الحامل إجازة حمل وولادة قبل الوضع وبعده أمدها اثنان وسبعون يوماً براتب تام، وفقاً للمادة 43 (٦)، إلا أن هذه القوانين لا تُطبق على العاملات بأجر يومي بالمؤسسات ذاتها، الأمر الذي يخلق تمييزا صريحا ضد هذه الفئات. 

وهكذا اكتشفت مرام، والتي تعاني من مشاكل صحية تعقد من عملية الولادة وتتوجب إجراء عملية قيصرية، عندما سعت لتحصيل إجازة، بأنها محرومة ليس فقط من إجازة ما قبل الوضع، بل من إجازة الأمومة كذلك، وأنها ليست مشمولة بكافة الحقوق التي تتمتع بها قريناتها الموظفات في الدائرة ذاتها.  

بدلاً من فترة الراحة والتحضر للولادة، قضت مرام الأيام السابقة للولادة بالبحث عن حلّ. 

“رحت حجيت وية رئيس القسم وشرحتله وضعي وكتله انا مريضة وراح اسوي عملية قيصرية وشرحتله وضعي الصحي بالكامل، لكنه رد عليّ بأسلوب جداً مستفز.. إي سويها وداومي ثاني يوم شكو بيها.. وكتها طلعت من عنده والدمعة بعيني”، تقول. 

أمام هذا الاستخفاف بصحتها، قرّرت مرام مقابلة رئيس الجامعة الذي تعاطف معها وقرر منحها إجازة مرضية مدتها 21 يوماً فقط وبدون مستحقات مالية. وحتى تستثمر هذه المدة القصيرة، اضطرت للاستمرار في العمل حتى يوم واحد قبل موعد الولادة التي تمت بعملية قيصرية. 

وبانقضاء هذه الفترة القصيرة نسبياً لامرأة قد وضعت مولودها للتوّ، وبعملية قيصرية، عادت مرام إلى عملها مثقلة بأوجاع جسدية ونفسية. 

“كان ألماً لا ينسى، الجو بارد وجروح العملية لم تشف بعد بشكل كامل حين انتهت الإجازة، لم أكن أستطيع المشي كثيراً وغير مهيأة للعودة إلى العمل.. حالتي النفسية لم أكن أحسد عليها، فالشعور بالألم عند اضطراري لترك طفلي الذي لم يتجاوز عمره العشرين يوماً كل صباح عند والدتي يقطع روحي.. رافقه إحساس بتأنيب الضمير والتقصير”. 

لا يختلف كثيراً حال العاملات بأجر يومي في وزارة النفط عنه في التعليم العالي، فحتى عندما حاول مجلس الوزراء تنظيم هذه الصفة من التشغيل في الأعوام الأخيرة بالوزارة، مثلاً عن طريق أمر رئاسة الوزراء المرقم 192 في 2021 لضمان حقوق العاملين، لم تلتفت الوزارة لحال الأمهات المعينات فيها، من بينهن أفراح (27 عاماً) وهي مهندسة كهرباء في إحدى الشركات التابعة لوزارة النفط، والتي كانت في نهاية الشهر الثامن من حملها حين بدأت العمل في الشركة. 

حين وصلت منتصف الشهر التاسع من حملها زادت معاناة أفراح التي كانت لا تملك وفق قرار التشغيل هذا إجازة اعتيادية ولا إجازات ما قبل الوضع، تقول “كنت كل يوم اخذه اجازة يكصونه مني وصلت مرحله على وشك الولادة وانه ما عندي إجازة أبد لا قبل الوضع ولا بعد الوضع”. 

مع ولادة أفراح لطفلها، صدر قرار من الشركة يعطي للأمهات إجازة أمومة ثلاثة أشهر فقط بدون راتب وبدون احتساب مدة الإجازة خدمة فعلية، لكن سرعان ما صدر بعده بأيام قرار وزاري آخر يلغي القرار القديم ويعتبر الثلاثة أشهر هذه محسوبة الراتب والخدمة. 

ولكن لم تكد أفراح تفرح بالخبر حتى اكتشفت أنها غير مشمولة بالقرار الأخير بحجة أن ولادتها كانت قبل القرار بأيام، ولم تسعفها الاعتراضات العديدة التي طالبت فيها بالإنصاف دون أن تلقى أي ردّ.  

قصة أفراح، لم تكن الوحيدة من نوعها في الوزارة، إذ رصدنا قصص عدد من العاملات في مختلف الشركات التابعة للوزارة ووزارات أخرى لاقين مصيرا مشابها باختلاف سياقات القصص، من بينهن صديقة أفراح، والتي عادت للعمل بعد أسبوع واحد من ولادتها لطفلها بعملية قيصرية. 

في القطاع الخاص.. إما حامل أو عاملة  

أما العاملات في القطاع الخاص فتحتكم إجازاتهن لقانون العمل العراقي رقم (37) لسنة 2015، وتحدد وفق المادة 87 بمدة لا تقل عن أربعة عشر أسبوعاً في السنة بأجر كامل.  

بيد أن ضعف الرقابة على تطبيق قانون العمل في القطاع الخاص، يسفر عن عدم أمان وظيفي إضافي للنساء، أحد ملامحه التعامل مع العاملات الحوامل اللواتي تتنصل الشركات عن منحهن حقهن بإجازة الأمومة بأساليب مختلفة، منها إنهاء خدمات العاملات الحوامل أو الضغط عليهن لتقديم استقالاتهن. 

نور (24 عاماً)، وهي خريجة إدارة واقتصاد تروي كيف تغيّرت معاملة المديرين معها تماماً بمجرد وصولها للشهر الخامس من الحمل. 

وتضيف نور، التي عملت لأكثر من سنتين كمحاسبة في إحدى شركات المقاولات، “أصبحت أُحاسَب على أمور لم أكن أُحاسب عليها سابقاً، كالتأخير لدقائق مثلاً، واتهامات دائمة بالتقصير، بدايةً لم اكترث للأمر وحاولت التأقلم معه وبرّرته بحرصهم على عملهم ولأني أيضاً كنت أحب عملي ولا أريد خسارته”. 

وتكمل “بالشهر السادس ازدادت المحاسبة والجو المشحون وازداد الكلام من قبيل انتي قل تركيزج بسبب الحمل.. تتأخرين بسبب الحمل.. وكأن كل امر يحدث سببه الحمل حتى بالأمور الطبيعية والتي لم يكونوا يحاسبون عليها قبلاً.. كأنما يتصيدون في المي العكرة”. 

شعرت نور أنها “تجازى” لكونها حاملا، وأثرت “الحرب النفسية” كما وصفتها عليها، فاضطرت لترك العمل بعد الضغط النفسي الذي تعرضت له، خصوصاً عندما بات الضغط يؤثر على صحتها في الأشهر الخامسة والسادسة للحمل حيث كانت تعود إلى البيت باكية ومتعبة نفسياً. 

“الشركات تعمل جاهدة على تطفيش الموظفة الحامل، ليس في الأشهر الأخيرة للحمل فحسب، إنما يبدأون بهذا الأمر فور علمهم بأنها حامل”، لخصت نور. 

تنظر شركات القطاع الخاص للنساء الحوامل كأعباء مالية غير ملزمين بتسديدها لذلك تلجأ لإنهاء خدمات العاملات الحوامل لديها أو إجبارهن على تقديم استقالة تحت الضغط، الأمر الذي اختبرته ايمان (24 عاماً) أيضاً، والتي كانت تعمل في إحدى شركات المواد الغذائية، حيث اضطرت لتقديم استقالتها في الاشهر الأولى من حملها. 

“انتِ ما راح تكونين فعالة بالشغل فالأفضل ترتاحين”، لم تفهم إيمان المغزى من كلمات المدير في بادئ الأمر، واعتقدت أنه متعاطف معها خاصة بسبب التعب المصاحب للفترة الأولى من الحمل الذي بدأت تشعره به، لكنه أوضح لها بأنه يريد منها تقديم استقالتها والعودة للعمل بعد الولادة. 

وفعلاً قدمت إيمان استقالتها وتركت العمل ولكن لم تحصل على مستحقاتها المالية للشهر الأخير في العمل. 

ما العمل؟ 

القطاع الخاص لا يرغب بالمرأة المتزوجة أصلاً ولا يعينونها. 

هذا ما أكدته انتصار جبار، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام لنقابات عمال العراق، حيث أن “جزءاً من المشاكل التي تواجهنا، هي أن المرأة العاملة التي تعود إلى الوظيفة بعد إجازة الوضع تُفاجأ بإنهاء خدماتها أو بتغيير مكان عملها، والذي يعد مخالفة صريحة لقانون العمل والاتفاقات الدولية.. ولكن غالباً لا تعرف المرأة كيف تتصرف وإلى من تشتكي، فيهدر حقها”.  

يفاقم ذلك عدم انضمام فئة كبيرة من العمال، وخاصة النساء، في القطاع الخاص تحديداً لنقابات تضمن لهن حقوقهن وتساعدهن على تقديم شكاوى في حال تعرضهن لحيف، إما لتخوفهم من الانضمام لنقابة وإما لقلة المعرفة؛ بيد أن الانتماء إلى نقابة ليس شرطاً لكي يقدم العامل شكوى ضد مخالفات أرباب العمل.  

ولكن كثراً أيضاً لا يعرفون آلية تقديم الشكاوى. 

“اعرف اكو قوانين عمل بالقطاع الخاص لكن ما ماشية عدنا، وحتى لو قررتي تشتكين عليهم فوين تشتكين، وحتى بعقد العمل ما ذاكرين انتي الج اجازة امومة يعني راح تكون قضية خسرانة”، تقول نور.  

كما أن قانون العمل العراقي، والذي يعد أحد القوانين المتقدمة بالمنطقة، غير مفعل تقريباً على أرض الواقع ولم يبذل مجهود في تسليط الضوء عليه إعلامياً، لذا بقي جزء كبير من العاملين جاهلين بحقوقهم القانونية، وخاصة النساء، أردفت جبار. 

وفي هذا الشأن، يؤكد المحامي والخبير القانوني محمد جمعة أن المشكلة ليست بقانون العمل الذي يحوي مواد تنصف المرأة، لكن المشكلة تكمن بعدم التزام أصحاب الشركات ببنوده، ذلك لأن غرامة الإخلال بالقانون تقدر بخمسمائة ألف دينار وهي قليلة ولا تردع المشغلين. 

إلى ذلك كله، يُضاف غياب آلية تفتيش ورقابة ناجعة حكومية، حيث تعلل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية المخولة بإدارتها بنقص كوادر التفتيش، وهو أمر أكده تقرير صادر عن منظمة العمل الدولة ووكالات دولية أخرى بعنوان “تشخيص الاقتصاد غير المنظم في العراق” عام 2021، والذي بين أنـه منـذ العـام 2018 تـم توظيـف 231 مفتـش عمـل فـي العـراق، بينمـا فـي إقليـم كردسـتان العـراق فقـد كان هنـاك 21 مفتشاً فقط! علاوة على تقارير عن سوء الإدارة داخل قسم تفتيش العمل. 

يؤكد جمعة ضرورة تفعيل الدور الرقابي لأن الكثير من النساء العاملات ينقصهن الوعي والثقافة القانونية الكافية للذهاب إلى المحكمة والمطالبة بحقوقهن. إضافة إلى التكلفة المادية والقيود الاجتماعية التي قد تحدّ من قدرتهن على ذلك. 

لا تقتصر مسألة التمييز تجاه المرأة الحامل على مسائل إجازات الوضع والأمومة، بل تعتبر تفرعاً عن صورة ومكانة المرأة في المخيال العراقي الأبوي الذي يخترق عالم العمل أيضاً، حيث يُنظر إلى الموظفات على أنهن غير جديرات بالعمل ويزاحمن الرجال على وظائفهم، بل وأن مكانهن الحقيقي هو المنزل والتربية فقط لمجرد خروجهن لإجازة الوضع والأمومة!  

لا تنقضِ التجربة باندمال جروح عمليات الولادة وكبر الرضع، بل تبقى آثار الصدمة ترافق الأمهات العاملات، فيما يحاولن أن يحافظن على عملهن بل والتطور فيه رغم كل المعوقات المجتمعة كنساء وزوجات وأمهات وعاملات.