"البايسكل"..  بساط ريح أهل البصرة  

علي محمود خضير

26 كانون الأول 2023

قيادة الدراجة الهوائية نمط حياة، ومزاجٌ شخصيّ، وسياقٌ ذهني-حركيّ متسقٌ يتسم بحالة من التوحّد بين راكب الدراجة وجسده من جهة، والاثنين ككتلة واحدة والمحيط من جهة أخرى.. عن "بساط ريح" أهل البصرة وضرورة استعادته كوسيلة تنقل..

3 آب 2023، الساعة 12:30 ظهراً. 

البصرة، ذاك اليوم، تصدّرت قائمة أعلى مدن العالم حرارةً، وقد تجاوزت 52 مئوية في الظل. لكني كنت أشاهد أمامي منظراً لا يُصدّق: شاب يقود دراجة هوائية تحت أشعة الشمس، في الشارع الخدمي لمحلة السيمر التاريخية! 

-گوّة! 

-الله يگوي حيلك حبوبي! 

-اليوم حارة كلش. لو مخلي الفرّه غير يوم. 

-حارة. أي.. أگدر أخذ تكسي. بس الطلعة بهاي العزيزة غير.  

الأسبوع الثاني من أيلول، البصرة مزدحمة بشكل لا يطاق. بضعة أيام وتبدأ السنة الدراسية. مئات العائلات تتبضّع من أسواق حنّا الشيخ والمغايز والجنينة، القرطاسية والزي المدرسي والحقائب. كما أن ربيع الأول مقبل، وبعض الأهالي اعتادوا أن يربطوا أعراسهم بـ”فرحة الزهرة”، فهم يجهزون في هذه الأسابيع لوازم الفرح. يبدأ الازدحام بمدخل سوق البنات في العشّار ومقترباته وينتهي بحدائق العباسيّة قرب شارع الفراهيدي. لم أعهد للمدينة زحاماً كهذا من قبل. أظن أن قيادة السيارة في البصرة بعد سنوات خمس من الآن ستكون مستحيلة. 

كانت البصرة قبل خمسين عاماً فضاءً رحباً للعيش والتنقل بلا معاناة تذكر. تُظهر الصور والأفلام القليلة الشوارع شبه فارغة ونظامية ونظيفة. المشهد اليوم مختلف. حيث السيّارات أكثر من البشر، حشود من الصناديق المعدنية تتراصف في تقاطعاتها على مدار ساعات اليوم، تنفخ دخانها وحرارتها إلى الجو الملتهب. تجاوزات على ضوابط السياقة، وقيادة “رونك سايد”، وصخب المنبهات المحموم. الدرّاجات الناريّة و”الستوتات” ضاعفت المشهد جنوناً. غير أن ضيفاً ثقيلاً حلَّ في السنوات الأخيرة قضى، وبشكل نهائيّ، على أمل تنظيم الشارع وتقليل مدد القيادة وتقنين التلوث: إنه “التوك توك”. مئات منها تنتشر حولك مثل الزنابير الحديديّة، تجعل مهمّة القيادة محفوفة بالمخاطر المفاجئة في كل لحظة. فلا ضوابط لشراء تلك العجلة، ولا أعمار محدِّدة، ولا اختبارات سوق. “التوك توك” اختصار لحالة الشارع العراقيّ الفادحة والمزمنة. 

كل تلك المركبات الضخمة التي تحكم الشارع بقوة البنزين وجبروت المحرك الآلي جعلت الفضاء مستحيلاً لصديق البصريين القديم، وبساطهم السحري الحالم: “البايسكل”.  

ظلت الدراجة الهوائيّة وسيلة التنقل الأقرب والأوسع انتشاراً في المدينة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. استعملها بكثرة عمال الموانئ، وشغيلة مصانع التمور، وصنّاع ورش تصليح السفن في الداكير، وصيادو الفاو والخور. ولطالما ناءت بحمل أجساد الطلبة والكوادر التدريسية وسعاة البريد والحرفيين والأهالي من كل صوب وناحية على سواء. الدراجة الهوائية إذن كانت هي خيار البصريين طوال نصف قرن، لا السيارة الغالية وقتها والمحافظة بغرفتها المغلقة، ولا الدراجة النارية الشحيحة آنها والمزمجرة العجولة، بل الدراجة ذات العجلتين التي تندفع خفيفةً بقوة الجسد لتحلق في اتزان بين الهواء والأرض. بسيطة مثلهم، ووادعة كوجوههم، ومتهادية كصوت الموج على ضفاف شط العرب. 

“الحصان الحديدي” الذي تسيد شوارع المدينة لنصف قرن بات مضطهداً، وراكبوه أقلية. لا يستطيع هاوي الدراجة الهوائية أن يجد موطئ عجلة لمركبته في ظل الفوضى والصراخ وحمّى السرعة التي تحكم قبضتها على شوارع البلاد.  

غاب البايسكل فغاب الهدوء والاسترخاء من الشارع. وحلت بدلاً عنهما متلازمة السباق العراقي، حيث الجميع يسابق الجميع و”يتغالب” معه: الجميع في سباق غير معلن: مَن يصل أولاً الى التقاطع المقبل! “تغلبني لو أغلبك والموت بيد الله” عبارة قرأتها على صندوق سيارة استقتل صاحبها في تجاوزي لنتوقف معاً في أول إشارة مرور تالية. شارعٌ محكومٌ بعقل تغالبي. 

محل لبيع الدراجات الهوائية في البصرة – تصوير الكاتب. 

البايسكل الحميم 

قيادة الدراجة الهوائية نمط حياة، ومزاج شخصي، وسياق ذهني-حركي متسق يتسم بحالة من التوحّد بين راكب الدراجة وجسده من جهة، والاثنين ككتلة واحدة والمحيط من جهة أخرى. يضمن قيادة الدراجة هامشاً من الحريّة أكبر مما تمنحه السيّارة. تستطيع المناورة والتخلّص من الزحام، بل أن تعود أدراجك بشكل معاكس تماماً وفي لحظة واحدة. على العكس من السيّارة التي تحبسك في شارع محكوم بظروف لا تستطيع السيطرة عليها. كما أنك تستطيع بدراجتك الوصول إلى مناطق لا تبلغها السيارة بسهولة. كنا أيام المراهقة ننزل بدراجاتنا إلى ممرّات ترابية ضيقة، لنرى إطلالات بالغة الجمال، تنحدر ومجرى دجلة، لا تستطيع أي سيّارة وقتها الدخول إليها. 

تمنح الدراجة الهوائية ذلك التواصل الفيزيائي المباشر والحميم بين الإنسان والطبيعة. الهواء والضوء والأرض. لكنه ليس كأي تواصل. إنه حالة من “الطيران الخاص” الذي يغمرك بشعور غامض من السعادة. سعادة آتية من حريّة الانفلات من قبضتيّ الزمان والمكان. مع الدراجة أنت أسرع وأخفّ، وحسابات الوقت عندك مختلفة. ومع الدراجة لا مكان واحداً لك، تستطيع في ظرف عشر دقائق أن تصير في أماكن متعدّدة أو تكاد. 

حصين إبليس 

شوهدت الدراجة الهوائية لأول مرة في بغداد أيام الوالي العثماني مجيد بيك والذي حكم بغداد بين 1905-1906. وقد أطلقت الصحف البغدادية عليها وصف “الحصان الحديدي”، فيما سميت شعبياً بـ «البايسكل»، والاسم أجنبي من مقطعين، بمعنى ذات العجلتين. 

يذكر الروائي ستانتون هوب، في كتاب “الهارب الى الله –رحلات المغامر العربي”، الذي دوّن فيه مغامرات الرحالة ويليام ريتشارد وليامسون (الحاج عبد الله وليامسون) الى البلاد العربية، أن وليامسون كان أول من ركب دراجة هوائية في العراق، وصلته هدية من أحمد النقيب. وقد ذكر دهشة العراقيين ورعبهم وهم يراقبونه يركبها حتى ظنه بعضهم “شيطاناً يركب جنية”. 

لم يتقبل الناس الذين اعتمدوا الدواب وسيلة نقل أن يركبوا الحديد. تخوّف العراقيون منه وسرت الشائعات في المقاهي والدواوين. وعرف البايسكل المسكين باسم “حصَين إبليس”. واقتصر استعماله على الرعايا الأجانب والأسر الغنية التي كان سافر أولادها الى بلاد “الأفرنجة”، وحصلوا على بعض التعليم. 

امرأتان بقرب القنال في البصرة 2018. المصدر: سباستيان باكهاوس، دي فيلت. 

لم يكن القنصل الأمريكي في العراق عام 1908 مقتنعاً باستخدام العراقيين للدراجات الهوائية، فقد كتب لبلاده، أنّ الشوارع في بغداد سيئة. والمناطق المحيطة بمركزها طينية (…)، “بغداد لاهبة في الصيف، وشوارعها وحل في الشتاء”. 

لم يكن توقّع القنصل دقيقاً، فما أن انقضت خمس سنوات حتى تصالح البغداديون مع الاختراع الجديد، نابذين خوفهم، وشهدت شوارع المدينة تصاعداً ملحوظاً في أعداد راكبي الدراجات الهوائية. وبعد سنة واحدة، ومع دخول العالم حربه العالمية الأولى، كسبت الدراجات الهوائية الجولة وصارت مألوفة لدى العامة الذين أقبلوا على شرائها بكثافة. 

تجارياً، كان أول دخول للدراجات الهوائية إلى العراق عبر موانئ البصرة، قادمة من الهند، لتستقر في شركات رئيسة بشارع الرشيد مركز العاصمة. شركات “إسحاق بناني اخوان”، و”عزرة مير حكاك وأولاده”، و”الفيحاء التجارية”، و”ما بين النهرين”، و”مير حسقيل مراد”، و”طقولا كفوري”، و”يوسف راينو” هي المسيطرة على تجارة الدراجات الهوائية بالجملة. بينما تجارة المفرد منتشرة في جميع أرجاء محلات العاصمة، فيما عرف شارع الرشيد بورش تصليح الدراجات، وكانت ثمانية. 

الحقّ في دراجة 

لا أدري من أين جاءت رغبتي العارمة بقيادة دراجة هوائية، لكنني أتذكر كتاباً بغلاف أبيض سميك كنت قد بدأت بتصفح وقراءة بعض صفحاته، مستجيباً لغموض الكلمات واكتشاف الصور التي تصدّرت فصوله. حملت الصفحة 105 من الكتاب دهشة صاعقة لطفل في العاشرة. استقرت في النصف السفلي من الصفحة صورة لمقهى صيفيّ في البصرة مطلٍّ على الشارع بواجهة عريضة وستارة من الخشب استقرت تحتها تخوت المقهى وقد استراح على جنباتها الرواد منشغلين وصاخبين. لم يظهر في الصورة من رواد المقهى سوى رؤوسهم وجزءاً من أكتافهم، فقد غابوا تحت غابة من الدراجات الهوائية المركونة أمام المقهى وقد اصطفت وتداخلت وتشابكت حتى بدت كأنها حصيرة من الخوص الخصيبي. هالني عدد الدراجات ورحت أعدها وأفشل. ثم أعدها وأفشل. فالإطارات مختلطة والهياكل متعاضدة والحساب مستحيل. جيش صغير من البايسكلات. غيمة حديديّة بإطارات لا تنتهي نزلت على الأرض. فتح هذا المشهد الصغير من المدينة خيالي. فكرت أن الدراجة الهوائية جزء طبيعي وأصيل من حياة ذلك الزمان العراقيّ. وكما أن ثمة حقا بالحياة، وحقا بالرأي، وحقا بالحب، فأن هناك حقا بدراجة هوائية لكل إنسان. هكذا كانت دراجتي موديل (بغداد 20) زرقاء اللون في التسعينيات، هي امتداد لدراجة أبي التي تنقّل فيها في أرجاء مناوي باشا في الستينيات، وهو، أيضاً، امتداد لدراجة جدّي التي كان يذهب فيها لورشة “التورنه” في شارع أبو الأسود الدؤلي بالعشار بعد تقاعده من شركة تصدير التمور. جيل يعقب جيلا، على السرج ذاته، والطريق ذاته. 

شوارع البصرة الخلفية 2016 – تصوير دافيد ستانلي. 

مليون دراجة × مليون سيارة 

قلّت أعداد راكبي الدراجات الهوائية في المدينة إلى حدّ بعيد لتغيّر طبيعة العصر العراقيّ في أيامنا. بينما يدفع العالم لتقليل استخدام الوقود الأحفوري والرحمة بالغلاف الجوي من الغازات القاتلة، تتضاعف أعداد السيّارات في البصرة جراء تسهيلات القروض المصرفيّة وبرامج البنوك الخاصّة بتمويل شراء السيّارات. صفقة رابحة للطرفين؛ فوائد بنكيّة عالية للمصرف، وسيّارة “زيرو” للمواطن/ـة”. الجميع فرحان، لكن صحة الناس، ومستقبل مدنهم وأطفالهم، خسارات. 

عام 2017 كنت أصل لمقر عملي في حي الجبيلة في ظرف (10-15) دقيقة. الرقم تضاعف هذا العام وبات الأمر يكلفني نصف ساعة. 

مع قدوم الموسم الدراسي الجديد تكون القيادة اختباراً للأعصاب. يقول باسم القطراني، مدير إعلام تربية البصرة، إن حوالي مليون طالبة وطالب في المدينة باشروا دوامهم في تشرين الأول الماضي من مجموع 9 ملايين طالب في العراق1. ملأت خطوط نقل الطلبة الخاصّة، المدينة، وبدأت تفيض الشوارع بالسيارات. خطوط لرياض الأطفال، خطوط لمدارس الابتدائية والثانوية. خطوط لطلبة الجامعات. خطوط للكوادر التدريسية. خطوط خطوط خطوط. 

أضف إلى ذلك المركبات الحكومية وسيارات الدوائر الخدمية ومواكب المسؤولين التي ستتضاعف السنة المقبلة مع العودة “الميمونة” لمجالس المحافظات. يحدث ذلك كله ونسب مشاريع الشوارع الجديدة والمجسرات والشوارع الحولية لا تزال محدودة. سيكون “البايسكل ” حلاً سحرياً يعالج جزءاً من المشكل. إنه حل خياليّ للوهلة الأولى، و”بطران” للوهلة الثانية، لكنه ممكن ويستحق المحاولة للوهلة الثالثة. وأنا هنا لا أتحدّث عن المشاوير البعيدة، بل عن المسافات المعقولة والممكن قطعها لإنسان يتمتّع بمؤهلات صحية جيدة.  

يمكن للدراجة الهوائية، في المعدل، قطع مسافة تتراوح بين (10 -25) كيلومترا في الساعة الواحدة. بالطبع توجد عوامل عدة تتحكّم بالرقم. لكنه، في المجمل، يدور حول تلك الحدود. ولو أخذنا أقل تقدير، وكنت تسكن، فرضاً، منطقة عويسيان، فبإمكانك الوصول إلى النادي الأثوري، أو كوت الحِجاج، أو مركز التنومة، أو الأصمعي في ظرف 30 دقيقة فقط!  

هذه الأحياء، وأمثالها على مدار قطر 5 كيلومترات تضم بعض أهم المؤسسات الحكومية في المدينة ومئات الشركات ومحال العمل الخاصة.  

غير أن تحقيق فرضية كهذه تحتاج ثورة تخطيط وتنفيذا حكوميا، وبرامج تثقيف طويلة، والأهم من ذلك الثقة في الشارع. 

استراحة في سوق بمدينة البصرة 2008، المصدر: GetArchive 

تحتاج الشوارع إلى تصميم جديد يضمن مسارات قيادة خاصّة وآمنة للدراجات الهوائية، ونظام مروري قادر على حمايتها.. يمكن لإعادة الاعتبار إلى استخدام الدراجة الهوائية، الإسهام بتحفيز المجتمع على تحسين البنية التحتيّة للمشاة وراكبي الدراجات، نحتاج إلى النظر بجدية لتجهيز الشوارع الرئيسة والجزرات الوسطيّة بأشجار ظليّة عملاقة يوفّر تقابلها على جانبي الطريق هامشاً مريحاً من الظلال التي تسهل مشاق القيادة في جو جاف وأشعة شمسية قاسية على مدار 8 أشهر في السنة. سنكون قد اختزلنا شيئاً من وحش الازدحام، وعزّزنا البيئة، وقللنا تكاليف النقل بالسيارات والتي ترهق جيوب العائلات، إذ يكلف نقل طالب ابتدائية واحد إلى مدرسة متوسطة البعد (60-75 ألف دينار) لسيارات “الكيا” و(100 ألف دينار) لسيّارات الصالون الصغيرة. لن يحتاج رب العائلة سوى 25 ألف دينار كحد أدنى لشراء دراجة لكننا بحاجة لإجابته على السؤال: هل سأكون مطمئناً على ابني وأنا أُرسله إلى مدرسته على دراجة هوائية؟ 

هل هذا كل شيء؟ لا. دعونا لا ننسى عوائد التواصل الاجتماعي التي توفّرها قيادة الدراجة الهوائية والتفاعل الإيجابي بين المستخدمين والمناطق المحلية التي يكتشفونها في رحلاتهم. 

ومعلومٌ أن قيادة الدراجة رياضة. وأنها بالتالي تحسّن الصحة العامة، والصحة النفسية على وجه خاص بتخفيف التوتر وإراحة العقل. ولا أعرف إن كنتم ستصدقونني لو قلت إن العراق كان يملك دورياً عامّاً لمسابقة الدراجات الهوائية تشارك فيه عشرة أندية ومئات اللاعبين المحترفين. 

نلاحظ بالنتيجة إمكانية قياس جودة حياة مجتمع كامل من منظور وجود وعدم وجود دراجة هوائية في الشارع. ويمكن قول الجملة السابقة بطريقة مختلفة: يمكن للدراجة الهوائية أن تصير جزءاً من إصلاح شامل لنمط الحياة العراقية، مع حساب الظروف العامة الأخرى وتداخلها بالتأكيد. 

وكفة البايسكلات 

في البصرة القديمة، قبالة جامع العرب العريق، يشمخ سوق (وكفة) الدراجات الهوائية. محال لبيع الجديد والمستعمل، وأخرى لبيع قطع الغيار بأنواعها، وورش صغيرة للتصليح. ثمة أيضاً “البياعة شراية” تماماً كما في معارض السيارات، يستقبلونك، بعيون متحفزة ولسان متوثّب: 

-“شنو عندك عمي؟ تبيع، تشتري، كل شي موجود يمي”. 

عند سيد محمد وقفت. أصرَّ على تقديم عرض سريع عن دراجاته النارية، رغم محاولتي إخباره أن مقصدي هي الهوائية: 

-عندي “سكنس” حديث بـ 950 ألف، وعندي “قجمة” بـ750 ألف، وعندي “الجامبو” بمليون ومية، و”البوليسي” بمليون، “حواضن” بيجي مليون و300، تجي مناك غالية، وعندي ياماها “تسع زروف” بالة ب650، شنو الي تريده بي ضمان سنة!”. 

بضع خطوات قربتني من رجل أربعيني بعباءة حنية يعرض دراجة جبلية من ماركة “shimaNOO” طلب 50 الفاً مقابلها، و”بيها مجال”. 

سوق الدراجات – البصرة. تصوير الكاتب. 

على ضفتي الشارع يقف الباعة بأعمار متباينة، ورغبات متباينة، كذلك هي أسعار “البايسكلات”. لا يوجد قانون للبيع، ولا تسعيرة ولا معيار، “أبو الحلال” هو من يقدّر سعر بضاعته، وما على المتفرجين سوى المفاصلة. يمكنك أن تقف على دراجة صغيرة حجم (16) يعرضها طفل لم يبلغ الثالثة عشرة بـ130 ألفاً، بينما بعده بأمتار يعرض شاب دراجة حجم 20 بـ65 ألفاً. سيختصر لك الأول أسبابه بالنظافة والمنشأ الأصلي، وسيهمم الثاني بأنها بيعة “مستعجلة”، وأنها تساوي ضعف المبلغ. اقتربت من فتى يرتدي قميصاً بعلامة “NIKE” مزيفة، معتمراً قبعة أدار وجهها إلى الخلف وبيده سيجارة نحيفة. وما أن لمحني حتى نقلها بخفة من بين إصبعيه إلى داخل راحته التي تحولت إلى صندوق صغير. نظر لي بخجل قائلاً: 

125 وبي مجال. بي “سيبايه” ليوره، وسلة ليكدام وبي “جاملغات” احتياط. 

اخبرته أنني صحفي فبدت على وجهه أمارة غيظ مكتوم: 

“ماكو بيع. حتى ناس اليوم ماكو. حارة تكتل”. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

3 آب 2023، الساعة 12:30 ظهراً. 

البصرة، ذاك اليوم، تصدّرت قائمة أعلى مدن العالم حرارةً، وقد تجاوزت 52 مئوية في الظل. لكني كنت أشاهد أمامي منظراً لا يُصدّق: شاب يقود دراجة هوائية تحت أشعة الشمس، في الشارع الخدمي لمحلة السيمر التاريخية! 

-گوّة! 

-الله يگوي حيلك حبوبي! 

-اليوم حارة كلش. لو مخلي الفرّه غير يوم. 

-حارة. أي.. أگدر أخذ تكسي. بس الطلعة بهاي العزيزة غير.  

الأسبوع الثاني من أيلول، البصرة مزدحمة بشكل لا يطاق. بضعة أيام وتبدأ السنة الدراسية. مئات العائلات تتبضّع من أسواق حنّا الشيخ والمغايز والجنينة، القرطاسية والزي المدرسي والحقائب. كما أن ربيع الأول مقبل، وبعض الأهالي اعتادوا أن يربطوا أعراسهم بـ”فرحة الزهرة”، فهم يجهزون في هذه الأسابيع لوازم الفرح. يبدأ الازدحام بمدخل سوق البنات في العشّار ومقترباته وينتهي بحدائق العباسيّة قرب شارع الفراهيدي. لم أعهد للمدينة زحاماً كهذا من قبل. أظن أن قيادة السيارة في البصرة بعد سنوات خمس من الآن ستكون مستحيلة. 

كانت البصرة قبل خمسين عاماً فضاءً رحباً للعيش والتنقل بلا معاناة تذكر. تُظهر الصور والأفلام القليلة الشوارع شبه فارغة ونظامية ونظيفة. المشهد اليوم مختلف. حيث السيّارات أكثر من البشر، حشود من الصناديق المعدنية تتراصف في تقاطعاتها على مدار ساعات اليوم، تنفخ دخانها وحرارتها إلى الجو الملتهب. تجاوزات على ضوابط السياقة، وقيادة “رونك سايد”، وصخب المنبهات المحموم. الدرّاجات الناريّة و”الستوتات” ضاعفت المشهد جنوناً. غير أن ضيفاً ثقيلاً حلَّ في السنوات الأخيرة قضى، وبشكل نهائيّ، على أمل تنظيم الشارع وتقليل مدد القيادة وتقنين التلوث: إنه “التوك توك”. مئات منها تنتشر حولك مثل الزنابير الحديديّة، تجعل مهمّة القيادة محفوفة بالمخاطر المفاجئة في كل لحظة. فلا ضوابط لشراء تلك العجلة، ولا أعمار محدِّدة، ولا اختبارات سوق. “التوك توك” اختصار لحالة الشارع العراقيّ الفادحة والمزمنة. 

كل تلك المركبات الضخمة التي تحكم الشارع بقوة البنزين وجبروت المحرك الآلي جعلت الفضاء مستحيلاً لصديق البصريين القديم، وبساطهم السحري الحالم: “البايسكل”.  

ظلت الدراجة الهوائيّة وسيلة التنقل الأقرب والأوسع انتشاراً في المدينة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. استعملها بكثرة عمال الموانئ، وشغيلة مصانع التمور، وصنّاع ورش تصليح السفن في الداكير، وصيادو الفاو والخور. ولطالما ناءت بحمل أجساد الطلبة والكوادر التدريسية وسعاة البريد والحرفيين والأهالي من كل صوب وناحية على سواء. الدراجة الهوائية إذن كانت هي خيار البصريين طوال نصف قرن، لا السيارة الغالية وقتها والمحافظة بغرفتها المغلقة، ولا الدراجة النارية الشحيحة آنها والمزمجرة العجولة، بل الدراجة ذات العجلتين التي تندفع خفيفةً بقوة الجسد لتحلق في اتزان بين الهواء والأرض. بسيطة مثلهم، ووادعة كوجوههم، ومتهادية كصوت الموج على ضفاف شط العرب. 

“الحصان الحديدي” الذي تسيد شوارع المدينة لنصف قرن بات مضطهداً، وراكبوه أقلية. لا يستطيع هاوي الدراجة الهوائية أن يجد موطئ عجلة لمركبته في ظل الفوضى والصراخ وحمّى السرعة التي تحكم قبضتها على شوارع البلاد.  

غاب البايسكل فغاب الهدوء والاسترخاء من الشارع. وحلت بدلاً عنهما متلازمة السباق العراقي، حيث الجميع يسابق الجميع و”يتغالب” معه: الجميع في سباق غير معلن: مَن يصل أولاً الى التقاطع المقبل! “تغلبني لو أغلبك والموت بيد الله” عبارة قرأتها على صندوق سيارة استقتل صاحبها في تجاوزي لنتوقف معاً في أول إشارة مرور تالية. شارعٌ محكومٌ بعقل تغالبي. 

محل لبيع الدراجات الهوائية في البصرة – تصوير الكاتب. 

البايسكل الحميم 

قيادة الدراجة الهوائية نمط حياة، ومزاج شخصي، وسياق ذهني-حركي متسق يتسم بحالة من التوحّد بين راكب الدراجة وجسده من جهة، والاثنين ككتلة واحدة والمحيط من جهة أخرى. يضمن قيادة الدراجة هامشاً من الحريّة أكبر مما تمنحه السيّارة. تستطيع المناورة والتخلّص من الزحام، بل أن تعود أدراجك بشكل معاكس تماماً وفي لحظة واحدة. على العكس من السيّارة التي تحبسك في شارع محكوم بظروف لا تستطيع السيطرة عليها. كما أنك تستطيع بدراجتك الوصول إلى مناطق لا تبلغها السيارة بسهولة. كنا أيام المراهقة ننزل بدراجاتنا إلى ممرّات ترابية ضيقة، لنرى إطلالات بالغة الجمال، تنحدر ومجرى دجلة، لا تستطيع أي سيّارة وقتها الدخول إليها. 

تمنح الدراجة الهوائية ذلك التواصل الفيزيائي المباشر والحميم بين الإنسان والطبيعة. الهواء والضوء والأرض. لكنه ليس كأي تواصل. إنه حالة من “الطيران الخاص” الذي يغمرك بشعور غامض من السعادة. سعادة آتية من حريّة الانفلات من قبضتيّ الزمان والمكان. مع الدراجة أنت أسرع وأخفّ، وحسابات الوقت عندك مختلفة. ومع الدراجة لا مكان واحداً لك، تستطيع في ظرف عشر دقائق أن تصير في أماكن متعدّدة أو تكاد. 

حصين إبليس 

شوهدت الدراجة الهوائية لأول مرة في بغداد أيام الوالي العثماني مجيد بيك والذي حكم بغداد بين 1905-1906. وقد أطلقت الصحف البغدادية عليها وصف “الحصان الحديدي”، فيما سميت شعبياً بـ «البايسكل»، والاسم أجنبي من مقطعين، بمعنى ذات العجلتين. 

يذكر الروائي ستانتون هوب، في كتاب “الهارب الى الله –رحلات المغامر العربي”، الذي دوّن فيه مغامرات الرحالة ويليام ريتشارد وليامسون (الحاج عبد الله وليامسون) الى البلاد العربية، أن وليامسون كان أول من ركب دراجة هوائية في العراق، وصلته هدية من أحمد النقيب. وقد ذكر دهشة العراقيين ورعبهم وهم يراقبونه يركبها حتى ظنه بعضهم “شيطاناً يركب جنية”. 

لم يتقبل الناس الذين اعتمدوا الدواب وسيلة نقل أن يركبوا الحديد. تخوّف العراقيون منه وسرت الشائعات في المقاهي والدواوين. وعرف البايسكل المسكين باسم “حصَين إبليس”. واقتصر استعماله على الرعايا الأجانب والأسر الغنية التي كان سافر أولادها الى بلاد “الأفرنجة”، وحصلوا على بعض التعليم. 

امرأتان بقرب القنال في البصرة 2018. المصدر: سباستيان باكهاوس، دي فيلت. 

لم يكن القنصل الأمريكي في العراق عام 1908 مقتنعاً باستخدام العراقيين للدراجات الهوائية، فقد كتب لبلاده، أنّ الشوارع في بغداد سيئة. والمناطق المحيطة بمركزها طينية (…)، “بغداد لاهبة في الصيف، وشوارعها وحل في الشتاء”. 

لم يكن توقّع القنصل دقيقاً، فما أن انقضت خمس سنوات حتى تصالح البغداديون مع الاختراع الجديد، نابذين خوفهم، وشهدت شوارع المدينة تصاعداً ملحوظاً في أعداد راكبي الدراجات الهوائية. وبعد سنة واحدة، ومع دخول العالم حربه العالمية الأولى، كسبت الدراجات الهوائية الجولة وصارت مألوفة لدى العامة الذين أقبلوا على شرائها بكثافة. 

تجارياً، كان أول دخول للدراجات الهوائية إلى العراق عبر موانئ البصرة، قادمة من الهند، لتستقر في شركات رئيسة بشارع الرشيد مركز العاصمة. شركات “إسحاق بناني اخوان”، و”عزرة مير حكاك وأولاده”، و”الفيحاء التجارية”، و”ما بين النهرين”، و”مير حسقيل مراد”، و”طقولا كفوري”، و”يوسف راينو” هي المسيطرة على تجارة الدراجات الهوائية بالجملة. بينما تجارة المفرد منتشرة في جميع أرجاء محلات العاصمة، فيما عرف شارع الرشيد بورش تصليح الدراجات، وكانت ثمانية. 

الحقّ في دراجة 

لا أدري من أين جاءت رغبتي العارمة بقيادة دراجة هوائية، لكنني أتذكر كتاباً بغلاف أبيض سميك كنت قد بدأت بتصفح وقراءة بعض صفحاته، مستجيباً لغموض الكلمات واكتشاف الصور التي تصدّرت فصوله. حملت الصفحة 105 من الكتاب دهشة صاعقة لطفل في العاشرة. استقرت في النصف السفلي من الصفحة صورة لمقهى صيفيّ في البصرة مطلٍّ على الشارع بواجهة عريضة وستارة من الخشب استقرت تحتها تخوت المقهى وقد استراح على جنباتها الرواد منشغلين وصاخبين. لم يظهر في الصورة من رواد المقهى سوى رؤوسهم وجزءاً من أكتافهم، فقد غابوا تحت غابة من الدراجات الهوائية المركونة أمام المقهى وقد اصطفت وتداخلت وتشابكت حتى بدت كأنها حصيرة من الخوص الخصيبي. هالني عدد الدراجات ورحت أعدها وأفشل. ثم أعدها وأفشل. فالإطارات مختلطة والهياكل متعاضدة والحساب مستحيل. جيش صغير من البايسكلات. غيمة حديديّة بإطارات لا تنتهي نزلت على الأرض. فتح هذا المشهد الصغير من المدينة خيالي. فكرت أن الدراجة الهوائية جزء طبيعي وأصيل من حياة ذلك الزمان العراقيّ. وكما أن ثمة حقا بالحياة، وحقا بالرأي، وحقا بالحب، فأن هناك حقا بدراجة هوائية لكل إنسان. هكذا كانت دراجتي موديل (بغداد 20) زرقاء اللون في التسعينيات، هي امتداد لدراجة أبي التي تنقّل فيها في أرجاء مناوي باشا في الستينيات، وهو، أيضاً، امتداد لدراجة جدّي التي كان يذهب فيها لورشة “التورنه” في شارع أبو الأسود الدؤلي بالعشار بعد تقاعده من شركة تصدير التمور. جيل يعقب جيلا، على السرج ذاته، والطريق ذاته. 

شوارع البصرة الخلفية 2016 – تصوير دافيد ستانلي. 

مليون دراجة × مليون سيارة 

قلّت أعداد راكبي الدراجات الهوائية في المدينة إلى حدّ بعيد لتغيّر طبيعة العصر العراقيّ في أيامنا. بينما يدفع العالم لتقليل استخدام الوقود الأحفوري والرحمة بالغلاف الجوي من الغازات القاتلة، تتضاعف أعداد السيّارات في البصرة جراء تسهيلات القروض المصرفيّة وبرامج البنوك الخاصّة بتمويل شراء السيّارات. صفقة رابحة للطرفين؛ فوائد بنكيّة عالية للمصرف، وسيّارة “زيرو” للمواطن/ـة”. الجميع فرحان، لكن صحة الناس، ومستقبل مدنهم وأطفالهم، خسارات. 

عام 2017 كنت أصل لمقر عملي في حي الجبيلة في ظرف (10-15) دقيقة. الرقم تضاعف هذا العام وبات الأمر يكلفني نصف ساعة. 

مع قدوم الموسم الدراسي الجديد تكون القيادة اختباراً للأعصاب. يقول باسم القطراني، مدير إعلام تربية البصرة، إن حوالي مليون طالبة وطالب في المدينة باشروا دوامهم في تشرين الأول الماضي من مجموع 9 ملايين طالب في العراق1. ملأت خطوط نقل الطلبة الخاصّة، المدينة، وبدأت تفيض الشوارع بالسيارات. خطوط لرياض الأطفال، خطوط لمدارس الابتدائية والثانوية. خطوط لطلبة الجامعات. خطوط للكوادر التدريسية. خطوط خطوط خطوط. 

أضف إلى ذلك المركبات الحكومية وسيارات الدوائر الخدمية ومواكب المسؤولين التي ستتضاعف السنة المقبلة مع العودة “الميمونة” لمجالس المحافظات. يحدث ذلك كله ونسب مشاريع الشوارع الجديدة والمجسرات والشوارع الحولية لا تزال محدودة. سيكون “البايسكل ” حلاً سحرياً يعالج جزءاً من المشكل. إنه حل خياليّ للوهلة الأولى، و”بطران” للوهلة الثانية، لكنه ممكن ويستحق المحاولة للوهلة الثالثة. وأنا هنا لا أتحدّث عن المشاوير البعيدة، بل عن المسافات المعقولة والممكن قطعها لإنسان يتمتّع بمؤهلات صحية جيدة.  

يمكن للدراجة الهوائية، في المعدل، قطع مسافة تتراوح بين (10 -25) كيلومترا في الساعة الواحدة. بالطبع توجد عوامل عدة تتحكّم بالرقم. لكنه، في المجمل، يدور حول تلك الحدود. ولو أخذنا أقل تقدير، وكنت تسكن، فرضاً، منطقة عويسيان، فبإمكانك الوصول إلى النادي الأثوري، أو كوت الحِجاج، أو مركز التنومة، أو الأصمعي في ظرف 30 دقيقة فقط!  

هذه الأحياء، وأمثالها على مدار قطر 5 كيلومترات تضم بعض أهم المؤسسات الحكومية في المدينة ومئات الشركات ومحال العمل الخاصة.  

غير أن تحقيق فرضية كهذه تحتاج ثورة تخطيط وتنفيذا حكوميا، وبرامج تثقيف طويلة، والأهم من ذلك الثقة في الشارع. 

استراحة في سوق بمدينة البصرة 2008، المصدر: GetArchive 

تحتاج الشوارع إلى تصميم جديد يضمن مسارات قيادة خاصّة وآمنة للدراجات الهوائية، ونظام مروري قادر على حمايتها.. يمكن لإعادة الاعتبار إلى استخدام الدراجة الهوائية، الإسهام بتحفيز المجتمع على تحسين البنية التحتيّة للمشاة وراكبي الدراجات، نحتاج إلى النظر بجدية لتجهيز الشوارع الرئيسة والجزرات الوسطيّة بأشجار ظليّة عملاقة يوفّر تقابلها على جانبي الطريق هامشاً مريحاً من الظلال التي تسهل مشاق القيادة في جو جاف وأشعة شمسية قاسية على مدار 8 أشهر في السنة. سنكون قد اختزلنا شيئاً من وحش الازدحام، وعزّزنا البيئة، وقللنا تكاليف النقل بالسيارات والتي ترهق جيوب العائلات، إذ يكلف نقل طالب ابتدائية واحد إلى مدرسة متوسطة البعد (60-75 ألف دينار) لسيارات “الكيا” و(100 ألف دينار) لسيّارات الصالون الصغيرة. لن يحتاج رب العائلة سوى 25 ألف دينار كحد أدنى لشراء دراجة لكننا بحاجة لإجابته على السؤال: هل سأكون مطمئناً على ابني وأنا أُرسله إلى مدرسته على دراجة هوائية؟ 

هل هذا كل شيء؟ لا. دعونا لا ننسى عوائد التواصل الاجتماعي التي توفّرها قيادة الدراجة الهوائية والتفاعل الإيجابي بين المستخدمين والمناطق المحلية التي يكتشفونها في رحلاتهم. 

ومعلومٌ أن قيادة الدراجة رياضة. وأنها بالتالي تحسّن الصحة العامة، والصحة النفسية على وجه خاص بتخفيف التوتر وإراحة العقل. ولا أعرف إن كنتم ستصدقونني لو قلت إن العراق كان يملك دورياً عامّاً لمسابقة الدراجات الهوائية تشارك فيه عشرة أندية ومئات اللاعبين المحترفين. 

نلاحظ بالنتيجة إمكانية قياس جودة حياة مجتمع كامل من منظور وجود وعدم وجود دراجة هوائية في الشارع. ويمكن قول الجملة السابقة بطريقة مختلفة: يمكن للدراجة الهوائية أن تصير جزءاً من إصلاح شامل لنمط الحياة العراقية، مع حساب الظروف العامة الأخرى وتداخلها بالتأكيد. 

وكفة البايسكلات 

في البصرة القديمة، قبالة جامع العرب العريق، يشمخ سوق (وكفة) الدراجات الهوائية. محال لبيع الجديد والمستعمل، وأخرى لبيع قطع الغيار بأنواعها، وورش صغيرة للتصليح. ثمة أيضاً “البياعة شراية” تماماً كما في معارض السيارات، يستقبلونك، بعيون متحفزة ولسان متوثّب: 

-“شنو عندك عمي؟ تبيع، تشتري، كل شي موجود يمي”. 

عند سيد محمد وقفت. أصرَّ على تقديم عرض سريع عن دراجاته النارية، رغم محاولتي إخباره أن مقصدي هي الهوائية: 

-عندي “سكنس” حديث بـ 950 ألف، وعندي “قجمة” بـ750 ألف، وعندي “الجامبو” بمليون ومية، و”البوليسي” بمليون، “حواضن” بيجي مليون و300، تجي مناك غالية، وعندي ياماها “تسع زروف” بالة ب650، شنو الي تريده بي ضمان سنة!”. 

بضع خطوات قربتني من رجل أربعيني بعباءة حنية يعرض دراجة جبلية من ماركة “shimaNOO” طلب 50 الفاً مقابلها، و”بيها مجال”. 

سوق الدراجات – البصرة. تصوير الكاتب. 

على ضفتي الشارع يقف الباعة بأعمار متباينة، ورغبات متباينة، كذلك هي أسعار “البايسكلات”. لا يوجد قانون للبيع، ولا تسعيرة ولا معيار، “أبو الحلال” هو من يقدّر سعر بضاعته، وما على المتفرجين سوى المفاصلة. يمكنك أن تقف على دراجة صغيرة حجم (16) يعرضها طفل لم يبلغ الثالثة عشرة بـ130 ألفاً، بينما بعده بأمتار يعرض شاب دراجة حجم 20 بـ65 ألفاً. سيختصر لك الأول أسبابه بالنظافة والمنشأ الأصلي، وسيهمم الثاني بأنها بيعة “مستعجلة”، وأنها تساوي ضعف المبلغ. اقتربت من فتى يرتدي قميصاً بعلامة “NIKE” مزيفة، معتمراً قبعة أدار وجهها إلى الخلف وبيده سيجارة نحيفة. وما أن لمحني حتى نقلها بخفة من بين إصبعيه إلى داخل راحته التي تحولت إلى صندوق صغير. نظر لي بخجل قائلاً: 

125 وبي مجال. بي “سيبايه” ليوره، وسلة ليكدام وبي “جاملغات” احتياط. 

اخبرته أنني صحفي فبدت على وجهه أمارة غيظ مكتوم: 

“ماكو بيع. حتى ناس اليوم ماكو. حارة تكتل”.