"راسه مربّع".. تماثيل ديالى والنُصُب والْنَصْب الفنيان 

أحمد نجم

19 كانون الأول 2023

"تمثال الفلاحة صبغوه ستين مرة وبعد مطرة او مطرتين يتكشط الصبغ وتبين العيوب.. كما أن البورك ينتفخ لأنه مادة هشة مثل ما حصل مع تمثال مصطفى جواد".. لكن ماذا عن التماثيل الأخرى في ديالى؟ وكيف النَصب في ملف النُصب؟

في موسم الحمضيات، عام 1977، رُفع الستار عن تمثال “الفلاحة” في مدينة بعقوبة، مركز محافظة ديالى. امرأة بكامل زيها الريفي، تمدُّ خطوةً لاستقبال الضيوف، ويداً تحمل بها برتقالة. في رمزيّة تجسّد هوية المكان، الذي يشتهر أهله بالزراعة، وإنتاج أجود أنواع البرتقال في العراق.  

كان تمثال الفلاحة تعريفاً هوياتياً لكتلة بشرية تنتمي إلى العراق، الذي كان يُحاول، تحت ايدولوجيات مختلفة، بناء هويات جامعة من خلال نُصب وتماثيل، وكانت ذروة ذلك عام 1961، بافتتاح نصب الحرية، في ساحة التحرير وسط بغداد.  

نصب الحرية وحديقة الأمة عام 1961 – المصدر: ويكبيديا. 

موسم للحمضيات، ومواسم للحرب 

بعد موسم الحمضيات ذاك، جاءت مواسم كثيرة للحرب، بدأت عام 1980، في الحرب العراقية الإيرانية، وكان حزب البعث قد بدأ بشكل فعّال ملءَ الفضاءات المفتوحة بما يعبّر عن أيدولوجيته، ويستعمل الساحات والحدائق لوضع نُصب وتماثيل صدام حسين الذي كانت عيونه تراقب العراقيين، فأزيل تمثال الفلاحة خلال الحرب العراقية الإيرانية، ليشغل الساحة نصب تعبوي لصواريخ معدة للانطلاق يعبر عن توجه الحزب والسلطة والحرب. 

بعد سقوط نظام صدام حسين، وانهيار سلطة حزب البعث، دخل العراق عهداً جديداً، ودخلت المدن وفضاءات المدن خلالها مرحلة اتسمت بالفوضى والعشوائية، وصارت النصب والتماثيل تخضع لعقود المناقصات وأرباح المقاولين لا جودة العمل وما يرمز له، وتبنّت دوائر البلدية إقامة النصب والتماثيل في الساحات العامة، والشوارع. 

أحد تلك التماثيل التي أعيد نصبها كان تمثال الفلاحة في بعقوبة، غير أنّ النحات علي الطائي الذي صمم النسخة الأولى “المزالة” مع النحّات الراحل مؤيد الناصر، لم يكن جزءاً من الفريق الذي يشكّل هوية بعقوبة الجديدة. 

قال الطائي في حديث لـ”جمار” إنّ التمثال “أُعيد إنتاجه مرّة ثانية” دون استشارته أو موافقته. 

“إعادة تنفيذ التمثال كانت سيئة، وحركة اليد خاطئة تشريحياً، لذلك أنا أسميه تمثال مُعاد”. 

تمثال الفلاحة “المعاد” في مدينة بعقوبة  

بالنسبة للطائي فإنّ الفلاحة ليست مأساته الوحيدة، فتمثال المفكر واللغوي الشهير مصطفى جواد، والذي أنجزه بعد عام من نصب الفلاحة، يشترك بالسيناريو التراجيدي ذاته، فهو أزيل أيضاً في حقبة حزب البعث، وتُرك مهملاً في معملٍ للأسفلت طيلة تلك السنوات، ثم وبعد عام 2003، جرت محاولات إعادته إلى مكانه في مدخل قضاء الخالص، غير أنّ مشاكل تتعلق بتهشم رأس التمثال وتشوهه كانت بحاجة إلى حل وإعادة ترميمه مرة أخرى. 

أوكلت السلطات المحلية في ديالى مهمة ترميم الرأس والتمثال لشخص آخر غير مختص، بحسب الطائي، فأضاف له رأساً جديداً ورمم الجسد بخلط الجبس مع الإسمنت، وهذا خطأ لا يرتكبه متخصص برأيه؛ فهذا الخلط يسبب تشققات في جسد التمثال.  

يصف الطائي العمل الجديد بأنه: “بلا رقبة، والرأس فيه غير متناسق مع الجسم، ووجهه مورّم، والجسم مترهل ومنتفخ”. ويتذكر الطائي عندما عرض النسخة الأولى من التمثال على نجل العلّامة مصفى جواد، وأقرّ بالشبه مع والده، لكنّه يعتقد أن النسخة الحالية تبدو لشخص آخر. 

مشتاق الخدران، أستاذ الفن التشكيلي في جامعة ديالى، له رأي فيما جرى للتمثال. 

 قال لـ”جمار” إن الاستعانة بفنانين غير متخصصين هو سبب المشكلة، “مزجوا بين مواد لا تمزج مثل الإسمنت والجبس لذلك تعرض التمثال لتشققات كثيرة وهي نتيجة حتمية”. 

تحدث الخدران أيضاً عن مساعيه لمعالجة الأمر، وتقديمه فكرة عمل جديد من البرونز “يليق باسم قضاء الخالص وبالمفكر مصطفى جواد” وقد أَنجزَ بالفعل المخططات وعرضها على أكثر من محافظ، لكنه اصطدم بالبيروقراطية والتسويف والمماطلة، كما يصف. 

“بالأول قالوا نسويلك تكليف وبعدين قالوا مناقصة وبعدين ننتظر الموازنة وبعدين طلعوا أشياء ثانوية وكل هذا لازم أروح للمحافظة وانتظر إلى أن مليت وتركت الموضوع”.  

تمثال العلامة مصطفى جواد في بعقوبة. 

“الزكنّه اياه شلون ما جان” 

لمعرفة الآلية التي يجري من خلالها اختيار أي عمل فني، واعتماده رسمياً، وصرف الأموال اللازمة لإقامته في مكان ما من المحافظة، تواصل “جمّار” مع ياسر البدر، مدير إعلام محافظة ديالى، الذي قال، “إن تقديم الأعمال الفنية يتم عبر سياقات معروفة من خلال تقديم طلب للحكومة المحلية” وذكر أنه وبسبب كثرة الاجتهادات في هذا الجانب وقيام مواطنين أو ناشطين بتنفيذ بعض الأعمال الفنية غير اللائقة، “تقرر تشكيل لجنة في المحافظة بتوجيه من مجلس الوزراء” وهذه اللجنة بحسب البدر مهمتها منح الموافقات على إقامة النصب والتماثيل في الساحات العامة، وإزالة الأعمال الفنية غير اللائقة، وغير المطابقة للمواصفات الفنية. 

لم يكشف البدر عن هوية هذه اللجنة -هو أحد أعضائها- ومن هم الأعضاء فيها، لكنه ذكر أنها تستشير أكاديميين متخصصين بالفنون قبل منح الموافقات على أي عمل فني، كما أن البدر ذكر أنّ اللجنة لا تمتلك الإحصائيات الدقيقة بعدد الساحات العامة والمداخل التي تضم أعمال فنية. 

التقى “جمّار” في ديالى مع مهندس متقاعد (رفض الكشف عن هويته) عمل في دوائر بلديات ديالى، تحدث عن الأعمال المتعلقة بالنحت والتماثيل، وكيف أنها “تنفذ غالباً من قبل فنانين ثانويين أو حرفيين، وأن كشوفات العمل واختياره تحددها البلدية من دون خضوعها لإشراف أو استشارة المؤسسات الفنية”.  

يلعب المال دوراً رئيسياً في هذا الملف، وتستغل الأعمال الفنية أيضاً في عمليات الفساد، كما حصل مع فنان (رفض الكشف عن هويته) حين قدّم ماكيت العمل لأحد المسؤولين فتعرض للمساومة، “سألني حصتي شكد من العمل؟” ويؤكد الفنان بأن المسؤول طلب منه إنجاز العمل بالمبلغ القليل المتبقي: “الزكنه اياه شلون ما جان”. 

يرى الناقد الفني جابر حجاب، “أن الدولة تبخل في تمويل الأعمال الفنية الحقيقية، فالخامات الجيدة مكلفة، وتحتاج إلى أماكن عمل وأجور الفنان ومساعديه” فالبرونز بحسب حجاب مقاوم لكل الظروف الطبيعية بينما يدوم الفايبركلاس لثلاثين سنة كأقصى حد. 

ستار السنجري، أستاذ النحت في معهد الفنون الجميلة، في بعقوبة، يعتقد هو الآخر أن الفساد في المؤسسات الرسمية والبحث عن الاستفادة الشخصية هو ما يمنع من الاعتماد على مواد جيدة للعمل الفني، “باختصار هي عملة ومقاولات”.  

“مثل تمثال الفلاحة صبغوه ستين مرة وبعد مطرة او مطرتين يتكشط الصبغ وتبين العيوب.. كما أن البورك ينتفخ لأنه مادة هشة مثل ما حصل مع تمثال مصطفى جواد”.  

لكن السنجري سعيد لأن الأعمال التي ينفذها مقاولون وحرفيون لا علاقة لهم بالفن تستهجن من قبل الناس، وتلاقي سخرية، وهذا مؤشر -برأيه- على وعي المجتمع وذائقته الفنية. 

حين قدّم السنجري عرضاً لمسؤول محلي في المقدادية (رفض ذكر اسمه) بوضع عمل فني مقابل مستشفى المقدادية العام، وقرر التنازل فيه عن الأجور، وكذلك تنازل عن تكاليف العمل الذي سيكون من البرونز، لكنه طلب فقط شراء مواد “الفايبر كلاس” الخاصة بالعمل من قبل الجهة الحكومية، وبكلفة تقارب 5 ملايين دينار (3800 دولار) تفاجأ السنجري برد المسؤول، “قال لي عندي مليون ونص (1150 دولار) فقط، وسأجمعها كتبرعات من الأهالي.. شعرت أنهم مستهينين بيه”. 

الخوانيّات الفنية 

في الجهة المقابلة لمديرية شرطة المقدادية وضع “نصب الخيل” وهو حصان من الصعب فهم الوضعية التي يقف بها، وتمرُّ من فوقه حزمة من أسلاك الكهرباء العشوائية، وكُتب على قاعدة النصب: “يوحي للشجاعة والأصالة العربية”. 

ورغم أنّ خالد بطي مدير بلدية المقدادية يقرّ بأن “النصب فقير، ونُفذ بطريقة غير دقيقة، ولم يُعجب الناس”، لكنّ مدير البلدية رفض إزالته “احتراماً لمدير البلدية السابق وللفنان صاحب العمل”، وفق حديثه لـ”جمار”. 

نصب الخيل في بعقوبة  

علي الخزرجي هو الفنان صاحب نصب الخيل، وأقر خلال حديث لـ”جمّار” بوجود “أخطاء” في بعض أعماله لكونها أول تجربة له مع أعمال بهكذا حجم، “الأعمال من هذا النوع تحتاج صيانة، كما أن الأخطاء تحتاج إلى معالجة، لكن البلدية رفضت كلا الأمرين بسبب التكاليف المادية”. 

يعمل الخزرجي رساماً وخطاطاً ونحاتاً، لكنه لم يدرس أيّاً من تلك، ولتكوين أعماله الفنية، يستخدم الإسمنت وحديد التسليح و”الفايبر كلاس”، ويقدمها إلى الجهات الرسمية بدون مقابل، غير أنه يأخذ أجوره من “منظمة إنسانية محلية” تموّل المشروع. 

للخزرجي كذلك أعمال أخرى في المقدادية، مثل نصب لجندي يتصارع مع أفعى، وهو عمل يقول خالد بطي مدير البلدية إنّه رفضه، “لكنّ قائد الشرطة اقترح وضعه في مدخل مديرية شرطة المقدادية، وهذا ما حصل”. 

يذكر بطي أن بعض الأعمال يعرضها على مختصين، ولكن “بشكل غير رسمي” أما تكاليف العمل “فهي مبالغ زهيدة جداً” ويشير إلى أنها “نالت إعجاب ثلاثة أرباع الناس” أما الربع الآخر “فهو بين حاسد ومبغض”. 

نصب “الرمانة”، و”النسر الأسد”، و”الدلة” في محافظة ديالى 

المهندس بطي لا يعود دائماً للجهات المختصة عندما  يتعلق الأمر باختيار عمل فني لإقامته في الفضاءات العامة، هكذا يقول عندما اختار “نصب الرمان” في “تقاطع برشته” فمن وجهة نظره أن “شهربان هي أم الرمان لذلك قررت أخلي هذا النصب بدون الرجوع لجهات اختصاص، لأن ما شفت بيه ما يستوجب الاستفسار والنقاش، والعمل نال إعجاب نسبة جيدة من الناس” أما “نصب الأسدين والنسر والأفعى” فيبرر بطي ذلك بالقول: “لقد وضعت العمل في فلكة كانت تعبانة ووسخة تعبيراً عن الأسد ملك الغابة، ورمز الشجاعة والقوة والهيبة والإباء، والنسر ياكل الأفعى تعبيراً عن الخير والشر”. 

على الرغم من النقد الفني الذي أبداه فنانون من ديالى حول هذه الأعمال، واقتراحاتهم لبدائل ذات قيمة فنية وجمالية، إلا أن نصب الخيل والرمان والدلة وغيرها، ما تزال شاخصة في حدائق وساحات مدن محافظة ديالى، ولم تستطع حتى حملات السخرية على السوشيال ميديا من إزالتها.  

نصب “الجندي يصارع الأفعى” في ديالى 

“اقترحنا آلية.. بس الشغلة تكنسلت” 

ليست كل النُصب والتماثيل والأعمال الفنية في ديالى من النوع الرديء، فهنالك أعمال تستحق الإشادة، مثل النصب الذي كان مقرراً وضعه في ساحة العنافصة وسط بعقوبة، مركز محافظة ديالى، وهو عمل لواحد من أبرز نحاتي ديالي، الفنان صالح الكناني، الذي يشغل حالياً رئاسة جمعية الفنانين التشكيليين في ديالى، كما أنه أستاذ في معهد الفنون الجميلة. وحائز على “جائزة الإبداع” في مجال النحت، المقدمة من وزارة الثقافة لعام 2019. 

انجز الكناني عمله قبل أكثر من عشر سنوات، وهو نحت على الحجر، وكان من المخطط وضعه في “ساحة العنافصة” لكن البلدية قررت بعد إنجاز العمل وضعه في “ساحة الأمين” ويقارن الكناني في حوار مع “جمّار”، بين الموقعين: “الفضاء في ساحة العنافصة أضيق ويستوعب العمل الذي يبلغ ارتفاعه مع القاعدة 3 أمتار، أما ساحة الأمين بفضائها الواسع فهي تحتاج إلى عمل لا يقل ارتفاعه عن 6 أمتار”. 

التمثال الذي استمد الكناني فكرته من جده لابيه، “الفلاح الذي توفي بعد أيام من وضع جسده في ليلة شتوية باردة لإيقاف المياه المتدفقة إلى مزرعته” ما يزال قائماً في ساحة الأمين، إلا أنّه غير مرئي، فالفضاء الواسع للساحة والأشجار المحيطة به حجبته عن أعين المارة. 

نحت على الرخام، عمل للفنان صالح الكناني غير ظاهر. 

بالنسبة للكناني، “الفن معني بالأساس بالقيمة الجمالية والتواصل البصري مع المتلقي، وله اشتراطاته وعلاقاته مع كل ما يحيط به” فيعمد الفنانون وفقاً للكناني إلى عادة إلى دراسة مساحة الفضاء العام وأبعاده والبنايات المحيطة به وزوايا الرؤية، وعلاقة كل ذلك بحجم العمل ومدى قدرته على الانسجام مع المحيط.  

قدم الكناني وزملاؤه في جمعية الفنانين التشكيليين -قبل أكثر من 10 سنوات- اقتراحاً للسلطة المحلية “لإيجاد آلية للتعاون في تطوير الساحات والمداخل” باعتبارهم جهة فنية واستشارية مختصة ويمكنها الإشراف على أي عمل فني تنفذه البلدية، يقول الكناني إن المحافظة وجهت البلدية آنذاك بالتعاون معهم، لكن لم يحصل شيء من ذلك “نتيجة تغيير الإدارات المتكرر.. الشغلة تكنسلت وراحت”. 

في الوقت الحالي يؤكد الكناني على وجو “تجاهل فظيع” للفنانين والأعمال الفنية، وكل قنوات التواصل مع الحكومة المحلية في محافظة ديالى منقطعة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في موسم الحمضيات، عام 1977، رُفع الستار عن تمثال “الفلاحة” في مدينة بعقوبة، مركز محافظة ديالى. امرأة بكامل زيها الريفي، تمدُّ خطوةً لاستقبال الضيوف، ويداً تحمل بها برتقالة. في رمزيّة تجسّد هوية المكان، الذي يشتهر أهله بالزراعة، وإنتاج أجود أنواع البرتقال في العراق.  

كان تمثال الفلاحة تعريفاً هوياتياً لكتلة بشرية تنتمي إلى العراق، الذي كان يُحاول، تحت ايدولوجيات مختلفة، بناء هويات جامعة من خلال نُصب وتماثيل، وكانت ذروة ذلك عام 1961، بافتتاح نصب الحرية، في ساحة التحرير وسط بغداد.  

نصب الحرية وحديقة الأمة عام 1961 – المصدر: ويكبيديا. 

موسم للحمضيات، ومواسم للحرب 

بعد موسم الحمضيات ذاك، جاءت مواسم كثيرة للحرب، بدأت عام 1980، في الحرب العراقية الإيرانية، وكان حزب البعث قد بدأ بشكل فعّال ملءَ الفضاءات المفتوحة بما يعبّر عن أيدولوجيته، ويستعمل الساحات والحدائق لوضع نُصب وتماثيل صدام حسين الذي كانت عيونه تراقب العراقيين، فأزيل تمثال الفلاحة خلال الحرب العراقية الإيرانية، ليشغل الساحة نصب تعبوي لصواريخ معدة للانطلاق يعبر عن توجه الحزب والسلطة والحرب. 

بعد سقوط نظام صدام حسين، وانهيار سلطة حزب البعث، دخل العراق عهداً جديداً، ودخلت المدن وفضاءات المدن خلالها مرحلة اتسمت بالفوضى والعشوائية، وصارت النصب والتماثيل تخضع لعقود المناقصات وأرباح المقاولين لا جودة العمل وما يرمز له، وتبنّت دوائر البلدية إقامة النصب والتماثيل في الساحات العامة، والشوارع. 

أحد تلك التماثيل التي أعيد نصبها كان تمثال الفلاحة في بعقوبة، غير أنّ النحات علي الطائي الذي صمم النسخة الأولى “المزالة” مع النحّات الراحل مؤيد الناصر، لم يكن جزءاً من الفريق الذي يشكّل هوية بعقوبة الجديدة. 

قال الطائي في حديث لـ”جمار” إنّ التمثال “أُعيد إنتاجه مرّة ثانية” دون استشارته أو موافقته. 

“إعادة تنفيذ التمثال كانت سيئة، وحركة اليد خاطئة تشريحياً، لذلك أنا أسميه تمثال مُعاد”. 

تمثال الفلاحة “المعاد” في مدينة بعقوبة  

بالنسبة للطائي فإنّ الفلاحة ليست مأساته الوحيدة، فتمثال المفكر واللغوي الشهير مصطفى جواد، والذي أنجزه بعد عام من نصب الفلاحة، يشترك بالسيناريو التراجيدي ذاته، فهو أزيل أيضاً في حقبة حزب البعث، وتُرك مهملاً في معملٍ للأسفلت طيلة تلك السنوات، ثم وبعد عام 2003، جرت محاولات إعادته إلى مكانه في مدخل قضاء الخالص، غير أنّ مشاكل تتعلق بتهشم رأس التمثال وتشوهه كانت بحاجة إلى حل وإعادة ترميمه مرة أخرى. 

أوكلت السلطات المحلية في ديالى مهمة ترميم الرأس والتمثال لشخص آخر غير مختص، بحسب الطائي، فأضاف له رأساً جديداً ورمم الجسد بخلط الجبس مع الإسمنت، وهذا خطأ لا يرتكبه متخصص برأيه؛ فهذا الخلط يسبب تشققات في جسد التمثال.  

يصف الطائي العمل الجديد بأنه: “بلا رقبة، والرأس فيه غير متناسق مع الجسم، ووجهه مورّم، والجسم مترهل ومنتفخ”. ويتذكر الطائي عندما عرض النسخة الأولى من التمثال على نجل العلّامة مصفى جواد، وأقرّ بالشبه مع والده، لكنّه يعتقد أن النسخة الحالية تبدو لشخص آخر. 

مشتاق الخدران، أستاذ الفن التشكيلي في جامعة ديالى، له رأي فيما جرى للتمثال. 

 قال لـ”جمار” إن الاستعانة بفنانين غير متخصصين هو سبب المشكلة، “مزجوا بين مواد لا تمزج مثل الإسمنت والجبس لذلك تعرض التمثال لتشققات كثيرة وهي نتيجة حتمية”. 

تحدث الخدران أيضاً عن مساعيه لمعالجة الأمر، وتقديمه فكرة عمل جديد من البرونز “يليق باسم قضاء الخالص وبالمفكر مصطفى جواد” وقد أَنجزَ بالفعل المخططات وعرضها على أكثر من محافظ، لكنه اصطدم بالبيروقراطية والتسويف والمماطلة، كما يصف. 

“بالأول قالوا نسويلك تكليف وبعدين قالوا مناقصة وبعدين ننتظر الموازنة وبعدين طلعوا أشياء ثانوية وكل هذا لازم أروح للمحافظة وانتظر إلى أن مليت وتركت الموضوع”.  

تمثال العلامة مصطفى جواد في بعقوبة. 

“الزكنّه اياه شلون ما جان” 

لمعرفة الآلية التي يجري من خلالها اختيار أي عمل فني، واعتماده رسمياً، وصرف الأموال اللازمة لإقامته في مكان ما من المحافظة، تواصل “جمّار” مع ياسر البدر، مدير إعلام محافظة ديالى، الذي قال، “إن تقديم الأعمال الفنية يتم عبر سياقات معروفة من خلال تقديم طلب للحكومة المحلية” وذكر أنه وبسبب كثرة الاجتهادات في هذا الجانب وقيام مواطنين أو ناشطين بتنفيذ بعض الأعمال الفنية غير اللائقة، “تقرر تشكيل لجنة في المحافظة بتوجيه من مجلس الوزراء” وهذه اللجنة بحسب البدر مهمتها منح الموافقات على إقامة النصب والتماثيل في الساحات العامة، وإزالة الأعمال الفنية غير اللائقة، وغير المطابقة للمواصفات الفنية. 

لم يكشف البدر عن هوية هذه اللجنة -هو أحد أعضائها- ومن هم الأعضاء فيها، لكنه ذكر أنها تستشير أكاديميين متخصصين بالفنون قبل منح الموافقات على أي عمل فني، كما أن البدر ذكر أنّ اللجنة لا تمتلك الإحصائيات الدقيقة بعدد الساحات العامة والمداخل التي تضم أعمال فنية. 

التقى “جمّار” في ديالى مع مهندس متقاعد (رفض الكشف عن هويته) عمل في دوائر بلديات ديالى، تحدث عن الأعمال المتعلقة بالنحت والتماثيل، وكيف أنها “تنفذ غالباً من قبل فنانين ثانويين أو حرفيين، وأن كشوفات العمل واختياره تحددها البلدية من دون خضوعها لإشراف أو استشارة المؤسسات الفنية”.  

يلعب المال دوراً رئيسياً في هذا الملف، وتستغل الأعمال الفنية أيضاً في عمليات الفساد، كما حصل مع فنان (رفض الكشف عن هويته) حين قدّم ماكيت العمل لأحد المسؤولين فتعرض للمساومة، “سألني حصتي شكد من العمل؟” ويؤكد الفنان بأن المسؤول طلب منه إنجاز العمل بالمبلغ القليل المتبقي: “الزكنه اياه شلون ما جان”. 

يرى الناقد الفني جابر حجاب، “أن الدولة تبخل في تمويل الأعمال الفنية الحقيقية، فالخامات الجيدة مكلفة، وتحتاج إلى أماكن عمل وأجور الفنان ومساعديه” فالبرونز بحسب حجاب مقاوم لكل الظروف الطبيعية بينما يدوم الفايبركلاس لثلاثين سنة كأقصى حد. 

ستار السنجري، أستاذ النحت في معهد الفنون الجميلة، في بعقوبة، يعتقد هو الآخر أن الفساد في المؤسسات الرسمية والبحث عن الاستفادة الشخصية هو ما يمنع من الاعتماد على مواد جيدة للعمل الفني، “باختصار هي عملة ومقاولات”.  

“مثل تمثال الفلاحة صبغوه ستين مرة وبعد مطرة او مطرتين يتكشط الصبغ وتبين العيوب.. كما أن البورك ينتفخ لأنه مادة هشة مثل ما حصل مع تمثال مصطفى جواد”.  

لكن السنجري سعيد لأن الأعمال التي ينفذها مقاولون وحرفيون لا علاقة لهم بالفن تستهجن من قبل الناس، وتلاقي سخرية، وهذا مؤشر -برأيه- على وعي المجتمع وذائقته الفنية. 

حين قدّم السنجري عرضاً لمسؤول محلي في المقدادية (رفض ذكر اسمه) بوضع عمل فني مقابل مستشفى المقدادية العام، وقرر التنازل فيه عن الأجور، وكذلك تنازل عن تكاليف العمل الذي سيكون من البرونز، لكنه طلب فقط شراء مواد “الفايبر كلاس” الخاصة بالعمل من قبل الجهة الحكومية، وبكلفة تقارب 5 ملايين دينار (3800 دولار) تفاجأ السنجري برد المسؤول، “قال لي عندي مليون ونص (1150 دولار) فقط، وسأجمعها كتبرعات من الأهالي.. شعرت أنهم مستهينين بيه”. 

الخوانيّات الفنية 

في الجهة المقابلة لمديرية شرطة المقدادية وضع “نصب الخيل” وهو حصان من الصعب فهم الوضعية التي يقف بها، وتمرُّ من فوقه حزمة من أسلاك الكهرباء العشوائية، وكُتب على قاعدة النصب: “يوحي للشجاعة والأصالة العربية”. 

ورغم أنّ خالد بطي مدير بلدية المقدادية يقرّ بأن “النصب فقير، ونُفذ بطريقة غير دقيقة، ولم يُعجب الناس”، لكنّ مدير البلدية رفض إزالته “احتراماً لمدير البلدية السابق وللفنان صاحب العمل”، وفق حديثه لـ”جمار”. 

نصب الخيل في بعقوبة  

علي الخزرجي هو الفنان صاحب نصب الخيل، وأقر خلال حديث لـ”جمّار” بوجود “أخطاء” في بعض أعماله لكونها أول تجربة له مع أعمال بهكذا حجم، “الأعمال من هذا النوع تحتاج صيانة، كما أن الأخطاء تحتاج إلى معالجة، لكن البلدية رفضت كلا الأمرين بسبب التكاليف المادية”. 

يعمل الخزرجي رساماً وخطاطاً ونحاتاً، لكنه لم يدرس أيّاً من تلك، ولتكوين أعماله الفنية، يستخدم الإسمنت وحديد التسليح و”الفايبر كلاس”، ويقدمها إلى الجهات الرسمية بدون مقابل، غير أنه يأخذ أجوره من “منظمة إنسانية محلية” تموّل المشروع. 

للخزرجي كذلك أعمال أخرى في المقدادية، مثل نصب لجندي يتصارع مع أفعى، وهو عمل يقول خالد بطي مدير البلدية إنّه رفضه، “لكنّ قائد الشرطة اقترح وضعه في مدخل مديرية شرطة المقدادية، وهذا ما حصل”. 

يذكر بطي أن بعض الأعمال يعرضها على مختصين، ولكن “بشكل غير رسمي” أما تكاليف العمل “فهي مبالغ زهيدة جداً” ويشير إلى أنها “نالت إعجاب ثلاثة أرباع الناس” أما الربع الآخر “فهو بين حاسد ومبغض”. 

نصب “الرمانة”، و”النسر الأسد”، و”الدلة” في محافظة ديالى 

المهندس بطي لا يعود دائماً للجهات المختصة عندما  يتعلق الأمر باختيار عمل فني لإقامته في الفضاءات العامة، هكذا يقول عندما اختار “نصب الرمان” في “تقاطع برشته” فمن وجهة نظره أن “شهربان هي أم الرمان لذلك قررت أخلي هذا النصب بدون الرجوع لجهات اختصاص، لأن ما شفت بيه ما يستوجب الاستفسار والنقاش، والعمل نال إعجاب نسبة جيدة من الناس” أما “نصب الأسدين والنسر والأفعى” فيبرر بطي ذلك بالقول: “لقد وضعت العمل في فلكة كانت تعبانة ووسخة تعبيراً عن الأسد ملك الغابة، ورمز الشجاعة والقوة والهيبة والإباء، والنسر ياكل الأفعى تعبيراً عن الخير والشر”. 

على الرغم من النقد الفني الذي أبداه فنانون من ديالى حول هذه الأعمال، واقتراحاتهم لبدائل ذات قيمة فنية وجمالية، إلا أن نصب الخيل والرمان والدلة وغيرها، ما تزال شاخصة في حدائق وساحات مدن محافظة ديالى، ولم تستطع حتى حملات السخرية على السوشيال ميديا من إزالتها.  

نصب “الجندي يصارع الأفعى” في ديالى 

“اقترحنا آلية.. بس الشغلة تكنسلت” 

ليست كل النُصب والتماثيل والأعمال الفنية في ديالى من النوع الرديء، فهنالك أعمال تستحق الإشادة، مثل النصب الذي كان مقرراً وضعه في ساحة العنافصة وسط بعقوبة، مركز محافظة ديالى، وهو عمل لواحد من أبرز نحاتي ديالي، الفنان صالح الكناني، الذي يشغل حالياً رئاسة جمعية الفنانين التشكيليين في ديالى، كما أنه أستاذ في معهد الفنون الجميلة. وحائز على “جائزة الإبداع” في مجال النحت، المقدمة من وزارة الثقافة لعام 2019. 

انجز الكناني عمله قبل أكثر من عشر سنوات، وهو نحت على الحجر، وكان من المخطط وضعه في “ساحة العنافصة” لكن البلدية قررت بعد إنجاز العمل وضعه في “ساحة الأمين” ويقارن الكناني في حوار مع “جمّار”، بين الموقعين: “الفضاء في ساحة العنافصة أضيق ويستوعب العمل الذي يبلغ ارتفاعه مع القاعدة 3 أمتار، أما ساحة الأمين بفضائها الواسع فهي تحتاج إلى عمل لا يقل ارتفاعه عن 6 أمتار”. 

التمثال الذي استمد الكناني فكرته من جده لابيه، “الفلاح الذي توفي بعد أيام من وضع جسده في ليلة شتوية باردة لإيقاف المياه المتدفقة إلى مزرعته” ما يزال قائماً في ساحة الأمين، إلا أنّه غير مرئي، فالفضاء الواسع للساحة والأشجار المحيطة به حجبته عن أعين المارة. 

نحت على الرخام، عمل للفنان صالح الكناني غير ظاهر. 

بالنسبة للكناني، “الفن معني بالأساس بالقيمة الجمالية والتواصل البصري مع المتلقي، وله اشتراطاته وعلاقاته مع كل ما يحيط به” فيعمد الفنانون وفقاً للكناني إلى عادة إلى دراسة مساحة الفضاء العام وأبعاده والبنايات المحيطة به وزوايا الرؤية، وعلاقة كل ذلك بحجم العمل ومدى قدرته على الانسجام مع المحيط.  

قدم الكناني وزملاؤه في جمعية الفنانين التشكيليين -قبل أكثر من 10 سنوات- اقتراحاً للسلطة المحلية “لإيجاد آلية للتعاون في تطوير الساحات والمداخل” باعتبارهم جهة فنية واستشارية مختصة ويمكنها الإشراف على أي عمل فني تنفذه البلدية، يقول الكناني إن المحافظة وجهت البلدية آنذاك بالتعاون معهم، لكن لم يحصل شيء من ذلك “نتيجة تغيير الإدارات المتكرر.. الشغلة تكنسلت وراحت”. 

في الوقت الحالي يؤكد الكناني على وجو “تجاهل فظيع” للفنانين والأعمال الفنية، وكل قنوات التواصل مع الحكومة المحلية في محافظة ديالى منقطعة.