"عندما يحضرون بالدفع الرباعي تختفي المساحات الخضراء" 

حيدر مهدي

12 كانون الأول 2023

تحقيق عن الدولة العميقة للعقارات في الحلة، ذات الأذرع الممتدّة بين دوائر البلدية والتسجيل العقاري والجهات الرقابية الأخرى، والتي يستفيد منها مسؤولون حكوميون وقضاة.. عن أولئك الذين عندما يحضرون بسيارات الدفع الرباعي تختفي المساحات الخضراء..

هبطت الكآبة على أميس الميدونية، أو أميديا، ملكة بابل القادمة من مرتفعات شمال إيران الخضراء، زوجة نبوخذ نصر (562-605 ق.م)، فبنى أقوى ملوك بابل، جنائنه المعلقة لها، صانعاً حدائق خضراء فوق مرتفعات شيدها على جذوع النخيل والقار والطاب، لتصنف إحدى عجائب الدنيا السبع. 

لا أثر اليوم لهذه الأعجوبة، ويعتقد البعض أنها أسطورة. 

وتكاد المتنزهات والحدائق الموجودة في بابل حالياً أن تتحول إلى أسطورة هي الأخرى وتصبح في طي النسيان. 

دولة عميقة للعقارات 

الرئات التي تتنفس منها المدينة تعرّضت لعمليات سطو ممنهج من قبل المتنفذين في بابل، إذ، وكما يروي مصدر مقرّب منهم، يتجوّلون بسياراتهم ذات الدفع الرباعي ويحددون الأماكن التي تعجبهم. 

يقع اختيارهم عادة على المساحات قليلة البناء، ثم تبدأ عملية تحويل أوراق هذه الأراضي، ومنها المسطحات والمتنزهات الخضر، إما إلى مشاريع استثمارية، أو توزيعها كقطع سكنية بينهم، في مواقع تصل قيمة القطعة الواحدة فيها إلى مئات الملايين وربما مليارات الدنانير. 

تلك هي الدولة العميقة للعقارات في الحلة، ذات الأذرع الممتدة بين دوائر البلدية والتسجيل العقاري والجهات الرقابية الأخرى. 

“يستخدم كل واحد فيهم سلطته ونفوذه لانتزاع المتنفسات بشكل يبدو أنه قانوني عبر استثناءات وموافقات وصلاحيات، ولكن بصورة غير إنسانية”، يضيف المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه. 

أربعون بالمئة من الأراضي التي يفترض أن تكون مساحات لضخ الأوكسجين في جسد المدينة المترب، سطا عليها هذا اللوبي. 

أساليب ونفوذ يجعل المتنزهات المتبقية أو الأراضي المخصصة لها “ليست في مأمن”، كما يعبّر أمير المعموري النائب عن المحافظة. 

يقول المعموري لـ”جمّار” إن “البلدية ودائرة التخطيط العمراني لا تزودنا بأرقام وأعداد المساحات الخضر، على الرغم من الكتب الرسمية التي نرسلها”. 

وليست المساحات الخضر فقط، وإنما هناك مساحات بيض جرى السطو عليها أيضاً. 

وهناك قطع تجارية في مواقع استراتيجية مؤجرة كإيراد للدولة وإذا بيعت تباع بالمزاد أو للاستثمار، ومع ذلك خُصّصت كقطع سكنية. 

قانونياً، بحسب المعموري، إذا وصل البناء في الأحياء أو المدن إلى 50 بالمئة، فالعرصات المتبقية تصبح مميزة ولا تخصص، “فما بالك إذا وصل البناء إلى نسبة 100 بالمئة؟”. 

الأمر ليس عشوائياً، توجد قطع سكنية باهظة في أحياء الأكرمين والمهندسين وحي بابل وحي الأساتذة، تصل أسعارها إلى 500 مليون دينار فصاعداً تم الاستيلاء عليها. 

وهناك آلية للسطو -وفقاً للمعموري- تعتمد على التلاعب في أي محضر لتوزيع أراض -وهي العملية التي تقضي بتوزيع الأراضي على مستحقيها- عبر تسليم أرقام لعرصات وهمية غير موجودة، ثم تجرى عمليات الاستبدال، وهذه العملية تتم باتفاق الدوائر. 

وبسبب هذه العملية الفاسدة اختفت مساحات خضر وبيض كبيرة وقطع تجارية في مدينة الحلة. 

كما يجري تسخير بعض القوانين، كاستبدال الأرض بحجة وجودها في منطقة معرضة للفيضانات، أو قريبة من أنبوب نفط، أو أي سبب وهمي آخر يبرر التبادل مقابل أرقام وهمية أو أراض بأسعار زهيدة. 

شخّص المعموري نحو 15 موقعاً، يحتوي كل موقع على نحو 30 قطعة أرض، وزعت جميعها محاباة لشريحة معينة دون أخرى. 

وغالباً ما يتم إسكات الجهات الرقابية بقطع مميزة في وسط المدينة. 

نهر اليهودية  

يشقّ نهر اليهودية، أو نهر “نابو” التاريخي، مركز مدينة الحلة، منطلقاً من منطقة الثورة حتى منطقة إبراهيم الخليل بطول عشرة كيلومترات. 

يشوّه هذا المبزل وجه المدينة الحضرية بسبب تكدس النفايات على ضفافه، وفي 2022 استبشر الحليون ببدء تنفيذ مشروع تطوير النهر بكلفة 210 مليارات دينار. 

وتضمن المشروع تبطين النهر وإقامة 16 مجسراً عليه لعبور السيارات، وعشرات الجسور لعبور المشاة. 

شعر الحليون بالتفاؤل إزاء تصاميم المشروع، وترقبوا بشغف المنطقة الخضراء التي ستمتدّ على جانبي النهر، لكن طعم الفرحة سرعان ما تحوّل إلى علقم في أفواه الأهالي. 

“كل شيء تغيّر” تقول أميرة جليل، مهندسة متخصصة بالمدن تسكن داراً قبالة نهر اليهودية. 

في صباح صيفي صحت جليل على أصوات الجرافات وهي تشقّ شارعاً أمام دارها، بينما جرى قصّ كل المساحات الشرفية للمنازل التي نظمها الأهالي كحدائق. 

وتقول جليل لـ”جمّار” إن “هناك مخالفة لقوانين التخطيط العمراني، فبحسب معايير الإسكان الحضري والريفي في العراق، يحتاج الفرد إلى ستة أمتار كفضاءات مفتوحة موزعة بين ساحات وملاعب ومتنزهات، لكن هذه المعايير ضربت عرض الحائط”. 

وتحاول أستاذة الهندسة في جامعة بابل، مرة أخرى أن تعيد الخضرة إلى منزلها، فصارت تزرع على سطح المنزل. 

وهي تؤكد عبر الندوات الجامعية أهمية المناطق الخضر بصفتها متطلب حياة يجب أن يوضع في التصميم الأساسي للمدن. 

وتقول إنه كحسابات أولية وفي ضوء عدد سكان الحلة، تحتاج المدينة ما لا يقل على مليوني شجرة مورقة وألفي هكتار من المساحات المزروعة. 

وتنوي جليل تقديم شكوى في حال بوشر بإنشاء المساكن أمام منزلها، للمطالبة بتعويض والانتقال إلى منطقة أخرى. 

قبل هذا كانت قد لاحقت دعاوى في محكمة النزاهة، تخص إجراء تحويل هذه المنطقة الخضراء إلى سكنية، لكنها لم تفض إلى شيء كالعادة. 

فقد تحرّك لوبي العقارات للسطو على المساحة الخضراء الموشومة على كتف النهر حتى قبل أن يكتمل المشروع، ووُزّعت قطعاً سكنية في الجزء الأثمن. 

لاحقت هذه الحركة أيضاً دعاوى في النزاهة. 

مخطط نهر اليهودية – المصدر: بلدية الحلة  

“مُنعنا من التحقيق في هذه المساحة” يقول علي حاتم من دائرة تحقيقات النزاهة ببابل. 

ويضيف حاتم، الذي طلب استخدام اسم مستعار له قبل أن يتحدث لـ”جمّار”، أن “القطع وزعت للمحافظ الأسبق حسن منديل، ومنها بأسماء وهمية، وقاض متنفذ، ومدير التسجيل العقاري ونجله، وضباط في الأمن الوطني، باستخدام أسماء وهمية”. 

وبحسب حاتم، فإن التعدي طال حتى قوانين البيئة والتخطيط العمراني وجرى تخريبها، فالقطع تراصفت على ضفة النهر بنحو 1000 متر. 

“لم يتركوا فرعاً ولا شارعاً بينها، صار على الطفل أن يمشي مسافة 860 متراً إذا أراد الذهاب إلى المدرسة”، يقول مصدر من دائرة التخطيط العمراني طلب عدم ذكر اسمه. 

وبحسب المصدر، لم توافق مديرة التخطيط العمراني على المشاركة في هذا التعدي، لكن تم تجاوزها وجاءت الموافقة من وزير البلديات والأشغال العامة في ذلك الحين. 

وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإن قيمة العقارات التي حازتها “الرؤوس الكبيرة” هناك تقدر من 1-3 مليارات، لأنها بمساحة 700 متر مربع للعرصة1 الواحدة. 

ولم تعترض أي جهة على ما حصل. 

غزوات أخرى 

كانت غزوة نهر نابو (إله الحكمة والكتابة في بلاد الرافدين) هي الغزوة الأخيرة للوبي العقارات. قبلها غزا هؤلاء جنائن كثيرة في بابل. 

في شارع 40، أرقى مناطق المدينة ورئتها التجارية، يشمخ جامع كبير (جامع صدام سابقاً، جامعة الحلة الدينية حالياً) الذي استولت عليه جماعة عصائب أهل الحق. 

وتمتد خلف الجامع منطقة خضراء يحرّم التلاعب بها لأنها متنفس زحام المدينة ومبانيها المكتظة، تصل مساحتها إلى أكثر من 7400 متر، تم الاستيلاء عليها وتحويلها إلى قطع سكنية وزعت لمتنفذين. 

يقول حاتم إن هذه المعاملات تتضمن استثناءات، حتى لو أن دائرة التخطيط العمراني لم توافق، قد يُجبر موظف على التوقيع. 

واضطرت موظفة في البلدية إلى أخذ إجازة هرباً من تسيير المعاملات. 

وثيقة تظهر إعلانا لبلدية الحلة بتحويل أراض خضر خلف جامعة الحلة الدينية إلى قطع سكنية، المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي 

جوبهت خطوة تغيير جنس هذه الأرض من خضراء إلى سكنية بحملة احتجاجية واسعة في 2019، وجرى اعتقال الناشط حسان الطوفان بتهمة الإساءة إلى القضاء حينها. 

وبالاتجاه شرقاً، في الشارع ذاته، مساحة خضراء تابعة لاتحاد الجمعيات الفلاحية، عرضتها الأخيرة للاستثمار عام 2019 بشكل غير قانوني. 

لكن عندما بدأ المستثمر بالمشروع، أقدمت هيئة النزاهة على إيقافه، ثم صدر أمر بالحبس ضد معاون مدير التسجيل العقاري لتحويله هذه الأرض بصورة غير قانونية من بلدية الحلة إلى الجمعية الفلاحية. 

استعادت النزاهة هذه الأرض الخضراء، لكن المفارقة أنها لم تعد للدولة، إذ جرى مرة أخرى منحها لقضاة بتغيير جنسها من خضراء إلى سكنية. 

ولم يسلم شارع 60 من موجة الاستحواذ هذه. يقول موظف التخطيط العمراني “ثمة عرصة مساحتها أكثر من ألفي متر مربع من المفترض أن تكون متنزهاً. كان من المستحيل أن تتحول إلى شيء آخر، لأن أنبوباً نفطياً يمر تحتها، وتنتصب فوقها أبراج الضغط الناقلة للكهرباء”. 

غير أنها تحولت إلى ” مدينة حمورابي السياحية” التي تضم مولا ومدينة أعراس استثمارية يملكها سلام الطفيلي، وهو رجل أعمال مقرب من كل الحكومات المتعاقبة. 

جرى دفن الأسلاك تحت الأرض وافتتحت المدينة في عيد الأضحى الماضي. 

وخلال السنوات الخمس الماضية فقط، تم تحويل أكثر من عشر مساحات خضر كبيرة في مركز المدينة المختنق إلى مشاريع وقطع ومنازل عملاقة. 

مُرّرت معاملات تلك العقارات على الدوائر بتهديد الموظفين أو إغرائهم أو إلزامهم بقرارات من يعلوهم بالسلم الوظيفي، وكان فيها التخطيط العمراني والبيئة نسياً منسياً. 

تجاوز البيئة 

بحسب كراس معايير الإسكان الحضري، الصادر عن وزارة الإسكان والإعمار، فإن تقسيم الأراضي السكنية يبدأ بالمحلة (وحجم سكانها: 2400-3600 نسمة) ثم الحي (9600-14400 نسمة) ثم القطاع (38400- 57600 نسمة). 

وتشدد المعايير على تأمين ساحات عامة ومتنزهات خضر وملاعب أطفال حسب الفئات العمرية وفي كل المستويات التخطيطية، ابتداء من المحلة السكنية ثم الحي والقطاع. 

وطبقاً لما يقول سلوان الآغا، مدير المشاريع في بلدية الحلة، تُقسم المدن والقطاعات السكنية ضمن المعايير المعتمدة إلى: 55 بالمئة سكن، 16 بالمئة نقل ومواصلات، 10.5 بالمئة مناطق خضر ومفتوحة، 7.5 بالمئة صناعة، 4.5 بالمئة مرافق وخدمات عامة، 4 بالمئة استعمالات خاصة، 2.5 بالمئة تجارة وإدارة. 

ويؤكد الآغا لـ”جمّار” أن هذه المعايير يصعب تطبيقها، مقراً بأن عدم استغلال وتفعيل المساحات الخضر هو “تقصير حكومي، لأنها موجودة في التصميم الأساسي للمدن”. 

تُعزى أسباب هذا التقصير إلى قلة التخصيصات المالية دائماً. 

“المحافظة سابقا اهتمت بالمتنزهات، لكنها تركت وأهملت بسبب عدم توفر السيولة المالية” يقول الآغا. 

ويضيف أن تحويل الأراضي الخضر إلى مناطق سكنية غير مسموح به، ولاسيما مع التوجه العالمي الحالي لزيادة هذه المساحات بسبب التغير المناخي وتأثيراته، إلا أن هذه الإجراءات لم تجد رادعاً في بابل، فالقانون لا يمنع هذا. 

“يسمح القانون باستثناءات لتغيير جنس الأرض. تتم الموافقة من قبل المحافظين والوزراء ويصبح التغيير قانونياً”. 

وعن وظيفة دوائر البيئة في منع هذه الإجراءات، يوضح الآغا أن “مهام دائرة البيئة تتركز حالياً على معالجة التلوث البيئي ومخلفات المصانع والمعامل والمشاريع”. 

أما نسبة الأراضي الخضر وتحويلها إلى مساكن ومشاريع ليست أولوية في المتابعة. 

ويقول مكي الشمري، مدير بيئة بابل، لـ”جمّار”، إن دائرته لا توافق على أي كتاب يأتي من البلدية لتحويل جنس الأرض الخضراء، “ولكن للأسف بدأت الأوراق تتجاوز دائرتنا”. 

ويضيف الشمري أن “أي مشروع يجب أن يمر بدائرة البيئة، وأول سؤال توجهه الدائرة: ما هو صنف الأرض؟ ولا يتم منح الموافقة إذا كانت خضراء”. 

المهندسة أميرة تصف ما حل بالمناطق الخضر في الحلة بـ”الكارثة”. 

“كحسابات أولية وفي ضوء عدد سكان مدينة الحلة، نحتاج ما لا يقل عن مليوني شجرة مورقة وألفي هكتار من المساحات المزروعة” تقول لنا. 

في بابل جميعها، انخفضت مساحة الأراضي المزروعة في 2022 إلى 160 ألف دونم بعد أن كانت 330 ألف دونم عام 2021، بحسب تقرير سابق لـ”جمّار”. 

وعند الابتعاد 16 كيلومتراً غرب مركز المدينة، تبدأ أسعار العقارات بالانخفاض، لذلك فإن المساحات الخضر هناك لا تكون ثمينة إلى حد المجازفة. 

لكنها تبقى خضراً على الورق فقط، ففي أبي غرق، تبدو المساحات خضراً على خرائط البلدية، إلا أنها مزابل مهملة في الواقع. 

تقبّل الأهالي فكرة أنها ساحات نفايات، لأن البلدية بدلاً من أن ترفع الأزبال إلى مطامر صحية، صارت تقوم بحرقها في هذه الساحات، مسببة تلوّثاً بيئياً خطيراً. 

وتبعاً للمثل الشعبي العراقي “أراويك الموت حتى ترضى بالصخونة”، يتقبل الأهالي أيضاً تحويلها إلى قطع سكنية أو استثمارات معينة، بدلاً من منظر النفايات والحرائق، إذ أحالت البلدية منطقتين خضراوين للاستثمار كعلوة مخضرات وعلوة مواشِ ولم يعترض أحد. 

“أقل من عشرة بالمئة من المساحات الخضر أصبحت متنزهات فعلياً”، يقول هادي الجشعمي عضو المجلس البلدي الملغى. 

وخلال السنوات العشر الماضية، جرى افتتاح حديقة واحدة في أبي غرق هي “حديقة الأمل”. 

قص شريط الافتتاح في حينها مدير الناحية والبلدية وبضعة موظفين مع رجل معمم، ملتقطين صوراً أمام دائرة صغيرة من الأزهار المصففة، وعلى مساحة لا تتجاوز 50 متراً مربعاً تحت عنوان “افتتاح حديقة الأمل”. 

لكن، ما هي إلا ساعات حتى أصبحت هذه الصور محتوى رائجاً في العراق أثار السخرية في مواقع التواصل الاجتماعي من هذا “الإنجاز”، فامتعض مسؤولو الناحية وأزالوا المنشور من صفحة البلدية، لكن بعد خراب مالطا! 

وحتى “حديقة الأمل” هذه أهملت بعد أسابيع من “افتتاحها”. 

“افتتاح حديقة الأمل”، المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي. 

يتحدث الجشعمي عما سمّاها “أول وأكبر جريمة في الناحية بعد 2003″، عندما تم اقتطاع أكثر من 300 دونم زراعي كانت وفيرة الإنتاج لصالح بناء مجمع سكني قيل آنذاك إنها “دور واطئة الكلفة” لذوي الدخل المحدود، ولكن عندما اكتمل مجمع الكوثر السكني، لم يستطع حتى الموظفون من ذوي الدخل المتوسط لمس أبوابه. 

يصل سعر الوحدة السكنية فيه إلى أكثر من 125 مليون دينار (نحو 78 ألف دولار في الوقت الحالي). 

بالإضافة إلى الآثار المادية التي يتركها تجريف الأراضي الزراعية وقطع إنتاجها بتحويلها إلى مساكن ومشاريع، فإن الآثار النفسية وخيمة، خصوصاً على الأطفال، إذ توصلت دراسات إلى أن الأطفال الذين ينشؤون في وسط أخضر ينخفض خطر تعرضهم لإصابات نفسية مع مرور السنوات. 

وتوصلت جامعة دنماركية إلى أن الأطفال الذين يكبرون وسط الغابات أو الحدائق أو المتنزهات أقل عرضة بنسبة 55 بالمئة للإصابة بأمراض نفسية، مقارنة بأقرانهم ممن ينشؤون في محيط ليس به مثل هذه الخضرة. 

أثبت عدد متزايد من الدراسات الوبائية أن المحافظة على المساحات الخضر تحقق آثاراً صحية إيجابية متنوعة، بما في ذلك تحسين الصحة العقلية وخفض الاكتئاب. 

وإذا كان أول اكتئاب في بابل أطفأه نبوخذ نصر بجنائنه المعلقة، من يطفئ للبابليين كآبتهم الآن؟ 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

هبطت الكآبة على أميس الميدونية، أو أميديا، ملكة بابل القادمة من مرتفعات شمال إيران الخضراء، زوجة نبوخذ نصر (562-605 ق.م)، فبنى أقوى ملوك بابل، جنائنه المعلقة لها، صانعاً حدائق خضراء فوق مرتفعات شيدها على جذوع النخيل والقار والطاب، لتصنف إحدى عجائب الدنيا السبع. 

لا أثر اليوم لهذه الأعجوبة، ويعتقد البعض أنها أسطورة. 

وتكاد المتنزهات والحدائق الموجودة في بابل حالياً أن تتحول إلى أسطورة هي الأخرى وتصبح في طي النسيان. 

دولة عميقة للعقارات 

الرئات التي تتنفس منها المدينة تعرّضت لعمليات سطو ممنهج من قبل المتنفذين في بابل، إذ، وكما يروي مصدر مقرّب منهم، يتجوّلون بسياراتهم ذات الدفع الرباعي ويحددون الأماكن التي تعجبهم. 

يقع اختيارهم عادة على المساحات قليلة البناء، ثم تبدأ عملية تحويل أوراق هذه الأراضي، ومنها المسطحات والمتنزهات الخضر، إما إلى مشاريع استثمارية، أو توزيعها كقطع سكنية بينهم، في مواقع تصل قيمة القطعة الواحدة فيها إلى مئات الملايين وربما مليارات الدنانير. 

تلك هي الدولة العميقة للعقارات في الحلة، ذات الأذرع الممتدة بين دوائر البلدية والتسجيل العقاري والجهات الرقابية الأخرى. 

“يستخدم كل واحد فيهم سلطته ونفوذه لانتزاع المتنفسات بشكل يبدو أنه قانوني عبر استثناءات وموافقات وصلاحيات، ولكن بصورة غير إنسانية”، يضيف المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه. 

أربعون بالمئة من الأراضي التي يفترض أن تكون مساحات لضخ الأوكسجين في جسد المدينة المترب، سطا عليها هذا اللوبي. 

أساليب ونفوذ يجعل المتنزهات المتبقية أو الأراضي المخصصة لها “ليست في مأمن”، كما يعبّر أمير المعموري النائب عن المحافظة. 

يقول المعموري لـ”جمّار” إن “البلدية ودائرة التخطيط العمراني لا تزودنا بأرقام وأعداد المساحات الخضر، على الرغم من الكتب الرسمية التي نرسلها”. 

وليست المساحات الخضر فقط، وإنما هناك مساحات بيض جرى السطو عليها أيضاً. 

وهناك قطع تجارية في مواقع استراتيجية مؤجرة كإيراد للدولة وإذا بيعت تباع بالمزاد أو للاستثمار، ومع ذلك خُصّصت كقطع سكنية. 

قانونياً، بحسب المعموري، إذا وصل البناء في الأحياء أو المدن إلى 50 بالمئة، فالعرصات المتبقية تصبح مميزة ولا تخصص، “فما بالك إذا وصل البناء إلى نسبة 100 بالمئة؟”. 

الأمر ليس عشوائياً، توجد قطع سكنية باهظة في أحياء الأكرمين والمهندسين وحي بابل وحي الأساتذة، تصل أسعارها إلى 500 مليون دينار فصاعداً تم الاستيلاء عليها. 

وهناك آلية للسطو -وفقاً للمعموري- تعتمد على التلاعب في أي محضر لتوزيع أراض -وهي العملية التي تقضي بتوزيع الأراضي على مستحقيها- عبر تسليم أرقام لعرصات وهمية غير موجودة، ثم تجرى عمليات الاستبدال، وهذه العملية تتم باتفاق الدوائر. 

وبسبب هذه العملية الفاسدة اختفت مساحات خضر وبيض كبيرة وقطع تجارية في مدينة الحلة. 

كما يجري تسخير بعض القوانين، كاستبدال الأرض بحجة وجودها في منطقة معرضة للفيضانات، أو قريبة من أنبوب نفط، أو أي سبب وهمي آخر يبرر التبادل مقابل أرقام وهمية أو أراض بأسعار زهيدة. 

شخّص المعموري نحو 15 موقعاً، يحتوي كل موقع على نحو 30 قطعة أرض، وزعت جميعها محاباة لشريحة معينة دون أخرى. 

وغالباً ما يتم إسكات الجهات الرقابية بقطع مميزة في وسط المدينة. 

نهر اليهودية  

يشقّ نهر اليهودية، أو نهر “نابو” التاريخي، مركز مدينة الحلة، منطلقاً من منطقة الثورة حتى منطقة إبراهيم الخليل بطول عشرة كيلومترات. 

يشوّه هذا المبزل وجه المدينة الحضرية بسبب تكدس النفايات على ضفافه، وفي 2022 استبشر الحليون ببدء تنفيذ مشروع تطوير النهر بكلفة 210 مليارات دينار. 

وتضمن المشروع تبطين النهر وإقامة 16 مجسراً عليه لعبور السيارات، وعشرات الجسور لعبور المشاة. 

شعر الحليون بالتفاؤل إزاء تصاميم المشروع، وترقبوا بشغف المنطقة الخضراء التي ستمتدّ على جانبي النهر، لكن طعم الفرحة سرعان ما تحوّل إلى علقم في أفواه الأهالي. 

“كل شيء تغيّر” تقول أميرة جليل، مهندسة متخصصة بالمدن تسكن داراً قبالة نهر اليهودية. 

في صباح صيفي صحت جليل على أصوات الجرافات وهي تشقّ شارعاً أمام دارها، بينما جرى قصّ كل المساحات الشرفية للمنازل التي نظمها الأهالي كحدائق. 

وتقول جليل لـ”جمّار” إن “هناك مخالفة لقوانين التخطيط العمراني، فبحسب معايير الإسكان الحضري والريفي في العراق، يحتاج الفرد إلى ستة أمتار كفضاءات مفتوحة موزعة بين ساحات وملاعب ومتنزهات، لكن هذه المعايير ضربت عرض الحائط”. 

وتحاول أستاذة الهندسة في جامعة بابل، مرة أخرى أن تعيد الخضرة إلى منزلها، فصارت تزرع على سطح المنزل. 

وهي تؤكد عبر الندوات الجامعية أهمية المناطق الخضر بصفتها متطلب حياة يجب أن يوضع في التصميم الأساسي للمدن. 

وتقول إنه كحسابات أولية وفي ضوء عدد سكان الحلة، تحتاج المدينة ما لا يقل على مليوني شجرة مورقة وألفي هكتار من المساحات المزروعة. 

وتنوي جليل تقديم شكوى في حال بوشر بإنشاء المساكن أمام منزلها، للمطالبة بتعويض والانتقال إلى منطقة أخرى. 

قبل هذا كانت قد لاحقت دعاوى في محكمة النزاهة، تخص إجراء تحويل هذه المنطقة الخضراء إلى سكنية، لكنها لم تفض إلى شيء كالعادة. 

فقد تحرّك لوبي العقارات للسطو على المساحة الخضراء الموشومة على كتف النهر حتى قبل أن يكتمل المشروع، ووُزّعت قطعاً سكنية في الجزء الأثمن. 

لاحقت هذه الحركة أيضاً دعاوى في النزاهة. 

مخطط نهر اليهودية – المصدر: بلدية الحلة  

“مُنعنا من التحقيق في هذه المساحة” يقول علي حاتم من دائرة تحقيقات النزاهة ببابل. 

ويضيف حاتم، الذي طلب استخدام اسم مستعار له قبل أن يتحدث لـ”جمّار”، أن “القطع وزعت للمحافظ الأسبق حسن منديل، ومنها بأسماء وهمية، وقاض متنفذ، ومدير التسجيل العقاري ونجله، وضباط في الأمن الوطني، باستخدام أسماء وهمية”. 

وبحسب حاتم، فإن التعدي طال حتى قوانين البيئة والتخطيط العمراني وجرى تخريبها، فالقطع تراصفت على ضفة النهر بنحو 1000 متر. 

“لم يتركوا فرعاً ولا شارعاً بينها، صار على الطفل أن يمشي مسافة 860 متراً إذا أراد الذهاب إلى المدرسة”، يقول مصدر من دائرة التخطيط العمراني طلب عدم ذكر اسمه. 

وبحسب المصدر، لم توافق مديرة التخطيط العمراني على المشاركة في هذا التعدي، لكن تم تجاوزها وجاءت الموافقة من وزير البلديات والأشغال العامة في ذلك الحين. 

وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإن قيمة العقارات التي حازتها “الرؤوس الكبيرة” هناك تقدر من 1-3 مليارات، لأنها بمساحة 700 متر مربع للعرصة1 الواحدة. 

ولم تعترض أي جهة على ما حصل. 

غزوات أخرى 

كانت غزوة نهر نابو (إله الحكمة والكتابة في بلاد الرافدين) هي الغزوة الأخيرة للوبي العقارات. قبلها غزا هؤلاء جنائن كثيرة في بابل. 

في شارع 40، أرقى مناطق المدينة ورئتها التجارية، يشمخ جامع كبير (جامع صدام سابقاً، جامعة الحلة الدينية حالياً) الذي استولت عليه جماعة عصائب أهل الحق. 

وتمتد خلف الجامع منطقة خضراء يحرّم التلاعب بها لأنها متنفس زحام المدينة ومبانيها المكتظة، تصل مساحتها إلى أكثر من 7400 متر، تم الاستيلاء عليها وتحويلها إلى قطع سكنية وزعت لمتنفذين. 

يقول حاتم إن هذه المعاملات تتضمن استثناءات، حتى لو أن دائرة التخطيط العمراني لم توافق، قد يُجبر موظف على التوقيع. 

واضطرت موظفة في البلدية إلى أخذ إجازة هرباً من تسيير المعاملات. 

وثيقة تظهر إعلانا لبلدية الحلة بتحويل أراض خضر خلف جامعة الحلة الدينية إلى قطع سكنية، المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي 

جوبهت خطوة تغيير جنس هذه الأرض من خضراء إلى سكنية بحملة احتجاجية واسعة في 2019، وجرى اعتقال الناشط حسان الطوفان بتهمة الإساءة إلى القضاء حينها. 

وبالاتجاه شرقاً، في الشارع ذاته، مساحة خضراء تابعة لاتحاد الجمعيات الفلاحية، عرضتها الأخيرة للاستثمار عام 2019 بشكل غير قانوني. 

لكن عندما بدأ المستثمر بالمشروع، أقدمت هيئة النزاهة على إيقافه، ثم صدر أمر بالحبس ضد معاون مدير التسجيل العقاري لتحويله هذه الأرض بصورة غير قانونية من بلدية الحلة إلى الجمعية الفلاحية. 

استعادت النزاهة هذه الأرض الخضراء، لكن المفارقة أنها لم تعد للدولة، إذ جرى مرة أخرى منحها لقضاة بتغيير جنسها من خضراء إلى سكنية. 

ولم يسلم شارع 60 من موجة الاستحواذ هذه. يقول موظف التخطيط العمراني “ثمة عرصة مساحتها أكثر من ألفي متر مربع من المفترض أن تكون متنزهاً. كان من المستحيل أن تتحول إلى شيء آخر، لأن أنبوباً نفطياً يمر تحتها، وتنتصب فوقها أبراج الضغط الناقلة للكهرباء”. 

غير أنها تحولت إلى ” مدينة حمورابي السياحية” التي تضم مولا ومدينة أعراس استثمارية يملكها سلام الطفيلي، وهو رجل أعمال مقرب من كل الحكومات المتعاقبة. 

جرى دفن الأسلاك تحت الأرض وافتتحت المدينة في عيد الأضحى الماضي. 

وخلال السنوات الخمس الماضية فقط، تم تحويل أكثر من عشر مساحات خضر كبيرة في مركز المدينة المختنق إلى مشاريع وقطع ومنازل عملاقة. 

مُرّرت معاملات تلك العقارات على الدوائر بتهديد الموظفين أو إغرائهم أو إلزامهم بقرارات من يعلوهم بالسلم الوظيفي، وكان فيها التخطيط العمراني والبيئة نسياً منسياً. 

تجاوز البيئة 

بحسب كراس معايير الإسكان الحضري، الصادر عن وزارة الإسكان والإعمار، فإن تقسيم الأراضي السكنية يبدأ بالمحلة (وحجم سكانها: 2400-3600 نسمة) ثم الحي (9600-14400 نسمة) ثم القطاع (38400- 57600 نسمة). 

وتشدد المعايير على تأمين ساحات عامة ومتنزهات خضر وملاعب أطفال حسب الفئات العمرية وفي كل المستويات التخطيطية، ابتداء من المحلة السكنية ثم الحي والقطاع. 

وطبقاً لما يقول سلوان الآغا، مدير المشاريع في بلدية الحلة، تُقسم المدن والقطاعات السكنية ضمن المعايير المعتمدة إلى: 55 بالمئة سكن، 16 بالمئة نقل ومواصلات، 10.5 بالمئة مناطق خضر ومفتوحة، 7.5 بالمئة صناعة، 4.5 بالمئة مرافق وخدمات عامة، 4 بالمئة استعمالات خاصة، 2.5 بالمئة تجارة وإدارة. 

ويؤكد الآغا لـ”جمّار” أن هذه المعايير يصعب تطبيقها، مقراً بأن عدم استغلال وتفعيل المساحات الخضر هو “تقصير حكومي، لأنها موجودة في التصميم الأساسي للمدن”. 

تُعزى أسباب هذا التقصير إلى قلة التخصيصات المالية دائماً. 

“المحافظة سابقا اهتمت بالمتنزهات، لكنها تركت وأهملت بسبب عدم توفر السيولة المالية” يقول الآغا. 

ويضيف أن تحويل الأراضي الخضر إلى مناطق سكنية غير مسموح به، ولاسيما مع التوجه العالمي الحالي لزيادة هذه المساحات بسبب التغير المناخي وتأثيراته، إلا أن هذه الإجراءات لم تجد رادعاً في بابل، فالقانون لا يمنع هذا. 

“يسمح القانون باستثناءات لتغيير جنس الأرض. تتم الموافقة من قبل المحافظين والوزراء ويصبح التغيير قانونياً”. 

وعن وظيفة دوائر البيئة في منع هذه الإجراءات، يوضح الآغا أن “مهام دائرة البيئة تتركز حالياً على معالجة التلوث البيئي ومخلفات المصانع والمعامل والمشاريع”. 

أما نسبة الأراضي الخضر وتحويلها إلى مساكن ومشاريع ليست أولوية في المتابعة. 

ويقول مكي الشمري، مدير بيئة بابل، لـ”جمّار”، إن دائرته لا توافق على أي كتاب يأتي من البلدية لتحويل جنس الأرض الخضراء، “ولكن للأسف بدأت الأوراق تتجاوز دائرتنا”. 

ويضيف الشمري أن “أي مشروع يجب أن يمر بدائرة البيئة، وأول سؤال توجهه الدائرة: ما هو صنف الأرض؟ ولا يتم منح الموافقة إذا كانت خضراء”. 

المهندسة أميرة تصف ما حل بالمناطق الخضر في الحلة بـ”الكارثة”. 

“كحسابات أولية وفي ضوء عدد سكان مدينة الحلة، نحتاج ما لا يقل عن مليوني شجرة مورقة وألفي هكتار من المساحات المزروعة” تقول لنا. 

في بابل جميعها، انخفضت مساحة الأراضي المزروعة في 2022 إلى 160 ألف دونم بعد أن كانت 330 ألف دونم عام 2021، بحسب تقرير سابق لـ”جمّار”. 

وعند الابتعاد 16 كيلومتراً غرب مركز المدينة، تبدأ أسعار العقارات بالانخفاض، لذلك فإن المساحات الخضر هناك لا تكون ثمينة إلى حد المجازفة. 

لكنها تبقى خضراً على الورق فقط، ففي أبي غرق، تبدو المساحات خضراً على خرائط البلدية، إلا أنها مزابل مهملة في الواقع. 

تقبّل الأهالي فكرة أنها ساحات نفايات، لأن البلدية بدلاً من أن ترفع الأزبال إلى مطامر صحية، صارت تقوم بحرقها في هذه الساحات، مسببة تلوّثاً بيئياً خطيراً. 

وتبعاً للمثل الشعبي العراقي “أراويك الموت حتى ترضى بالصخونة”، يتقبل الأهالي أيضاً تحويلها إلى قطع سكنية أو استثمارات معينة، بدلاً من منظر النفايات والحرائق، إذ أحالت البلدية منطقتين خضراوين للاستثمار كعلوة مخضرات وعلوة مواشِ ولم يعترض أحد. 

“أقل من عشرة بالمئة من المساحات الخضر أصبحت متنزهات فعلياً”، يقول هادي الجشعمي عضو المجلس البلدي الملغى. 

وخلال السنوات العشر الماضية، جرى افتتاح حديقة واحدة في أبي غرق هي “حديقة الأمل”. 

قص شريط الافتتاح في حينها مدير الناحية والبلدية وبضعة موظفين مع رجل معمم، ملتقطين صوراً أمام دائرة صغيرة من الأزهار المصففة، وعلى مساحة لا تتجاوز 50 متراً مربعاً تحت عنوان “افتتاح حديقة الأمل”. 

لكن، ما هي إلا ساعات حتى أصبحت هذه الصور محتوى رائجاً في العراق أثار السخرية في مواقع التواصل الاجتماعي من هذا “الإنجاز”، فامتعض مسؤولو الناحية وأزالوا المنشور من صفحة البلدية، لكن بعد خراب مالطا! 

وحتى “حديقة الأمل” هذه أهملت بعد أسابيع من “افتتاحها”. 

“افتتاح حديقة الأمل”، المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي. 

يتحدث الجشعمي عما سمّاها “أول وأكبر جريمة في الناحية بعد 2003″، عندما تم اقتطاع أكثر من 300 دونم زراعي كانت وفيرة الإنتاج لصالح بناء مجمع سكني قيل آنذاك إنها “دور واطئة الكلفة” لذوي الدخل المحدود، ولكن عندما اكتمل مجمع الكوثر السكني، لم يستطع حتى الموظفون من ذوي الدخل المتوسط لمس أبوابه. 

يصل سعر الوحدة السكنية فيه إلى أكثر من 125 مليون دينار (نحو 78 ألف دولار في الوقت الحالي). 

بالإضافة إلى الآثار المادية التي يتركها تجريف الأراضي الزراعية وقطع إنتاجها بتحويلها إلى مساكن ومشاريع، فإن الآثار النفسية وخيمة، خصوصاً على الأطفال، إذ توصلت دراسات إلى أن الأطفال الذين ينشؤون في وسط أخضر ينخفض خطر تعرضهم لإصابات نفسية مع مرور السنوات. 

وتوصلت جامعة دنماركية إلى أن الأطفال الذين يكبرون وسط الغابات أو الحدائق أو المتنزهات أقل عرضة بنسبة 55 بالمئة للإصابة بأمراض نفسية، مقارنة بأقرانهم ممن ينشؤون في محيط ليس به مثل هذه الخضرة. 

أثبت عدد متزايد من الدراسات الوبائية أن المحافظة على المساحات الخضر تحقق آثاراً صحية إيجابية متنوعة، بما في ذلك تحسين الصحة العقلية وخفض الاكتئاب. 

وإذا كان أول اكتئاب في بابل أطفأه نبوخذ نصر بجنائنه المعلقة، من يطفئ للبابليين كآبتهم الآن؟