العاملات أونلاين.. عن "الربح الصعب" في العراق 

ريم عبد

07 كانون الأول 2023

أسباب مختلفة قادت هدى وميار وفاطمة وسعاد وغفران إلى إيجاد مساحة للعمل "أونلاين"، ينتجن ويتاجرن بمواد متفرقة، ويواجهن مشكلات تتشابه أحياناً، وتشتد في أحيان أخرى.. لكن كيف يصلن إلى "الربح الصعب"؟

تخصّصت هدى في دراستها الجامعية في علم الاجتماع، بيد أن شغفها بعلم الجريمة وعلم النفس وولعها بروايات أجاثا كريستي، قادها إلى كتابة ثماني قضايا جريمة وتصميم ملفات تحاكي السجلات الجنائية من معلومات عن المقتول والمشتبه بهم إلى بصمات أصابع وأدلة أخرى تجذب الأشخاص المهتمين بحل الألغاز ولعب أدوار المحققين، بهدف عرضها كلعبة للبيع من خلال حساب مشروعها على انستغرام.  

بدأت هدى مشروعها برأسمال قدره 100 دولار وعرضت اللعبة للبيع بسعر 10 آلاف دينار، وأقبل المهتمون بمثل هذه الألعاب على شرائها منها، حتى بلغت المبيعات في أحد الأسابيع 700 نسخة بأرباح صافية وصلت إلى 3 آلاف دولار. ومنذ افتتاحها للمشروع وحتى الوقت الحالي، تمكنت من بيع 50 ألف نسخة من اللعبة، إلى جانب البوسترات والملصقات والقرطاسية، وتنفيذ طلبات طباعة الصور على المواد والأدوات. 

نموذج لقضية كتبتها وصممتها هدى. المصدر – حساب المشروع على السوشيال ميديا 

أما ميار وهي طالبة في الصف السادس الإعدادي، فقد أنشأت مشروعها لبيع الملابس المستعملة (البالة) عبر الإنترنت نهاية عام 2022، حيث رأت أن بعض الشرائح المجتمعية تميل إلى شراء ملابس البالة لأن سعرها رخيص ولكونها مميزة. بدأت ميار المشروع برأسمال قدره 35 ألف دينار، فيما تقول إن الربح الذي تحققه يمكّنها من تلبية احتياجاتها الشخصية وسدّ مصروفها اليومي. 

في الوقت الذي تعاني النساء من انعدام فرص العمل في القطاع العام والخاص، حيث وصل معدل بطالة النساء في العراق عام 2021 إلى 28.2 بالمئة، وهو ضعف معدل بطالة الذكور الذي بلغ 14.7 بالمئة. وغالباً ما تعيش النساء العراقيات في مناطق تفتقر إلى الأعمال المتاحة والمناسبة، حيث يواجهن عراقيل كثيرة في سوق العمل، منها طول ساعات الدوام وغياب الحقوق وانعدام الأمان الوظيفي وتدني الأجور؛ وحتى حين تتوفر مثل هذه الأعمال، تعرقلهن القيود العائلية عن مزاولتها.  

لتجاوز هذه التحديات تتجه بعض النساء إلى العمل أونلاين، حيث يبعن منتجات وخدمات عبر الإنترنت بوساطة منصات التواصل الاجتماعي والمتاجر الإلكترونية، وهذه الأعمال تختلف أرباحها وفائدتها حسب أنماطها. وتتنوع من خدماتية مثل إدارة صفحات المتاجر الإلكترونية والعمل كمندوبات عبر الإنترنت وتقديم وخدمات الدعم والاستشارة النفسية، إلى تقديم دروس خصوصية وتدريبات اللياقة والرياضة، ومجالات أخرى مثل الصحافة والترجمة وكتابة المحتوى، بالإضافة إلى التجارة ببضائع معينة مثل الملابس والإكسسوارات ومواد العناية والتجميل والكتب والقرطاسية والهدايا والأدوات المنزلية. 

وعلى الرغم من تأمينه لاستقلالية ما للكثيرات، فإن هذا المجال لا يخلو من عقبات وتحديات سواء للنساء العاملات من خلال الانترنت، أو لمجتمع المستهلكين لخدماتهن ومنتجاتهن. كما أن هناك أعمالاً مثيرة للجدل لأسباب مختلفة، منها كتابة البحوث والتقارير وعمل الخيرة والاستخارة والأعمال القرآنية والعرافة، وبيع جلسات العلاج بما يعرف بـ”علم الطاقة” وتقديم الجنس أونلاين، إلى جانب بيع منتجات دون أن تخضع لرقابة وفحص لضمان السلامة، مثل تحضير وبيع الطعام أونلاين؛ مع العلم أن قانون الصحة العامة رقم (89) لسنة 1981 يُدرج تعليمات واضحة بشأن الحاجة لاستصدار إجازة عمل صحية للعاملة في البيت من الجهات الصحية المختصة.  

العمل أونلاين.. تخطيط وترويج ثم ربح 

مثل أي مشروع تجاري، يحتاج العمل أونلاين دراسةً وتخطيطاً كما وضحت لنا بعض النساء اللاتي يعملن عبر الإنترنت، بدءاً من فهم سلوك المستهلكين والعملاء إلى وضع رأسمال مناسب، يليه البحث الدقيق والشامل عن موردين للمواد والبضائع، وهي تعاملات تشوبها تحديات شبيهة بأي تجارة. 

تقول سعاد، وهي صاحبة صفحة لبيع المنتجات التجميلية الطبيعية، إنها بدأت بالحصول على المواد الأولية لصنع منتجاتها من العشابين والعطارين، ولكن مع تطور ونجاح مشروعها أصبحت بحاجة إلى مواد وزيوت أصلية لا تتوافر محلياً فذهبت إلى استيرادها من بريطانيا ومصر. أما ميار فتحصل على بضاعتها من موردي أربيل، وتتجنب التعامل مع تجار بغداد الذين يأتون ببضاعة بالة سيئة من أربيل ثم يبيعونها بأسعار غالية في مناطق متعددة، منها باب الشيخ والكفاح. 

كون العالم الافتراضي فضاء للبيع والشراء، فالحاجة لخطة تسويق كاملة تعد من مقومات العمل أونلاين الأساسية. تبدأ بإنشاء حسابات على جميع المنصات واختيار اسم مميز وتصميم “لوغو” فريد، وتصوير ونشر المنتجات والبضائع عبر هذه الحسابات لعرضها مع مواصفاتها وخصائصها وأسعارها، وتوضيح سياسات الاسترجاع والاستبدال والتوصيل والدفع وغيرها، ونشر محتوى يوضح الخدمات بأسلوب واضح وجذاب. 

بعد ذلك، يأتي دور الترويج، والذي يمكن أن يبدأ بمشاركة صفحات المشروع مع الأصدقاء والمعارف، ليشاركوها بدورهم على حساباتهم لزيادة عدد المتابعين. اتباع هذه الطريقة مكّن ميار من الحصول على 300 متابع في أول يوم من إنشاء حساب مشروعها. 

تعتمد أخريات الترويج عن طريق إعلانات مموّلة والتواصل مع فتيات مؤثرات يتابعهن الآلاف بمقابل مالي أو من خلال تقديم المنتجات والبضائع لهن كهدايا؛ وترويج هؤلاء المؤثرات لبضائع غيرهن من النساء يعتبر بدوره أحد أنشطة العمل عبر الإنترنت. 

إذن فبالإضافة إلى التعاطي مع الجانب التجاري، فالجانب التسويقي يتطلب وقتاً وجهداً من النساء، إذن من المهم أن يكون نشر الريلز والستوريات والمنشورات بصورة مرتبة ومنظمة. كما ينبغي التفاعل بشكل مستمر مع استفسارات المتابعين والعملاء والاستجابة السريعة لطلباتهم، والتعامل معهم بلباقة واحترام والسعي لتحقيق رضاهم ومساعدتهم. كما تعمل الفتيات على تغليف الطلبات بأغلفة مناسبة ومرتبة مصحوبة ببطاقة أو ورقة تعريفية تحمل اسم المشروع واللوغو. إلى جانب ذلك، هناك حاجة لتعزيز مستمر لعمليات التعلم والتطوير لضمان مواكبة التغيرات في عمليات العرض والطلب، مثلاً عن طريق متابعة المنافسين. 

وعندما تزداد المبيعات ويتمكن المشروع من تحقيق نجاح، تذهب النساء إلى تقديم عروض وتخفيضات مناسبة وهدايا، كما ينشرن شهادات ومراجعات من العملاء والزبائن، لأن ذلك سيعزز من مستوى الثقة والشفافية، ويسهم في الحفاظ على التواصل المستدام والاعتزاز بالعملاء، تقول بعض ممن قابلناهن. 

يعني كل هذا، وأنه خلافاً للاعتقاد السائد بأن العمل أونلاين “مرن وسهل”، فإنه لا يمكن النساء دائماً من تحقيق التوازن بين الحياة العملية والأعمال الرعائية لأن طبيعة الأعمال وظروف النساء تختلف. فسعاد تعمل بجد ليلاً ونهاراً لكيلا تشعر بالتقصير ما يضع عبئاً مزدوجاً عليها، وغالباً ما تسهر لإكمال الكميات والطلبات، فيما يساعدها زوجها في تجهيز الطلبات أحياناً. 

كما يمكن للعمل أونلاين أن يؤثر على التعليم، وهذا ما حصل مع ميار، إذ أثرت الالتزامات المتعلقة بمشروعها على تراجع مستواها الدراسي.  

أما قصة غفران فتظهر تأثيرها على الصحة كذلك. 

حصلت غفران حديثاً على بكالوريوس في التربية وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة وتستخدم الكرسي المتحرك لذلك لا تستطيع العمل خارج المنزل. لكن منذ السابعة عشرة طورت غفران هواية انتاج تصاميم و”لوغوات” لتحولها لاحقاً إلى مصدر دخل عبر الإنترنت عندما احتاجت لمصاريف في الجامعة. واليوم، وبتأمينها مبالغ شهرية تتراوح بين 150-400 ألف دينار، تمكنت من أن تستقل مالياً وأن يلبي عملها تقريباً معظم متطلباتها من الأكل والملبس والمكملات الغذائية والدواء والحاجات الشخصية. 

لكن هذا يرافقه ثمن صحي باهظ إذا يسبب العمل لها الإجهاد لكونها تعاني من ضمور العضلات ما يؤدي إلى تدهور حالتها الصحية. إلا أنها مضطرة للعمل، قالت لنا، وذلك لكون معونة الرعاية تبلغ 125 ألف دينار فقط ولا تكفي علاجها أصلاً. 

صعوبات التوصيل والزبائن.. ومحرم 

يتأثر عمل النساء أونلاين بالكثير من العوامل المتعلقة بمحيطها والجهات التي تتعامل معها، من موردين إلى زبائن، ما يجعل دخلها غير مستقر وغير ثابت، بل وتكون عرضة للخسارة مراراً. 

تعد خدمة توصيل البضائع التي تباع أونلاين أساس عملهن واستمراره، لذلك فمن الضروري التعامل مع شركة توصيل مناسبة والتحقق من سياساتها وأسعارها، وضمان جودة خدمتها وسرعة توصيلها وحفاظها على سلامة الطلبات.  

بيد أن النساء العاملات أونلاين يواجهن كثيراً من العقبات في هذا الجانب.  

فسعاد كانت تجاربها مع شركات التوصيل سيئة، فقد روت لنا كيف تسببت في تلف الطلبات وكسر علب الكريمات، ما سبب لها خسائر بحوالي 3 ملايين دينار. 

كما يؤثر المكان الذي تسكن فيه صاحبة المشروع على إمكانية توصيل الطلبات إلى مندوب التوصيل، مثلما حصل مع سهى التي تسكن بالقرب من الإمام الهادي في سامراء، وهي منطقة محجوزة أمنياً، يتطلب الدخول إليها تصريحاً. ما يضطر النساء في حالات مختلفة أو مشابهة للجوء إلى أقرابهن من الرجال للتوصيل، فكان أخوة سهى يقومون بنقل البضاعة إلى خارج المنطقة لتسليمها للمندوب، ولكن في معظم الأحيان كانوا يتذمرون ويتكاسلون عن توصيلها إليه ما أسفر في النهاية عن فشل مشروعها. 

كما أن هناك التحدي المتعلق بمعاملة الزبائن ممن يلغون الطلبات أو يرفضون استلامها عند وصول المندوب، فضلاً عن حالات النصب والطلبات الوهمية والمقالب الخبيثة التي تتعرض لها العاملات أونلاين. 

تقول فاطمة أنه في حالة رفض استلام الطلب أو إلغائه من قبل الزبون، تتعرض لخسارة تشمل أجرة التوصيل فضلاً عن تكلفة المواد والجهد والوقت الذي استثمرته في الكيك والمأكولات المطهوة حسب الطلب، والتي لا تستطيع الاحتفاظ بها وإعادة بيعها من جديد.  

أما هدى، فتعاني من المشكلة ذاتها، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالطلبات التي تتضمن صوراً مطبوعة على أكواب أو خشب وفقا لرغبة الزبون، إذ لن تكون قادرة على إعادة بيعها. إلا أن ميار تقول إن شركة التوصيل التي تتعامل معها لا تحسب عليها أجرة التوصيل عند عدم استلام الزبون للطلب وفقاً للاتفاق المبرم.  

غفران تواجه مشكلة مع العملاء أو الزبائن الذين لا يلتزمون بالدفع بعد تصميم اللوغوات لهم. ولكنها كغيرها من العاملات أونلاين، ليس بإمكانها الطلب من الزبائن الدفع مقدماً لأنهم سيرفضون، إذ أن هذه الثقافة غير موجودة في العراق حيث يتخوف الناس من الدفع مقدماً بسبب عدم توفر نظام دفع إلكتروني سهل ومتاح، وأيضاً بسبب انعدام ثقة العميل أو الزبون بجودة البضاعة أو الخدمة، أو بسبب تجارب شرائية سابقة سيئة تعرض فيها للغش.  

لكن في الغالب، إذا كانت الطلبية كبيرة، يؤخذ عربون مقدماً بشكل رصيد أو تحويل مالي عبر خدمة “زين كاش” المالية.  

إلى جانب ذلك كله، فالتقاليد الاجتماعية والدينية يمكن أن تؤثر على الإيرادات. فميار تقول إنها تواجه تراجعاً في المبيعات في شهري محرم وصفر، فلا يتبارك الناس بالشراء خلالهما لأنهما أشهر منحوسة. كما أن ضعف وقطع الإنترنت والأعياد والمناسبات الدينية وقطع الطرق والظروف الجوية، مثل موجات الغبار، تؤثر على عمليات البيع وتوصيل الطلبات. علاوة على كل هذا فإن هناك انعدام الأمان وتكرار السرقة، حيث تعرضت الزيوت التي أوصت عليها سعاد للسرقة مرات عدة في السيطرات، ويصل سعر اللتر الواحد منها إلى 600 ألف دينار. 

ومثل غالبية العراقيات المستخدمات لشبكات التواصل الاجتماعي، يطال العاملات أونلاين التنمر الإلكتروني والتحرش والابتزاز والإزعاجات والسخرية ومحاولات التشهير وتشويه السمعة، وحتى التهديد والمنافسة غير النزيهة والإيذاء.  

تقول هدى إن الزبون إذا نشر على وسائل التواصل الاجتماعي حل لغز القضية التي اشتراها، فإنها قد تتكبد خسائر تصل إلى 10 آلاف دولار، لذلك تضيف مع كل قضية بطاقة تحمل الحقوق والتعهّد. وقد حصل فعلاً أن نشر أحد الزبائن الحل على وسائل التواصل الاجتماعي فقدمت شكوى ضده في المحكمة جرّت إجراءات صعبة ومتعبة لكنها أثمرت بأن أقرت المحكمة تغريمه، فلا يتجرأ زبائنها على نشر الحلول خوفاً من التبعات. لكن هناك أيضاً جهات تجارية سرقت أفكار هدى وقلدتها بصورة تعتبر انتهاكاً لحقوق الملكية الفكرية، لكن ضعف الإجراءات القانونية وتطبيقها صعّب عليها تقديم شكوى للحصول على تعويض أو حق. 

حول وجود الضمانات القانونية للعمل أونلاين وحماية حقوق البائعات والمشترين، هناك عدة قوانين تنظم التواصل والمعاملات التجارية عبر الإنترنت، مثل قانون التوقيع الالكتروني والمعاملات الالكترونية رقم 78 لسنة 2012. إلى جانب ذلك فهناك قانون حماية المستهلك رقم (١) للعام 2010، الذي يضمن المعاملات التجارية حتى وأن كانت عبر الانترنت كما يضمن حقوق البائع، كما أشار الخبير القانوني علاء السيلاوي، وإن كانت هذه القوانين تحتاج إلى بعض النصوص التي تواكب التطور الجاري في هذا المجال.  

صعوبات حتى وهن في البيت.. 

أُرغِمَت فاطمة، وهي أم لثلاثة أطفال، على ترك المدرسة والزواج في سن السادسة عشرة بناءً على رغبة أهلها. وبعد سنوات من التعنيف المستمر من زوجها وعناء الحصول على الطلاق تعيش الآن مع أطفالها في منزل أهلها الذين لم يدعموها مادياً ولا معنوياً، ولم يوفروا لها الحماية، بل ضيقوا الخناق عليها. رفض طليقها دفع النفقة لأبنائه، وحتى لا يضطر للقيام بهذا، هددها بأنه سيأخذ الأطفال منها بالترهيب العشائري وبالتلاعب القانوني. وبفضل إصرارها وجهودها، وبعد محاولات عديدة، صارت تطبخ وتبيع المأكولات مثل الكبة والمعجنات والحلويات وغيرها عبر الإنترنت بحدود مدينتها. تقول فاطمة إن الربح مكّنها من تلبية بعض احتياجات أبنائها الضرورية. 

تثابر النساء العاملات عبر الإنترنت رغم التحديات، مثل الحصول على موافقة العائلة من أجل العمل، والتفاوض معهم، والبحث عن سبل لتجاوز القيود والعوائق التي يفرضونها عليهن، وتقليل حدة استغلالهم لهن. ففاطمة تقول إن أخاها بالكاد وافق على مشروعها ولم يسمح لها بالتعامل مع شركة توصيل. بدلاً من ذلك، وعدها بأنه سيوصل الطلبات بأجرته، ولكنه لم يلتزم، وكان هدفه عرقلة وإفشال مشروعها. ولكنها نجحت في إقناع أخوتها الآخرين بالسماح لها بالتعامل مع زوج صديقتها وجارهم لتوصيل الطلبات. 

وفاطمة ليست الوحيدة التي تواجه هذا التحدي، إذ تعاني ميار من القيود على خروجها للذهاب للموردين وشركات التوصيل. كما أن القيود العائلية التي تفرض على تعاملات النساء مع العالم الخارجي وتقلبات أمزجتهم تسهم في عرقلة استمرارية ونجاح مشاريعهن، مثل تأخير وصول الطلبات للزبائن بحيث لن يكونوا راضين ولن يرغبوا بالطلب منهن مرة أخرى. ويشاركنا محمود كزبون تجربة شرائه من صاحبة عمل أونلاين لبيع الصابون، فيقول إن شقيقها وزوج أختها هما اللذان يوصلان الطلبات من أجل أن يستفيدوا. وعندما لا يتواجدون، تتأخر الطلبات عدة أيام، ما دفعه إلى القرار بعدم الطلب منها مجدداً. 

ولا تقتصر هذه المضايقات على العائلة المباشرة، بل تمتد إلى دائرة الأقارب الأوسع أيضاً. فقد وجدت غفران نفسها عرضة لتدخلات أقاربها الذين يشككون دائماً في شرعية عملها عبر الإنترنت ويتساءلون دوماً عن طبيعة عملها الحقيقية التي تحقق لها هذا الدخل وهي جالسة في البيت، الأمر الذي يثير حفيظة عائلتها. 

تشعر النساء بالقلق والخوف من أقاربهن ومراقبتهم لهن، ومحاولاتهم التحريض والتأثير على أهاليهن بدافع الغيرة والتسلط من أجل إجبارهن على التخلي عن أعمالهن. فميار، أسوة بغفران، تخشى أن أقرابها قد يؤثرون على عائلتها ويجبرونها على إغلاق مشروعها. 

تفتقد معظم النساء لمساحة مخصصة لهن للعمل في المنزل. تقول غفران إن مكان عملها هو سريرها، بطول متر وربع، في غرفة مشتركة مع أختها وأمها. وتعمل في الضجة فلا يحترم أفراد عائلتها خصوصيتها أو حاجتها إلى هدوء وتركيز لإنجاز عملها، ما اضطرها لوضع سماعات الأذن وتشغيل الموسيقى ما أثر على سمعها وسبب لها الصداع المستمر. أما فاطمة التي تعيش مع أطفالها وأختها ووالدتها في غرفة واحدة، فلم تجد مكاناً تخصصه لعملها داخل منزل العائلة. كانت في البداية تستخدم مطبخ أهلها لكنهم كانوا يضايقونها حتى لا تستخدم أدوات المطبخ والثلاجة، ولكنها تمكنت من تجاوز ذلك بعد فترة بشرائها طباخاً وثلاجة وقنينة غاز، لكن لا تزال بحاجة إلى مطبخ خاص بها. 

كما أن التضييق يطال حتى رزقهن.  

فسواء كانت النساء عميلات أم بائعات، يستخدم معظمهن أرقام هواتف بأسماء الرجال في عوائلهن، وليس لديهن حسابات زين كاش خاصة بهن، مثل غفران التي تُحول أتعابها المالية إلى حساب زين كاش الخاص بوالدها. لا يسمح الأهل لها بعمل حساب خاص بها بحجة أنه سيترتب عليها شخصياً الخروج لاستلام المبالغ، وهذا الأمر سيكون صعباً عليها كونها تستخدم كرسي عجلات. لكن في الحقيقة، تقول، أنهم يصرون على استلام المبالغ فقط ليراقبوا مصدر دخلها ومعرفة مقداره والسيطرة عليه. 

أبعد من الأونلاين.. آمال للمستقبل 

بعد كل هذه الجهود والمحاولات المحفوفة بالمصاعب، تمكنت نساء كثيرات ممن حققن نجاحاً وربحاً في عالم العمل أونلاين من التفكير باستثمار نجاحاتهن في تحسين حياتهن وحياة أسرهن.  

فهدى قد أكسبتها القضايا التي تبيعها ما يكفي للسفر والتقدم للدراسة خارج العراق.. وما زالت تحصل على أرباح بيع القضايا التي صممتها وكتبتها. كان ذلك بعدما فتحت مكتبة للقرطاسية والهدايا في كرفان في بغداد ثم باعته لأحد أصدقائها فيما تزال تساعده عن بعد.. هي الآن تعمل على كتابة وتصميم المزيد من القضايا لكي تبيعها من خلال الانترنيت ومن خلال مكتبة الكرفان. 

أما ميار فتفكر بتوسعة مشروعها ليكون محل بالة معروفاً في أحد الأسواق الشعبية لتجمع المال وتحقق أحلاماً عديدة منها التخصص في الإخراج السينمائي. 

وفاطمة التي تعيش اليوم بيومه حالمة بالحصول على مطبخ خاص لتعد وجبات أكثر بخصوصية ودون مضايقة، تتمنى شراء بيت “تجاوز”(1) بجوار أهلها، بعد أن سدّ عملها احتياجات أطفالها، ولكن أيضاً.. تتمنى فاطمة الرجوع للدراسة.  

طموح ومصاعب وأحلام تعيشها العراقيات عبر عملهن أونلاين بحثاً عن استقلالية وأمان اقتصادي واجتماعي في واقع بلد يشكلن نصفه فيما يعشن على هامشه.  

** جميع الأسماء مستعارة 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تخصّصت هدى في دراستها الجامعية في علم الاجتماع، بيد أن شغفها بعلم الجريمة وعلم النفس وولعها بروايات أجاثا كريستي، قادها إلى كتابة ثماني قضايا جريمة وتصميم ملفات تحاكي السجلات الجنائية من معلومات عن المقتول والمشتبه بهم إلى بصمات أصابع وأدلة أخرى تجذب الأشخاص المهتمين بحل الألغاز ولعب أدوار المحققين، بهدف عرضها كلعبة للبيع من خلال حساب مشروعها على انستغرام.  

بدأت هدى مشروعها برأسمال قدره 100 دولار وعرضت اللعبة للبيع بسعر 10 آلاف دينار، وأقبل المهتمون بمثل هذه الألعاب على شرائها منها، حتى بلغت المبيعات في أحد الأسابيع 700 نسخة بأرباح صافية وصلت إلى 3 آلاف دولار. ومنذ افتتاحها للمشروع وحتى الوقت الحالي، تمكنت من بيع 50 ألف نسخة من اللعبة، إلى جانب البوسترات والملصقات والقرطاسية، وتنفيذ طلبات طباعة الصور على المواد والأدوات. 

نموذج لقضية كتبتها وصممتها هدى. المصدر – حساب المشروع على السوشيال ميديا 

أما ميار وهي طالبة في الصف السادس الإعدادي، فقد أنشأت مشروعها لبيع الملابس المستعملة (البالة) عبر الإنترنت نهاية عام 2022، حيث رأت أن بعض الشرائح المجتمعية تميل إلى شراء ملابس البالة لأن سعرها رخيص ولكونها مميزة. بدأت ميار المشروع برأسمال قدره 35 ألف دينار، فيما تقول إن الربح الذي تحققه يمكّنها من تلبية احتياجاتها الشخصية وسدّ مصروفها اليومي. 

في الوقت الذي تعاني النساء من انعدام فرص العمل في القطاع العام والخاص، حيث وصل معدل بطالة النساء في العراق عام 2021 إلى 28.2 بالمئة، وهو ضعف معدل بطالة الذكور الذي بلغ 14.7 بالمئة. وغالباً ما تعيش النساء العراقيات في مناطق تفتقر إلى الأعمال المتاحة والمناسبة، حيث يواجهن عراقيل كثيرة في سوق العمل، منها طول ساعات الدوام وغياب الحقوق وانعدام الأمان الوظيفي وتدني الأجور؛ وحتى حين تتوفر مثل هذه الأعمال، تعرقلهن القيود العائلية عن مزاولتها.  

لتجاوز هذه التحديات تتجه بعض النساء إلى العمل أونلاين، حيث يبعن منتجات وخدمات عبر الإنترنت بوساطة منصات التواصل الاجتماعي والمتاجر الإلكترونية، وهذه الأعمال تختلف أرباحها وفائدتها حسب أنماطها. وتتنوع من خدماتية مثل إدارة صفحات المتاجر الإلكترونية والعمل كمندوبات عبر الإنترنت وتقديم وخدمات الدعم والاستشارة النفسية، إلى تقديم دروس خصوصية وتدريبات اللياقة والرياضة، ومجالات أخرى مثل الصحافة والترجمة وكتابة المحتوى، بالإضافة إلى التجارة ببضائع معينة مثل الملابس والإكسسوارات ومواد العناية والتجميل والكتب والقرطاسية والهدايا والأدوات المنزلية. 

وعلى الرغم من تأمينه لاستقلالية ما للكثيرات، فإن هذا المجال لا يخلو من عقبات وتحديات سواء للنساء العاملات من خلال الانترنت، أو لمجتمع المستهلكين لخدماتهن ومنتجاتهن. كما أن هناك أعمالاً مثيرة للجدل لأسباب مختلفة، منها كتابة البحوث والتقارير وعمل الخيرة والاستخارة والأعمال القرآنية والعرافة، وبيع جلسات العلاج بما يعرف بـ”علم الطاقة” وتقديم الجنس أونلاين، إلى جانب بيع منتجات دون أن تخضع لرقابة وفحص لضمان السلامة، مثل تحضير وبيع الطعام أونلاين؛ مع العلم أن قانون الصحة العامة رقم (89) لسنة 1981 يُدرج تعليمات واضحة بشأن الحاجة لاستصدار إجازة عمل صحية للعاملة في البيت من الجهات الصحية المختصة.  

العمل أونلاين.. تخطيط وترويج ثم ربح 

مثل أي مشروع تجاري، يحتاج العمل أونلاين دراسةً وتخطيطاً كما وضحت لنا بعض النساء اللاتي يعملن عبر الإنترنت، بدءاً من فهم سلوك المستهلكين والعملاء إلى وضع رأسمال مناسب، يليه البحث الدقيق والشامل عن موردين للمواد والبضائع، وهي تعاملات تشوبها تحديات شبيهة بأي تجارة. 

تقول سعاد، وهي صاحبة صفحة لبيع المنتجات التجميلية الطبيعية، إنها بدأت بالحصول على المواد الأولية لصنع منتجاتها من العشابين والعطارين، ولكن مع تطور ونجاح مشروعها أصبحت بحاجة إلى مواد وزيوت أصلية لا تتوافر محلياً فذهبت إلى استيرادها من بريطانيا ومصر. أما ميار فتحصل على بضاعتها من موردي أربيل، وتتجنب التعامل مع تجار بغداد الذين يأتون ببضاعة بالة سيئة من أربيل ثم يبيعونها بأسعار غالية في مناطق متعددة، منها باب الشيخ والكفاح. 

كون العالم الافتراضي فضاء للبيع والشراء، فالحاجة لخطة تسويق كاملة تعد من مقومات العمل أونلاين الأساسية. تبدأ بإنشاء حسابات على جميع المنصات واختيار اسم مميز وتصميم “لوغو” فريد، وتصوير ونشر المنتجات والبضائع عبر هذه الحسابات لعرضها مع مواصفاتها وخصائصها وأسعارها، وتوضيح سياسات الاسترجاع والاستبدال والتوصيل والدفع وغيرها، ونشر محتوى يوضح الخدمات بأسلوب واضح وجذاب. 

بعد ذلك، يأتي دور الترويج، والذي يمكن أن يبدأ بمشاركة صفحات المشروع مع الأصدقاء والمعارف، ليشاركوها بدورهم على حساباتهم لزيادة عدد المتابعين. اتباع هذه الطريقة مكّن ميار من الحصول على 300 متابع في أول يوم من إنشاء حساب مشروعها. 

تعتمد أخريات الترويج عن طريق إعلانات مموّلة والتواصل مع فتيات مؤثرات يتابعهن الآلاف بمقابل مالي أو من خلال تقديم المنتجات والبضائع لهن كهدايا؛ وترويج هؤلاء المؤثرات لبضائع غيرهن من النساء يعتبر بدوره أحد أنشطة العمل عبر الإنترنت. 

إذن فبالإضافة إلى التعاطي مع الجانب التجاري، فالجانب التسويقي يتطلب وقتاً وجهداً من النساء، إذن من المهم أن يكون نشر الريلز والستوريات والمنشورات بصورة مرتبة ومنظمة. كما ينبغي التفاعل بشكل مستمر مع استفسارات المتابعين والعملاء والاستجابة السريعة لطلباتهم، والتعامل معهم بلباقة واحترام والسعي لتحقيق رضاهم ومساعدتهم. كما تعمل الفتيات على تغليف الطلبات بأغلفة مناسبة ومرتبة مصحوبة ببطاقة أو ورقة تعريفية تحمل اسم المشروع واللوغو. إلى جانب ذلك، هناك حاجة لتعزيز مستمر لعمليات التعلم والتطوير لضمان مواكبة التغيرات في عمليات العرض والطلب، مثلاً عن طريق متابعة المنافسين. 

وعندما تزداد المبيعات ويتمكن المشروع من تحقيق نجاح، تذهب النساء إلى تقديم عروض وتخفيضات مناسبة وهدايا، كما ينشرن شهادات ومراجعات من العملاء والزبائن، لأن ذلك سيعزز من مستوى الثقة والشفافية، ويسهم في الحفاظ على التواصل المستدام والاعتزاز بالعملاء، تقول بعض ممن قابلناهن. 

يعني كل هذا، وأنه خلافاً للاعتقاد السائد بأن العمل أونلاين “مرن وسهل”، فإنه لا يمكن النساء دائماً من تحقيق التوازن بين الحياة العملية والأعمال الرعائية لأن طبيعة الأعمال وظروف النساء تختلف. فسعاد تعمل بجد ليلاً ونهاراً لكيلا تشعر بالتقصير ما يضع عبئاً مزدوجاً عليها، وغالباً ما تسهر لإكمال الكميات والطلبات، فيما يساعدها زوجها في تجهيز الطلبات أحياناً. 

كما يمكن للعمل أونلاين أن يؤثر على التعليم، وهذا ما حصل مع ميار، إذ أثرت الالتزامات المتعلقة بمشروعها على تراجع مستواها الدراسي.  

أما قصة غفران فتظهر تأثيرها على الصحة كذلك. 

حصلت غفران حديثاً على بكالوريوس في التربية وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة وتستخدم الكرسي المتحرك لذلك لا تستطيع العمل خارج المنزل. لكن منذ السابعة عشرة طورت غفران هواية انتاج تصاميم و”لوغوات” لتحولها لاحقاً إلى مصدر دخل عبر الإنترنت عندما احتاجت لمصاريف في الجامعة. واليوم، وبتأمينها مبالغ شهرية تتراوح بين 150-400 ألف دينار، تمكنت من أن تستقل مالياً وأن يلبي عملها تقريباً معظم متطلباتها من الأكل والملبس والمكملات الغذائية والدواء والحاجات الشخصية. 

لكن هذا يرافقه ثمن صحي باهظ إذا يسبب العمل لها الإجهاد لكونها تعاني من ضمور العضلات ما يؤدي إلى تدهور حالتها الصحية. إلا أنها مضطرة للعمل، قالت لنا، وذلك لكون معونة الرعاية تبلغ 125 ألف دينار فقط ولا تكفي علاجها أصلاً. 

صعوبات التوصيل والزبائن.. ومحرم 

يتأثر عمل النساء أونلاين بالكثير من العوامل المتعلقة بمحيطها والجهات التي تتعامل معها، من موردين إلى زبائن، ما يجعل دخلها غير مستقر وغير ثابت، بل وتكون عرضة للخسارة مراراً. 

تعد خدمة توصيل البضائع التي تباع أونلاين أساس عملهن واستمراره، لذلك فمن الضروري التعامل مع شركة توصيل مناسبة والتحقق من سياساتها وأسعارها، وضمان جودة خدمتها وسرعة توصيلها وحفاظها على سلامة الطلبات.  

بيد أن النساء العاملات أونلاين يواجهن كثيراً من العقبات في هذا الجانب.  

فسعاد كانت تجاربها مع شركات التوصيل سيئة، فقد روت لنا كيف تسببت في تلف الطلبات وكسر علب الكريمات، ما سبب لها خسائر بحوالي 3 ملايين دينار. 

كما يؤثر المكان الذي تسكن فيه صاحبة المشروع على إمكانية توصيل الطلبات إلى مندوب التوصيل، مثلما حصل مع سهى التي تسكن بالقرب من الإمام الهادي في سامراء، وهي منطقة محجوزة أمنياً، يتطلب الدخول إليها تصريحاً. ما يضطر النساء في حالات مختلفة أو مشابهة للجوء إلى أقرابهن من الرجال للتوصيل، فكان أخوة سهى يقومون بنقل البضاعة إلى خارج المنطقة لتسليمها للمندوب، ولكن في معظم الأحيان كانوا يتذمرون ويتكاسلون عن توصيلها إليه ما أسفر في النهاية عن فشل مشروعها. 

كما أن هناك التحدي المتعلق بمعاملة الزبائن ممن يلغون الطلبات أو يرفضون استلامها عند وصول المندوب، فضلاً عن حالات النصب والطلبات الوهمية والمقالب الخبيثة التي تتعرض لها العاملات أونلاين. 

تقول فاطمة أنه في حالة رفض استلام الطلب أو إلغائه من قبل الزبون، تتعرض لخسارة تشمل أجرة التوصيل فضلاً عن تكلفة المواد والجهد والوقت الذي استثمرته في الكيك والمأكولات المطهوة حسب الطلب، والتي لا تستطيع الاحتفاظ بها وإعادة بيعها من جديد.  

أما هدى، فتعاني من المشكلة ذاتها، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالطلبات التي تتضمن صوراً مطبوعة على أكواب أو خشب وفقا لرغبة الزبون، إذ لن تكون قادرة على إعادة بيعها. إلا أن ميار تقول إن شركة التوصيل التي تتعامل معها لا تحسب عليها أجرة التوصيل عند عدم استلام الزبون للطلب وفقاً للاتفاق المبرم.  

غفران تواجه مشكلة مع العملاء أو الزبائن الذين لا يلتزمون بالدفع بعد تصميم اللوغوات لهم. ولكنها كغيرها من العاملات أونلاين، ليس بإمكانها الطلب من الزبائن الدفع مقدماً لأنهم سيرفضون، إذ أن هذه الثقافة غير موجودة في العراق حيث يتخوف الناس من الدفع مقدماً بسبب عدم توفر نظام دفع إلكتروني سهل ومتاح، وأيضاً بسبب انعدام ثقة العميل أو الزبون بجودة البضاعة أو الخدمة، أو بسبب تجارب شرائية سابقة سيئة تعرض فيها للغش.  

لكن في الغالب، إذا كانت الطلبية كبيرة، يؤخذ عربون مقدماً بشكل رصيد أو تحويل مالي عبر خدمة “زين كاش” المالية.  

إلى جانب ذلك كله، فالتقاليد الاجتماعية والدينية يمكن أن تؤثر على الإيرادات. فميار تقول إنها تواجه تراجعاً في المبيعات في شهري محرم وصفر، فلا يتبارك الناس بالشراء خلالهما لأنهما أشهر منحوسة. كما أن ضعف وقطع الإنترنت والأعياد والمناسبات الدينية وقطع الطرق والظروف الجوية، مثل موجات الغبار، تؤثر على عمليات البيع وتوصيل الطلبات. علاوة على كل هذا فإن هناك انعدام الأمان وتكرار السرقة، حيث تعرضت الزيوت التي أوصت عليها سعاد للسرقة مرات عدة في السيطرات، ويصل سعر اللتر الواحد منها إلى 600 ألف دينار. 

ومثل غالبية العراقيات المستخدمات لشبكات التواصل الاجتماعي، يطال العاملات أونلاين التنمر الإلكتروني والتحرش والابتزاز والإزعاجات والسخرية ومحاولات التشهير وتشويه السمعة، وحتى التهديد والمنافسة غير النزيهة والإيذاء.  

تقول هدى إن الزبون إذا نشر على وسائل التواصل الاجتماعي حل لغز القضية التي اشتراها، فإنها قد تتكبد خسائر تصل إلى 10 آلاف دولار، لذلك تضيف مع كل قضية بطاقة تحمل الحقوق والتعهّد. وقد حصل فعلاً أن نشر أحد الزبائن الحل على وسائل التواصل الاجتماعي فقدمت شكوى ضده في المحكمة جرّت إجراءات صعبة ومتعبة لكنها أثمرت بأن أقرت المحكمة تغريمه، فلا يتجرأ زبائنها على نشر الحلول خوفاً من التبعات. لكن هناك أيضاً جهات تجارية سرقت أفكار هدى وقلدتها بصورة تعتبر انتهاكاً لحقوق الملكية الفكرية، لكن ضعف الإجراءات القانونية وتطبيقها صعّب عليها تقديم شكوى للحصول على تعويض أو حق. 

حول وجود الضمانات القانونية للعمل أونلاين وحماية حقوق البائعات والمشترين، هناك عدة قوانين تنظم التواصل والمعاملات التجارية عبر الإنترنت، مثل قانون التوقيع الالكتروني والمعاملات الالكترونية رقم 78 لسنة 2012. إلى جانب ذلك فهناك قانون حماية المستهلك رقم (١) للعام 2010، الذي يضمن المعاملات التجارية حتى وأن كانت عبر الانترنت كما يضمن حقوق البائع، كما أشار الخبير القانوني علاء السيلاوي، وإن كانت هذه القوانين تحتاج إلى بعض النصوص التي تواكب التطور الجاري في هذا المجال.  

صعوبات حتى وهن في البيت.. 

أُرغِمَت فاطمة، وهي أم لثلاثة أطفال، على ترك المدرسة والزواج في سن السادسة عشرة بناءً على رغبة أهلها. وبعد سنوات من التعنيف المستمر من زوجها وعناء الحصول على الطلاق تعيش الآن مع أطفالها في منزل أهلها الذين لم يدعموها مادياً ولا معنوياً، ولم يوفروا لها الحماية، بل ضيقوا الخناق عليها. رفض طليقها دفع النفقة لأبنائه، وحتى لا يضطر للقيام بهذا، هددها بأنه سيأخذ الأطفال منها بالترهيب العشائري وبالتلاعب القانوني. وبفضل إصرارها وجهودها، وبعد محاولات عديدة، صارت تطبخ وتبيع المأكولات مثل الكبة والمعجنات والحلويات وغيرها عبر الإنترنت بحدود مدينتها. تقول فاطمة إن الربح مكّنها من تلبية بعض احتياجات أبنائها الضرورية. 

تثابر النساء العاملات عبر الإنترنت رغم التحديات، مثل الحصول على موافقة العائلة من أجل العمل، والتفاوض معهم، والبحث عن سبل لتجاوز القيود والعوائق التي يفرضونها عليهن، وتقليل حدة استغلالهم لهن. ففاطمة تقول إن أخاها بالكاد وافق على مشروعها ولم يسمح لها بالتعامل مع شركة توصيل. بدلاً من ذلك، وعدها بأنه سيوصل الطلبات بأجرته، ولكنه لم يلتزم، وكان هدفه عرقلة وإفشال مشروعها. ولكنها نجحت في إقناع أخوتها الآخرين بالسماح لها بالتعامل مع زوج صديقتها وجارهم لتوصيل الطلبات. 

وفاطمة ليست الوحيدة التي تواجه هذا التحدي، إذ تعاني ميار من القيود على خروجها للذهاب للموردين وشركات التوصيل. كما أن القيود العائلية التي تفرض على تعاملات النساء مع العالم الخارجي وتقلبات أمزجتهم تسهم في عرقلة استمرارية ونجاح مشاريعهن، مثل تأخير وصول الطلبات للزبائن بحيث لن يكونوا راضين ولن يرغبوا بالطلب منهن مرة أخرى. ويشاركنا محمود كزبون تجربة شرائه من صاحبة عمل أونلاين لبيع الصابون، فيقول إن شقيقها وزوج أختها هما اللذان يوصلان الطلبات من أجل أن يستفيدوا. وعندما لا يتواجدون، تتأخر الطلبات عدة أيام، ما دفعه إلى القرار بعدم الطلب منها مجدداً. 

ولا تقتصر هذه المضايقات على العائلة المباشرة، بل تمتد إلى دائرة الأقارب الأوسع أيضاً. فقد وجدت غفران نفسها عرضة لتدخلات أقاربها الذين يشككون دائماً في شرعية عملها عبر الإنترنت ويتساءلون دوماً عن طبيعة عملها الحقيقية التي تحقق لها هذا الدخل وهي جالسة في البيت، الأمر الذي يثير حفيظة عائلتها. 

تشعر النساء بالقلق والخوف من أقاربهن ومراقبتهم لهن، ومحاولاتهم التحريض والتأثير على أهاليهن بدافع الغيرة والتسلط من أجل إجبارهن على التخلي عن أعمالهن. فميار، أسوة بغفران، تخشى أن أقرابها قد يؤثرون على عائلتها ويجبرونها على إغلاق مشروعها. 

تفتقد معظم النساء لمساحة مخصصة لهن للعمل في المنزل. تقول غفران إن مكان عملها هو سريرها، بطول متر وربع، في غرفة مشتركة مع أختها وأمها. وتعمل في الضجة فلا يحترم أفراد عائلتها خصوصيتها أو حاجتها إلى هدوء وتركيز لإنجاز عملها، ما اضطرها لوضع سماعات الأذن وتشغيل الموسيقى ما أثر على سمعها وسبب لها الصداع المستمر. أما فاطمة التي تعيش مع أطفالها وأختها ووالدتها في غرفة واحدة، فلم تجد مكاناً تخصصه لعملها داخل منزل العائلة. كانت في البداية تستخدم مطبخ أهلها لكنهم كانوا يضايقونها حتى لا تستخدم أدوات المطبخ والثلاجة، ولكنها تمكنت من تجاوز ذلك بعد فترة بشرائها طباخاً وثلاجة وقنينة غاز، لكن لا تزال بحاجة إلى مطبخ خاص بها. 

كما أن التضييق يطال حتى رزقهن.  

فسواء كانت النساء عميلات أم بائعات، يستخدم معظمهن أرقام هواتف بأسماء الرجال في عوائلهن، وليس لديهن حسابات زين كاش خاصة بهن، مثل غفران التي تُحول أتعابها المالية إلى حساب زين كاش الخاص بوالدها. لا يسمح الأهل لها بعمل حساب خاص بها بحجة أنه سيترتب عليها شخصياً الخروج لاستلام المبالغ، وهذا الأمر سيكون صعباً عليها كونها تستخدم كرسي عجلات. لكن في الحقيقة، تقول، أنهم يصرون على استلام المبالغ فقط ليراقبوا مصدر دخلها ومعرفة مقداره والسيطرة عليه. 

أبعد من الأونلاين.. آمال للمستقبل 

بعد كل هذه الجهود والمحاولات المحفوفة بالمصاعب، تمكنت نساء كثيرات ممن حققن نجاحاً وربحاً في عالم العمل أونلاين من التفكير باستثمار نجاحاتهن في تحسين حياتهن وحياة أسرهن.  

فهدى قد أكسبتها القضايا التي تبيعها ما يكفي للسفر والتقدم للدراسة خارج العراق.. وما زالت تحصل على أرباح بيع القضايا التي صممتها وكتبتها. كان ذلك بعدما فتحت مكتبة للقرطاسية والهدايا في كرفان في بغداد ثم باعته لأحد أصدقائها فيما تزال تساعده عن بعد.. هي الآن تعمل على كتابة وتصميم المزيد من القضايا لكي تبيعها من خلال الانترنيت ومن خلال مكتبة الكرفان. 

أما ميار فتفكر بتوسعة مشروعها ليكون محل بالة معروفاً في أحد الأسواق الشعبية لتجمع المال وتحقق أحلاماً عديدة منها التخصص في الإخراج السينمائي. 

وفاطمة التي تعيش اليوم بيومه حالمة بالحصول على مطبخ خاص لتعد وجبات أكثر بخصوصية ودون مضايقة، تتمنى شراء بيت “تجاوز”(1) بجوار أهلها، بعد أن سدّ عملها احتياجات أطفالها، ولكن أيضاً.. تتمنى فاطمة الرجوع للدراسة.  

طموح ومصاعب وأحلام تعيشها العراقيات عبر عملهن أونلاين بحثاً عن استقلالية وأمان اقتصادي واجتماعي في واقع بلد يشكلن نصفه فيما يعشن على هامشه.  

** جميع الأسماء مستعارة