الـ"ديلر" يأتي بـ"البطة".. لحظات الرعب قبل "الشرب" في البصرة 

حسن شهد

23 تشرين الثاني 2023

لا يملك من يريد الحصول على مشروب كحوليّ في البصرة سوى خيارين، إما الذهاب إلى شارع بشار في المدينة القديمة، حيث تتجمع العصابات والخارجون على القانون، أو التعاقد مع ديلر الطبقة المتوسطة المدعو "يعقوب بطة".. عن الشرب ولحظات الرعب التي تسبقه في البصرة.

في ليل صيفيّ رطب من ليالي “طبّاخات الرطب” الخانقة من عام 2018، كنت أقف مع اثنين من أصدقائي حاملين حقائبنا الفارغة قرب أحد الفنادق في منطقة بريهة وسط البصرة ننتظر الحصول على سائل الانتشاء. 

انتظرنا 15 دقيقة واقترب ميل الساعة من السابعة، بينما يراقب رفيقي طبيب الأسنان هاتفه ويكرّر اتصاله برقم مغلق، حتى أجابه رجل ليسأله: “منو انت؟”. 

قال له صديقي “أنا من طرف سامي أبو الألنترا. أريد شرب”. 

سأله الرجل عن نوعية المشروب الذي يطلبه، فأخبره بأنه يريد زجاجتي فودكا من نوع “غراي غوس” و15 عبوة بيرة من نوع “بدوايزر”. 

رد الرجل “حسابك 275 ألف دينار”. 

كان ذلك المبلغ يعادل ثلاثة أضعاف قيمة هذا المشروب في السوق الحرة، لكن لم يكن أمامنا أن نرفض الصفقة، فقبلنا بذلك السعر، وواصلنا الانتظار حتى يأتي الـ”ديلر” ومعه البضاعة. 

بعد لحظات، توقفت بقربنا سيارة سوداء من نوع “بطة”. مد الرجل ذراعه يطلب المال كاملاً ثم عدّ المبلغ، ورمى علينا كيساً أسود ومضى. 

وضعنا الكيس في واحدة من الحقائب من دون أن نفتحه، وعدنا أدراجنا نحو المنزل. 

اتضح لاحقاً أن الرجل استبدل طلبنا بفودكا “أبسولوت” وبيرة “تيبورغ” رديئة. 

ولا يملك من يريد الحصول على مشروب كحولي في البصرة سوى خيارين، إما الذهاب إلى شارع بشار في المدينة القديمة، حيث تتجمع العصابات والخارجون على القانون، أو التعاقد مع ديلر الطبقة المتوسطة المدعو “يعقوب بطة”. 

وإذا ارتهن الشراء بيعقوب، فإن المشروب لا يأتي دائماً كما يُرام، وإنما تبقى نوعيته وأسعاره مرتبطة بمزاج سائق البطة، فإذا كان في مزاج سيئ يجلب إلى الزبون مشروباً مغشوشاً وبأسعار مرتفعة، أما إذا كان مزاجه رائقاً فقد يبيع زجاجات فاخرة بأسعارها الطبيعية. 

تأجيل الحظر 

بعد سقوط النظام السابق في 2003، كانت نيران الأسلحة المنفلتة هي التهديد الأكبر لبائعي الخمور، ترافقها قرارات الحكومات المحلية في المحافظات، ومنها البصرة، وذلك ما جعل الحصول على مشروب كحولي أمراً معقداً للغاية. 

واستمر الأمر كذلك حتى جاء يوم 19 تشرين الأول 2016، حين صوت مجلس النواب العراقي على قانون واردات البلديات الذي تضمن مادة تحظر بيع واستيراد وإنتاج المشروبات الكحولية، مثيراً احتجاجات من قبل الأقليات المسيحية والإيزيدية والمندائية، لكن فؤاد معصوم رئيس الجمهورية آنذاك، رفض المصادقة على القانون قبل حذف هذه المادة منه بعد موجة الاعتراضات، ما أدى إلى تأجيل نشره في الجريدة الرسمية وإيقاف سريانه. 

غير أن الشارع كان بعيداً إلى حدٍ ما عن تلك المساجلة، فمن يتحكم بحق المواطن في حرية شراء المشروب هم شرطة المدينة والعرف الاجتماعي، لذا طالما شهدنا دوريات تابعة لشرطة البصرة، تنصب نقاط تفتيش مفاجئة تفتش فيها السيارات بحثاً عن حيازة المشروب، واقتياد الحائز إلى مركز الشرطة وحبسه ليوم واحد مع التوقيع على تعهد بعدم الشراء مرّة أخرى. 

“درع الجنوب” 

خططت الدولة جيداً لمنع وصول الخمور إلى محافظات الفرات الأوسط والجنوب، حيث أنشأت نقطة تفتيش على الطريق السريع بين بغداد والبصرة، وبالتحديد قبل محافظة الديوانية بكيلومترات عدة، تدعى “سيطرة درع الجنوب”. 

كانت لهذه السيطرة مهمة واحدة هي البحث عن حائزي المشروبات الكحولية، وهذا ما يجعل عملية إدخال زجاجة واحدة من الكحول إلى تلك المناطق شبه مستحيلة. 

وعلى الرغم من ذلك تصل إلى الديلرية في كل المحافظات حصة جيدة من المشروبات المهربة، والتي تكون بالاتفاق مع المسؤولين عن الأمن بالضرورة، وهذا ما يجعل عملية البيع محتكرة على أناس قلائل يتحكمون بالأسعار. 

تحدث علاء (32 عاماً) لـ”جمّار” عن الطريقة التي كان يعتمدها مع رفاقه لتمرير المشروبات عبر السيطرة. 

يتم الاتفاق قبل الانطلاق من بغداد مع أحد العناصر الأمنية المسؤولين عن تحديد المركبات التي يجب أن تخضع للتفتيش. 

وفي العادة تستثنى السيارات التي تنقل نساء أو رجالاً كباراً في السن من التفتيش، ومع النسب التي يحصل عليها رجل الأمن هذا، يكون الطريق مفتوحاً أمام المهرّبين، وفي الأيام التي لا يكون فيها هذا العنصر في الواجب، لا تتم عملية النقل أبداً. 

ولكن في 16 آب 2019 صدر قرار عن ياسين الياسري وزير الداخلية الأسبق، برفع سيطرة درع الجنوب، وقابل ذلك اعتراض من الحكومة المحلية في الديوانية. 

ثم شهد عام 2022 افتتاح أول محل لبيع المشروبات الكحولية بشكل علني في الديوانية، غير أنه تعرض لهجوم بصاروخ “آر.بي.جي” من جهة مجهولة بعد مدة من افتتاحه. 

في الوقت الحالي، أزيلت السيطرة بشكل تام، وتم افتتاح مخازن لبيع المشروبات الكحولية في مكان خارج المدينة على الطريق الرابط بين الديوانية والنجف. 

أما في البصرة، فقد صدر قرار في 8 آب 2009، وهو اليوم الذي انتهت فيه الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، بمنع بيع المشروبات الكحولية. 

وكان القرار قد صدر عن مجلس محافظة البصرة، وقد صرح في وقته أحمد السليطي، نائب رئيس المجلس، بأن قرار منع المشروبات في البصرة من صلاحيات المحافظة وفقاً للدستور، وأن أي إجازة منحت لمحال بيع الخمور في البصرة ستكون لاغية بفعل هذا القرار. 

وتضمن القرار غرامات تصل إلى خمسة ملايين دينار وعقوبة السجن لمدة تصل إلى ستة أشهر. 

عودة الحظر 

في 20 شباط 2023، نشرت الجريدة الرسمية قانون واردات البلديات رقم 1 لسنة 2023، متضمناً المادة 14 التي تحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بأنواعها كافة. 

وتنص الفقرة الثانية من المادة المذكورة على فرض عقوبات على من يتصرف خلافاً لهذا النص وغرامة مالية لا تقل عن عشرة ملايين دينار عراقي ولا تزيد على 25 مليوناً. 

وبعد نشر القانون في الجريدة الرسمية، رُفعت 12 دعوى قضائية ضده، وفق ما أعلن في نهاية آذار الماضي جوزيف صليوا نائب رئيس حزب اتحاد بيث نهرين الذي هو أحد المشتكين. 

ورُفعت دعاوى أيضاً من موظفين ومديرين وشخصيات رسمية في الحكومة وسياسيين وتجار أضرت بهم هذه المادة القانونية. 

وأعلنت المحكمة الاتحادية في 28 آب 2023 رد الطعون المتعلقة بدستورية المادة المذكورة، مشيرة إلى أن “الحكم جاء لعدم وجود مخالفة دستورية وصدر بالأكثرية”. 

حوار التفجيرات 

يذكر الكاتب كريم راهي في أحد كتبه أن بائعي المشروبات الكحولية ومشتريها “قدموا شهداء أكثر مما قدم حزب الدعوة”. 

وكتب راهي هذه الجملة استناداً إلى موقف مرَّ به عندما مدَّ يده عبر نافذة صغيرة تتوسط محلاً مغلفاً كلياً بالحديد، ليلاحظ أن يد البائع لفتى صغير، فسأله عن والده، فأجابه بأنه استشهد في أحد الانفجارات التي استهدفت محال بيع المشروبات. 

وعانى ممتهنو هذه المهنة من مضايقات وتهديدات وقتل واعتقال منذ 2003 حتى الآن. 

وآخر تلك الاستهدافات سلسلة انفجارات بعبوات ناسفة أمام محالهم ببغداد. 

وتعد هذه التفجيرات جزءاً من “الحوار” بين الباعة وفارضي الإتاوات من الجهات المتنفذة، ما اضطر الباعة للعودة إلى شكل المحال أيام الحرب الطائفية، حيث يُغلف المحل كله بالحديد، وتُترك نافذة صغيرة للبيع. 

وفي البصرة يتعرض الديلرية للاعتقال والمساومة بشكل دائم، حتى صار معروفاً الثمن الذي يدفعه الديلر ليخرج كلما يتم الإمساك به. 

ولم يكن الوضع هكذا قبل 2003، فقد كانت محال المشروبات الكحولية مرخصة من الدولة ومحمية منها أيضاً، وتتواجد في الأماكن الحيوية في المدن. 

في شارع الجزائر الحيوي بالبصرة، كان هناك محل لبيع المشروبات الكحولية بديكور خشبي جميل، وواجهة زجاجية براقة. 

يقول عاصم، الذي يعمل في هذا المجال منذ 15 عاماً، لـ”جمّار” إن هناك تغيراً سريعاً في أذواق العراقيين في الشراب يتبع زيادة الأسعار، ففي عام 2018 كانت عبوة البيرة من نوع “هينيغن” تباع بـ1500 دينار، بينما الآن يصل سعرها إلى خمسة آلاف. 

هذا الارتفاع في الأسعار جعل الناس تعود بسرعة إلى المشروب المحلي الرخيص، مثل العرق “أبو القبق الأحمر” والذي أيضاً تضاعف سعره من 2000 إلى 6000 دينار لكل 250 مل خلال آخر ثلاث سنوات، لكنه مع ذلك يفي بالغرض عند الأخذ بنظر الاعتبار أن خمس زجاجات بيرة ستكلف 20 دولاراً (نحو 32 ألف دينار) على الأقل لقضاء ليلة سمر واحدة. 

ويشعر عاصم بالحزن إزاء انتشار أنواع رديئة من المشروبات بسبب رخص أسعارها واضطراره إلى بيعها مثل ويسكي “لويس” و”بي.جي”، وهي نوعيات من الويسكي الرديء، يتم تعبئتها في معامل داخل السفن في عرض البحر بعيداً عن الرقابة والقوانين. 

كله مغشوش 

مع ارتفاع سعر المشروبات الكحولية وثمن تهريبها، الذي يصل لضعف سعر المشروب الأصلي، والضرائب المتكررة التي تفرض عليه بشكل قانوني، والإتاوات التي يتم دفعها للمتنفذين، توصل العاملون في هذا القطاع إلى طريقة ربح جديدة، حيث يتم غش المشروبات داخل معامل خاصة في أربيل وبغداد. 

يقول برخو نقلاً عن أصدقائه من الباعة، إنهم يقومون بغش مشروب العرق بإضافة كمية معينة من الماء المقطر بضخه عبر المحقنة (السرنجة) ببطء إلى داخل الزجاجة، وبذلك يمكن أن تكون نسبة المشروب الحقيقي إلى نسبة الماء المقطر الثلث للثلثين من العرق. 

وهذا يحدث أيضاً مع الويسكي والفودكا، وكل له طريقته الخاصة. 

ويقول سامي، أحد تجار المشروبات الكحولية، لـ”جمّار” إن المبلغ الحقيقي للضرائب -عندما دفعها الباعة بشكل رسمي- غير معروف أو ثابت، ففي كل مرة يطلب موظف دائرة الضريبة رقماً خيالياً يدعي أنه متراكم من ديون حول ضريبة المهنة وأجور نفايات. 

“تتم مساومتنا على ذلك حتى يتم تخفيض المبلغ إلى رقم يمكن دفعه، وهذا الرقم لا يعد سوى مبلغ لإبعاد موظف الضريبة عن طريقنا، فلا يتم تسجيله في وصولات أو في دائرة الضريبة”، يضيف سامي. 

الفتاة والديلر 

تذوقت شيماء الويسكي لأول مرة في بيت صديقتها سارة بعد تردّد كبير وبعد أن أخبرتها الصديقة بأن طعم الويسكي شبيه بخليط من الزيت والملح والليمون. 

وعندما تناولت شيماء أول رشفة من الويسكي، ارتدت عضلات وجهها وانسحب فكها الأسفل إلى الخلف إثر الطعم المفاجئ، ولكن فيما بعد صارت تدوّر سائل الويسكي في جوف فمها قبل أن تبتلعه لتنبه عضلات الوجه لما هو قادم. 

وبدأت شيماء تستسيغ شرب الويسكي لاحقاً، إلا أنها واجهت صعوبة بالغة في كيفية الحصول عليه في البصرة. 

وبعد بحث طويل، حظيت بديلر محترم، سائق تاكسي اسمه فائز نمت بينهما علاقة ثقة بعد تكرار المشاوير معه. 

يشتري فائز المشروبات الكحولية من شارع بشار، ويتسلل ليلاً قرب سور بيت شيماء ليرمي المشروب في الحديقة، بعدما كان قد حصل على أمواله عبر تقنية “زين كاش”. 

استبدال الـ”بدوايزربـ”الكرستال 

بحسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في 2018، فإن استهلاك الكحول في العراق منخفض جداً مقارنة بالدول المجاورة، حيث يشرب المستهلكون فقط 0.2 لتر من الكحول النقي سنوياً. 

وأشار التقرير إلى أن نسبة المستهلكين من إجمالي سكان العراق 0.8 بالمئة. 

ولا شك أن قرارات المنع والملاحقة والتضييق تلعب دوراً أساسياً في تقليل كميات الكحول الواصلة إلى المستهلكين، كما أنها جعلت هذه التجارة صعبة على المهربين والديلرية. 

ومع التكاليف المرتفعة للمتاجرة بالمشروبات الكحولية، راح المهربون يبحثون عن مهنة أفضل وبهامش ربح عال، فوجدوا مهنة بيع المخدرات. 

وهذا التحول يعد من الأسباب الرئيسة التي جعلت العراق بلداً مستهلكاً للمخدرات في غضون سنوات قليلة، إذ تظهر إحصائيات غير رسمية أن نسبة التعاطي بين الفئات الشبابية تتخطى 40 بالمئة. 

لكن مع كل ذلك، اختار يعقوب ومعه ديلرية آخرون الاستمرار في بيع الخمور خلسة بدلاً من سلوك طريق المخدرات المحفوف بمخاطر أكبر، واخترت أنا ورفاقي انتظار الزجاجات في شوارع البصرة بدلاً من انتظار المساحيق والحبوب المدمرة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في ليل صيفيّ رطب من ليالي “طبّاخات الرطب” الخانقة من عام 2018، كنت أقف مع اثنين من أصدقائي حاملين حقائبنا الفارغة قرب أحد الفنادق في منطقة بريهة وسط البصرة ننتظر الحصول على سائل الانتشاء. 

انتظرنا 15 دقيقة واقترب ميل الساعة من السابعة، بينما يراقب رفيقي طبيب الأسنان هاتفه ويكرّر اتصاله برقم مغلق، حتى أجابه رجل ليسأله: “منو انت؟”. 

قال له صديقي “أنا من طرف سامي أبو الألنترا. أريد شرب”. 

سأله الرجل عن نوعية المشروب الذي يطلبه، فأخبره بأنه يريد زجاجتي فودكا من نوع “غراي غوس” و15 عبوة بيرة من نوع “بدوايزر”. 

رد الرجل “حسابك 275 ألف دينار”. 

كان ذلك المبلغ يعادل ثلاثة أضعاف قيمة هذا المشروب في السوق الحرة، لكن لم يكن أمامنا أن نرفض الصفقة، فقبلنا بذلك السعر، وواصلنا الانتظار حتى يأتي الـ”ديلر” ومعه البضاعة. 

بعد لحظات، توقفت بقربنا سيارة سوداء من نوع “بطة”. مد الرجل ذراعه يطلب المال كاملاً ثم عدّ المبلغ، ورمى علينا كيساً أسود ومضى. 

وضعنا الكيس في واحدة من الحقائب من دون أن نفتحه، وعدنا أدراجنا نحو المنزل. 

اتضح لاحقاً أن الرجل استبدل طلبنا بفودكا “أبسولوت” وبيرة “تيبورغ” رديئة. 

ولا يملك من يريد الحصول على مشروب كحولي في البصرة سوى خيارين، إما الذهاب إلى شارع بشار في المدينة القديمة، حيث تتجمع العصابات والخارجون على القانون، أو التعاقد مع ديلر الطبقة المتوسطة المدعو “يعقوب بطة”. 

وإذا ارتهن الشراء بيعقوب، فإن المشروب لا يأتي دائماً كما يُرام، وإنما تبقى نوعيته وأسعاره مرتبطة بمزاج سائق البطة، فإذا كان في مزاج سيئ يجلب إلى الزبون مشروباً مغشوشاً وبأسعار مرتفعة، أما إذا كان مزاجه رائقاً فقد يبيع زجاجات فاخرة بأسعارها الطبيعية. 

تأجيل الحظر 

بعد سقوط النظام السابق في 2003، كانت نيران الأسلحة المنفلتة هي التهديد الأكبر لبائعي الخمور، ترافقها قرارات الحكومات المحلية في المحافظات، ومنها البصرة، وذلك ما جعل الحصول على مشروب كحولي أمراً معقداً للغاية. 

واستمر الأمر كذلك حتى جاء يوم 19 تشرين الأول 2016، حين صوت مجلس النواب العراقي على قانون واردات البلديات الذي تضمن مادة تحظر بيع واستيراد وإنتاج المشروبات الكحولية، مثيراً احتجاجات من قبل الأقليات المسيحية والإيزيدية والمندائية، لكن فؤاد معصوم رئيس الجمهورية آنذاك، رفض المصادقة على القانون قبل حذف هذه المادة منه بعد موجة الاعتراضات، ما أدى إلى تأجيل نشره في الجريدة الرسمية وإيقاف سريانه. 

غير أن الشارع كان بعيداً إلى حدٍ ما عن تلك المساجلة، فمن يتحكم بحق المواطن في حرية شراء المشروب هم شرطة المدينة والعرف الاجتماعي، لذا طالما شهدنا دوريات تابعة لشرطة البصرة، تنصب نقاط تفتيش مفاجئة تفتش فيها السيارات بحثاً عن حيازة المشروب، واقتياد الحائز إلى مركز الشرطة وحبسه ليوم واحد مع التوقيع على تعهد بعدم الشراء مرّة أخرى. 

“درع الجنوب” 

خططت الدولة جيداً لمنع وصول الخمور إلى محافظات الفرات الأوسط والجنوب، حيث أنشأت نقطة تفتيش على الطريق السريع بين بغداد والبصرة، وبالتحديد قبل محافظة الديوانية بكيلومترات عدة، تدعى “سيطرة درع الجنوب”. 

كانت لهذه السيطرة مهمة واحدة هي البحث عن حائزي المشروبات الكحولية، وهذا ما يجعل عملية إدخال زجاجة واحدة من الكحول إلى تلك المناطق شبه مستحيلة. 

وعلى الرغم من ذلك تصل إلى الديلرية في كل المحافظات حصة جيدة من المشروبات المهربة، والتي تكون بالاتفاق مع المسؤولين عن الأمن بالضرورة، وهذا ما يجعل عملية البيع محتكرة على أناس قلائل يتحكمون بالأسعار. 

تحدث علاء (32 عاماً) لـ”جمّار” عن الطريقة التي كان يعتمدها مع رفاقه لتمرير المشروبات عبر السيطرة. 

يتم الاتفاق قبل الانطلاق من بغداد مع أحد العناصر الأمنية المسؤولين عن تحديد المركبات التي يجب أن تخضع للتفتيش. 

وفي العادة تستثنى السيارات التي تنقل نساء أو رجالاً كباراً في السن من التفتيش، ومع النسب التي يحصل عليها رجل الأمن هذا، يكون الطريق مفتوحاً أمام المهرّبين، وفي الأيام التي لا يكون فيها هذا العنصر في الواجب، لا تتم عملية النقل أبداً. 

ولكن في 16 آب 2019 صدر قرار عن ياسين الياسري وزير الداخلية الأسبق، برفع سيطرة درع الجنوب، وقابل ذلك اعتراض من الحكومة المحلية في الديوانية. 

ثم شهد عام 2022 افتتاح أول محل لبيع المشروبات الكحولية بشكل علني في الديوانية، غير أنه تعرض لهجوم بصاروخ “آر.بي.جي” من جهة مجهولة بعد مدة من افتتاحه. 

في الوقت الحالي، أزيلت السيطرة بشكل تام، وتم افتتاح مخازن لبيع المشروبات الكحولية في مكان خارج المدينة على الطريق الرابط بين الديوانية والنجف. 

أما في البصرة، فقد صدر قرار في 8 آب 2009، وهو اليوم الذي انتهت فيه الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، بمنع بيع المشروبات الكحولية. 

وكان القرار قد صدر عن مجلس محافظة البصرة، وقد صرح في وقته أحمد السليطي، نائب رئيس المجلس، بأن قرار منع المشروبات في البصرة من صلاحيات المحافظة وفقاً للدستور، وأن أي إجازة منحت لمحال بيع الخمور في البصرة ستكون لاغية بفعل هذا القرار. 

وتضمن القرار غرامات تصل إلى خمسة ملايين دينار وعقوبة السجن لمدة تصل إلى ستة أشهر. 

عودة الحظر 

في 20 شباط 2023، نشرت الجريدة الرسمية قانون واردات البلديات رقم 1 لسنة 2023، متضمناً المادة 14 التي تحظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بأنواعها كافة. 

وتنص الفقرة الثانية من المادة المذكورة على فرض عقوبات على من يتصرف خلافاً لهذا النص وغرامة مالية لا تقل عن عشرة ملايين دينار عراقي ولا تزيد على 25 مليوناً. 

وبعد نشر القانون في الجريدة الرسمية، رُفعت 12 دعوى قضائية ضده، وفق ما أعلن في نهاية آذار الماضي جوزيف صليوا نائب رئيس حزب اتحاد بيث نهرين الذي هو أحد المشتكين. 

ورُفعت دعاوى أيضاً من موظفين ومديرين وشخصيات رسمية في الحكومة وسياسيين وتجار أضرت بهم هذه المادة القانونية. 

وأعلنت المحكمة الاتحادية في 28 آب 2023 رد الطعون المتعلقة بدستورية المادة المذكورة، مشيرة إلى أن “الحكم جاء لعدم وجود مخالفة دستورية وصدر بالأكثرية”. 

حوار التفجيرات 

يذكر الكاتب كريم راهي في أحد كتبه أن بائعي المشروبات الكحولية ومشتريها “قدموا شهداء أكثر مما قدم حزب الدعوة”. 

وكتب راهي هذه الجملة استناداً إلى موقف مرَّ به عندما مدَّ يده عبر نافذة صغيرة تتوسط محلاً مغلفاً كلياً بالحديد، ليلاحظ أن يد البائع لفتى صغير، فسأله عن والده، فأجابه بأنه استشهد في أحد الانفجارات التي استهدفت محال بيع المشروبات. 

وعانى ممتهنو هذه المهنة من مضايقات وتهديدات وقتل واعتقال منذ 2003 حتى الآن. 

وآخر تلك الاستهدافات سلسلة انفجارات بعبوات ناسفة أمام محالهم ببغداد. 

وتعد هذه التفجيرات جزءاً من “الحوار” بين الباعة وفارضي الإتاوات من الجهات المتنفذة، ما اضطر الباعة للعودة إلى شكل المحال أيام الحرب الطائفية، حيث يُغلف المحل كله بالحديد، وتُترك نافذة صغيرة للبيع. 

وفي البصرة يتعرض الديلرية للاعتقال والمساومة بشكل دائم، حتى صار معروفاً الثمن الذي يدفعه الديلر ليخرج كلما يتم الإمساك به. 

ولم يكن الوضع هكذا قبل 2003، فقد كانت محال المشروبات الكحولية مرخصة من الدولة ومحمية منها أيضاً، وتتواجد في الأماكن الحيوية في المدن. 

في شارع الجزائر الحيوي بالبصرة، كان هناك محل لبيع المشروبات الكحولية بديكور خشبي جميل، وواجهة زجاجية براقة. 

يقول عاصم، الذي يعمل في هذا المجال منذ 15 عاماً، لـ”جمّار” إن هناك تغيراً سريعاً في أذواق العراقيين في الشراب يتبع زيادة الأسعار، ففي عام 2018 كانت عبوة البيرة من نوع “هينيغن” تباع بـ1500 دينار، بينما الآن يصل سعرها إلى خمسة آلاف. 

هذا الارتفاع في الأسعار جعل الناس تعود بسرعة إلى المشروب المحلي الرخيص، مثل العرق “أبو القبق الأحمر” والذي أيضاً تضاعف سعره من 2000 إلى 6000 دينار لكل 250 مل خلال آخر ثلاث سنوات، لكنه مع ذلك يفي بالغرض عند الأخذ بنظر الاعتبار أن خمس زجاجات بيرة ستكلف 20 دولاراً (نحو 32 ألف دينار) على الأقل لقضاء ليلة سمر واحدة. 

ويشعر عاصم بالحزن إزاء انتشار أنواع رديئة من المشروبات بسبب رخص أسعارها واضطراره إلى بيعها مثل ويسكي “لويس” و”بي.جي”، وهي نوعيات من الويسكي الرديء، يتم تعبئتها في معامل داخل السفن في عرض البحر بعيداً عن الرقابة والقوانين. 

كله مغشوش 

مع ارتفاع سعر المشروبات الكحولية وثمن تهريبها، الذي يصل لضعف سعر المشروب الأصلي، والضرائب المتكررة التي تفرض عليه بشكل قانوني، والإتاوات التي يتم دفعها للمتنفذين، توصل العاملون في هذا القطاع إلى طريقة ربح جديدة، حيث يتم غش المشروبات داخل معامل خاصة في أربيل وبغداد. 

يقول برخو نقلاً عن أصدقائه من الباعة، إنهم يقومون بغش مشروب العرق بإضافة كمية معينة من الماء المقطر بضخه عبر المحقنة (السرنجة) ببطء إلى داخل الزجاجة، وبذلك يمكن أن تكون نسبة المشروب الحقيقي إلى نسبة الماء المقطر الثلث للثلثين من العرق. 

وهذا يحدث أيضاً مع الويسكي والفودكا، وكل له طريقته الخاصة. 

ويقول سامي، أحد تجار المشروبات الكحولية، لـ”جمّار” إن المبلغ الحقيقي للضرائب -عندما دفعها الباعة بشكل رسمي- غير معروف أو ثابت، ففي كل مرة يطلب موظف دائرة الضريبة رقماً خيالياً يدعي أنه متراكم من ديون حول ضريبة المهنة وأجور نفايات. 

“تتم مساومتنا على ذلك حتى يتم تخفيض المبلغ إلى رقم يمكن دفعه، وهذا الرقم لا يعد سوى مبلغ لإبعاد موظف الضريبة عن طريقنا، فلا يتم تسجيله في وصولات أو في دائرة الضريبة”، يضيف سامي. 

الفتاة والديلر 

تذوقت شيماء الويسكي لأول مرة في بيت صديقتها سارة بعد تردّد كبير وبعد أن أخبرتها الصديقة بأن طعم الويسكي شبيه بخليط من الزيت والملح والليمون. 

وعندما تناولت شيماء أول رشفة من الويسكي، ارتدت عضلات وجهها وانسحب فكها الأسفل إلى الخلف إثر الطعم المفاجئ، ولكن فيما بعد صارت تدوّر سائل الويسكي في جوف فمها قبل أن تبتلعه لتنبه عضلات الوجه لما هو قادم. 

وبدأت شيماء تستسيغ شرب الويسكي لاحقاً، إلا أنها واجهت صعوبة بالغة في كيفية الحصول عليه في البصرة. 

وبعد بحث طويل، حظيت بديلر محترم، سائق تاكسي اسمه فائز نمت بينهما علاقة ثقة بعد تكرار المشاوير معه. 

يشتري فائز المشروبات الكحولية من شارع بشار، ويتسلل ليلاً قرب سور بيت شيماء ليرمي المشروب في الحديقة، بعدما كان قد حصل على أمواله عبر تقنية “زين كاش”. 

استبدال الـ”بدوايزربـ”الكرستال 

بحسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في 2018، فإن استهلاك الكحول في العراق منخفض جداً مقارنة بالدول المجاورة، حيث يشرب المستهلكون فقط 0.2 لتر من الكحول النقي سنوياً. 

وأشار التقرير إلى أن نسبة المستهلكين من إجمالي سكان العراق 0.8 بالمئة. 

ولا شك أن قرارات المنع والملاحقة والتضييق تلعب دوراً أساسياً في تقليل كميات الكحول الواصلة إلى المستهلكين، كما أنها جعلت هذه التجارة صعبة على المهربين والديلرية. 

ومع التكاليف المرتفعة للمتاجرة بالمشروبات الكحولية، راح المهربون يبحثون عن مهنة أفضل وبهامش ربح عال، فوجدوا مهنة بيع المخدرات. 

وهذا التحول يعد من الأسباب الرئيسة التي جعلت العراق بلداً مستهلكاً للمخدرات في غضون سنوات قليلة، إذ تظهر إحصائيات غير رسمية أن نسبة التعاطي بين الفئات الشبابية تتخطى 40 بالمئة. 

لكن مع كل ذلك، اختار يعقوب ومعه ديلرية آخرون الاستمرار في بيع الخمور خلسة بدلاً من سلوك طريق المخدرات المحفوف بمخاطر أكبر، واخترت أنا ورفاقي انتظار الزجاجات في شوارع البصرة بدلاً من انتظار المساحيق والحبوب المدمرة.