"حمّامات العراق".. من أين جاء كل هذا الخراء؟ 

ميزر كمال

19 نوفمبر 2023

الحمامات قادرة على إعطائك انطباعاً حول شكل الحياة والطريقة التي يعيش فيها المجتمع، وهذا الانطباع يكون واضحاً بعد تجربة شكل المرافقات العراقية العامة أو شبه العامة، في فترة الحصار ثم الاحتلال وما بعده.. عن "المرافقات" وأثرها على حياتنا..

في مدرسة الأبرار الابتدائية، كان علينا الخوض في البول والخراء والمياه الطافحة من كل بقعة في الحمامات، حتى نرمي حمولة الأمعاء الغليظة. لا يمكن نسيان المشاهد تلك، ولا يمكن ردها؛ فهي قد تمرُّ حتى عندما يكون المرء سارحاً بقضمة برغر. 

أُحبُّ التسمية العراقية للحمام، نقول “مرافق” بفتح الميم أو ضمها، وجمعها مرافقات. إن عشتَ في العراق، فلن تمرَّ حياتك من دون حكايا مثيرة عن المرافق؛ مثل حكايا الحرب، ويوميات الاحتلال، والعيش مع الجنود والمعارك والانتحاريين والمسيرات المفخخة. 

طقوس الخلاء العراقية  

في الكراج المخصص لنقل “اللاجئين الأكراد” من مركز مدينة الرمادي إلى معسكرهم في الأطراف، كان أحمد (سائق الكيّا) يتحدّث بحماس عن جلساته في المرافق، كان ذلك عام 2007، الرجل يحب ذلك المكان جداً، وعندما يصف كيف “يجرمز” ويشعل سيجارته ويبدأ بشهقة ليتخفف من الغائط والحياة، كانت طريقته في الوصف تشبه حديثاً عن “طقوس” أكثر منها أحاديث عن ممارسة بيولوجية قاهرة. 

يفكر في الحمام بحياته، يضع حلولاً لمشاكله، ويخطط لأيامه المقبلات، ويتحدث مع نفسه بصوت عال، يغني أحياناً، ويتذكر العابرين والطرقات، والأوقات التي نجا فيها من الموت، لكنّه عندما يتحدث عن “الصَفنة” أو الشرود، كان بالفعل يسرح لثوانٍ، وتُغيّرُ عيناه النظر إلى جهة ليس فيها وجوه، ثم يعود لينظر إليك ويسترسل في مديح “المرافق”. 

قبل 6 آلاف عام اخترع العراقيون القدماء “المرحاض” بشكله “الشرقي” المنتشر الآن في العراق، على الأقل هذا ما ترجّحه أوغوستا ماكماهون، أستاذة علم آثار بلاد ما بين النهرين في جامعة كامبريدج، فأول مراحيض عُثر عليها كانت في بلاد ما بين النهرين، وكانت على شكل حُفَرٍ بقطر متر واحد تمتدُّ بالتوازي مع أسطوانات سيراميكية مجوفة تمنع الفضلات من التسرب، ولقضاء الحاجة كان العراقيُّ القديم يجلس القرفصاء كما يجلس العراقيّ الآن. 

الكراج الذي يقف فيه أحمد لنقل الركاب أو “العِبرية” كما يُطلق عليهم في العراق، يقع تماماً في الجهة المقابلة لمبنى محافظة الأنبار في مدينة الرمادي، وهذا المبنى كان بعد 2003 ولغاية انسحاب الجيش الأمريكي عام 2009، مقراً لقوات الاحتلال والحكومة المحلية، وعلى سطوحه كان القناصة الأمريكيون ينتشرون ويترصدون المارة، ويقتلونهم. 

غالباً ما كان مبنى المحافظة يتعرض لقصف أو هجمات من تنظيم “القاعدة” الذي يسيطر على كل المدينة عدا (1 كلم) في مركز المدينة وهذا المبنى هو منتصف المركز، لكن؛ حتى وإن حدثت الحرب في المدينة، فعلى الناس أن تعيش، وأحمد الذي يحب “الصَفنة” ويحب “طقس المرافق” من هؤلاء الناس الذين كانوا يدفعون الموت دفعاً، ويتجنبونه في الشوارع كما يتجنب المجازفون ثوراً هائجاً في الطرقات. 

هو كثيراً ما يرى الجنود، لكنّه لم يتخيل أبداً أنهم سيداهمونه وهو “يخرّي” وهذا ما حدث بالفعل، يقول، “أحياناً في الليل أريد مساحة أكبر لخصوصيتي وأنا أجلس في المرافق، لذلك صرت أذهب خارج حائط البيت في مساحة مظلمة وخالية من البيوت والناس، هناك “أجرمز” وأشعل سيجارتي، أسحب شهقة وأضع الحمولة، لكن الأمريكان أولاد الكلب رصدوني وهم يمرون من شارع قريب وقبل أن أكمل الخرية كشفتني أضواء الهمر، ربما ظنوا أنني أريد وضع قنبلة! ههههههههههه”. 

قُتل أحمد برصاص جندي أمريكي نهاية 2007 مع عدد من الركاب الذين كانوا معه خلال اشتباك مفاجئ في أحد شوارع مدينة الرمادي، بين الجيش الأمريكي وتنظيم “القاعدة”. 

تعريفات أكاديمية للخراء 

في الفترة التي قَتلَ فيها الجيش الأمريكي أحمد، كانت الأمم المتحدة والبنك الدولي، يحصيان عدد الناس الذين يتغوطون في العراء، وتُنحَتُ تعريفات لهذه الظاهرة. 

للمراحيض يوم عالمي، هو 19 تشرين الثاني من كل عام، وللبراز ظواهر وحملات ودراسات، مثل “التغوّط في العراء” فبحسب تعريف الأمم المتحدة هو “لجوء الناس إلى قضاء حاجتهم في الخلاء، أي على قارعة الطريق، أو خلف الأشجار وفي الحقول، أو المسطحات المائية المكشوفة”. وهذا التعريف لا يتضمن مرور رتل أمريكي بطبيعة الحال. 

قبل عام 2000، كان هنالك 1.3 مليار إنسان يتغوطون في العراء، منهم 767 مليون شخص في الهند وحدها، ومنذ مطلع الألفية الثانية وحتى 2017، انخفض هذا العدد إلى نحو 670 مليوناً، وفي الهند، تراجع عدد من يتغوَّطون في العراء إلى 344 مليوناً، لكنّها ما تزال موطن أكبر عدد ممن يتغوَّطون في العراء، وهذا بالإضافة إلى مخاطره الصحية، فهو قد يتسبب بالعنف والموت للنساء هناك، عام 2014 تعرضت فتاتان في ولاية أوتار براديش الهندية للاغتصاب والقتل عندما ذهابهما لقضاء الحاجة في العراء. 

تضع الأمم المتحدة في خططها المستقبلية القريبة، القضاء على “التغوّط في العراء” بحلول عام 2030، كهدف من أهـداف التنمية المستدامة، فمثلاً، أعلنت الأمم المتحدة عن إنهاء “ظاهرة التبرّز في العراء” في السودان عام 2020، وبدعم من اليونيسف، حصل 226 مجتمعاً محليّاً هناك على “شهادة الخلوّ من التبرز في العراء” لكن هذه بالتأكيد ليست الظاهرة الأسوأ التي تعاني منها تلك المجتمعات في السودان. 

تقول فرانس 24، إن جثثاً لأشخاص بالزي العسكري تنتشر في شوارع أم درمان غرب العاصمة السودانية، وحذرت الأمم المتحدة من احتدام القتال في إقليم دارفور بين الجيش وقوات الدعم السريع مع دخول الحرب بينهما شهرها السابع، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 10 آلاف قتيل وفق منظمة “أكليد” المعنية بإحصاء ضحايا النزاعات، كما أدت الحرب إلى نزوح ولجوء أكثر من ستة ملايين سوداني، لا يسعهم إيجاد طرق نجاة، وأن “يخرئوا” في عراء هذا العالم! 

جدارياتأسير الأحزان، أمير الحب، أبو زمن”  

ليست كل اللحظات جميلة في الحمام، أحياناً يتحوّل المرافق إلى سجن -وهذا بمعناه الحرفي- فهنالك آباء كانوا يحبسون الأبناء في “المرافق”. كان جارنا يحبس ابنه (المتزوج) في المرحاض، وكنا نسمع توسلات والدته لزوجها من أجل إخراجه لأنه “ذلّه” بما يكفي. 

المرافق دائماً هو مساحة للتفريغ عن الأشياء المكبوتة، كثيراً ما قرأت ذكريات وأقوالا وأسماءً وحروفا وتواقيعَ وتواريخَ على جدران المرافقات، في فترة الحصار، ثم الاحتلال، كانت حيطان المرافق جدارية لـ”أسير الأحزان، أمير الحب، أبو زمن” وغيرهم من العابرين الذين مروا وتركوا أسماءهم وألقابهم وتخطيطاتهم وناتج عملية الأيض. 

في حمّامات بودابيست رأيت مثل هذه العادة أيضاً، كتابات بقلم الماجيك، لكنها مكتوبة بطريقة أجمل، تشبه فن الغرافيتي، بألوان مختلفة وبحروف كبيرة، وهذه الظاهرة يستطيع المرء رؤيتها في المدينة، في شوارعها وبناياتها. الغرافيتي على جدران بودابيست يمنح المدينة شعوراً بالألفة، وكذلك يشعرك بحب الناس هنا للتعبير عن آرائهم، حتى وإن كان ذلك بالكتابة على جدران الحمّام. 

في مدينة الرمادي لا توجد حمامات عامة، هنالك حمامات داخل الأماكن التي يُفترض أن يكون فيها، مثل: المطاعم والمقاهي، والدوائر الحكومية والجوامع. ولأن الناس هناك يرتادون الجوامع بكثرة، فقد تحوّلت حمّامات جامع الرمادي الكبير، إلى ما يشبه الحمامات العامة، وساعد في هذا موقع الجامع في وسط المدينة وسوقها الشعبي. 

بدأ الجامع يفرض جباية على كل فرد يدخل، كانت 250 ديناراً، وهو مبلغ زهيد عندما تكون محصوراً، لكن ومع مرور الأيام وسوء النظافة وزحام المحصورين، تحوّل المكان إلى بقعة من القذارة، دخلته مرات عدة، وكانت رائحة البول والخراء تخنقك عندما تدخل، وأرضية الحمامات والسيفونة نمت عليها طبقة من القذارة المتحجرة التي اتخذت شكل المكان، وأصبحت أديمه الذي نقف عليه لقضاء الحاجة. 

بصفة عامة، حمامات المدارس والجامعة -الجامعة كانت نظيفةً إلى حد ما- كلها تعاني من مشكلة النظافة، وبعض المدارس كانت حماماتها متروكة، لا يدخلها أحد لأنها أصبحت مهجورة من القذارة، تعطلت دورة المياه فانقطعت عنها، والأبواب مكسرة، والأرضية عليها ركام من القاذورات والغبار، والكهرباء لا أثر لها أيضاً؛ فتُركت وصار الطلاب يخرجون من المدرسة لقضاء حاجتهم إن اضطروا لذلك، وهذا لم يكن يسبب أيّ مشكلة عند الأساتذة، فحمّاماتهم خاصة، في جناح الإدارة الممنوع على الطلاب.  

مدرسة التحرير الإعدادية في مدينة الرمادي كانت حماماتها مكاناً مهجوراً بسبب القذارة أيضاً، وكنا نذهب إلى البيوت المجاورة لطلب الدخول إلى المرافق، وكانت أغلب البيوت تفتح أبوابها للطلبة، لأن أبناءهم طلبة في المدرسة ويعرفون القصة، ليست التحرير وحدها المدرسة التي لا توجد فيها مراحيض، ثلث مدارس العالم ليست فيها مراحيض كافية، كما أن 23 بالمئة من المدارس لا تتوفر فيها أي مراحيض. 

مراحيض تصب في نهر ينبع من الجنة 

الحمامات قادرة على إعطائك انطباعاً حول شكل الحياة والطريقة التي يعيش فيها المجتمع، وهذا الانطباع يكون واضحاً بعد تجربة شكل المرافقات العراقية العامة أو شبه العامة، في فترة الحصار ثم الاحتلال وما بعده. 

هنالك دائماً شعور بعدم المسؤولية، وجودة الحياة التي تتطلب وجود حمامات نظيفة لم تكن متوفرة منذ تلك الفترة، والناس منشغلون بما يدخل في بطونهم لا بما يخرج منها، وانهيار العملة وانخفاض الأجور زاد عند الأفراد شعور اللامبالاة، وهذا مرده أيضاً إلى قسوة حزب البعث، وثقافته بالسطو على كل شيء، فحوّل الملكية الشائعة إلى ملكية رخيصة، والأجور التي يتلقاها الأفراد على إدامتها والاهتمام بها لا تستحق العناء، وهذا يمكن ملاحظته من خلال جودة النظافة في الحمامات، فمثلاً، لم يحدث مرةً أن “الفرّاش” أو عامل النظافة الذي جزء من مهامه تنظيف المرافقات، أن حوسب أو سوئل عن عدم قيامه بواجبه؛ لأن هذا الموظف راتبه الشهري لم يكن يكفي لشراء كيلو غرام واحد من اللحم. لكن؛ إن كان راتب الموظف لا يكفي لشراء كيلوغرام واحد من اللحم.. فمن أين يأتي كل هذا الخراء؟ 

بعد سقوط نظام صدام حسين، دخل مصوّر أسوشيتد برس (Associated Press) برفقة الجيش الأمريكي إلى واحد من قصور صدام حسين الكثيرة، مشى في ممر يبدأ من صالة كبيرة كُتب على أحد جدرانها “قادسية صدام” وينتهي بجناح الحمامات، الذي دخله المصور، ووثق مرافقات الرئيس وعائلته. 

كانت الأرضية والجدران من الرخام اللامع، وحنفيات المغاسل مطلية بالذهب، وكذلك المقابض والقضبان المخصصة للمناشف، وقطع المرايا كبيرة ومؤطرة باللون الذهبي، والكثير من فوضى الألوان، حتى تساءل عن سرّ حب هذه العائلة للذهب، والذوق الرديء، وكأنَّ هذا الحمام هو حمام زوي تشاوشيسكو ابنة نيكولاي تشاوشيسكو، رئيس جمهورية رومانيا الاشتراكية آنذاك. 

في كتابها “المقهى الأوروبي.. الحياة في أوروبا بعد انهيار النظام الشيوعي” تصف سلافينكا دراكولتش حمام زوي بانه “ليس ارستقراطياً بالمرة، لكنه محاولة مثيرة للشفقة من أجل أن يكون ارستقراطياً”. 

بعد 2003، كان الانهيار قد شمل كل شيء، بما في ذلك منظومة الصرف الصحي، وشبكات تصريف مياه الأمطار، ففي بغداد وحدها، هنالك 5 ملايين متر مكعب من المياه الثقيلة تصب يومياً في نهر دجلة، رقم لا تتسع له المخيلة.  

ولكن، من أين تأتي هذه الكميات الهائلة من الفضلات؟ يقول أمير علي الحسّون، مدير عام دائرة التوعية والإعلام البيئي في وزارة البيئة العراقية، “منذ ثمانينيات القرن الماضي ونهر دجلة يتعرض لتجاوزات كبيرة من قبل الدوائر البلدية، في رمي مياه الصرف الصحي” ويسرد الحسّون كيف حوّل “المواطنون والبلديات” شبكات تصريف مياه الأمطار في بغداد إلى شبكة لتصريف المياه الثقيلة، تصب في نهر دجلة. النهر الذي يجلس على ضفافه العشّاق، ويشرب من مياهه أكثر من 9 ملايين إنسان يعيشون في بغداد، وتذكر السرديات الدينية أنه ينبع من الجنة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويب؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

في مدرسة الأبرار الابتدائية، كان علينا الخوض في البول والخراء والمياه الطافحة من كل بقعة في الحمامات، حتى نرمي حمولة الأمعاء الغليظة. لا يمكن نسيان المشاهد تلك، ولا يمكن ردها؛ فهي قد تمرُّ حتى عندما يكون المرء سارحاً بقضمة برغر. 

أُحبُّ التسمية العراقية للحمام، نقول “مرافق” بفتح الميم أو ضمها، وجمعها مرافقات. إن عشتَ في العراق، فلن تمرَّ حياتك من دون حكايا مثيرة عن المرافق؛ مثل حكايا الحرب، ويوميات الاحتلال، والعيش مع الجنود والمعارك والانتحاريين والمسيرات المفخخة. 

طقوس الخلاء العراقية  

في الكراج المخصص لنقل “اللاجئين الأكراد” من مركز مدينة الرمادي إلى معسكرهم في الأطراف، كان أحمد (سائق الكيّا) يتحدّث بحماس عن جلساته في المرافق، كان ذلك عام 2007، الرجل يحب ذلك المكان جداً، وعندما يصف كيف “يجرمز” ويشعل سيجارته ويبدأ بشهقة ليتخفف من الغائط والحياة، كانت طريقته في الوصف تشبه حديثاً عن “طقوس” أكثر منها أحاديث عن ممارسة بيولوجية قاهرة. 

يفكر في الحمام بحياته، يضع حلولاً لمشاكله، ويخطط لأيامه المقبلات، ويتحدث مع نفسه بصوت عال، يغني أحياناً، ويتذكر العابرين والطرقات، والأوقات التي نجا فيها من الموت، لكنّه عندما يتحدث عن “الصَفنة” أو الشرود، كان بالفعل يسرح لثوانٍ، وتُغيّرُ عيناه النظر إلى جهة ليس فيها وجوه، ثم يعود لينظر إليك ويسترسل في مديح “المرافق”. 

قبل 6 آلاف عام اخترع العراقيون القدماء “المرحاض” بشكله “الشرقي” المنتشر الآن في العراق، على الأقل هذا ما ترجّحه أوغوستا ماكماهون، أستاذة علم آثار بلاد ما بين النهرين في جامعة كامبريدج، فأول مراحيض عُثر عليها كانت في بلاد ما بين النهرين، وكانت على شكل حُفَرٍ بقطر متر واحد تمتدُّ بالتوازي مع أسطوانات سيراميكية مجوفة تمنع الفضلات من التسرب، ولقضاء الحاجة كان العراقيُّ القديم يجلس القرفصاء كما يجلس العراقيّ الآن. 

الكراج الذي يقف فيه أحمد لنقل الركاب أو “العِبرية” كما يُطلق عليهم في العراق، يقع تماماً في الجهة المقابلة لمبنى محافظة الأنبار في مدينة الرمادي، وهذا المبنى كان بعد 2003 ولغاية انسحاب الجيش الأمريكي عام 2009، مقراً لقوات الاحتلال والحكومة المحلية، وعلى سطوحه كان القناصة الأمريكيون ينتشرون ويترصدون المارة، ويقتلونهم. 

غالباً ما كان مبنى المحافظة يتعرض لقصف أو هجمات من تنظيم “القاعدة” الذي يسيطر على كل المدينة عدا (1 كلم) في مركز المدينة وهذا المبنى هو منتصف المركز، لكن؛ حتى وإن حدثت الحرب في المدينة، فعلى الناس أن تعيش، وأحمد الذي يحب “الصَفنة” ويحب “طقس المرافق” من هؤلاء الناس الذين كانوا يدفعون الموت دفعاً، ويتجنبونه في الشوارع كما يتجنب المجازفون ثوراً هائجاً في الطرقات. 

هو كثيراً ما يرى الجنود، لكنّه لم يتخيل أبداً أنهم سيداهمونه وهو “يخرّي” وهذا ما حدث بالفعل، يقول، “أحياناً في الليل أريد مساحة أكبر لخصوصيتي وأنا أجلس في المرافق، لذلك صرت أذهب خارج حائط البيت في مساحة مظلمة وخالية من البيوت والناس، هناك “أجرمز” وأشعل سيجارتي، أسحب شهقة وأضع الحمولة، لكن الأمريكان أولاد الكلب رصدوني وهم يمرون من شارع قريب وقبل أن أكمل الخرية كشفتني أضواء الهمر، ربما ظنوا أنني أريد وضع قنبلة! ههههههههههه”. 

قُتل أحمد برصاص جندي أمريكي نهاية 2007 مع عدد من الركاب الذين كانوا معه خلال اشتباك مفاجئ في أحد شوارع مدينة الرمادي، بين الجيش الأمريكي وتنظيم “القاعدة”. 

تعريفات أكاديمية للخراء 

في الفترة التي قَتلَ فيها الجيش الأمريكي أحمد، كانت الأمم المتحدة والبنك الدولي، يحصيان عدد الناس الذين يتغوطون في العراء، وتُنحَتُ تعريفات لهذه الظاهرة. 

للمراحيض يوم عالمي، هو 19 تشرين الثاني من كل عام، وللبراز ظواهر وحملات ودراسات، مثل “التغوّط في العراء” فبحسب تعريف الأمم المتحدة هو “لجوء الناس إلى قضاء حاجتهم في الخلاء، أي على قارعة الطريق، أو خلف الأشجار وفي الحقول، أو المسطحات المائية المكشوفة”. وهذا التعريف لا يتضمن مرور رتل أمريكي بطبيعة الحال. 

قبل عام 2000، كان هنالك 1.3 مليار إنسان يتغوطون في العراء، منهم 767 مليون شخص في الهند وحدها، ومنذ مطلع الألفية الثانية وحتى 2017، انخفض هذا العدد إلى نحو 670 مليوناً، وفي الهند، تراجع عدد من يتغوَّطون في العراء إلى 344 مليوناً، لكنّها ما تزال موطن أكبر عدد ممن يتغوَّطون في العراء، وهذا بالإضافة إلى مخاطره الصحية، فهو قد يتسبب بالعنف والموت للنساء هناك، عام 2014 تعرضت فتاتان في ولاية أوتار براديش الهندية للاغتصاب والقتل عندما ذهابهما لقضاء الحاجة في العراء. 

تضع الأمم المتحدة في خططها المستقبلية القريبة، القضاء على “التغوّط في العراء” بحلول عام 2030، كهدف من أهـداف التنمية المستدامة، فمثلاً، أعلنت الأمم المتحدة عن إنهاء “ظاهرة التبرّز في العراء” في السودان عام 2020، وبدعم من اليونيسف، حصل 226 مجتمعاً محليّاً هناك على “شهادة الخلوّ من التبرز في العراء” لكن هذه بالتأكيد ليست الظاهرة الأسوأ التي تعاني منها تلك المجتمعات في السودان. 

تقول فرانس 24، إن جثثاً لأشخاص بالزي العسكري تنتشر في شوارع أم درمان غرب العاصمة السودانية، وحذرت الأمم المتحدة من احتدام القتال في إقليم دارفور بين الجيش وقوات الدعم السريع مع دخول الحرب بينهما شهرها السابع، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 10 آلاف قتيل وفق منظمة “أكليد” المعنية بإحصاء ضحايا النزاعات، كما أدت الحرب إلى نزوح ولجوء أكثر من ستة ملايين سوداني، لا يسعهم إيجاد طرق نجاة، وأن “يخرئوا” في عراء هذا العالم! 

جدارياتأسير الأحزان، أمير الحب، أبو زمن”  

ليست كل اللحظات جميلة في الحمام، أحياناً يتحوّل المرافق إلى سجن -وهذا بمعناه الحرفي- فهنالك آباء كانوا يحبسون الأبناء في “المرافق”. كان جارنا يحبس ابنه (المتزوج) في المرحاض، وكنا نسمع توسلات والدته لزوجها من أجل إخراجه لأنه “ذلّه” بما يكفي. 

المرافق دائماً هو مساحة للتفريغ عن الأشياء المكبوتة، كثيراً ما قرأت ذكريات وأقوالا وأسماءً وحروفا وتواقيعَ وتواريخَ على جدران المرافقات، في فترة الحصار، ثم الاحتلال، كانت حيطان المرافق جدارية لـ”أسير الأحزان، أمير الحب، أبو زمن” وغيرهم من العابرين الذين مروا وتركوا أسماءهم وألقابهم وتخطيطاتهم وناتج عملية الأيض. 

في حمّامات بودابيست رأيت مثل هذه العادة أيضاً، كتابات بقلم الماجيك، لكنها مكتوبة بطريقة أجمل، تشبه فن الغرافيتي، بألوان مختلفة وبحروف كبيرة، وهذه الظاهرة يستطيع المرء رؤيتها في المدينة، في شوارعها وبناياتها. الغرافيتي على جدران بودابيست يمنح المدينة شعوراً بالألفة، وكذلك يشعرك بحب الناس هنا للتعبير عن آرائهم، حتى وإن كان ذلك بالكتابة على جدران الحمّام. 

في مدينة الرمادي لا توجد حمامات عامة، هنالك حمامات داخل الأماكن التي يُفترض أن يكون فيها، مثل: المطاعم والمقاهي، والدوائر الحكومية والجوامع. ولأن الناس هناك يرتادون الجوامع بكثرة، فقد تحوّلت حمّامات جامع الرمادي الكبير، إلى ما يشبه الحمامات العامة، وساعد في هذا موقع الجامع في وسط المدينة وسوقها الشعبي. 

بدأ الجامع يفرض جباية على كل فرد يدخل، كانت 250 ديناراً، وهو مبلغ زهيد عندما تكون محصوراً، لكن ومع مرور الأيام وسوء النظافة وزحام المحصورين، تحوّل المكان إلى بقعة من القذارة، دخلته مرات عدة، وكانت رائحة البول والخراء تخنقك عندما تدخل، وأرضية الحمامات والسيفونة نمت عليها طبقة من القذارة المتحجرة التي اتخذت شكل المكان، وأصبحت أديمه الذي نقف عليه لقضاء الحاجة. 

بصفة عامة، حمامات المدارس والجامعة -الجامعة كانت نظيفةً إلى حد ما- كلها تعاني من مشكلة النظافة، وبعض المدارس كانت حماماتها متروكة، لا يدخلها أحد لأنها أصبحت مهجورة من القذارة، تعطلت دورة المياه فانقطعت عنها، والأبواب مكسرة، والأرضية عليها ركام من القاذورات والغبار، والكهرباء لا أثر لها أيضاً؛ فتُركت وصار الطلاب يخرجون من المدرسة لقضاء حاجتهم إن اضطروا لذلك، وهذا لم يكن يسبب أيّ مشكلة عند الأساتذة، فحمّاماتهم خاصة، في جناح الإدارة الممنوع على الطلاب.  

مدرسة التحرير الإعدادية في مدينة الرمادي كانت حماماتها مكاناً مهجوراً بسبب القذارة أيضاً، وكنا نذهب إلى البيوت المجاورة لطلب الدخول إلى المرافق، وكانت أغلب البيوت تفتح أبوابها للطلبة، لأن أبناءهم طلبة في المدرسة ويعرفون القصة، ليست التحرير وحدها المدرسة التي لا توجد فيها مراحيض، ثلث مدارس العالم ليست فيها مراحيض كافية، كما أن 23 بالمئة من المدارس لا تتوفر فيها أي مراحيض. 

مراحيض تصب في نهر ينبع من الجنة 

الحمامات قادرة على إعطائك انطباعاً حول شكل الحياة والطريقة التي يعيش فيها المجتمع، وهذا الانطباع يكون واضحاً بعد تجربة شكل المرافقات العراقية العامة أو شبه العامة، في فترة الحصار ثم الاحتلال وما بعده. 

هنالك دائماً شعور بعدم المسؤولية، وجودة الحياة التي تتطلب وجود حمامات نظيفة لم تكن متوفرة منذ تلك الفترة، والناس منشغلون بما يدخل في بطونهم لا بما يخرج منها، وانهيار العملة وانخفاض الأجور زاد عند الأفراد شعور اللامبالاة، وهذا مرده أيضاً إلى قسوة حزب البعث، وثقافته بالسطو على كل شيء، فحوّل الملكية الشائعة إلى ملكية رخيصة، والأجور التي يتلقاها الأفراد على إدامتها والاهتمام بها لا تستحق العناء، وهذا يمكن ملاحظته من خلال جودة النظافة في الحمامات، فمثلاً، لم يحدث مرةً أن “الفرّاش” أو عامل النظافة الذي جزء من مهامه تنظيف المرافقات، أن حوسب أو سوئل عن عدم قيامه بواجبه؛ لأن هذا الموظف راتبه الشهري لم يكن يكفي لشراء كيلو غرام واحد من اللحم. لكن؛ إن كان راتب الموظف لا يكفي لشراء كيلوغرام واحد من اللحم.. فمن أين يأتي كل هذا الخراء؟ 

بعد سقوط نظام صدام حسين، دخل مصوّر أسوشيتد برس (Associated Press) برفقة الجيش الأمريكي إلى واحد من قصور صدام حسين الكثيرة، مشى في ممر يبدأ من صالة كبيرة كُتب على أحد جدرانها “قادسية صدام” وينتهي بجناح الحمامات، الذي دخله المصور، ووثق مرافقات الرئيس وعائلته. 

كانت الأرضية والجدران من الرخام اللامع، وحنفيات المغاسل مطلية بالذهب، وكذلك المقابض والقضبان المخصصة للمناشف، وقطع المرايا كبيرة ومؤطرة باللون الذهبي، والكثير من فوضى الألوان، حتى تساءل عن سرّ حب هذه العائلة للذهب، والذوق الرديء، وكأنَّ هذا الحمام هو حمام زوي تشاوشيسكو ابنة نيكولاي تشاوشيسكو، رئيس جمهورية رومانيا الاشتراكية آنذاك. 

في كتابها “المقهى الأوروبي.. الحياة في أوروبا بعد انهيار النظام الشيوعي” تصف سلافينكا دراكولتش حمام زوي بانه “ليس ارستقراطياً بالمرة، لكنه محاولة مثيرة للشفقة من أجل أن يكون ارستقراطياً”. 

بعد 2003، كان الانهيار قد شمل كل شيء، بما في ذلك منظومة الصرف الصحي، وشبكات تصريف مياه الأمطار، ففي بغداد وحدها، هنالك 5 ملايين متر مكعب من المياه الثقيلة تصب يومياً في نهر دجلة، رقم لا تتسع له المخيلة.  

ولكن، من أين تأتي هذه الكميات الهائلة من الفضلات؟ يقول أمير علي الحسّون، مدير عام دائرة التوعية والإعلام البيئي في وزارة البيئة العراقية، “منذ ثمانينيات القرن الماضي ونهر دجلة يتعرض لتجاوزات كبيرة من قبل الدوائر البلدية، في رمي مياه الصرف الصحي” ويسرد الحسّون كيف حوّل “المواطنون والبلديات” شبكات تصريف مياه الأمطار في بغداد إلى شبكة لتصريف المياه الثقيلة، تصب في نهر دجلة. النهر الذي يجلس على ضفافه العشّاق، ويشرب من مياهه أكثر من 9 ملايين إنسان يعيشون في بغداد، وتذكر السرديات الدينية أنه ينبع من الجنة.