"صلبان المناهج" و"أسرى المباني": الأطفال في المدارس
14 تشرين الثاني 2023
تزن نايا ابنتي 33 كيلوغراماً، بينما تزن حقيبتها بكتبها ودفاترها (7.9) كيلوغرامات، ما يعني أنها مضطرة إلى حمل ما يعادل ربع وزنها على ظهرها، معرضة إلى السقوط في أي لحظة، فضلاً عن الآثار المدمرة لضغط أوزان ثقيلة كهذه على العمود الفقري لطفلة في بداية حياتها.. عن أطفال في المدارس يحملون المناهج كـ"صلبان" ويدخلون المباني كـ"أسرى"..
يبدو الموسم الدراسي الجديد في العراق مثل مسلسل طويل وممّل يعاد كل مرة على أولياء الأمور. تتكرر المشاكل ذاتها بالطريقة ذاتها، وتبرّر وزارة التربية بالطريقة ذاتها الأسباب ذاتها. لا أحد يريد كسر رتابة هذا الشريط الفيلمي. لا شيء يُكسر هنا سوى ظهور الآباء والأمهات، والأبناء أيضاً. الوالدان لثقل المصاريف، والأبناء لثقل الحقيبة المدرسيّة.
أكتب هذه المقالة ونحن في التاسع والعشرين من تشرين الأول، مرّ شهر على بدء الدراسة والأولاد بلا كتب منهجيّة. اضطررتُ لشراء المنهج الكامل لكل واحد منهم بسعر 40-50 ألف دينار. المجموع 150 ألفاً. الوزارة تقول إن الموازنة تأخّرت. ولكن الموازنة تتأخّر كل سنة! ألا يوجد سبب جديد لكسر الملل؟ ألا يمكن للوزارة، بعد أن تصل الموازنة المتأخّرة أن تشرع، منذ الآن، في طباعة منهج العام المقبل؟ ألا يمكن اختصار مزاجات الحذف والإضافة السنوية للمنهج مبكراً حتى نتلافى مئات الملايين المهدورة من موازنة الدولة على كتب ستطبع وتوزّع إلى طلاب ستجدهم اشتروا الكتب أساساً بطباعة رديئة من مكتبات “راس الشارع”؟
أُقرت الموازنة، هذه المرة، لثلاث سنوات مقبلة. هل يعني ذلك أن حجة تأخّر التخصيصات ستتلاشى؟ وأن الكتب ستهلّ مع بدء السنة المقبلة؟
لن أتكلم عن أسعار القرطاسية، ولا الزيّ المدرسيّ في أسواق العشار، ولا أسعار الحقائب والأحذية. لكني سأخبركم أنها ارتفعت بنسبة 20 بالمئة عمّا أنفقته العام الماضي. مثنى الياسري صاحب قرطاسية “الياسري” في الزبير قال إن “معدل ارتفاع أدوات القرطاسية المدرسية يزداد بمعدل 20-25 بالمئة كل عام بفعل أزمة الدولار المزمنة”.
“ليس سعر السلعة هو من يرتفع فحسب، بل جودتها بالمقابل تنخفض. نوعية ورق الدفاتر، والأقلام والمساطر ونحوها، لزيادة هامش الربح من تجار الجملة”.
البركة بالدولار! وبإجراءات الدولة لمراقبة السوق ومحاسبة المستغلين.
التهاب الفقرات العنقيّة
في مثل هذه الأيام بالضبط من العام الماضي، جاءتني ابنتي الكبرى روان -(13) عاماً وقتها- تشكو آلاماً حادّة في رقبتها. لم تنفع مراهم المسكّنات ولا التدليك في شيء. بكت الصغيرة من الألم.
أظهرت الأشعة المقطعية التي أجراها الطبيب المختص التهاباً في الفقرات العنقيّة وبداية سوفان! كانت الصدمة مهولة. لأن روان أقل أفراد العائلة استعمالاً للهاتف المحمول. وبعد جملة من الأسئلة اكتشف الطبيب أن العلة هي المبالغة في وزن الحقيبة المدرسيّة التي تنوء بها الطفلة صاعدة-نازلة ثلاثة طوابق يومياً في مبنى مدرستها. قال الدكتور يومها: “هذا أمر شائع. أرى عديد الحالات مثل حالتها بين الطلبة مؤخراً”. ثم أضاف: “شنسوي.. الله يساعدهم على البلاء”.
طلبتُ تقريراً طبياً من الدكتور يومها وذهبتُ إلى مديرة المدرسة. بعد مداولة لم تطل -كانت السيدة متفهمةً ومتعاطفة- وصلتُ معها إلى اتفاق يقضي بأن لا تُضطر ابنتي العليلة إلى حمل الكتب كلها يومياً، بل تستعيض عنها بتجزئة الكتاب وتصوير الصفحات المراد دراستها في اليوم لكل درس على حدة. هكذا بدلاً من حمل 7 كتب منهجية ثقيلة، ستحمل روان، بأبعد الاحتمالات، 25 صفحة فقط. (إذا اقترضنا التحضير اليومي 3 صفحات لكل درس). أنقذ الاتفاق الصغير هذا حالة المسكينة من التدهور. ذهبتُ إلى مكتبة “راس الشارع” من جديد واقتنيت نسخة إضافية من كل كتاب منهجيّ.
ولكن، لماذا يحمل الطلاب الكتب كلها الى المدرسة يومياً؟ ألا يفترضُ أن هناك جدولاً للدروس اليوميّة؟
مع بدء العام الدراسي، تأخذ بعض إدارات المدارس وقتاً ليس بالقليل حتى تنشر لطلبتها جدول الحصص الأسبوعي.
يضطر 9 ملايين طالب وطالبة عراقية يومياً الى حمل الكتب، كل الكتب، لأن بعض الإدارات تتأخّر في وضع جدول. لكن هذا الجدول -حتى وإن حضر- لا يجري احترامه دائماً، ففلانة لم تدوام اليوم، لذا فأن علانة قررت أخذ درسها، ودرس علانة غير موجود في الجدول، تبدأ علانة بلوم الأطفال:
-ليش ما تجيبون كتاب الرياضيات (مثلاً). حتى لو ماكو بالجدول؟! مناه وجاي جيبوه كل يوم حتى خاف انطيكم درس!
هكذا سيجلب الطلاب المنهج الدراسي كله، يومياً، للخلاص من صراخ معلم أو معلمة يجدان في صراخهما على الأطفال متنفّساً لمشاكلهما النفسية في عراق 2023.
تطلب كل معلمة أو معلم دفترا (أبو الميتين)، وتختص الدروس الأساسية مثل اللغة العربية والرياضيات واللغة الإنجليزية بالدفاتر العملاقة تلك، ثم تجيء دروس مثل العلوم والتربية الإسلامية والفيزياء والكيمياء من بعدها بدفاتر تتراوح بين (80-100). في الغالب، وفي يوم مدرسي اعتيادي، سيكون على طالب/ة دراسة متوسطة أن ي/تأتي بسبعة كتب منهجية وعشرة دفاتر.
الأوقات الصباحية التي اصطحب فيها الأولاد ذهاباً الى المدرسة، وأعود بهم بعد انتهاء الدوام تكون أوقات ملأى بمشاهد يحزن لها الخاطر. أولاد وبنات بأجساد غضة، ناعمة، مسحوبة الكتفين إلى الوراء بفعل ذراعي الحقيبة المدرسية التي يحملونها على ظهورهم. بدوا كأنهم معذبون بحمل صلبانهم كما في مسيرة الجلجلة المسيحية. أو أسرى في سلاسل تجرهم إلى الخلف بيد لا مرئية. هي يد الحظ الذي جاء بهم إلى نظام تعليمي مترهل وبليد وخارج سياق التاريخ. بعض الأطفال كانت حقائبهم تضارع أجسادهم كتلة وحجماً. بعضهم يسحلون الحقائب في عناء كما تجر الأضاحي والعرق يتصبب بارتعاش فوق وجوههم اللامعة من أثر الشمس.
رأيت آباءً تجردوا بإيثار بالغ من وقارهم، ومنطق “الزحمة” و”العيب” وقرروا أن يحملوا على أكتافهم حقائب بناتهم وبنيهم، بألوانها الوردية والحمر المزركشة. عيون الآباء وهم يحملون الحقائب كانت مثبتة في نقطة غائمة لا تبين من الطريق، غير مبالين بنظرات المارة بقدر مبالاتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة التي ابتلي بها أولادهم، لكنهم لم يكونوا سعداء على أي حال.
ولمن لا يصدّق مأساة صخرة سيزيف التي يحملها التلاميذ فقد أجريت تطبيقاً على حقيبة ابنتي الصغرى (نايا):
تزن نايا 33 كيلوغراماً، وهي في الصف الخامس الابتدائي. حين جئت بحقيبتها الى الميزان كان وزن الحقيبة، بكتبها ودفاترها في يوم اعتيادي (7.9) كيلوغرامات. وبحسبة بسيطة فأن نايا مضطرة الى حمل ما يعادل ربع وزنها تماماً على ظهرها، ما يجعلها ضعيفة التوازن أثناء المشي، معرضة إلى السقوط في أي لحظة، فضلاً عن الآثار المدمرة لضغط أوزان ثقيلة كهذه على العمود الفقري لطفلة في بداية حياتها.
النظام التعليمي في العراق بأخطائه وبانعدام مهنيته وإصراره على التغافل عن سبل التطوير ومواكبة دول الجوار على الأقل يدعو طلابنا بشكل غير مباشر إلى كراهية المدرسة ونبذ التعلم. لن تطالب هذه المقالة بسبورات الكترونية ذكية ولا “آيبادات” للطلبة يدرسون عليها الواجب البيتي، بل تأمل، في الأقل، مراجعة ملفات توفير الكتاب والقرطاسية وتخفيف ثقل الحقائب، “وإذا ترهم كهرباء مستقرة تشغل بنكة بكل صف أنعم الله”.
اكتب.. اكتب.. اكتب
لا تزال طرائق التدريس للكوادر العراقيّة تهتم بسياقات وتقاليد غير مفهومة أو مبررة، ترهق الطالب وتجعله يخسر وقته على حساب فهم المادة العلمية واستيعابها. تعتمد الطريقة على واجبات بيتية هائلة وغير منطقية يرسلها مدرس المادة مثل قذائف عشوائية لطلابه من دون التفكير في إمكانية أن يكون الوقت المتبقي من اليوم كافيا لإكمال كل تلك الواجبات بعد عودة الطالب من المدرسة. تتمّ هذه الواجبات من دون أي تنسيق يذكر بين كوادر المدرسة نفسها، فطبيعي جداً أن ترى معلم الاجتماعيات يطلب رسم 7 خرائط ملونة وحفظ 3 صفحات، ومعلم الرياضيات يطلب حل تمارين نهاية الفصل من 6-7 صفحات، ومعلم العربي يطلب نقل ما كتبه على السبورة خلال الدرس -وقد يتجاوز ما كتبه عشر صفحات، ومعلم الكيمياء يطلب حفظ وتحضير 9 صفحات، كل هذا “العذاب” في نصف يوم. فالطالب يعود الساعة الواحدة والنصف إلى بيته وتتبقى له فترة المساء فقط لإكمال كل شيء. المأساة لطلبة الدوام العصري -ساعات العصر- مضاعفة بالطبع.
تلك الضغوطات كلها تضع الطالب في وضع نفسي صعب يزيد من مستويات التوتر والقلق ويسبب مشاكل جادة في النوم مما يؤثر على صحته البدنية والنفسية، والقدرة على التركيز في المدرسة. عندما يمضي الطلاب وقتاً طويلاً في إنجاز الواجبات، يفقدون الوقت الذي يمكنهم فيه القيام بأنشطة ترفيهية أو اجتماعية ويتحول موسم الدراسة إلى شعور عام بالإحباط والنكد والجهد العصبي بدلاً من أن يكون تجربة تجمع الاكتشاف بالمتعة.
لا تفكر الكوادر التدريسية ولا هيئات الإشراف التربوي -هل هناك إشراف تربوي جادّ في العراق؟- لا تفكر أن انشغال الطلاب بالواجبات المنزلية الكثيرة قد يؤدّي إلى عدم قدرتهم على مراجعة المواد وفهمها بشكل جيد. من المهم تحقيق التوازن بين الواجبات المنزلية والحياة الشخصية والاجتماعية لضمان تجربة تعليمية صحية ومتوازنة للطلاب، ولكن، هل من مُدَّكِر؟
حرب المدارس الأهليّة
التجارب العراقية كلها، في شتى مجالات الخدمة الحكومية، تقول بأن لا شيء يجري اعتباطاً. إن إهمال التعليم الحكومي لا يمكن أن يقرأ بعيداً عن سياق صعود التعليم الأهلي “التجاري” في السنوات الأخيرة.
المطاعم، ومراكز التجميل، والمدارس الأهلية هي أكثر الاستثمارات تكاثراً في العراق. قلت التعليم التجاري لأن الأهداف الربحية هي الأساس في العملية، وليس في الربح عيب، لكن المشكلة تكمن في عدم توفير خدمات تعليمة نموذجية في أغلب تلك المدارس الأهلية بما يتناسب والأسعار الباهظة التي تتقاضاها. ومن ثم في تغاضي الرقابة الحكومية على غياب معايير الجودة في الكوادر التدريسية والمواصفات القياسية للمباني المتخذة مدارس وإجراءات السلامة فيها.
بعد أن اشغلت المدارس الأهلية أغلب مباني المدينة لجأ بعض المستثمرين الى استخدام العمارات التجارية التي تفتقر أغلبها الى متطلبات السلامة من الحوادث مثل نظام إنذار الحريق المبكر ومخرجات آمنة للطوارئ. لكن القصة لم تقف على ذلك، فالعمارات إيجاراتها مرتفعة، وعددها محدود، لذا ذهب المستثمرون الى خيار أشد تطرفاً وهو استئجار البيوت السكنية واتخاذها مدارس!
والبيوت شأن والمدارس شأن آخر. كيف يمكننا تخيل منزل، مهما كانت مساحته واسعة، أن يتحول في لحظة، إلى مدرسة؟! كيف يحشر الطلاب في غرف أعدت لتكون مطابخ أو صالات جلوس أو غرف منام؟ كيف تستوعب الحمامات الصحيّة أفراداً لا يقلون -بأقل التقديرات- عن 100 طالب وهي المُعدّة لتحمل 5 أفراد على أبعد تقدير؟ وأي نظام تهوية يتوفر لهؤلاء المساكين؟
المعنيون بتفريخ مدارس أهليّة لا يفكرون بالمعايير القياسيّة المفترض توفّرها في مبنى يُراد له أن يكون مدرسةً، وأبسطها، الخصوصية التصميمية التي تراعي تقليل التداخل الصوتي بين الفصول الدراسية، وتوفير ساحة للرياضة والراحة وقضاء الفرصة ما بين الدروس، إلا إذا شاء المدير أن يقضوها فوق السطوح!
في محيط المنطقة التي أعيش فيها، وهي لا تتجاوز كيلومترا مربعا واحدا ثمة 12 بيتا سكنيا تحول إلى (مدرسة) في السنتين الأخيريتين، والرقم في ازدياد. أراهم كل يوم ينضغطون، محشورين، بعضهم لبعض، كما أعواد الثقاب الخشبية في علبة (ثري ستارز).
قد يسأل سائل أين لجان التربية المتخصصة من المخالفات الصريحة هذه؟ ويكفي أن نجيب أن معظم المدارس تعود إلى متنفذين ومسؤولين سابقين وحاليين في الدولة ولن يستطيع أحد محاسبتهم.
لكن الناس تستطيع أن تحاسب. بأن تمتنع من تسجيل أولادها في مدارس تستغفلهم ولا تحترم إنسانية بنيهم.
هل انتهت القصة؟ بالتأكيد لا. يقول لي صديق، وهو مدير مدرسة حكومية نموذجية، اتحفظ على ذكر اسمه، أن ثمة إجراءات مباشرة، وغير مباشرة، من جهات حكومية، الهدف منها التضييق على النجاحات التي تحققها المدارس النموذجية الحكومية كل عام، لأن نجاحها وسمعتها الجيدة تؤثر على معدلات الإقبال على المدارس الأهلية وبالتالي تقلل من أرباحها.
واحدة من طرق الضغط يجري في امتحان القبول التنافسي الذي يجري كل عام في المدارس النموذجية، إذ يفترض أن المدارس تلك لها طاقة استيعابية محددة بـ 50 طالبا للمرحلة الأولى. يتنافس في العادة ما معدله 500 طالب، ولنفترض أن 130 طالباً منهم يتجاوزون الاختبار. وبدلاً من إعلان أسماء الخمسين طالباً الأوائل المتأهلين للقبول بحسب معدلاتهم المتحصلة فقط، تعلن وزارة التربية أسماء الـ130 جميعهم، المؤهلين وغير المؤهلين، وتترك إدارات المدارس النموذجية في معركة مفتوحة مع أهالي الناجحين غير المؤهلين ممن يجيء تسلسل أولادهم بعد الرقم 50. تنطلق المناشدات والحملات والمطالبات التي تنتهي بـ”مكرمة” قبول الـ130 كلهم في المرحلة الأولى فحسب!
130 طالباً، أي ست شعبٍ في مرحلة واحدة! ولنا أن نتخيل ردة فعل الكادر التعليمي، وطاقة الفصول الاستيعابية.
التضخم السنوي في أعداد المقبولين في المدارس النموذجية سيخرج هذه المدارس عاجلاً أم أجلاً من خصوصيتها “النموذجية” وسيحولها الى مدارس عادية، فما معنى الامتحان التنافسي إذا لم يؤخذ بالتسلسل المترتب على أثره؟ كما أن جودة أداء الكادر التدريسي ستنخفض بلا شك مع تضاعف أرقام المقبولين وفوضى تعدد الشعب وتكرار الحصص التي تصيب الكادر بالملل والإرهاق. المستفيد الأول من هذا الإرباك هي المدارس الأهلية التي ستكون البديل الأول بلا شك للأهالي مضطرين أن يتحملوا أعباء مالية إضافية.
تضخم الأعداد هذا يقابله تلكؤٌ غريب في تنفيذ مشاريع بناء مبانٍ جديدة للمدارس النموذجية على الرغم من الوفرة المالية هذه السنة ووعود الحكومة بإنجاز المشاريع المتأخرة. وإذا جمعنا الأسباب كلها فإن الصورة ستكون أكثر وضوحاً.
تعاني أغلب مدارس البصرة من تهالك وقدم في أساساتها وبعضها مهدد بالانهيار. مدرسة “ثغر العراق” الثانوية للبنات في شارع الألبان بمركز البصرة أخلت العام الماضي فصلين دراسيين خوفاً على الطالبات لتعرض سقفيهما إلى أضرار شديدة يتوقّع معها انهيارهما في أي لحظة.
يقول أحد الآباء من الجالسين على الدكّة المقابلة للمدرسة بانتظار “الحَلّة”:
-“من رادو يسوون الخليجي گلبوا الدنيا! طريق المطار خلصوه.. وشوارع تبلطت.. وبنايات ما كاملة من سنين كملت بأسابيع… وهسه حاشرين كل 60 طالبة بصف واحد”.
ينفتح باب المدرسة الرئيس. تندفع جموع الفتيات كأنهن لاجئاتٍ فكّت أمامهن بوابات الحدود. حين خرجت روان من باب المدرسة بدت كغريقٍ انتشل للتو من أعماق شط العرب. تنفّست الصغيرة أنفاساً عميقة متلاحقة، كان الهواء رطباً، ثقيلاً، آتياً من الخليج.
-بابا.. كم بنيّة أنتم بالصف؟
-55 طالبة!
*
قبل ختام المقالة، قررت وزارة التربية (تحديث) مادة اللغة الإنكليزية للصف الثالث المتوسط بعد أن اشترت العائلات الكتاب من السوق. إذن الى مكتبة (راس الشارع) للمرة الثالثة وبنجاح ساحق!
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
يبدو الموسم الدراسي الجديد في العراق مثل مسلسل طويل وممّل يعاد كل مرة على أولياء الأمور. تتكرر المشاكل ذاتها بالطريقة ذاتها، وتبرّر وزارة التربية بالطريقة ذاتها الأسباب ذاتها. لا أحد يريد كسر رتابة هذا الشريط الفيلمي. لا شيء يُكسر هنا سوى ظهور الآباء والأمهات، والأبناء أيضاً. الوالدان لثقل المصاريف، والأبناء لثقل الحقيبة المدرسيّة.
أكتب هذه المقالة ونحن في التاسع والعشرين من تشرين الأول، مرّ شهر على بدء الدراسة والأولاد بلا كتب منهجيّة. اضطررتُ لشراء المنهج الكامل لكل واحد منهم بسعر 40-50 ألف دينار. المجموع 150 ألفاً. الوزارة تقول إن الموازنة تأخّرت. ولكن الموازنة تتأخّر كل سنة! ألا يوجد سبب جديد لكسر الملل؟ ألا يمكن للوزارة، بعد أن تصل الموازنة المتأخّرة أن تشرع، منذ الآن، في طباعة منهج العام المقبل؟ ألا يمكن اختصار مزاجات الحذف والإضافة السنوية للمنهج مبكراً حتى نتلافى مئات الملايين المهدورة من موازنة الدولة على كتب ستطبع وتوزّع إلى طلاب ستجدهم اشتروا الكتب أساساً بطباعة رديئة من مكتبات “راس الشارع”؟
أُقرت الموازنة، هذه المرة، لثلاث سنوات مقبلة. هل يعني ذلك أن حجة تأخّر التخصيصات ستتلاشى؟ وأن الكتب ستهلّ مع بدء السنة المقبلة؟
لن أتكلم عن أسعار القرطاسية، ولا الزيّ المدرسيّ في أسواق العشار، ولا أسعار الحقائب والأحذية. لكني سأخبركم أنها ارتفعت بنسبة 20 بالمئة عمّا أنفقته العام الماضي. مثنى الياسري صاحب قرطاسية “الياسري” في الزبير قال إن “معدل ارتفاع أدوات القرطاسية المدرسية يزداد بمعدل 20-25 بالمئة كل عام بفعل أزمة الدولار المزمنة”.
“ليس سعر السلعة هو من يرتفع فحسب، بل جودتها بالمقابل تنخفض. نوعية ورق الدفاتر، والأقلام والمساطر ونحوها، لزيادة هامش الربح من تجار الجملة”.
البركة بالدولار! وبإجراءات الدولة لمراقبة السوق ومحاسبة المستغلين.
التهاب الفقرات العنقيّة
في مثل هذه الأيام بالضبط من العام الماضي، جاءتني ابنتي الكبرى روان -(13) عاماً وقتها- تشكو آلاماً حادّة في رقبتها. لم تنفع مراهم المسكّنات ولا التدليك في شيء. بكت الصغيرة من الألم.
أظهرت الأشعة المقطعية التي أجراها الطبيب المختص التهاباً في الفقرات العنقيّة وبداية سوفان! كانت الصدمة مهولة. لأن روان أقل أفراد العائلة استعمالاً للهاتف المحمول. وبعد جملة من الأسئلة اكتشف الطبيب أن العلة هي المبالغة في وزن الحقيبة المدرسيّة التي تنوء بها الطفلة صاعدة-نازلة ثلاثة طوابق يومياً في مبنى مدرستها. قال الدكتور يومها: “هذا أمر شائع. أرى عديد الحالات مثل حالتها بين الطلبة مؤخراً”. ثم أضاف: “شنسوي.. الله يساعدهم على البلاء”.
طلبتُ تقريراً طبياً من الدكتور يومها وذهبتُ إلى مديرة المدرسة. بعد مداولة لم تطل -كانت السيدة متفهمةً ومتعاطفة- وصلتُ معها إلى اتفاق يقضي بأن لا تُضطر ابنتي العليلة إلى حمل الكتب كلها يومياً، بل تستعيض عنها بتجزئة الكتاب وتصوير الصفحات المراد دراستها في اليوم لكل درس على حدة. هكذا بدلاً من حمل 7 كتب منهجية ثقيلة، ستحمل روان، بأبعد الاحتمالات، 25 صفحة فقط. (إذا اقترضنا التحضير اليومي 3 صفحات لكل درس). أنقذ الاتفاق الصغير هذا حالة المسكينة من التدهور. ذهبتُ إلى مكتبة “راس الشارع” من جديد واقتنيت نسخة إضافية من كل كتاب منهجيّ.
ولكن، لماذا يحمل الطلاب الكتب كلها الى المدرسة يومياً؟ ألا يفترضُ أن هناك جدولاً للدروس اليوميّة؟
مع بدء العام الدراسي، تأخذ بعض إدارات المدارس وقتاً ليس بالقليل حتى تنشر لطلبتها جدول الحصص الأسبوعي.
يضطر 9 ملايين طالب وطالبة عراقية يومياً الى حمل الكتب، كل الكتب، لأن بعض الإدارات تتأخّر في وضع جدول. لكن هذا الجدول -حتى وإن حضر- لا يجري احترامه دائماً، ففلانة لم تدوام اليوم، لذا فأن علانة قررت أخذ درسها، ودرس علانة غير موجود في الجدول، تبدأ علانة بلوم الأطفال:
-ليش ما تجيبون كتاب الرياضيات (مثلاً). حتى لو ماكو بالجدول؟! مناه وجاي جيبوه كل يوم حتى خاف انطيكم درس!
هكذا سيجلب الطلاب المنهج الدراسي كله، يومياً، للخلاص من صراخ معلم أو معلمة يجدان في صراخهما على الأطفال متنفّساً لمشاكلهما النفسية في عراق 2023.
تطلب كل معلمة أو معلم دفترا (أبو الميتين)، وتختص الدروس الأساسية مثل اللغة العربية والرياضيات واللغة الإنجليزية بالدفاتر العملاقة تلك، ثم تجيء دروس مثل العلوم والتربية الإسلامية والفيزياء والكيمياء من بعدها بدفاتر تتراوح بين (80-100). في الغالب، وفي يوم مدرسي اعتيادي، سيكون على طالب/ة دراسة متوسطة أن ي/تأتي بسبعة كتب منهجية وعشرة دفاتر.
الأوقات الصباحية التي اصطحب فيها الأولاد ذهاباً الى المدرسة، وأعود بهم بعد انتهاء الدوام تكون أوقات ملأى بمشاهد يحزن لها الخاطر. أولاد وبنات بأجساد غضة، ناعمة، مسحوبة الكتفين إلى الوراء بفعل ذراعي الحقيبة المدرسية التي يحملونها على ظهورهم. بدوا كأنهم معذبون بحمل صلبانهم كما في مسيرة الجلجلة المسيحية. أو أسرى في سلاسل تجرهم إلى الخلف بيد لا مرئية. هي يد الحظ الذي جاء بهم إلى نظام تعليمي مترهل وبليد وخارج سياق التاريخ. بعض الأطفال كانت حقائبهم تضارع أجسادهم كتلة وحجماً. بعضهم يسحلون الحقائب في عناء كما تجر الأضاحي والعرق يتصبب بارتعاش فوق وجوههم اللامعة من أثر الشمس.
رأيت آباءً تجردوا بإيثار بالغ من وقارهم، ومنطق “الزحمة” و”العيب” وقرروا أن يحملوا على أكتافهم حقائب بناتهم وبنيهم، بألوانها الوردية والحمر المزركشة. عيون الآباء وهم يحملون الحقائب كانت مثبتة في نقطة غائمة لا تبين من الطريق، غير مبالين بنظرات المارة بقدر مبالاتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة التي ابتلي بها أولادهم، لكنهم لم يكونوا سعداء على أي حال.
ولمن لا يصدّق مأساة صخرة سيزيف التي يحملها التلاميذ فقد أجريت تطبيقاً على حقيبة ابنتي الصغرى (نايا):
تزن نايا 33 كيلوغراماً، وهي في الصف الخامس الابتدائي. حين جئت بحقيبتها الى الميزان كان وزن الحقيبة، بكتبها ودفاترها في يوم اعتيادي (7.9) كيلوغرامات. وبحسبة بسيطة فأن نايا مضطرة الى حمل ما يعادل ربع وزنها تماماً على ظهرها، ما يجعلها ضعيفة التوازن أثناء المشي، معرضة إلى السقوط في أي لحظة، فضلاً عن الآثار المدمرة لضغط أوزان ثقيلة كهذه على العمود الفقري لطفلة في بداية حياتها.
النظام التعليمي في العراق بأخطائه وبانعدام مهنيته وإصراره على التغافل عن سبل التطوير ومواكبة دول الجوار على الأقل يدعو طلابنا بشكل غير مباشر إلى كراهية المدرسة ونبذ التعلم. لن تطالب هذه المقالة بسبورات الكترونية ذكية ولا “آيبادات” للطلبة يدرسون عليها الواجب البيتي، بل تأمل، في الأقل، مراجعة ملفات توفير الكتاب والقرطاسية وتخفيف ثقل الحقائب، “وإذا ترهم كهرباء مستقرة تشغل بنكة بكل صف أنعم الله”.
اكتب.. اكتب.. اكتب
لا تزال طرائق التدريس للكوادر العراقيّة تهتم بسياقات وتقاليد غير مفهومة أو مبررة، ترهق الطالب وتجعله يخسر وقته على حساب فهم المادة العلمية واستيعابها. تعتمد الطريقة على واجبات بيتية هائلة وغير منطقية يرسلها مدرس المادة مثل قذائف عشوائية لطلابه من دون التفكير في إمكانية أن يكون الوقت المتبقي من اليوم كافيا لإكمال كل تلك الواجبات بعد عودة الطالب من المدرسة. تتمّ هذه الواجبات من دون أي تنسيق يذكر بين كوادر المدرسة نفسها، فطبيعي جداً أن ترى معلم الاجتماعيات يطلب رسم 7 خرائط ملونة وحفظ 3 صفحات، ومعلم الرياضيات يطلب حل تمارين نهاية الفصل من 6-7 صفحات، ومعلم العربي يطلب نقل ما كتبه على السبورة خلال الدرس -وقد يتجاوز ما كتبه عشر صفحات، ومعلم الكيمياء يطلب حفظ وتحضير 9 صفحات، كل هذا “العذاب” في نصف يوم. فالطالب يعود الساعة الواحدة والنصف إلى بيته وتتبقى له فترة المساء فقط لإكمال كل شيء. المأساة لطلبة الدوام العصري -ساعات العصر- مضاعفة بالطبع.
تلك الضغوطات كلها تضع الطالب في وضع نفسي صعب يزيد من مستويات التوتر والقلق ويسبب مشاكل جادة في النوم مما يؤثر على صحته البدنية والنفسية، والقدرة على التركيز في المدرسة. عندما يمضي الطلاب وقتاً طويلاً في إنجاز الواجبات، يفقدون الوقت الذي يمكنهم فيه القيام بأنشطة ترفيهية أو اجتماعية ويتحول موسم الدراسة إلى شعور عام بالإحباط والنكد والجهد العصبي بدلاً من أن يكون تجربة تجمع الاكتشاف بالمتعة.
لا تفكر الكوادر التدريسية ولا هيئات الإشراف التربوي -هل هناك إشراف تربوي جادّ في العراق؟- لا تفكر أن انشغال الطلاب بالواجبات المنزلية الكثيرة قد يؤدّي إلى عدم قدرتهم على مراجعة المواد وفهمها بشكل جيد. من المهم تحقيق التوازن بين الواجبات المنزلية والحياة الشخصية والاجتماعية لضمان تجربة تعليمية صحية ومتوازنة للطلاب، ولكن، هل من مُدَّكِر؟
حرب المدارس الأهليّة
التجارب العراقية كلها، في شتى مجالات الخدمة الحكومية، تقول بأن لا شيء يجري اعتباطاً. إن إهمال التعليم الحكومي لا يمكن أن يقرأ بعيداً عن سياق صعود التعليم الأهلي “التجاري” في السنوات الأخيرة.
المطاعم، ومراكز التجميل، والمدارس الأهلية هي أكثر الاستثمارات تكاثراً في العراق. قلت التعليم التجاري لأن الأهداف الربحية هي الأساس في العملية، وليس في الربح عيب، لكن المشكلة تكمن في عدم توفير خدمات تعليمة نموذجية في أغلب تلك المدارس الأهلية بما يتناسب والأسعار الباهظة التي تتقاضاها. ومن ثم في تغاضي الرقابة الحكومية على غياب معايير الجودة في الكوادر التدريسية والمواصفات القياسية للمباني المتخذة مدارس وإجراءات السلامة فيها.
بعد أن اشغلت المدارس الأهلية أغلب مباني المدينة لجأ بعض المستثمرين الى استخدام العمارات التجارية التي تفتقر أغلبها الى متطلبات السلامة من الحوادث مثل نظام إنذار الحريق المبكر ومخرجات آمنة للطوارئ. لكن القصة لم تقف على ذلك، فالعمارات إيجاراتها مرتفعة، وعددها محدود، لذا ذهب المستثمرون الى خيار أشد تطرفاً وهو استئجار البيوت السكنية واتخاذها مدارس!
والبيوت شأن والمدارس شأن آخر. كيف يمكننا تخيل منزل، مهما كانت مساحته واسعة، أن يتحول في لحظة، إلى مدرسة؟! كيف يحشر الطلاب في غرف أعدت لتكون مطابخ أو صالات جلوس أو غرف منام؟ كيف تستوعب الحمامات الصحيّة أفراداً لا يقلون -بأقل التقديرات- عن 100 طالب وهي المُعدّة لتحمل 5 أفراد على أبعد تقدير؟ وأي نظام تهوية يتوفر لهؤلاء المساكين؟
المعنيون بتفريخ مدارس أهليّة لا يفكرون بالمعايير القياسيّة المفترض توفّرها في مبنى يُراد له أن يكون مدرسةً، وأبسطها، الخصوصية التصميمية التي تراعي تقليل التداخل الصوتي بين الفصول الدراسية، وتوفير ساحة للرياضة والراحة وقضاء الفرصة ما بين الدروس، إلا إذا شاء المدير أن يقضوها فوق السطوح!
في محيط المنطقة التي أعيش فيها، وهي لا تتجاوز كيلومترا مربعا واحدا ثمة 12 بيتا سكنيا تحول إلى (مدرسة) في السنتين الأخيريتين، والرقم في ازدياد. أراهم كل يوم ينضغطون، محشورين، بعضهم لبعض، كما أعواد الثقاب الخشبية في علبة (ثري ستارز).
قد يسأل سائل أين لجان التربية المتخصصة من المخالفات الصريحة هذه؟ ويكفي أن نجيب أن معظم المدارس تعود إلى متنفذين ومسؤولين سابقين وحاليين في الدولة ولن يستطيع أحد محاسبتهم.
لكن الناس تستطيع أن تحاسب. بأن تمتنع من تسجيل أولادها في مدارس تستغفلهم ولا تحترم إنسانية بنيهم.
هل انتهت القصة؟ بالتأكيد لا. يقول لي صديق، وهو مدير مدرسة حكومية نموذجية، اتحفظ على ذكر اسمه، أن ثمة إجراءات مباشرة، وغير مباشرة، من جهات حكومية، الهدف منها التضييق على النجاحات التي تحققها المدارس النموذجية الحكومية كل عام، لأن نجاحها وسمعتها الجيدة تؤثر على معدلات الإقبال على المدارس الأهلية وبالتالي تقلل من أرباحها.
واحدة من طرق الضغط يجري في امتحان القبول التنافسي الذي يجري كل عام في المدارس النموذجية، إذ يفترض أن المدارس تلك لها طاقة استيعابية محددة بـ 50 طالبا للمرحلة الأولى. يتنافس في العادة ما معدله 500 طالب، ولنفترض أن 130 طالباً منهم يتجاوزون الاختبار. وبدلاً من إعلان أسماء الخمسين طالباً الأوائل المتأهلين للقبول بحسب معدلاتهم المتحصلة فقط، تعلن وزارة التربية أسماء الـ130 جميعهم، المؤهلين وغير المؤهلين، وتترك إدارات المدارس النموذجية في معركة مفتوحة مع أهالي الناجحين غير المؤهلين ممن يجيء تسلسل أولادهم بعد الرقم 50. تنطلق المناشدات والحملات والمطالبات التي تنتهي بـ”مكرمة” قبول الـ130 كلهم في المرحلة الأولى فحسب!
130 طالباً، أي ست شعبٍ في مرحلة واحدة! ولنا أن نتخيل ردة فعل الكادر التعليمي، وطاقة الفصول الاستيعابية.
التضخم السنوي في أعداد المقبولين في المدارس النموذجية سيخرج هذه المدارس عاجلاً أم أجلاً من خصوصيتها “النموذجية” وسيحولها الى مدارس عادية، فما معنى الامتحان التنافسي إذا لم يؤخذ بالتسلسل المترتب على أثره؟ كما أن جودة أداء الكادر التدريسي ستنخفض بلا شك مع تضاعف أرقام المقبولين وفوضى تعدد الشعب وتكرار الحصص التي تصيب الكادر بالملل والإرهاق. المستفيد الأول من هذا الإرباك هي المدارس الأهلية التي ستكون البديل الأول بلا شك للأهالي مضطرين أن يتحملوا أعباء مالية إضافية.
تضخم الأعداد هذا يقابله تلكؤٌ غريب في تنفيذ مشاريع بناء مبانٍ جديدة للمدارس النموذجية على الرغم من الوفرة المالية هذه السنة ووعود الحكومة بإنجاز المشاريع المتأخرة. وإذا جمعنا الأسباب كلها فإن الصورة ستكون أكثر وضوحاً.
تعاني أغلب مدارس البصرة من تهالك وقدم في أساساتها وبعضها مهدد بالانهيار. مدرسة “ثغر العراق” الثانوية للبنات في شارع الألبان بمركز البصرة أخلت العام الماضي فصلين دراسيين خوفاً على الطالبات لتعرض سقفيهما إلى أضرار شديدة يتوقّع معها انهيارهما في أي لحظة.
يقول أحد الآباء من الجالسين على الدكّة المقابلة للمدرسة بانتظار “الحَلّة”:
-“من رادو يسوون الخليجي گلبوا الدنيا! طريق المطار خلصوه.. وشوارع تبلطت.. وبنايات ما كاملة من سنين كملت بأسابيع… وهسه حاشرين كل 60 طالبة بصف واحد”.
ينفتح باب المدرسة الرئيس. تندفع جموع الفتيات كأنهن لاجئاتٍ فكّت أمامهن بوابات الحدود. حين خرجت روان من باب المدرسة بدت كغريقٍ انتشل للتو من أعماق شط العرب. تنفّست الصغيرة أنفاساً عميقة متلاحقة، كان الهواء رطباً، ثقيلاً، آتياً من الخليج.
-بابا.. كم بنيّة أنتم بالصف؟
-55 طالبة!
*
قبل ختام المقالة، قررت وزارة التربية (تحديث) مادة اللغة الإنكليزية للصف الثالث المتوسط بعد أن اشترت العائلات الكتاب من السوق. إذن الى مكتبة (راس الشارع) للمرة الثالثة وبنجاح ساحق!