علي الورديّ.. رحلة الهرب من "العطارة" إلى "علوم الناس" 

علي طه

23 أكتوبر 2023

علي الوردي يعتقد أن جميعَ الناس يحبون المال والجنس والمكانة الاجتماعية، لكن بينما يستطيع المترفون إيهام الناس بالعكس، فإن عامة الناس من السوقة والبسطاء يظهرون ذلك علناً، فيحصلون على مذمة الوعّاظ ويفلت منها السلاطين والأغنياء.. رحلة علي الوردي من "العطارة" إلى "علوم الناس"..

عام 2012، كنت في بيت أخوالي جالساً في غرفة الضيوف، وصادفتُ كتاباً عليه غبارٌ. مسكته باندهاش، عنوانه “مهزلة العقل البشري”. كان أولَ كتاب أقرأه لعلي الوردي. كنت شديد التديّن، وجدت أن أفكاره مزعجة لكن أسلوبه مشوق. قرأت ثلاثة أرباع الكتاب خلال نهار واحد. رغم مقاومتي للأفكار، لكن الأسلوب جارف من جهة، والأفكار أكثر عملية من التعقيد الفكروي الذي يمنحني إياه الاستغراق في الدين من جهة أخرى. هكذا كان شعوري معه في بقية كتبه حتى عام 2014، حينها لم أشعر تجاهه بشيء من الانزعاج، فبدأت مرحلة أخرى، ليس مرحلة الاكتفاء بما طرح، بل ضرورة تجاوزه لأبعد مما وصل. 

شيء من السيرة 

ولد علي حسين الورد عام 1913، أيام الحكم العثماني، وعلى مشارف اندلاع الحرب العالمية الثانية التي قسّمت العراقَ، بنظره، إلى نصفين، ما قبل وما بعد.  

ينتمي الوردي إلى عائلة اشتغلت سابقاً بتقطير ماء الورد، فأحد أجداده يلقّب بـ”أبي الورد”، وبفضل العلامة مصطفى جواد نُحِت له لقبُ “الوردي” الذي لازمه طيلة حياته. اشتغل مع والده في دكان الصياغة، ثم مع رجل عطّار، وأخيراً اشتغل وحده مالكاً دكانه الخاص، كل ذلك بعد أن أخرجه والده من المدرسة لكونها في نظره غيرَ ذات نفعٍ لابنه حتى فاته الأوان، وما من سبيل أمامه غير الدراسة المسائية.  

ورغم اضطراره للعمل في السوق وكراهيته إياه بشدة، فهو قد خرج بتجربة كثيفة عن الحياة الاجتماعية جعلته ينعطف بقوة في تفكيره مغايراً السائد الأكاديمي.  

في الدراسة المسائية، على ما فيها من علات تضاف لعلات الدراسة الصباحية الحكومية، خرج علي الوردي بصفته الأفضل بين أقرانه. 

دخل للمتوسطة عام 1932، وتخرّج منها عام 1935، وبعدها بعام حصل على شهادة البكلوريا بصفته الأول على العراق، فابتُعث من قبل الحكومة الملكية إلى الجامعة الأمريكية بلبنان، لينال شهادة البكالوريوس بدرجة الشرف عام 1943. عاد إلى العراق واشتغل في التعليم ثلاث سنوات، ثم ابتُعث بعدها إلى جامعة تكساس في أميركا لينال شهادة ماجستير علم الاجتماع عن رسالته “سوسيولوجيا الإسلام”. وبعدها بعامين، أي عام 1950، نال الدكتوراه بدرجة الشرف من الجامعة نفسها عن أطروحته “نظرية المعرفة عند ابن خلدون”. رجع للعراق بعدها مباشرة وأسس قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد، وكان رائد هذا الفعل عربياً وعراقياً. 

عام 1969 أحال نفسه للتقاعد، وكان أول من ينال درجة “أستاذ متمرس”، فبقي يوجه طلابه في بحوثهم، وتفرّغ لبحوثه هو وكتاباته. وهو قد اعتزل نشر الكتب مرتين، الأولى لمدة أربع سنوات، بدءاً من ثورة 14 تموز 1958 حتى عام 1962 الذي نشر فيه كتابه “منطق ابن خلدون”. والثانية بداية من الثمانينات حتى رحيله عام 1995، يوم 13 تموز. 

يتكلم البعض عن اعتزاله الكتابة، بينما كل القرائن تشير إلى اعتزاله النشر وليس الكتابة. فهنالك الكثير من الشواهد التي يذكرها أصدقاؤه، مثل سلام الشماع وحسين الهنداوي، تقول إنه كتب كتباً بعض منها نشر، لكن كثيراً منها ضاع، وهي خسارة كبيرة سيما أن عناوينها مغرية من قبيل الجزء السابع والثامن والتاسع من كتابه “لمحات اجتماعية”، وكذلك “تاريخ الصراع الطائفي في الإسلام”، “منشأ الحركات الاجتماعية في الإسلام”، “نشأة الوعي السياسي في العراق الحديث”. 

أصيب الوردي بداء في العين مرتين، طاب من الأول الذي أصيب به في طفولته، بينما فقد نظر إحدى عينيه في الثاني، والذي أصيب به في كهولته، وهذا سبب استخدامه لنظارات ذات لون غامق. ابتدأ الكتابة في الصحافة منذ عام 1945 ليستمر بها حتى عام 1995، جمعت كل مقالاته في كتاب كبير بعنوان “نقاط على الحروف”. أسلوبه في التأليف سهل وموجز، فكيف بأسلوبه بالصحافة؟ 

الوعظ وطبيعة السلوك 

دخل الدكتورُ علي الوردي أولى معاركه الفكرية عام 1954 عندما نشر كتابه “وعّاظ السلاطين”، وكان قد سبقه كتيب قصير من محاضرتين ألقاهما في ندوة وكان بعنوان “شخصية الفرد العراقي”. حاول في هذا الكتاب أن يشخّص ظاهرة الازدواجية عند عامة الناس، والتي هي صيغة توفيق بين الضمير المثقل بالمواعظ الهادفة لحياة مثالية ملائكية، وبين طبيعة الإنسان المعاكسة لتلك المثالية الملائكية. 

انطلق الوردي من ثنائية البنية النفسية عند الإنسان، حيث العقل الظاهر الواعي والعقل الباطن اللاواعي، وبينما الأول يراقب ويحاسب ويمنع، فإن الثاني ينجرف في الرغبات ويحاول إشباعها بأية طريقة، حتى لو كانت ملتوية. كانت هذه من أفكار سيغموند فرويد، عالم النفس النمساوي. 

يعتقد العلامة أن الواعظين يخدمون السلاطين بالوقت الذي يسلكون طريق إصلاح المجتمع، لأنهم يتغافلون عن العلة الحقيقية لمشاكل المجتمع، بينما يضعونها في أخلاقهم. وهم بهذا الحال، كما يرى، يحاولون إصلاح الإنسان بالكلام لا العمل، وبالتالي لا يشعر السلاطين بالمسؤولية عن وضعهم المزري، لكون هذا الوضع عقاباً من الله على الأخلاق السيئة لعامة الناس. 

يعتقد الوردي أن جميعَ الناس يحبون المال والجنس والمكانة الاجتماعية، لكن بينما يستطيع المترفون إيهام الناس بالعكس، فإن عامة الناس من السوقة والبسطاء يظهرون ذلك علناً، فيحصلون على مذمة الوعّاظ ويفلت منها السلاطين والأغنياء. ولعل هذا الإيهام، يقول الوردي، وسيلة لحماية السلاطين أنفسهم من حسد غيرهم. فالوعظ بنظره نشأ في أحضان السلاطين واستمر ليومنا هذا، حيث سلك المفكرون المسلك الوعظي نفسه، يطلبون المستحيل من عامة الناس، لينعم نخبتهم. 

اهتم الوردي بسلوك الإنسان، وكان مجال اشتغاله هو علم النفس الاجتماعي الذي يعنى بالعلاقة بين الفرد والمجتمع، إذ يرى ضمير الإنسان كائناً اجتماعياً، ولا علاقة له بالفطرة حسب الرواية الوعظية. ليس ضمير الإنسان هبةً إلهيةً تعطى جاهزةً، بل هو متأثر بالمجتمع، ويتغير مع تغيّر المجتمعات. وأسوأ حالة يواجهها الإنسان هي عندما يعيش في مجتمع قيمه العليا معاكسة لطبيعة الفرد، سيكون هنا مزدوج الشخصية، يفعل فعلين متعاكسين دون أن يدري، وذلك لكي يرضي الشخصيتين فيه، الشخصية التي يريدها ضميره المتأثر بالوعّاظ، والشخصية التي يريدها هو. 

الجدل وطبيعة العقل 

مثلما أن الوعظَ يعاكس طبيعةَ الإنسان على المستوى السلوكي، فإن الجدل يعاكس طبيعةَ الإنسان على المستوى المعرفي. دراسة هذه النقطة تنتمي لعلم اجتماع المعرفة، وهو عنوان كتابه الذي يمثل أطروحة الدكتوراه حول ابن خلدون بحسب إحدى الترجمات. 

نشر الوردي عام 1954 كتاب “مهزلة العقل البشري”، كردٍ متنوعٍ على سيل الكتابات الجارف الذي أتى ضد كتابه “وعّاظ السلاطين”. حاول فيه أن يوسِّع من مدى المعركة النقدية، فزاد النارَ زيتاً. رأى أن المشكلة بالدرجة الأولى تكمن في العقل المغرور بنفسه والمكتفي ببديهياته وأقيسته المنطقية، وأنه بذلك يحرج نفسه. الإحراج هنا يشبه إحراج التناقض عند الوعّاظ، حيث في العقل الجدلي يحدث ألّا يعترف العقل بنسبيته التاريخية، فيقول حقائق مطلقة سرعان ما يتبين أمر نسبيتها. وهو الأمر نفسه الذي حدث مع نظرية “الأثير” في علم الفلك عند القدماء، حيث استبدلت بـ”الجاذبية”، والأخيرة استبدلت بنظرية “الزمكان” الأينشتاينية. 

يرى الوردي أن الصراع بين المذاهب في تاريخ الإسلام يرجع للعقل الجدلي، حيث كل طرف لا يريد أن يرى من الحقيقة سوى جهته الخاصة. معروف أن كارل مانهايم، عالم الاجتماع المجري، طرح فكرة نسبية المعرفة من زاوية اجتماعية، ومثّل لها بمثاله الشهير “الهرم الذي له عدة وجوه”، فلا يرى الناظر منه سوى جهته، بينما ينكر على الآخر جهته الخاصة. 

غرافيتي يصوّر علي الوردي وسط بغداد. 

يطرح الوردي أمثلة عدة، منها أن من يقتصر على الجانب الجميل في صحابة النبي سينكر كل ما هو عكس ذلك عنهم، ومن يقتصر على الجانب السيئ من أعدائهم سينكر ما هو عكسه عنهم. هذا نوع من التمركز عند جهة دون الأخريات، وبالتالي من شأن هذا أن يجعل نتائج كل نقاش محسومة مقدماً بين الأطراف. عقل الإنسان قاعدته التعصب لا الحياد، فالأخير حالة استثنائية بعكس المدعى السائد. بل العقل عند الإنسان موجود لأجل جلب منافع للإنسان لا لكشف الحقائق، وهذه فكرة أخذها الوردي من رائد البراغماتية وليام جيمس. 

فيما يستهدف الجدلُ الحقيقةَ المطلقةَ، لكننا لا نجد منه غير الحقيقة النسبية. لا تخضع الحقائق لمنطق الجدل المنحاز لمواقف مسبقة بذهن معتنقها. من يريد كشف الحقائق عليه الاعتراف بالنسبية، فيستعمل أداة العلم الحديث، والذي يكشف بدوره عن حقائق نسبية لكنها بطبيعة الحال أصح من حقائق الجدل وأنفع منه بكثير. 

المنطق الحديث 

في عام 1962 نشر كتابه “منطق ابن خلدون”. قسمه قسمين، الأول عن منهجيته المنطقية والثاني عن نظريته الاجتماعية. القسم الأول صياغة جديدة لأطروحة تحت اسمين “نظرية المعرفة عند ابن خلدون”، و”في علم اجتماع المعرفة”، عنوانان لمعنون واحد يمثل أطروحته للدكتوراه عام 1950. في هذه المرحلة يعمق الوردي أطروحة الجدل، فيراها تمثل المنطق القديم برمته، وهي لا تقتصر على الوعظ السلاطيني أو الجدل المذهبي، بل ذهب إلى نقد منطق أرسطو بشدة في مناسبات عدة، سابقة ولاحقة، لكنها هنا بلغت أوسع مدياتها. يرى أن منطق أرسطو يقوم على ثلاثة قوانين، الأول قانون الذاتية، والثاني قانون عدم التناقض، والأخير قانون الثالث المرفوع. 

القانون الأول يقول إن الشيء يساوي نفسَه دائماً، فهو لا يتغير أو يختلف في الزمان. يبقى الأسود أسود دائماً، والأبيض أبيض، ولا يتبدلان مطلقاً. والقانون الثاني يرى أن الشيء لا يختلف على نفسه في النقطة المكانية أو الزمانية الحالية. فكما أنه لا يتغير من نقيض إلى نقيض حسب القانون الأول، فإنه في لحظته الحالية لا يتكون من نقائض، إذ لا يمكن أن نرى منه إلا شكلاً واحداً وطبيعة واحدة. القانون الثالث يقول إنه لا وجود للتدرّج، فالشيء إما طويل وإما قصير، لا وجود لحالات وسط خارج الثنائيات القاطعة، فالشيء إما موجب أو سالب، إما أبيض أو أسود، أما خيّر أو شرير، إما جميل مطلقاً أو قبيح مطلقاً، حيث المقاييس واضحة وما يخرج عنها يحال للطرف الأقصى! 

وقد تأثر الوردي بكتابات زكي نجيب محمود بهذا المجال، وهو المعروف عنه كتابه المهم “المنطق الوضعي”. كان محمود يدافع عن المنهج العلمي ضد المنطق الميتافيزيقي، وهنا لب الكلام. تأثر الوردي كما نجيب محمود بنزعة أوغست كونت الوضعية. كان كونت مؤسس علم الاجتماع، ويعتقد بالمراحل الثلاثة للتاريخ في سيره التقدمي، إذ مرت البشرية، أول الأمر، بنزعة دينية ذات روح أسطورية تنسَب فيها الأفعالُ إلى قوى إلهية عليا. بعدها انتقلت إلى المرحلة الميتافيزيقية/ الما ورائية، وهي فلسفية الطابع، تحاول تعليل الأحداث والأشياء وفق القوانين الثلاثة التي ذكرناها آنفاً. لكن المرحلة الأخيرة هي المرحلة العلمية ذات الطابع الوضعي، حيث مبادئها بالضد من القوانين الثلاثة للمرحلة الميتافيزيقية_ الفلسفية. 

أصاب الوردي في تشخيص المنطق القديم، لكنه وقع فريسة مغالطات جمة في تعيين المصاديق. تشخصيه للقوانين الثلاثة مؤطر بثلاث صفات هي العقلانية والسببية والاستنباطية. يقصد بالعقلانية الثقة بالعقل والاكتفاء به دون مصادر المعرفة غير العقلية. وبالسببية يقصد أن لكل شيء سبباً يقع ما وراءه، وهو هنا يعتمد على نقد ديفيد هيوم للسببية لكن دون عمقٍ كافٍ. ويقصد أخيراً بالاستنباطية الانطلاقَ من مقدمة عامة بديهية لاستنتاج ما هو دونها. 

يعتقد الوردي أن العلم الحديث يعتمد الاستقراء بدل الاستنباط، فالاستقراء لا ينطلق من بديهيات مسبقة، بل هو ينطلق من الجزئيات إلى الكليات. مثلاً الاستنباط ينطلق من بديهية تقول كل الحديد يتمدد بالحرارة، ليقول إن هذه الحديدة التي بيدي الآن تتمدد بالحرارة، لماذا؟ انسجاماً مع البديهية الأولى. أما الاستقراء فهو يفحص أكبر كمية منه، واحدة واحدة، من أجل أن يخرج بنتيجة كلية تقول: الحديد يتمدد بالحرارة. 

العصبية والدولة 

رغم اعتماد الوردي على المنهج العلمي ذي الطابع الاستقرائي المناقض للمنطق الفلسفي ذي الطابع الاستنباطي، فإنه لم يقلِّد بذلك كلَّ ما تقوله دوائر علم الاجتماع الغربية. فهو كان مرناً، فمن جهة اعتمد على معطيات الحضارة الغربية عندما أسست علم الاجتماع، ومن جهة أخرى حاول احترام الواقع العربي وامتنع أن يجعله مجرد موضوع تُقسَر عليه نظرياتٌ لا تناسبه. فهو قد دعا لتأسيس علم اجتماع عربي وعلم اجتماع عراقي. وقد أسيئ فهم دعوته هذه على أنها نوع من التعصب للشرق ضد الغرب، أي أنها تشبه مقولة “أسلمة المعرفة”، حيث للإسلام مثلاً علم نفسه واجتماعه وفلسفته الخاصة به. لكن مقصد الوردي كان أبعد من ذلك. 

كان الوردي قد انطلق من ثنائية (الممارسة والتطبيق)، حيث التطبيق يحاول أن يكيّف الموضوعَ لصالح النظرية، فلا يريد أن يعدِّل في النظرية شيئاً، إنها مقدسة ومطلقة، وعلى الواقع أن يكون خاضعاً لها، سواء كان واقعاً شرقياً أم غربياً. بينما الممارسة تكيّف النظريةَ لصالح الموضوع، أي أن كل عملية فكرية إبداعية هي بالضرورة قد أبدعت نظرية جديدة أو عدّلت نظرية سابقة. لم يكن معقولاً، بالنسبة للوردي، أن يُفهَم المجتمعُ العراقي بالنظريات التي وضعت لمجتمعات أوروبية نفسها، فأراد فتح باب لتراكم معرفة حول المجتمع العراقي تنتمي لعلم الاجتماع لكن بنظريات تناسب هذا الواقع. 

يعتقد الوردي أن عبد الرحمن بن خلدون قد سبق أوغست كونت بعدة قرون في تأسيسه لعلم الاجتماع، لكن ابن خلدون قد سبق زمانه، إذ لم يكن موجوداً في مناخ اجتماعي يشعر بالحاجة للتفكير الاجتماعي، بينما توفر ذلك لكونت في القرن الثامن عشر، وأصبح صاحبَ التأسيس الرسمي لهذا العلم، أي علم الاجتماع. وعندما أراد الوردي الانطلاقَ من فهم المجتمع العراقي من داخله وجد منهجية “مقدمة ابن خلدون” أكثر قرباً لفهم المجتمع العراقي من النظريات الأخرى. 

يختلف الوردي مع طه حسين الذي اعتقد أن العصبية محور كتاب مقدمة ابن خلدون، ويختلف كذلك مع ساطع الحصري الذي يرى محورها الدولة لا العصبية.  

إذن ما هو محور المقدمة عند الوردي؟ هو صراع البداوة والحضارة. وبالتفاتة طريفة يقول إن البداوة تساوي العصبية، والحضارة تساوي الدولة، فالتركيز على إحداهما إنما هو نصف الحقيقة لا كلها. 

محور نظرية ابن خلدون يقول إن الحضارة تمر بمراحل عدة سرعان ما ترجع لنقطة الصفر لتمر بها من جديد، كالدائرة تماماً. هنالك عصبية قبلية وعشائرية تنتمي لحياة الصحراء، تحاول التغلب على مجتمعات المدن، لتؤسس دولة/حضارة، وبعدها يصل هؤلاء لمستوى الترف والبذخ المفسد للطبائع، لتأتي عصبيات قبلية أخرى تتغلب عليهم ويجري على هؤلاء نفسُ ما جرى على أولئك. ينطلق ابن خلدون من مسألة أن البدو يعتمدون على القوة والغلبة، فهم متوحشون وشرسون، بينما أهل المدن ليسوا كذلك، وطالما يقعون فريسة البدو. 

يعتقد الوردي أن العراق منذ ولاية مدحت باشا على العراق عام 1869، دخل مرحلة الحداثة، لكن بوتيرة بطيئة جداً. ومنذ الحرب العالمية الأولى عام 1914 فإن الوتيرة تسارعت بشكل مهول، وهذا من شأنه أن يجعل التحديث غير متكافئ، تتطور أشياء دون أشياء أخرى، أي أن التحديث والتطور لا يجري على جميع مفاصل المجتمع مهما اتسعت دائرته واشتدت وتيرته. هذا اللا تكافؤ من شأنه أن يكون سبب “التناشز الاجتماعي”، وكذلك “الازدواج”، حيث يكون مظهر الناس حضارياً، لكن عمقهم وباطنهم بدوياً. مثل أن يحب العراقي على طريقة روميو وجولييت، لكنه يتزوج على الطريقة التقليدية، فالإنسان وفيٌ لعاداته الاجتماعية التي نشأ عليها أكثر من وفائه لما يتعلمه بالتلقين والفرض، وإنه يحتاج لوقت طويل حتى يتخلّص من العادات القارّة بداخله. 

لكن الوردي خلط بين العصبية الخلدونية وبين البداوة العراقية، وكذلك بين الحضارة التي قصدها ابن خلدون والحضارة الحديثة. فالعصبية عند ابن خلدون سبب الحضارة، لكن حضارة اليوم لا تقوم على العصبية. العصبية المقصودة عند ابن خلدون، كما هو واضح، هي عصبية قبلية، تصارع أهل المدن الحضرية لتتغلب عليهم فتنشئ دولة سرعان ما تذوى لاحقاً.  

بينما الحال هذه، فما هو وجه الربط بين نشوء الحضارة القديمة ونشوء الحضارة الحديثة التي استمرت بالتصاعد دون هبوط؟ أليس هنالك قطيعة لا تسمع بهذا التشابه المختلق؟ 

ثم كيف تكون الازدواجية نتيجة التسارع بالتحديث الحضاري، وهي في الوقت نفسه نتيجة الوعظ الذي لا علاقة له بالتحديث؟ علاوة على أنه أقر بوجود ازدواجية في نفسية الفرد الذي عاش في المجتمع القديم وذلك بفعل التعارض بين قيم الإسلام وقيم البداوة، فإذا كانت الازدواجية موجودة قديماً وموجودة حديثاً، فما هي خصوصية وجودها بالمجتمع العراقي بصفتها مظهراً يجعل العراق مختلفاً عن غيره من البلدان؟ وما الفرق الدقيق بين التناشز الاجتماعي والازدواجية في الشخصية عند الوردي؟ 

طرح الوردي عدة تناشزات، مثل التناشز بين الدراسة والوظيفة، التناشز بين الحب والزواج. هذان النوعان من التناشز لا رابط بينهما، فالأول يعبِّر عن عدم استيعاب الوظائف الحكومية للكمية المهولة للخريجين، بينما الثاني يعبِّر عن كون الشخص العراقي تعيش بداخله قيمتان متعارضتان، وعلى أساسهما يسلك بشكلين مختلفين باستمرار. 

منهج الوردي 

انطلق الوردي، أولاً، من علم النفس الاجتماعي اعتماداً على طروحات فرويد في التحليل النفسي، وثانياً انطلق من علم الاجتماع. على أساس الأول، تكلم الوردي كثيراً عن طبيعة الإنسان، حيث الوعظ والازدواجية، باعتبار الوعظ يستهدف “ما يجب أن يكون”، بينما طبيعة الإنسان تنتمي لـ”ما هو واقع”. أما على أساس الثاني، أي علم الاجتماع، فقد انطلق من المنهج العلمي الوضعي لكن بروح خلدونية، وارتأى أن المجتمع له طبيعته، حيث لا يتحرك على أساس نظريات البرج العاجي الفلسفية، بل على أساس العصبية وما شاكل من قوانين واقعية. لكنه كذلك انطلق، ثالثاً، من علم اجتماع المعرفة، حيث استقصى الأسباب الاجتماعية لمعارف الإنسان، بل حاول استقصاء حتى السبب الاجتماعي لنشوء علم الاجتماع نفسه. 

لم يكن الوردي مؤرِّخاً، بل كان باحثاً اجتماعياً يستقصي جذور الظواهر الاجتماعية الحالية. هذا الأمر يعترف به هو نفسه. ومع ذلك، فإن تحليلاته الاجتماعية لتاريخ العراق الحديث، والذي طرحه في كتابه الضخم “لمحات اجتماعية”، كان مقلاً فيها، ولم تكن متناسبة مع ضخامة المادة التاريخية، أي أنه كان سارداً للتاريخ، رغم عدم تخصصه فيه وعدم استهدافه له كغاية، أكثر منه محللاً اجتماعياً، رغم اختصاصه به واستهدافه إياه. ولو قارنا بينه وبين طروحات حنا بطاطو وفالح عبد الجبار، لوجدنا عند الأخيرين اتساعاً في مساحة في التحليل على حساب التاريخ عندهما، على العكس من الوردي. 

استعجل الوردي أيضاً في التعميم، إذ كانت بعض نتائجه أكبر من المعطيات التي حصل عليها، والمعطيات، نفسها، منقولة عن ألسن الناس: “حدثنا..” و “روى لي..”. يبرر الوردي ذلك بأنه راجع إلى أن المجتمع العراقي ليس ديمقراطياً بحجم المجتمعات الغربية، فلا يمكن لك أن تجلس مع الفرد العراقي بصفتك باحثاً ليجيبك بشفافية، إذ تعوّد الفرد العراقي على الخوف من الباحث الاجتماعي، لأنه يعتبره من جلاوزة السلطة. ولا داعي بنظر الوردي الانطلاق من البرج العاجي في تقييم الأدوات الممكنة للبحث في المجتمع.  

لم يكن الوردي صاحب إيديولوجيا ثورية مثل التي لدى الإيراني علي شريعتي المختص بعلم الاجتماع هو الآخر، إذ أراد الأخير قراءة الدين بشكل يصلح لأن يغيّر الوضع بالتمام. كان الوردي أكثر حياداً في رؤيته المنهجية من شريعتي، لكنه لم يتخلّص من الإيديولوجيا بالتمام. كانت هنالك أدلجة خفيفة تسكنه وتوجّه كثيراً من مجريات بحثه الاجتماعي، حيث روح “المصلح” الاجتماعي لا تفارقه وهو يبحث عن المشاكل محاولاً معالجتها، لدرجة أنه أسقط شخصيته الإصلاحية على الأنبياء، فاعتبرهم مصلحين اجتماعيين أكثر منهم دعاة عقائديين، لكن أتباعهم ركزوا على الأمر الثاني لا الأول كما يقول! ربما الفرق بين شريعتي والوردي هو أن الأول ماركسي في منهجه، أما الثاني فهو ضد الماركسية رغم بعض ملامح الاشتراكية عنده، وهي ملامح تنتمي لموجة الواقعية النقدية التي بلغت ذروتها في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين العراقي. 

المنهج الدوركهايمي يريد من الظاهرة الاجتماعية أن تتكلم عن نفسها من خلال ضبط كل الأدوات بدون تدخل شخصي، فعلى الأشخاص أن يتكلموا عن أنفسهم ويأخذ الباحث منهم ذلك بلا أي تصرف. لم يكتفِ فيبر بذلك، إذ وجد أن الظاهرة ليست كل شيء ولا بد أن يتقمص الباحث موضوعه فيحاول تفهمه ويطرح ما لم يفصح عنه الشخص المبحوث موضوع الظاهرة. اتخذ الوردي من منهج الفهم ذي الطابع التأويلي، عند الألماني ماكس فيبر، بديلاً عن منهج الظاهرة الموضوعي عند الفرنسي دوركهايم. فبينما فيبر كان يريد الوصول لدقة عالية لا تطالها الأدوات الموضوعية عند المنهج الموضوعي، فإن الوردي فعل ذلك، أي استخدم الفهم الفيبري، لمعالجة عدم إمكان استخدام منهج الظاهرة وليس عدم الدقة! 

كثيراً ما حاول الوردي الاستنجاد بابن خلدون ليقرر نظريات مختلفة عن الموجودة في الغرب، لكنه لم يفلح بتأسيس شيء من ذلك، بل جل طروحاته مأخوذة من العلماء الغربيين. يمكن أن نعد العلامة الوردي رائداً في فتح المسارات ووضع الملاحظات الذكية التي تفتح الأبواب مشرعة لمن يريد المغامرة، وهو بذلك قد دفع ثمن الريادة الجليلة هذه، إذ هي مغامرة محفوفة حتماً بالأخطاء. لنعِم الريادة ريادته، ولنعِم الأخطاء، أخطاء الريادة. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويب؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

عام 2012، كنت في بيت أخوالي جالساً في غرفة الضيوف، وصادفتُ كتاباً عليه غبارٌ. مسكته باندهاش، عنوانه “مهزلة العقل البشري”. كان أولَ كتاب أقرأه لعلي الوردي. كنت شديد التديّن، وجدت أن أفكاره مزعجة لكن أسلوبه مشوق. قرأت ثلاثة أرباع الكتاب خلال نهار واحد. رغم مقاومتي للأفكار، لكن الأسلوب جارف من جهة، والأفكار أكثر عملية من التعقيد الفكروي الذي يمنحني إياه الاستغراق في الدين من جهة أخرى. هكذا كان شعوري معه في بقية كتبه حتى عام 2014، حينها لم أشعر تجاهه بشيء من الانزعاج، فبدأت مرحلة أخرى، ليس مرحلة الاكتفاء بما طرح، بل ضرورة تجاوزه لأبعد مما وصل. 

شيء من السيرة 

ولد علي حسين الورد عام 1913، أيام الحكم العثماني، وعلى مشارف اندلاع الحرب العالمية الثانية التي قسّمت العراقَ، بنظره، إلى نصفين، ما قبل وما بعد.  

ينتمي الوردي إلى عائلة اشتغلت سابقاً بتقطير ماء الورد، فأحد أجداده يلقّب بـ”أبي الورد”، وبفضل العلامة مصطفى جواد نُحِت له لقبُ “الوردي” الذي لازمه طيلة حياته. اشتغل مع والده في دكان الصياغة، ثم مع رجل عطّار، وأخيراً اشتغل وحده مالكاً دكانه الخاص، كل ذلك بعد أن أخرجه والده من المدرسة لكونها في نظره غيرَ ذات نفعٍ لابنه حتى فاته الأوان، وما من سبيل أمامه غير الدراسة المسائية.  

ورغم اضطراره للعمل في السوق وكراهيته إياه بشدة، فهو قد خرج بتجربة كثيفة عن الحياة الاجتماعية جعلته ينعطف بقوة في تفكيره مغايراً السائد الأكاديمي.  

في الدراسة المسائية، على ما فيها من علات تضاف لعلات الدراسة الصباحية الحكومية، خرج علي الوردي بصفته الأفضل بين أقرانه. 

دخل للمتوسطة عام 1932، وتخرّج منها عام 1935، وبعدها بعام حصل على شهادة البكلوريا بصفته الأول على العراق، فابتُعث من قبل الحكومة الملكية إلى الجامعة الأمريكية بلبنان، لينال شهادة البكالوريوس بدرجة الشرف عام 1943. عاد إلى العراق واشتغل في التعليم ثلاث سنوات، ثم ابتُعث بعدها إلى جامعة تكساس في أميركا لينال شهادة ماجستير علم الاجتماع عن رسالته “سوسيولوجيا الإسلام”. وبعدها بعامين، أي عام 1950، نال الدكتوراه بدرجة الشرف من الجامعة نفسها عن أطروحته “نظرية المعرفة عند ابن خلدون”. رجع للعراق بعدها مباشرة وأسس قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد، وكان رائد هذا الفعل عربياً وعراقياً. 

عام 1969 أحال نفسه للتقاعد، وكان أول من ينال درجة “أستاذ متمرس”، فبقي يوجه طلابه في بحوثهم، وتفرّغ لبحوثه هو وكتاباته. وهو قد اعتزل نشر الكتب مرتين، الأولى لمدة أربع سنوات، بدءاً من ثورة 14 تموز 1958 حتى عام 1962 الذي نشر فيه كتابه “منطق ابن خلدون”. والثانية بداية من الثمانينات حتى رحيله عام 1995، يوم 13 تموز. 

يتكلم البعض عن اعتزاله الكتابة، بينما كل القرائن تشير إلى اعتزاله النشر وليس الكتابة. فهنالك الكثير من الشواهد التي يذكرها أصدقاؤه، مثل سلام الشماع وحسين الهنداوي، تقول إنه كتب كتباً بعض منها نشر، لكن كثيراً منها ضاع، وهي خسارة كبيرة سيما أن عناوينها مغرية من قبيل الجزء السابع والثامن والتاسع من كتابه “لمحات اجتماعية”، وكذلك “تاريخ الصراع الطائفي في الإسلام”، “منشأ الحركات الاجتماعية في الإسلام”، “نشأة الوعي السياسي في العراق الحديث”. 

أصيب الوردي بداء في العين مرتين، طاب من الأول الذي أصيب به في طفولته، بينما فقد نظر إحدى عينيه في الثاني، والذي أصيب به في كهولته، وهذا سبب استخدامه لنظارات ذات لون غامق. ابتدأ الكتابة في الصحافة منذ عام 1945 ليستمر بها حتى عام 1995، جمعت كل مقالاته في كتاب كبير بعنوان “نقاط على الحروف”. أسلوبه في التأليف سهل وموجز، فكيف بأسلوبه بالصحافة؟ 

الوعظ وطبيعة السلوك 

دخل الدكتورُ علي الوردي أولى معاركه الفكرية عام 1954 عندما نشر كتابه “وعّاظ السلاطين”، وكان قد سبقه كتيب قصير من محاضرتين ألقاهما في ندوة وكان بعنوان “شخصية الفرد العراقي”. حاول في هذا الكتاب أن يشخّص ظاهرة الازدواجية عند عامة الناس، والتي هي صيغة توفيق بين الضمير المثقل بالمواعظ الهادفة لحياة مثالية ملائكية، وبين طبيعة الإنسان المعاكسة لتلك المثالية الملائكية. 

انطلق الوردي من ثنائية البنية النفسية عند الإنسان، حيث العقل الظاهر الواعي والعقل الباطن اللاواعي، وبينما الأول يراقب ويحاسب ويمنع، فإن الثاني ينجرف في الرغبات ويحاول إشباعها بأية طريقة، حتى لو كانت ملتوية. كانت هذه من أفكار سيغموند فرويد، عالم النفس النمساوي. 

يعتقد العلامة أن الواعظين يخدمون السلاطين بالوقت الذي يسلكون طريق إصلاح المجتمع، لأنهم يتغافلون عن العلة الحقيقية لمشاكل المجتمع، بينما يضعونها في أخلاقهم. وهم بهذا الحال، كما يرى، يحاولون إصلاح الإنسان بالكلام لا العمل، وبالتالي لا يشعر السلاطين بالمسؤولية عن وضعهم المزري، لكون هذا الوضع عقاباً من الله على الأخلاق السيئة لعامة الناس. 

يعتقد الوردي أن جميعَ الناس يحبون المال والجنس والمكانة الاجتماعية، لكن بينما يستطيع المترفون إيهام الناس بالعكس، فإن عامة الناس من السوقة والبسطاء يظهرون ذلك علناً، فيحصلون على مذمة الوعّاظ ويفلت منها السلاطين والأغنياء. ولعل هذا الإيهام، يقول الوردي، وسيلة لحماية السلاطين أنفسهم من حسد غيرهم. فالوعظ بنظره نشأ في أحضان السلاطين واستمر ليومنا هذا، حيث سلك المفكرون المسلك الوعظي نفسه، يطلبون المستحيل من عامة الناس، لينعم نخبتهم. 

اهتم الوردي بسلوك الإنسان، وكان مجال اشتغاله هو علم النفس الاجتماعي الذي يعنى بالعلاقة بين الفرد والمجتمع، إذ يرى ضمير الإنسان كائناً اجتماعياً، ولا علاقة له بالفطرة حسب الرواية الوعظية. ليس ضمير الإنسان هبةً إلهيةً تعطى جاهزةً، بل هو متأثر بالمجتمع، ويتغير مع تغيّر المجتمعات. وأسوأ حالة يواجهها الإنسان هي عندما يعيش في مجتمع قيمه العليا معاكسة لطبيعة الفرد، سيكون هنا مزدوج الشخصية، يفعل فعلين متعاكسين دون أن يدري، وذلك لكي يرضي الشخصيتين فيه، الشخصية التي يريدها ضميره المتأثر بالوعّاظ، والشخصية التي يريدها هو. 

الجدل وطبيعة العقل 

مثلما أن الوعظَ يعاكس طبيعةَ الإنسان على المستوى السلوكي، فإن الجدل يعاكس طبيعةَ الإنسان على المستوى المعرفي. دراسة هذه النقطة تنتمي لعلم اجتماع المعرفة، وهو عنوان كتابه الذي يمثل أطروحة الدكتوراه حول ابن خلدون بحسب إحدى الترجمات. 

نشر الوردي عام 1954 كتاب “مهزلة العقل البشري”، كردٍ متنوعٍ على سيل الكتابات الجارف الذي أتى ضد كتابه “وعّاظ السلاطين”. حاول فيه أن يوسِّع من مدى المعركة النقدية، فزاد النارَ زيتاً. رأى أن المشكلة بالدرجة الأولى تكمن في العقل المغرور بنفسه والمكتفي ببديهياته وأقيسته المنطقية، وأنه بذلك يحرج نفسه. الإحراج هنا يشبه إحراج التناقض عند الوعّاظ، حيث في العقل الجدلي يحدث ألّا يعترف العقل بنسبيته التاريخية، فيقول حقائق مطلقة سرعان ما يتبين أمر نسبيتها. وهو الأمر نفسه الذي حدث مع نظرية “الأثير” في علم الفلك عند القدماء، حيث استبدلت بـ”الجاذبية”، والأخيرة استبدلت بنظرية “الزمكان” الأينشتاينية. 

يرى الوردي أن الصراع بين المذاهب في تاريخ الإسلام يرجع للعقل الجدلي، حيث كل طرف لا يريد أن يرى من الحقيقة سوى جهته الخاصة. معروف أن كارل مانهايم، عالم الاجتماع المجري، طرح فكرة نسبية المعرفة من زاوية اجتماعية، ومثّل لها بمثاله الشهير “الهرم الذي له عدة وجوه”، فلا يرى الناظر منه سوى جهته، بينما ينكر على الآخر جهته الخاصة. 

غرافيتي يصوّر علي الوردي وسط بغداد. 

يطرح الوردي أمثلة عدة، منها أن من يقتصر على الجانب الجميل في صحابة النبي سينكر كل ما هو عكس ذلك عنهم، ومن يقتصر على الجانب السيئ من أعدائهم سينكر ما هو عكسه عنهم. هذا نوع من التمركز عند جهة دون الأخريات، وبالتالي من شأن هذا أن يجعل نتائج كل نقاش محسومة مقدماً بين الأطراف. عقل الإنسان قاعدته التعصب لا الحياد، فالأخير حالة استثنائية بعكس المدعى السائد. بل العقل عند الإنسان موجود لأجل جلب منافع للإنسان لا لكشف الحقائق، وهذه فكرة أخذها الوردي من رائد البراغماتية وليام جيمس. 

فيما يستهدف الجدلُ الحقيقةَ المطلقةَ، لكننا لا نجد منه غير الحقيقة النسبية. لا تخضع الحقائق لمنطق الجدل المنحاز لمواقف مسبقة بذهن معتنقها. من يريد كشف الحقائق عليه الاعتراف بالنسبية، فيستعمل أداة العلم الحديث، والذي يكشف بدوره عن حقائق نسبية لكنها بطبيعة الحال أصح من حقائق الجدل وأنفع منه بكثير. 

المنطق الحديث 

في عام 1962 نشر كتابه “منطق ابن خلدون”. قسمه قسمين، الأول عن منهجيته المنطقية والثاني عن نظريته الاجتماعية. القسم الأول صياغة جديدة لأطروحة تحت اسمين “نظرية المعرفة عند ابن خلدون”، و”في علم اجتماع المعرفة”، عنوانان لمعنون واحد يمثل أطروحته للدكتوراه عام 1950. في هذه المرحلة يعمق الوردي أطروحة الجدل، فيراها تمثل المنطق القديم برمته، وهي لا تقتصر على الوعظ السلاطيني أو الجدل المذهبي، بل ذهب إلى نقد منطق أرسطو بشدة في مناسبات عدة، سابقة ولاحقة، لكنها هنا بلغت أوسع مدياتها. يرى أن منطق أرسطو يقوم على ثلاثة قوانين، الأول قانون الذاتية، والثاني قانون عدم التناقض، والأخير قانون الثالث المرفوع. 

القانون الأول يقول إن الشيء يساوي نفسَه دائماً، فهو لا يتغير أو يختلف في الزمان. يبقى الأسود أسود دائماً، والأبيض أبيض، ولا يتبدلان مطلقاً. والقانون الثاني يرى أن الشيء لا يختلف على نفسه في النقطة المكانية أو الزمانية الحالية. فكما أنه لا يتغير من نقيض إلى نقيض حسب القانون الأول، فإنه في لحظته الحالية لا يتكون من نقائض، إذ لا يمكن أن نرى منه إلا شكلاً واحداً وطبيعة واحدة. القانون الثالث يقول إنه لا وجود للتدرّج، فالشيء إما طويل وإما قصير، لا وجود لحالات وسط خارج الثنائيات القاطعة، فالشيء إما موجب أو سالب، إما أبيض أو أسود، أما خيّر أو شرير، إما جميل مطلقاً أو قبيح مطلقاً، حيث المقاييس واضحة وما يخرج عنها يحال للطرف الأقصى! 

وقد تأثر الوردي بكتابات زكي نجيب محمود بهذا المجال، وهو المعروف عنه كتابه المهم “المنطق الوضعي”. كان محمود يدافع عن المنهج العلمي ضد المنطق الميتافيزيقي، وهنا لب الكلام. تأثر الوردي كما نجيب محمود بنزعة أوغست كونت الوضعية. كان كونت مؤسس علم الاجتماع، ويعتقد بالمراحل الثلاثة للتاريخ في سيره التقدمي، إذ مرت البشرية، أول الأمر، بنزعة دينية ذات روح أسطورية تنسَب فيها الأفعالُ إلى قوى إلهية عليا. بعدها انتقلت إلى المرحلة الميتافيزيقية/ الما ورائية، وهي فلسفية الطابع، تحاول تعليل الأحداث والأشياء وفق القوانين الثلاثة التي ذكرناها آنفاً. لكن المرحلة الأخيرة هي المرحلة العلمية ذات الطابع الوضعي، حيث مبادئها بالضد من القوانين الثلاثة للمرحلة الميتافيزيقية_ الفلسفية. 

أصاب الوردي في تشخيص المنطق القديم، لكنه وقع فريسة مغالطات جمة في تعيين المصاديق. تشخصيه للقوانين الثلاثة مؤطر بثلاث صفات هي العقلانية والسببية والاستنباطية. يقصد بالعقلانية الثقة بالعقل والاكتفاء به دون مصادر المعرفة غير العقلية. وبالسببية يقصد أن لكل شيء سبباً يقع ما وراءه، وهو هنا يعتمد على نقد ديفيد هيوم للسببية لكن دون عمقٍ كافٍ. ويقصد أخيراً بالاستنباطية الانطلاقَ من مقدمة عامة بديهية لاستنتاج ما هو دونها. 

يعتقد الوردي أن العلم الحديث يعتمد الاستقراء بدل الاستنباط، فالاستقراء لا ينطلق من بديهيات مسبقة، بل هو ينطلق من الجزئيات إلى الكليات. مثلاً الاستنباط ينطلق من بديهية تقول كل الحديد يتمدد بالحرارة، ليقول إن هذه الحديدة التي بيدي الآن تتمدد بالحرارة، لماذا؟ انسجاماً مع البديهية الأولى. أما الاستقراء فهو يفحص أكبر كمية منه، واحدة واحدة، من أجل أن يخرج بنتيجة كلية تقول: الحديد يتمدد بالحرارة. 

العصبية والدولة 

رغم اعتماد الوردي على المنهج العلمي ذي الطابع الاستقرائي المناقض للمنطق الفلسفي ذي الطابع الاستنباطي، فإنه لم يقلِّد بذلك كلَّ ما تقوله دوائر علم الاجتماع الغربية. فهو كان مرناً، فمن جهة اعتمد على معطيات الحضارة الغربية عندما أسست علم الاجتماع، ومن جهة أخرى حاول احترام الواقع العربي وامتنع أن يجعله مجرد موضوع تُقسَر عليه نظرياتٌ لا تناسبه. فهو قد دعا لتأسيس علم اجتماع عربي وعلم اجتماع عراقي. وقد أسيئ فهم دعوته هذه على أنها نوع من التعصب للشرق ضد الغرب، أي أنها تشبه مقولة “أسلمة المعرفة”، حيث للإسلام مثلاً علم نفسه واجتماعه وفلسفته الخاصة به. لكن مقصد الوردي كان أبعد من ذلك. 

كان الوردي قد انطلق من ثنائية (الممارسة والتطبيق)، حيث التطبيق يحاول أن يكيّف الموضوعَ لصالح النظرية، فلا يريد أن يعدِّل في النظرية شيئاً، إنها مقدسة ومطلقة، وعلى الواقع أن يكون خاضعاً لها، سواء كان واقعاً شرقياً أم غربياً. بينما الممارسة تكيّف النظريةَ لصالح الموضوع، أي أن كل عملية فكرية إبداعية هي بالضرورة قد أبدعت نظرية جديدة أو عدّلت نظرية سابقة. لم يكن معقولاً، بالنسبة للوردي، أن يُفهَم المجتمعُ العراقي بالنظريات التي وضعت لمجتمعات أوروبية نفسها، فأراد فتح باب لتراكم معرفة حول المجتمع العراقي تنتمي لعلم الاجتماع لكن بنظريات تناسب هذا الواقع. 

يعتقد الوردي أن عبد الرحمن بن خلدون قد سبق أوغست كونت بعدة قرون في تأسيسه لعلم الاجتماع، لكن ابن خلدون قد سبق زمانه، إذ لم يكن موجوداً في مناخ اجتماعي يشعر بالحاجة للتفكير الاجتماعي، بينما توفر ذلك لكونت في القرن الثامن عشر، وأصبح صاحبَ التأسيس الرسمي لهذا العلم، أي علم الاجتماع. وعندما أراد الوردي الانطلاقَ من فهم المجتمع العراقي من داخله وجد منهجية “مقدمة ابن خلدون” أكثر قرباً لفهم المجتمع العراقي من النظريات الأخرى. 

يختلف الوردي مع طه حسين الذي اعتقد أن العصبية محور كتاب مقدمة ابن خلدون، ويختلف كذلك مع ساطع الحصري الذي يرى محورها الدولة لا العصبية.  

إذن ما هو محور المقدمة عند الوردي؟ هو صراع البداوة والحضارة. وبالتفاتة طريفة يقول إن البداوة تساوي العصبية، والحضارة تساوي الدولة، فالتركيز على إحداهما إنما هو نصف الحقيقة لا كلها. 

محور نظرية ابن خلدون يقول إن الحضارة تمر بمراحل عدة سرعان ما ترجع لنقطة الصفر لتمر بها من جديد، كالدائرة تماماً. هنالك عصبية قبلية وعشائرية تنتمي لحياة الصحراء، تحاول التغلب على مجتمعات المدن، لتؤسس دولة/حضارة، وبعدها يصل هؤلاء لمستوى الترف والبذخ المفسد للطبائع، لتأتي عصبيات قبلية أخرى تتغلب عليهم ويجري على هؤلاء نفسُ ما جرى على أولئك. ينطلق ابن خلدون من مسألة أن البدو يعتمدون على القوة والغلبة، فهم متوحشون وشرسون، بينما أهل المدن ليسوا كذلك، وطالما يقعون فريسة البدو. 

يعتقد الوردي أن العراق منذ ولاية مدحت باشا على العراق عام 1869، دخل مرحلة الحداثة، لكن بوتيرة بطيئة جداً. ومنذ الحرب العالمية الأولى عام 1914 فإن الوتيرة تسارعت بشكل مهول، وهذا من شأنه أن يجعل التحديث غير متكافئ، تتطور أشياء دون أشياء أخرى، أي أن التحديث والتطور لا يجري على جميع مفاصل المجتمع مهما اتسعت دائرته واشتدت وتيرته. هذا اللا تكافؤ من شأنه أن يكون سبب “التناشز الاجتماعي”، وكذلك “الازدواج”، حيث يكون مظهر الناس حضارياً، لكن عمقهم وباطنهم بدوياً. مثل أن يحب العراقي على طريقة روميو وجولييت، لكنه يتزوج على الطريقة التقليدية، فالإنسان وفيٌ لعاداته الاجتماعية التي نشأ عليها أكثر من وفائه لما يتعلمه بالتلقين والفرض، وإنه يحتاج لوقت طويل حتى يتخلّص من العادات القارّة بداخله. 

لكن الوردي خلط بين العصبية الخلدونية وبين البداوة العراقية، وكذلك بين الحضارة التي قصدها ابن خلدون والحضارة الحديثة. فالعصبية عند ابن خلدون سبب الحضارة، لكن حضارة اليوم لا تقوم على العصبية. العصبية المقصودة عند ابن خلدون، كما هو واضح، هي عصبية قبلية، تصارع أهل المدن الحضرية لتتغلب عليهم فتنشئ دولة سرعان ما تذوى لاحقاً.  

بينما الحال هذه، فما هو وجه الربط بين نشوء الحضارة القديمة ونشوء الحضارة الحديثة التي استمرت بالتصاعد دون هبوط؟ أليس هنالك قطيعة لا تسمع بهذا التشابه المختلق؟ 

ثم كيف تكون الازدواجية نتيجة التسارع بالتحديث الحضاري، وهي في الوقت نفسه نتيجة الوعظ الذي لا علاقة له بالتحديث؟ علاوة على أنه أقر بوجود ازدواجية في نفسية الفرد الذي عاش في المجتمع القديم وذلك بفعل التعارض بين قيم الإسلام وقيم البداوة، فإذا كانت الازدواجية موجودة قديماً وموجودة حديثاً، فما هي خصوصية وجودها بالمجتمع العراقي بصفتها مظهراً يجعل العراق مختلفاً عن غيره من البلدان؟ وما الفرق الدقيق بين التناشز الاجتماعي والازدواجية في الشخصية عند الوردي؟ 

طرح الوردي عدة تناشزات، مثل التناشز بين الدراسة والوظيفة، التناشز بين الحب والزواج. هذان النوعان من التناشز لا رابط بينهما، فالأول يعبِّر عن عدم استيعاب الوظائف الحكومية للكمية المهولة للخريجين، بينما الثاني يعبِّر عن كون الشخص العراقي تعيش بداخله قيمتان متعارضتان، وعلى أساسهما يسلك بشكلين مختلفين باستمرار. 

منهج الوردي 

انطلق الوردي، أولاً، من علم النفس الاجتماعي اعتماداً على طروحات فرويد في التحليل النفسي، وثانياً انطلق من علم الاجتماع. على أساس الأول، تكلم الوردي كثيراً عن طبيعة الإنسان، حيث الوعظ والازدواجية، باعتبار الوعظ يستهدف “ما يجب أن يكون”، بينما طبيعة الإنسان تنتمي لـ”ما هو واقع”. أما على أساس الثاني، أي علم الاجتماع، فقد انطلق من المنهج العلمي الوضعي لكن بروح خلدونية، وارتأى أن المجتمع له طبيعته، حيث لا يتحرك على أساس نظريات البرج العاجي الفلسفية، بل على أساس العصبية وما شاكل من قوانين واقعية. لكنه كذلك انطلق، ثالثاً، من علم اجتماع المعرفة، حيث استقصى الأسباب الاجتماعية لمعارف الإنسان، بل حاول استقصاء حتى السبب الاجتماعي لنشوء علم الاجتماع نفسه. 

لم يكن الوردي مؤرِّخاً، بل كان باحثاً اجتماعياً يستقصي جذور الظواهر الاجتماعية الحالية. هذا الأمر يعترف به هو نفسه. ومع ذلك، فإن تحليلاته الاجتماعية لتاريخ العراق الحديث، والذي طرحه في كتابه الضخم “لمحات اجتماعية”، كان مقلاً فيها، ولم تكن متناسبة مع ضخامة المادة التاريخية، أي أنه كان سارداً للتاريخ، رغم عدم تخصصه فيه وعدم استهدافه له كغاية، أكثر منه محللاً اجتماعياً، رغم اختصاصه به واستهدافه إياه. ولو قارنا بينه وبين طروحات حنا بطاطو وفالح عبد الجبار، لوجدنا عند الأخيرين اتساعاً في مساحة في التحليل على حساب التاريخ عندهما، على العكس من الوردي. 

استعجل الوردي أيضاً في التعميم، إذ كانت بعض نتائجه أكبر من المعطيات التي حصل عليها، والمعطيات، نفسها، منقولة عن ألسن الناس: “حدثنا..” و “روى لي..”. يبرر الوردي ذلك بأنه راجع إلى أن المجتمع العراقي ليس ديمقراطياً بحجم المجتمعات الغربية، فلا يمكن لك أن تجلس مع الفرد العراقي بصفتك باحثاً ليجيبك بشفافية، إذ تعوّد الفرد العراقي على الخوف من الباحث الاجتماعي، لأنه يعتبره من جلاوزة السلطة. ولا داعي بنظر الوردي الانطلاق من البرج العاجي في تقييم الأدوات الممكنة للبحث في المجتمع.  

لم يكن الوردي صاحب إيديولوجيا ثورية مثل التي لدى الإيراني علي شريعتي المختص بعلم الاجتماع هو الآخر، إذ أراد الأخير قراءة الدين بشكل يصلح لأن يغيّر الوضع بالتمام. كان الوردي أكثر حياداً في رؤيته المنهجية من شريعتي، لكنه لم يتخلّص من الإيديولوجيا بالتمام. كانت هنالك أدلجة خفيفة تسكنه وتوجّه كثيراً من مجريات بحثه الاجتماعي، حيث روح “المصلح” الاجتماعي لا تفارقه وهو يبحث عن المشاكل محاولاً معالجتها، لدرجة أنه أسقط شخصيته الإصلاحية على الأنبياء، فاعتبرهم مصلحين اجتماعيين أكثر منهم دعاة عقائديين، لكن أتباعهم ركزوا على الأمر الثاني لا الأول كما يقول! ربما الفرق بين شريعتي والوردي هو أن الأول ماركسي في منهجه، أما الثاني فهو ضد الماركسية رغم بعض ملامح الاشتراكية عنده، وهي ملامح تنتمي لموجة الواقعية النقدية التي بلغت ذروتها في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين العراقي. 

المنهج الدوركهايمي يريد من الظاهرة الاجتماعية أن تتكلم عن نفسها من خلال ضبط كل الأدوات بدون تدخل شخصي، فعلى الأشخاص أن يتكلموا عن أنفسهم ويأخذ الباحث منهم ذلك بلا أي تصرف. لم يكتفِ فيبر بذلك، إذ وجد أن الظاهرة ليست كل شيء ولا بد أن يتقمص الباحث موضوعه فيحاول تفهمه ويطرح ما لم يفصح عنه الشخص المبحوث موضوع الظاهرة. اتخذ الوردي من منهج الفهم ذي الطابع التأويلي، عند الألماني ماكس فيبر، بديلاً عن منهج الظاهرة الموضوعي عند الفرنسي دوركهايم. فبينما فيبر كان يريد الوصول لدقة عالية لا تطالها الأدوات الموضوعية عند المنهج الموضوعي، فإن الوردي فعل ذلك، أي استخدم الفهم الفيبري، لمعالجة عدم إمكان استخدام منهج الظاهرة وليس عدم الدقة! 

كثيراً ما حاول الوردي الاستنجاد بابن خلدون ليقرر نظريات مختلفة عن الموجودة في الغرب، لكنه لم يفلح بتأسيس شيء من ذلك، بل جل طروحاته مأخوذة من العلماء الغربيين. يمكن أن نعد العلامة الوردي رائداً في فتح المسارات ووضع الملاحظات الذكية التي تفتح الأبواب مشرعة لمن يريد المغامرة، وهو بذلك قد دفع ثمن الريادة الجليلة هذه، إذ هي مغامرة محفوفة حتماً بالأخطاء. لنعِم الريادة ريادته، ولنعِم الأخطاء، أخطاء الريادة.