"أهلي، حكومي، يوتيوب".. طُرق الدراسة الوعرة في العراق
15 تشرين الأول 2023
"من المستحيل معرفة عدد المدارس المخالفة بسبب عدم وجود تقارير صريحة للجان الإشراف والكشف التربوي، والتي من الممكن التلاعب بها أيضاً، ولكن يقدر بأن حوالي 70 بالمئة من مدارس بغداد تخالف القوانين المحددة".. لكن هناك المدارس الحكومية واليوتيوب وغسيل الأموال تدخل في التعليم..
من السادسة صباحاً حتى التاسعة مساءً يكدح أبو أحمد يومياً ليتمكّن من “تأمين مستقبل أحمد”، فهو مُؤمن بأن تَلقّي تعليم جيد يعني حياة مرفهة في قادم السنوات.
ولأنه يرى ويسمع أن المدارس الحكومية متردية إلى درجة أن بعضها تخلو صفوفها حتى من السبورات، قرر نقله إلى مدرسة أهلية، ولاقى قراره ترحيباً لدى الابن.
لكن لهذا القرار تكلفة ليست بالواطئة.
يضطر الرجل إلى دفع ما لا يقل عن مليون ونصف مليون دينار (نحو 956 دولاراً) سنوياً لقاء تلقي ولده التعليم في المدرسة الأهلية، وهو مبلغ ليس بسيطاً بالنسبة للطبقة الكادحة في العراق.
وعلى الرغم من ذلك، يبدي أبو أحمد استعداده لبذل مزيد من الجهد البدني ليحصل ابنه على علامة عالية تؤهله لدخول كلية الطب أو الصيدلة.
غير أن أحمد ووالده قد لا يجدان ضالتهما في المدرسة الأهلية كما يتمنيان، فثمة سلبيات يتحدث عنها المتعاملون مع هذه المدارس.
كانت كتاتيب
يصل عدد المدارس الأهلية الابتدائية والثانوية في العراق إلى 2884 مدرسة، بحسب إحصائية لوزارة التخطيط منشورة منتصف العام الحالي.
والمدارس الأهلية ليست بجديدة على العراق، ويرجع وجودها إلى ما قبل الدولة العثمانية على شكل كتاتيب لتعليم القرآن والقراءة والكتابة.
وبشكل عام، يمكن اعتبار العام 1909 عام الانطلاقة الأولى للمدارس الأهلية في العراق، بعد تأسيس مدرسة “مكتب الترقي الجعفري العثماني”، والذي عُرف لاحقاً بالمدرسة الجعفرية الأهلية في بغداد، وفقاً لما يورد الباحث ستار نوري العبودي في بحثه “المدارس الأهلية في العراق 1869-1963” المقدم إلى مركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية في جامعة بابل في نيسان 2015.

ويشير البحث ذاته إلى استشراء المدارس الأهلية في نهايات السيطرة العثمانية على العراق، وكان أغلبها يتبع مؤسسات أجنبية بريطانية وأوربية كانت تعمل في البلاد، رغبة منها في توسيع نشاطها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، بناءً على الامتيازات الممنوحة لها من قبل السلطات العثمانية، إضافة إلى مدارس الأقليات الدينية، مثل المدارس اليهودية والمسيحية.
وبعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914، زاد عدد المدارس الأهلية بشكل أكبر، وسميت بمدارس الأهالي، مثل مدرسة التفيض في بغداد، والمدرسة الحسينية والهاشمية الحسينية في كربلاء، والمدرسة الفيصلية في الموصل.
ووصل أعداد المدارس في العام الدراسي 1936-1937 إلى 72 مدرسة أهلية وأجنبية في عموم البلاد، يدرس فيها نحو 13 ألف طالب سنوياً، وارتفع عدد الدارسين في هذه المدارس إلى نحو 15 ألف طالب في السنة الدراسية اللاحقة.
وبلغ عدد طلبة المدارس الأهلية نحو 18 ألف طالب وشكلوا نسبة 3 بالمئة من عدد طلبة العراق البالغ نحو 400 ألف عام 1958، في حين وصل عدد المدارس الابتدائية إلى 83 مدرسة أهلية عام 1961، مقابل 3596 مدرسة حكومية، و124 مدرسة ثانوية منافسة لـ430 مدرسة ثانوية حكومية، بحسب بحث العبودي.
وتراجع عدد المدارس الأهلية بعد عام 1980 بسبب ظروف الحرب العراقية-الإيرانية وما تلاها من حصار اقتصادي استمر حتى عام 2003، ولكنها استعادت نشاطها بعد هذا التاريخ.
تكاليف في كل الأحوال
أجرت أم زينب بحثاً مكثفاً بشأن معدلات الناجحين في المدارس الأهلية، من أجل إيجاد مدرسة تسجّل ابنتها فيها.
ولما نالت إحدى المدارس إعجابها بسبب نسب النجاح العالية التي حققتها خلال السنوات الماضية، ومعدلات طلبتها في الصف السادس العلمي، سارعت إلى تسجيل ابنتها فيها.
ودفعت نحو مليوني دينار لتسجيل البنت، واضطرت الأسرة إلى التقشف من أجل جمع هذا المبلغ، لكن الأم تبدي رضاها إزاء التقشف مقابل توفير تعليم جيد لابنتها.
وتتراوح أجور المدارس الأهلية الثانوية بين 1.5 و3 ملايين دينار في بغداد للعام الدراسي الواحد، وتقل عن ذلك في بقية المحافظات بنسب متفاوتة تحكمها سمعة المدرسة ونسب النجاح فيها.
وتشمل الأجور تجهيز الطلبة بالكتب المدرسية، لكنها لا تشمل الزي المدرسي وبقية المستلزمات من دفاتر وأقلام، بحسب مديرة إحدى المدارس الأهلية في محافظة صلاح الدين.
ويرى الأهالي والطلبة أن التكاليف بين المدارس الحكومية والأهلية متقاربة نظراً إلى أن أموالاً ستُبذل من أجل شراء الكتب المدرسية غير المتوفرة غالباً في المدارس الحكومية، علاوة على تعويض الضعف التدريسي في المدارس الحكومية بالدروس الخصوصية ومعاهد التقوية التي تبلغ تكاليفها ما بين 600 ألف ومليون دينار عراقي بحسب صعوبة المادة وعدد ساعات التدريس.
انتقاء الكفاءات
تساعد الوفرة المالية لدى المدارس الأهلية على استقطاب مدرّسين أكفّاء، وهو ما ينعكس إيجاباً على سمعتها بين الطلبة وذويهم.
وتقول جنان هادي، مشرفة تربوية من بغداد، إن المدارس الخاصة تستقطب نوعين من المدرسين حالياً، النوع الأول يضم المدرسين المتقاعدين، ولاسيما أن عديداً من المدرسين يلجأ إلى التقاعد المبكر للتفرغ للتدريس الخصوصي أو العمل في المدارس الأهلية نظراً للفرق الشاسع بين الراتب الأهلي والحكومي.
“والنوع الثاني يضم المدرسين العاملين حتى الآن في المدارس الحكومية، لكنهم يستطيعون عدم الالتزام بحضورهم فيها عبر الرشاوى والوساطات، أو عبر الإجازات السنوية، ومن ثم العمل في المدارس الأهلية طمعاً بالرواتب والفوائد الأخرى”، تضيف هادي لـ”جمّار”.
وعلى الرغم من ارتباط المدارس الأهلية بوزارة التربية، إلا أنها مبتعدة نوعاً ما عن بيروقراطيتها، ما جعلها قادرة على الاستقلال في بعض قراراتها، مثل انتقاء المدرسين بحسب جدارتهم، كما تذكر إيناس صالح الباحثة التربوية في وزارة التربية لـ”جمّار”.
بينما تلتزم المدارس الحكومية بتعيين المدرسين بحسب قرب رقعة سكنهم الجغرافية من المدرسة.
ولهذا السبب يظن أوس محمد أنه سيتمكن من دخول إحدى كليات الهندسة بعد اجتيازه امتحان العبور من المرحلة الإعدادية (البكالوريا)، فهو يدرس منذ سنتين في مدرسة أهلية ببغداد يُعرف مدرسو المواد العلمية فيها بـ”أفضليتهم” كما يعبّر لـ”جمّار”.
زخم خفيف
من الإيجابيات التي تستقطب الطلبة إلى المدارس الأهلية قلة الزخم فيها مقارنة بالحكومية.
سناء الجبوري، وهي مديرة مدرسة أهلية في بغداد، تقول إن قلة اكتظاظ الصفوف من مميزات المدارس الخاصة.
“عدم اكتظاظ الصفوف يسهّل على المدرس إيصال المعلومات إلى الطالب، كما يمكّن الطلبة من طرح أسئلتهم على الأساتذة بأريحية”، تضيف لـ”جمّار”.
ويتراوح عدد الطلبة في الصف الواحد بين 15 و25 طالبة وطالبا، بحسب توجيهات وزارة التربية الخاصة بالمدارس الأهلية.

وكانت وزارة التخطيط قد أفادت سابقاً بوجود عجز في الأبنية المدرسية بنحو تسعة آلاف مدرسة ابتدائية وثانوية في عام 2022.
وتلكأ أكثر من ألف مشروع لبناء مدارس بسبب معوقات فنية ومالية.
كما أعلنت وزارة التربية عن حاجتها إلى ثلاثة آلاف درجة وظيفية في بغداد وحدها لاستيعاب عدد الطلبة المتزايد والبالغ عشرة ملايين طالبة وطالب موزعين بين 16 ألف مدرسة في عموم العراق، يصل استيعاب الواحدة منها إلى 200 طالب سنوياً، في حين تستقبل كل واحدة ما يقارب 600 طالب في السنة الدراسية الواحدة.
وتشير الجبوري إلى أن القدرة المالية للمدارس الخاصة تمكنها من توفير وسائل تدريسية حديثة، تزيد من استيعاب الطلبة للمادة، مثل لوحات الكتابة وأجهزة العرض المرئية والأدوات المختبرية، إضافة إلى توفر أجهزة التبريد والتدفئة التي يندر وجودها في المدارس الحكومية.
رشاوى للتغاضي
لا يتفق كثيرون على نموذجية التعليم الأهلي، إذ يظن البعض بلجوء المدارس الأهلية إلى جذب الطلبة المتفوقين من المدارس الحكومية عبر إغراءات متعددة مثل المنح المالية وتوفير وسائل النقل لهم، إضافة إلى تحفيزهم بالهدايا الثمينة، وذلك من أجل إيهام الزبائن بأنها تصنع طلبة متفوقين.
ويتهمها آخرون بالتحول من واجهة تعليمية وتربوية إلى واجهات تجارية يتصاعد رواجها بمعية الرشاوى والاستثمار السياسي فيها.
وسجل العراق خلال العام الدراسي 2015-2016 وجود 544 مدرسة أهلية بواقع 73 ألف طالب، وارتفع هذا العدد إلى 1254 مدرسة أهلية تدرس نحو 151 ألف طالب خلال عام 2020، بينما وصل إلى 2884 مدرسة خلال العام الحالي 2023، بحسب إحصائيات وزارة التخطيط.
وحفز الانفتاح الاقتصادي وزيادة نسب الاستثمار في المدارس الأهلية، إضافة الى الاستثمار السياسي فيها، على انتشارها بشكل أوسع.
وذكر مصدر غير مخول بالتصريح في وزارة التربية لـ”جمّار” أن أسماء سياسية كبيرة وأحزاباً معروفة تمتلك عديداً من المدارس الأهلية في العراق، ولاسيما في العاصمة بغداد، وفي مناطق المنصور والكرادة على وجه الخصوص.
ولتفادي المحاسبة القانونية، يسجل هؤلاء أموالهم بأسماء شخصيات مقربة منهم.
شكّل هذا الأمر ظاهرة، واتُهمت وزارة التربية بالتورط فيها عبر منح إجازات للمدارس الأهلية بشكل غير مدروس، وبمخالفة لشروط وضوابط المدارس الأهلية.
هذه المخالفات تتوزع، بحسب علي الربيعي الباحث التربوي في وزارة التربية، بين مخالفة المساحة المحددة للبناء والمواد المستعملة فيها، إضافة إلى تخصصات الكادر التعليمي، وعدم الالتزام بعدد الصفوف والمقاعد، إذ يلجأ العديد من أصحاب رؤوس الأموال إلى تحويل بيوت سكنية عادية إلى مدارس عبر إضافة جدران بديلة “جينكو” و”سندويج بنل” إلى الغرف مع تعديلات أخرى.
“من المستحيل معرفة عدد المدارس المخالفة بسبب عدم وجود تقارير صريحة للجان الإشراف والكشف التربوي، والتي من الممكن التلاعب بها أيضاً، ولكن يقدر بأن حوالي 70 بالمئة من مدارس بغداد تخالف القوانين المحددة، بشكل أو بآخر، ولاسيما تلك المتعلقة بمساحة المدرسة”، يقول الربيعي لـ”جمّار”.
وبحسب مصدر مطلع على آليات وشروط وزارة التربية، فإن زيادة هذه المخالفات تعود إلى استشراء الفساد داخل المؤسسة التربوية، إذ أن الجهات المعنية تتلقى رشاوى مقابل منح موافقات لإنشاء مدارس أهلية أو تجديد الإجازات للموجودة بالفعل.
وتداركت وزارة التربية بعضاً من هذه السلبيات مؤخراً، وأعلنت عن ضوابط جديدة تخص آليات منح إجازة تأسيس المدارس الأهلية.

في واحد من بياناتها، تقول الوزارة إنها تسعى إلى “تحقيق رصانة علمية داخل المؤسسة التربوية، وتستند إلى معايير جودة شاملة لأداء وعمل هذه المؤسسات”.
ومن بين الشروط والضوابط الأخيرة، منع إضافة مادة الـ”سندويج بنل” إلى البناء، وإلزام القائمين على المدرسة بتشييدها ضمن مساحة لا تقل عن ألف متر مربع، إضافة إلى تحديد موقعها الجغرافي في الشوارع الرئيسة حصراً، وتقييدها بعدد طلبة لا يتجاوز 180 طالبة وطالباً، وتشكيل لجان لمتابعة عملها بشكل دوري.
ولكن تطبيق هذه الضوابط يبقى موضع شك ما دامت الرشاوى لا تتوقف عن التدفق.
أفضل عموماً
يقول عماد عبد الدليمي، المشرف في وزارة التربية، إن نجاح تجربة المدارس الأهلية يوجب تشديد الوزارة على القوانين والضوابط وفرض عقوبات على المدارس المخالفة.
ويشير إلى أن بإمكان الدولة أيضاً الاستثمار في هذه المدارس ورعايتها ودعمها من أجل زيادة إيجابياتها، مستدركاً بأن الدولة لا تستطيع ذلك حالياً في ظل الفساد المستشري فيها.
وعلى الرغم من كل الملاحظات بشأنها، تبقى المدارس الأهلية محببة لدى الطلبة الذين يرتادون مدارس حكومية لا تتوفر فيها أبسط الضرورات.
إسراء عمر مصطفى طالبة في مدرسة حكومية، تشكو من تردي أوضاعها.
“مجبورة أدوام بيها. أكعد بالكاع. ماكو رحلات والطالبات يتكومن على رحلة وحدة لو يكعدن بالكاع” تقول لـ”جمّار”.
ولا تمتلك أسرة إسراء القدرة على نقلها إلى مدرسة أهلية بسبب ارتفاع أجورها.
وتعوّل والدتها على دروس اليوتيوب لتحسين المستوى الدراسي لها وتمكينها من النجاح من مرحلة الإعدادية بمعدل يؤهلها لدخول كلية مرغوبة.
وتلقي إسراء بجزء من اللائمة على المدرّسين الذين تتهمهم بالتقصير في التدريس داخل المدرسة الحكومية من أجل اجتذاب الطلبة إلى الدروس الخصوصية.
أما أحمد فلم يعد يفكر هو ووالداه بالدروس الخصوصية باعتباره انتقل إلى مدرسة أهلية ودفع الثمن الذي ينبغي على الطالب العراقي دفعه ليحصل على مستوى مقبول من التعليم.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
من السادسة صباحاً حتى التاسعة مساءً يكدح أبو أحمد يومياً ليتمكّن من “تأمين مستقبل أحمد”، فهو مُؤمن بأن تَلقّي تعليم جيد يعني حياة مرفهة في قادم السنوات.
ولأنه يرى ويسمع أن المدارس الحكومية متردية إلى درجة أن بعضها تخلو صفوفها حتى من السبورات، قرر نقله إلى مدرسة أهلية، ولاقى قراره ترحيباً لدى الابن.
لكن لهذا القرار تكلفة ليست بالواطئة.
يضطر الرجل إلى دفع ما لا يقل عن مليون ونصف مليون دينار (نحو 956 دولاراً) سنوياً لقاء تلقي ولده التعليم في المدرسة الأهلية، وهو مبلغ ليس بسيطاً بالنسبة للطبقة الكادحة في العراق.
وعلى الرغم من ذلك، يبدي أبو أحمد استعداده لبذل مزيد من الجهد البدني ليحصل ابنه على علامة عالية تؤهله لدخول كلية الطب أو الصيدلة.
غير أن أحمد ووالده قد لا يجدان ضالتهما في المدرسة الأهلية كما يتمنيان، فثمة سلبيات يتحدث عنها المتعاملون مع هذه المدارس.
كانت كتاتيب
يصل عدد المدارس الأهلية الابتدائية والثانوية في العراق إلى 2884 مدرسة، بحسب إحصائية لوزارة التخطيط منشورة منتصف العام الحالي.
والمدارس الأهلية ليست بجديدة على العراق، ويرجع وجودها إلى ما قبل الدولة العثمانية على شكل كتاتيب لتعليم القرآن والقراءة والكتابة.
وبشكل عام، يمكن اعتبار العام 1909 عام الانطلاقة الأولى للمدارس الأهلية في العراق، بعد تأسيس مدرسة “مكتب الترقي الجعفري العثماني”، والذي عُرف لاحقاً بالمدرسة الجعفرية الأهلية في بغداد، وفقاً لما يورد الباحث ستار نوري العبودي في بحثه “المدارس الأهلية في العراق 1869-1963” المقدم إلى مركز بابل للدراسات الحضارية والتاريخية في جامعة بابل في نيسان 2015.

ويشير البحث ذاته إلى استشراء المدارس الأهلية في نهايات السيطرة العثمانية على العراق، وكان أغلبها يتبع مؤسسات أجنبية بريطانية وأوربية كانت تعمل في البلاد، رغبة منها في توسيع نشاطها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، بناءً على الامتيازات الممنوحة لها من قبل السلطات العثمانية، إضافة إلى مدارس الأقليات الدينية، مثل المدارس اليهودية والمسيحية.
وبعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914، زاد عدد المدارس الأهلية بشكل أكبر، وسميت بمدارس الأهالي، مثل مدرسة التفيض في بغداد، والمدرسة الحسينية والهاشمية الحسينية في كربلاء، والمدرسة الفيصلية في الموصل.
ووصل أعداد المدارس في العام الدراسي 1936-1937 إلى 72 مدرسة أهلية وأجنبية في عموم البلاد، يدرس فيها نحو 13 ألف طالب سنوياً، وارتفع عدد الدارسين في هذه المدارس إلى نحو 15 ألف طالب في السنة الدراسية اللاحقة.
وبلغ عدد طلبة المدارس الأهلية نحو 18 ألف طالب وشكلوا نسبة 3 بالمئة من عدد طلبة العراق البالغ نحو 400 ألف عام 1958، في حين وصل عدد المدارس الابتدائية إلى 83 مدرسة أهلية عام 1961، مقابل 3596 مدرسة حكومية، و124 مدرسة ثانوية منافسة لـ430 مدرسة ثانوية حكومية، بحسب بحث العبودي.
وتراجع عدد المدارس الأهلية بعد عام 1980 بسبب ظروف الحرب العراقية-الإيرانية وما تلاها من حصار اقتصادي استمر حتى عام 2003، ولكنها استعادت نشاطها بعد هذا التاريخ.
تكاليف في كل الأحوال
أجرت أم زينب بحثاً مكثفاً بشأن معدلات الناجحين في المدارس الأهلية، من أجل إيجاد مدرسة تسجّل ابنتها فيها.
ولما نالت إحدى المدارس إعجابها بسبب نسب النجاح العالية التي حققتها خلال السنوات الماضية، ومعدلات طلبتها في الصف السادس العلمي، سارعت إلى تسجيل ابنتها فيها.
ودفعت نحو مليوني دينار لتسجيل البنت، واضطرت الأسرة إلى التقشف من أجل جمع هذا المبلغ، لكن الأم تبدي رضاها إزاء التقشف مقابل توفير تعليم جيد لابنتها.
وتتراوح أجور المدارس الأهلية الثانوية بين 1.5 و3 ملايين دينار في بغداد للعام الدراسي الواحد، وتقل عن ذلك في بقية المحافظات بنسب متفاوتة تحكمها سمعة المدرسة ونسب النجاح فيها.
وتشمل الأجور تجهيز الطلبة بالكتب المدرسية، لكنها لا تشمل الزي المدرسي وبقية المستلزمات من دفاتر وأقلام، بحسب مديرة إحدى المدارس الأهلية في محافظة صلاح الدين.
ويرى الأهالي والطلبة أن التكاليف بين المدارس الحكومية والأهلية متقاربة نظراً إلى أن أموالاً ستُبذل من أجل شراء الكتب المدرسية غير المتوفرة غالباً في المدارس الحكومية، علاوة على تعويض الضعف التدريسي في المدارس الحكومية بالدروس الخصوصية ومعاهد التقوية التي تبلغ تكاليفها ما بين 600 ألف ومليون دينار عراقي بحسب صعوبة المادة وعدد ساعات التدريس.
انتقاء الكفاءات
تساعد الوفرة المالية لدى المدارس الأهلية على استقطاب مدرّسين أكفّاء، وهو ما ينعكس إيجاباً على سمعتها بين الطلبة وذويهم.
وتقول جنان هادي، مشرفة تربوية من بغداد، إن المدارس الخاصة تستقطب نوعين من المدرسين حالياً، النوع الأول يضم المدرسين المتقاعدين، ولاسيما أن عديداً من المدرسين يلجأ إلى التقاعد المبكر للتفرغ للتدريس الخصوصي أو العمل في المدارس الأهلية نظراً للفرق الشاسع بين الراتب الأهلي والحكومي.
“والنوع الثاني يضم المدرسين العاملين حتى الآن في المدارس الحكومية، لكنهم يستطيعون عدم الالتزام بحضورهم فيها عبر الرشاوى والوساطات، أو عبر الإجازات السنوية، ومن ثم العمل في المدارس الأهلية طمعاً بالرواتب والفوائد الأخرى”، تضيف هادي لـ”جمّار”.
وعلى الرغم من ارتباط المدارس الأهلية بوزارة التربية، إلا أنها مبتعدة نوعاً ما عن بيروقراطيتها، ما جعلها قادرة على الاستقلال في بعض قراراتها، مثل انتقاء المدرسين بحسب جدارتهم، كما تذكر إيناس صالح الباحثة التربوية في وزارة التربية لـ”جمّار”.
بينما تلتزم المدارس الحكومية بتعيين المدرسين بحسب قرب رقعة سكنهم الجغرافية من المدرسة.
ولهذا السبب يظن أوس محمد أنه سيتمكن من دخول إحدى كليات الهندسة بعد اجتيازه امتحان العبور من المرحلة الإعدادية (البكالوريا)، فهو يدرس منذ سنتين في مدرسة أهلية ببغداد يُعرف مدرسو المواد العلمية فيها بـ”أفضليتهم” كما يعبّر لـ”جمّار”.
زخم خفيف
من الإيجابيات التي تستقطب الطلبة إلى المدارس الأهلية قلة الزخم فيها مقارنة بالحكومية.
سناء الجبوري، وهي مديرة مدرسة أهلية في بغداد، تقول إن قلة اكتظاظ الصفوف من مميزات المدارس الخاصة.
“عدم اكتظاظ الصفوف يسهّل على المدرس إيصال المعلومات إلى الطالب، كما يمكّن الطلبة من طرح أسئلتهم على الأساتذة بأريحية”، تضيف لـ”جمّار”.
ويتراوح عدد الطلبة في الصف الواحد بين 15 و25 طالبة وطالبا، بحسب توجيهات وزارة التربية الخاصة بالمدارس الأهلية.

وكانت وزارة التخطيط قد أفادت سابقاً بوجود عجز في الأبنية المدرسية بنحو تسعة آلاف مدرسة ابتدائية وثانوية في عام 2022.
وتلكأ أكثر من ألف مشروع لبناء مدارس بسبب معوقات فنية ومالية.
كما أعلنت وزارة التربية عن حاجتها إلى ثلاثة آلاف درجة وظيفية في بغداد وحدها لاستيعاب عدد الطلبة المتزايد والبالغ عشرة ملايين طالبة وطالب موزعين بين 16 ألف مدرسة في عموم العراق، يصل استيعاب الواحدة منها إلى 200 طالب سنوياً، في حين تستقبل كل واحدة ما يقارب 600 طالب في السنة الدراسية الواحدة.
وتشير الجبوري إلى أن القدرة المالية للمدارس الخاصة تمكنها من توفير وسائل تدريسية حديثة، تزيد من استيعاب الطلبة للمادة، مثل لوحات الكتابة وأجهزة العرض المرئية والأدوات المختبرية، إضافة إلى توفر أجهزة التبريد والتدفئة التي يندر وجودها في المدارس الحكومية.
رشاوى للتغاضي
لا يتفق كثيرون على نموذجية التعليم الأهلي، إذ يظن البعض بلجوء المدارس الأهلية إلى جذب الطلبة المتفوقين من المدارس الحكومية عبر إغراءات متعددة مثل المنح المالية وتوفير وسائل النقل لهم، إضافة إلى تحفيزهم بالهدايا الثمينة، وذلك من أجل إيهام الزبائن بأنها تصنع طلبة متفوقين.
ويتهمها آخرون بالتحول من واجهة تعليمية وتربوية إلى واجهات تجارية يتصاعد رواجها بمعية الرشاوى والاستثمار السياسي فيها.
وسجل العراق خلال العام الدراسي 2015-2016 وجود 544 مدرسة أهلية بواقع 73 ألف طالب، وارتفع هذا العدد إلى 1254 مدرسة أهلية تدرس نحو 151 ألف طالب خلال عام 2020، بينما وصل إلى 2884 مدرسة خلال العام الحالي 2023، بحسب إحصائيات وزارة التخطيط.
وحفز الانفتاح الاقتصادي وزيادة نسب الاستثمار في المدارس الأهلية، إضافة الى الاستثمار السياسي فيها، على انتشارها بشكل أوسع.
وذكر مصدر غير مخول بالتصريح في وزارة التربية لـ”جمّار” أن أسماء سياسية كبيرة وأحزاباً معروفة تمتلك عديداً من المدارس الأهلية في العراق، ولاسيما في العاصمة بغداد، وفي مناطق المنصور والكرادة على وجه الخصوص.
ولتفادي المحاسبة القانونية، يسجل هؤلاء أموالهم بأسماء شخصيات مقربة منهم.
شكّل هذا الأمر ظاهرة، واتُهمت وزارة التربية بالتورط فيها عبر منح إجازات للمدارس الأهلية بشكل غير مدروس، وبمخالفة لشروط وضوابط المدارس الأهلية.
هذه المخالفات تتوزع، بحسب علي الربيعي الباحث التربوي في وزارة التربية، بين مخالفة المساحة المحددة للبناء والمواد المستعملة فيها، إضافة إلى تخصصات الكادر التعليمي، وعدم الالتزام بعدد الصفوف والمقاعد، إذ يلجأ العديد من أصحاب رؤوس الأموال إلى تحويل بيوت سكنية عادية إلى مدارس عبر إضافة جدران بديلة “جينكو” و”سندويج بنل” إلى الغرف مع تعديلات أخرى.
“من المستحيل معرفة عدد المدارس المخالفة بسبب عدم وجود تقارير صريحة للجان الإشراف والكشف التربوي، والتي من الممكن التلاعب بها أيضاً، ولكن يقدر بأن حوالي 70 بالمئة من مدارس بغداد تخالف القوانين المحددة، بشكل أو بآخر، ولاسيما تلك المتعلقة بمساحة المدرسة”، يقول الربيعي لـ”جمّار”.
وبحسب مصدر مطلع على آليات وشروط وزارة التربية، فإن زيادة هذه المخالفات تعود إلى استشراء الفساد داخل المؤسسة التربوية، إذ أن الجهات المعنية تتلقى رشاوى مقابل منح موافقات لإنشاء مدارس أهلية أو تجديد الإجازات للموجودة بالفعل.
وتداركت وزارة التربية بعضاً من هذه السلبيات مؤخراً، وأعلنت عن ضوابط جديدة تخص آليات منح إجازة تأسيس المدارس الأهلية.

في واحد من بياناتها، تقول الوزارة إنها تسعى إلى “تحقيق رصانة علمية داخل المؤسسة التربوية، وتستند إلى معايير جودة شاملة لأداء وعمل هذه المؤسسات”.
ومن بين الشروط والضوابط الأخيرة، منع إضافة مادة الـ”سندويج بنل” إلى البناء، وإلزام القائمين على المدرسة بتشييدها ضمن مساحة لا تقل عن ألف متر مربع، إضافة إلى تحديد موقعها الجغرافي في الشوارع الرئيسة حصراً، وتقييدها بعدد طلبة لا يتجاوز 180 طالبة وطالباً، وتشكيل لجان لمتابعة عملها بشكل دوري.
ولكن تطبيق هذه الضوابط يبقى موضع شك ما دامت الرشاوى لا تتوقف عن التدفق.
أفضل عموماً
يقول عماد عبد الدليمي، المشرف في وزارة التربية، إن نجاح تجربة المدارس الأهلية يوجب تشديد الوزارة على القوانين والضوابط وفرض عقوبات على المدارس المخالفة.
ويشير إلى أن بإمكان الدولة أيضاً الاستثمار في هذه المدارس ورعايتها ودعمها من أجل زيادة إيجابياتها، مستدركاً بأن الدولة لا تستطيع ذلك حالياً في ظل الفساد المستشري فيها.
وعلى الرغم من كل الملاحظات بشأنها، تبقى المدارس الأهلية محببة لدى الطلبة الذين يرتادون مدارس حكومية لا تتوفر فيها أبسط الضرورات.
إسراء عمر مصطفى طالبة في مدرسة حكومية، تشكو من تردي أوضاعها.
“مجبورة أدوام بيها. أكعد بالكاع. ماكو رحلات والطالبات يتكومن على رحلة وحدة لو يكعدن بالكاع” تقول لـ”جمّار”.
ولا تمتلك أسرة إسراء القدرة على نقلها إلى مدرسة أهلية بسبب ارتفاع أجورها.
وتعوّل والدتها على دروس اليوتيوب لتحسين المستوى الدراسي لها وتمكينها من النجاح من مرحلة الإعدادية بمعدل يؤهلها لدخول كلية مرغوبة.
وتلقي إسراء بجزء من اللائمة على المدرّسين الذين تتهمهم بالتقصير في التدريس داخل المدرسة الحكومية من أجل اجتذاب الطلبة إلى الدروس الخصوصية.
أما أحمد فلم يعد يفكر هو ووالداه بالدروس الخصوصية باعتباره انتقل إلى مدرسة أهلية ودفع الثمن الذي ينبغي على الطالب العراقي دفعه ليحصل على مستوى مقبول من التعليم.