"هتافات تشرين غير العادية": شعارات قديمة بحُلي وسرديّاتٍ جديدة 

بلسم مصطفى

01 تشرين الأول 2023

لم يعُد من الممكن خداع الأجيال الجديدة بسرديّات القرن الماضي، ولم يعُد للخلفيات الدينية أو المذهبية للقادة والأحزاب الحاكمة أي وزن أو أهمية، على الأقل كانت تلك رسالة الشعارات في تشرين.. عن "هتافات تشرين غير العادية" وعن شعارات قديمة بحُلي وسردياتٍ جديدة..

تميّزت ثورة تشرين التي انطلقت في شهر تشرين الأول عام 2019 بشعاراتها وهتافاتها المؤثرة والمتنوعة في الشكل والمحتوى.i وعلى وجه الخصوص، امتاز عدد منها بإيقاعٍ ونغمةٍ قريبة على الأذن العراقية، مألوفة، شعبية، مُحبّبة، دخلت القلب دون استئذان ورُدّدت بعفوية شديدة لا في سوح الاحتجاج فحسب، بل حتى على مواقع التواصل الاجتماعي. 

وكوني باحثة مهتمة في دراسة الحراكات الاجتماعية وبسبب خلفيتي الأكاديمية في حقل الترجمة واللغة، وجدت نفسي حينها تلقائياً منغمسة في ترجمة العديد من تلك الهتافات إلى اللغة الإنجليزية ومشاركتها مع الآخرين على السوشيال ميديا. حالي كحال الكثير من العراقيات والعراقيين في الشتات، كنا ملاصقين لشاشات هواتفنا النقالة طيلة فترة الاحتجاجات ونحن نتابع بترقب وخوف وحذر وأمل معاً تطوّرات الحراك الشبابي الثوري. وتتأرجح مشاعرنا بين الحزن والفرح تارة، وبين الحُلم واليأس تارة أخرى. نبتسم في ثانية ونذرف الدموع في الثانية نفسها. كنا نعيش كل هذه التناقضات والمشاعر الملتبسة في الوقت نفسه. وأسوةً بغيري، وجدتني أردّد بعضاً من هتافات تشرين وأشعر بنوعٍ من الألفة تجاهها. وشيئاً فشيئاً، بدأت تتبادر إلى ذهني أسئلة تتعلق بمصدر تلك الهتافات: من أين جاءت؟ من كتبها؟ من لحّنها؟ هل كانت أصليةً أم مقتبسة؟ فبدأتُ رحلة البحث المثيرة عن خمسة من أهم تلك الشعارات وأكثرها تأثيراً ورواجاً، وأشارك في هذه المقالة، الاستنتاجات التي توصلت إليها في دراسة بحثية تعقبتُ فيها أثر بعضٍ من أهم شعارات حراك تشرين الاحتجاجي في أشهره الثلاثة الأولى.ii 

الهتافات في الموروث الشعبيّ العراقي 

تُعد الشعارات والهتافات أكثر من مجرد نصوص لغوية، إذ أنها تُشكل أداءً جمعياً يدمج بين جماليات الاحتجاجات والسياسة من خلال مساهمتها في وضع الجسد في قلب الحيّز السياسي.iii فعندما تصدح حناجر المحتجين بوجه الخطر والقمع، تُضاف رمزية مهمة إلى الهتافات، كما حصل خلال تظاهرات تشرين. فظل المحتجون يهتفون بلا هوادة غير عابئين بالدخانيات والذخيرة الحيّة ونيران القناصين والقوات الأمنية، بشجاعةٍ تُلهب حماسة الجموع وهم يهتفون في اللحظةِ ذاتها بتناسق وانسجامٍ يؤجج المشاعر ويخلق شعوراً واحداً بالمسؤولية. 

تمتاز الثقافة العراقية بوجود أنواع مختلفة من الهتافات، على سبيل المثال، “الهوسة” أو “العراضة”، وهي أنشودة شعرية ظهرت في جنوب العراق واستخدمت خلال الصراعات العشائرية والحروب لإشعال الحماس بين الناس. أما الهوسة فتكون ارتجالية يؤديها شخص موهوب يُطلق عليه لقب “المهوال” ويستهلّ الأناشيد بعبارة “ها خوتي ها” [يا إخواني رددوا بعدي!]. وهناك أيضاً الأهزوجة وهي تشبه إلى حدّ كبير الأغاني، ولكن كثيراً ما يغنيها مجموعة من الناس. ويُشار أحياناً إلى أغاني الحرب باسم أهازيج أو أناشيد.  

لقد تطورت جميع أنواع الأناشيد العراقية تاريخياً. فالهوسة، على سبيل المثال، اندمجت مع الشعر والأغاني. 

مثلت هذه الأنواع الأدبية المنابع التي استلهم منها المتظاهرون في صياغة شعاراتهم وهتافاتهم، فالهتافات لا تأتي من فراغ وإنما تنهل من تراث الأمم، ثقافتها الشعبية، نصوصها التاريخية والدينية، فنونها، وطقوسها الشعبية، والخ.iv وهذا ما حصل مع هتافات حراك تشرين الاحتجاجي. ولأن غالبية المحتجين كانوا من خلفيةٍ شيعية، فكان المصدر الأساسي للهتافات الشعارات الشيعية وطقوس عاشوراء الدينية. كما تأثرت بعض الهتافات بالأغاني الوطنية من الحرب الإيرانية العراقية أو “الأهازيج”. السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن للمتظاهرين إعادة استخدام الهتافات التي قد تشكل مشكلة لشرائح أخرى من السكان العراقيين بسبب ارتباطهم بنظام صدام أو هويات طائفية محددة؟ وهنا مكمن استثنائية شعارات تشرين وإبداعها. فالمحتجون لم يكتفوا بنقل الشعارات القديمة كما هي، بل قاموا بتغيير بعض كلماتها تغييراً جوهرياً غيّر من السردية المرتبطة بالشعارات الأصلية وساعد على استحضار سرديات جديدة عابرة للطائفية تتمحور حول العراق فقط، وتخلصت بذاك من أي سرديات إشكالية مرتبطة بمذهب أو طائفة أو حزب من خلال بنائها لمخزون ثقافي شعبي جديد من خلال ترديدها ليس في سوح الاحتجاج فحسب، بل كذلك على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال تصويرها ونشرها ومشاركتها المتكررة. بمعنى آخر، تمكن المحتجون من كسر النمط المرتبط بالشعارات الأصلية وخلق نمط مغاير تماماً، يخاطب اللحظة الاحتجاجية، بل ويمتد إلى ما بعدها. 

“هاية شبابك يا وطن هاية”: سردية شبابية حول التضحية والانتماء 

شاب يحمل مصاب في ساحة حافظ القاضي\ تصوير: فاروق الجمل

أكدت العديد من شعارات وهتافات ثورة تشرين على الشعور بالانتماء للعراق وشعبه. وارتبطت أبرز تلك الشعارات بطلبة الجامعات والمدارس وهم يدخلون نفق التحرير كل يوم أحد، فيهتفون بصوتٍ واحد بعد أدائهم للنشيد الوطني: هاية شبابك يا وطن هاية، ضحت بدمها ورفعت الراية”، إشارةً الى التضحيات الجمة التي قدمها شباب العراق على مدى السنوات السابقة، وتحديداً إلى شهداء ثورة تشرين. اللافت أن هذا الشعار ظهر أول مرة عام 2012 كأنشودة دينية عن فاطمة ابنة النبي محمد. واستندت الأنشودة الى قصيدة شيعية تصوّر السيدة فاطمة على أنها “نموذج للعفة والتدين للنساء”. وعام 2014، أُعيد توظيف الشعار نفسه من قبل أنصار مقتدى الصدر، للإشادة بأعضاء جماعة سرايا السلام المسلحة التي أسسها الصدر، بزعم دعم قوات الأمن العراقية خلال المعارك ضد تنظيم “داعش” الإرهابي من خلال حماية الأضرحة الإسلامية والمسيحية. وكانت كلماتها تقول: “هاية سرايا ابن الصدر هايه، ضحت بديها ورفعت الراية، هايه رجالك مقتدى هاية، للموت نبقه وياك  وفايه”.  

يمكن القول إن تكرار هذا الهتاف في سياقاتٍ مختلفة ساعد على نشره على نطاق أوسع، مما جعله مألوفاً لدى المتظاهرين. لكن الهتاف بنسخته الأخيرة أزال أثر السرديات الدينية والسياسية المرتبطة بالنسخ السابقة من خلال حذف أي إشارة دينية أو مذهبية وأضفى طابعاً عراقياً خالصاً على الهتاف مما حشّد الجموع حوله، إلى درجة أن الشعبية الجديدة التي اكتسبها مكّنت من تحويله الى أغنية بعد وقتٍ قصير. 

“حر ورافض للأصنام، لا إيران ولا صدام”: سردية السيادة والحرية ومناهضة إيران 

عبّر متظاهرو تشرين عن رفضهم للتدخل الأجنبي عموماً أياً كان مصدره، وبشكلٍ خاص نددوا بالتدخل الإيراني “إيران برة برة، بغداد تبقى حرة”. كما أنهم رددوا نسخاً جديدة من أهازيج حربية ارتبطت بالحرب الإيرانية العراقية، كأهزوجة “منصورة يا بغداد” و”يا كاع ترابج كافوري“، التي كانت قد استبدلت كلماتها بكلماتٍ جديدة عن تشرين.  

لم تخلُ إعادة توظيف تلك الأناشيد من إشكاليات رغم أن الأغاني الجديدة محت أي رابط بينها وبين البعث أو نظام صدام، إلا أنها -بالنسبة لبعض النقاد– كانت تغذيها خطابات عنيفة وقبلية ناقضت الطبيعة السلمية للاحتجاجات. إلا أن أداء أغاني الحرب بتوظيفها الجديد كان قد مثل هجاءً لاذعاً لإيران، والهجاء من شأنه أن يثير الصدمة وفي الوقت نفسه يعيد جذب الانتباه إلى التظاهرات وحث الجماهير على المشاركة.v فاللجوء إلى المخزون الثقافي المشترك للشعب العراقي كان بمثابة تكتيك للمتظاهرين لتحقيق الهدف أعلاه. 

تزامن ترديد تلك الشعارات والأهازيج مع تصاعد آلة القمع ضد المتظاهرين، فهناك ارتباط وثيق بين عنف اللغة والعنف الجسدي على الأرض. فمع تزايد حدة الخطاب المناهض والمشيطن للمتظاهرين واصماً إياهم بالـ”البعثية” أو “أبناء السفارات” أو “الجوكرية” في وسائل الإعلام المرتبطة بالنظام الإيراني أو “محور المقاومة” في العراق ولبنان، استمر استهداف المتظاهرين العُزل بعنفٍ غير مسبوق أو مبرر.vi فجاء الرد من جموعٍ من متظاهري محافظة ذي قار، وهم يستلهمون من طقوس عاشوراء ومسيراتها، حيث تتجمع حشود من الحجاج لترديد الشعارات الدينية المكتوبة على لوحٍ يرفعه شخص أمامهم، فهتفوا بالأهزوجة التالية: 

ما ترهبنا الصوتيات، بينا عناد شروكية 

نرجع نوكفلك هوسات، وإحنا نسكت الصوتية 

ما نتراجع لا هيهات، خل تسمعنا الحزبية 

إي والله، إي والله وإسمع ذي قار 

من كل شارع، من كل دار 

نطلع ما نرضى بأحزاب 

وكت السكته أنا لسان، وأنا معلم الحرية 

إسمع وأسكت يا بطران، وعلك بإذنك ترجية 

مو بعثي من أشتم إيران، أنعل أبو البعثية 

حر ورافض للأصنام 

لا إيران ولا صدام 

أنا معلم الحرية 

بالهتاف والتصفيق والأداء الحماسي الشجاع، رفض محتجو ذي قار كل الاتهامات الموجهة إليهم، ووجهوا رداً بليغاً صاعقاً للأحزاب عن طريق الهجاء الشعري، مستعيدين هويتهم الجنوبية باستخدام لفظة “شروكية” بدلالاتها الإيجابية.  

ولأن الهجاء لا يمر من دون عواقب، كما يرى الباحثون، جاء الرد عنيفاً من قبل القوات الأمنية.vii ففي الثامن والعشرين من تشرين الثاني، بعد أيامٍ من تلك التظاهرة، هاجمت مجموعة من القوات الأمنية المتظاهرين في الناصرية مركز محافظة ذي قار، ما أسفر عن مقتل 25 شخصاً وإصابة عدد أكبر. وعُرف هذا الهجوم بـ”مجزرة جسر الزيتون” نسبة إلى الجسر الذي تم إطلاق الرصاص الحي عليه. كان الاعتداء الشرارة التي أطلقت تظاهرات في المحافظات الشمالية والغربية في العراق، إذ نددت جموعٌ من المتظاهرين في تلك الأماكن بالمجزرة، معبرةً عن تضامنها مع احتجاجات تشرين.  

“نموت عشرة، نموت مية”: سردية التضامن العابرة للطائفية 

المسيرة الطلابية\ تصوير: محمد البولاني

في أوائل كانون الأول، نظم العديد من المتظاهرين الشباب مسيراتٍ في محافظات عدة في غرب وشمال البلاد، بما في ذلك الموصل وتكريت والأنبار، للتضامن مع الناصرية. علاوة على ذلك، أقام طلاب جامعتي الموصل وتكريت وقفات احتجاجية حداداً على الضحايا. فارتدى الطلبة ملابسَ سوداء ورددوا شعارات تشرين. ومع ذلك، واجه الطلاب قمعاً فورياً ولم يتمكّنوا من مواصلة احتجاجاتهم.  

شكلت مشاركة المحتجين في المناطق السُّنية لحظة مهمة عابرة للطائفية علت فيها الهوية العراقية على أي هوية فرعية أخرى. من أهم الشعارات التي رددها المحتجون بعد تحويرها قليلاً كان شعار ارتبط باحتجاجات البصرة عام 2018: “نموت عشرة، نموت مية، أبقى قافل على القضية”. استبدل متظاهرو المحافظات الغربية والشمالية المقطع الثاني للهتاف بِـ”يبقى صوت الناصرية“، وهو الشعار نفسه الذي رفعه محتجو الناصرية بعد مجزرة الزيتون. ليس ذلك فحسب، بل أن مجموعة من متظاهري تكريت قامت بالضرب أو اللطم على صدورهم محاكين طقوس شهر محرم، فكان تفعيل هذه الحركة الجسدية محمولاً بالرمزية الاحتجاجية ضد الحكومة والتضامنية مع المحتجين في الجنوب.viii 

على أن أصل ذلك الشعار لا يعود لتظاهرات البصرة. فبعد البحث والتحري، تبين أن أول استخدام له ربما كان عام 2010، إذ يُظهر فيديو على اليوتيوب بذلك التاريخ حشداً من الحجاج الشيعة وهم يحيون ذكرى وفاة الإمام الحسين، هاتفين: “يموت عشرة، يموت مية، يبقى صوت الجعفرية. قولوا عنا رافضية، يبقى صوت الجعفرية”. تُثير كلماتٍ كـ”جعفرية” و”رافضية” سردية مذهبية تتمحور حول الهوية الشيعية وتحمل بين طياتها أيضاً حساً طائفياً تستدعيه المفردة الأخيرة. فباستبدال تلك الصفات بـ”قضية” عام 2018، ومن ثم بـ”صوت الناصرية”، يتغير الخطاب جذرياً، وتتغير معه السردية. في حالة تظاهرات تشرين، كان التركيز على مقاومة أبناء الناصرية للعنف السلطوي والتعبير عن دعمهم والتنديد لما تعرضوا له. 

“ما نريد قائد جعفري”: سردية الحكم غير الإسلامي 

سائق دراجة في نفق التحرير\ تصوير: سجاد محمد

وعوداً الى الناصرية، خرج المحتجون مرة أخرى في الشهر ذاته، متحدين عنف السلطة، ببسالةٍ وجرأة، مستلهمين مرةً أخرى من طقوس عاشوراء، ليوجهوا رسالة سياسية أخرى شديدة اللهجة ترفض الحكم الإسلامي الشيعي برمته، طالما ارتبط بالفساد والتبعية:  

نريدلنا قائد مو مثل هاي القمامات 

نريدلنا قائد مو من ذيول السفارات 

ما نريد قائد جعفري، تاليها يطلع سرسري 

نريد قائد شريف، ومو مهم عدنا الديانات  

وظفت هذه الأبيات الشعرية القليلة شعاراً قديماً كان قد رُفع في سياق انتفاضة عام 1991 (الانتفاضة الشعبانية) ضد الحكم البعثي ونظام صدام حسين. وكان الشعار يقول في وقتها: “ماكو ولي إلا علي ونريد قائد جعفري”. عكس الشعار رغبة العراقيين الشيعة آنذاك في أن يحكمهم قادة شيعة يسيرون على نهج علي بن أبي طالب في الحكم الذي يُعتقد بأنه عادل ومنصف. وفي مرحلة ما بعد 2003، استُغل الشعار وأُعيد نشره على نطاقٍ واسع من قبل السياسيين والزعماء الدينيين لتأسيس تصور عن استقامة الشيعة في الحكم. ومنذ ذلك الحين، أثار الشعار الجدل. فعلى سبيل المثال، أُنتقد الشعار كونه يغذي لغةً طائفية تزيد من الانقسامات بين العراقيين وتُقصي جميع الطوائف الأخرى، بما في ذلك السنة وغير المسلمين وفشله في تأسيس هوية وخطاب عراقيين موحدين حتى في سياق انتفاضة عام 1991، مما أدى إلى ظهور سرد طائفي بدلاً من ذلك. 

وبهذا رفض هتاف الناصرية بشكلٍ مباشر السرديات المسيسة التي يطرحها السياسيون الشيعة عن كونهم الضحية وعن حقهم في الحكم.  

 لم يعد من الممكن خداع الأجيال الجديدة بسرديات القرن الماضي، ولم يعد للخلفيات الدينية أو المذهبية للقادة والأحزاب الحاكمة أي وزن أو أهمية، على الأقل كانت تلك رسالة الشعارات أعلاه. إذ حاولت انتزاع الشرعية من الأحزاب الحاكمة مطالبةً بحكمٍ عادل لا علاقة له بالمذاهب ولا الأديان. 

 من الجدير بالذكر، أن العديد من متظاهري تشرين، وليس جميعهم بالطبع، كانوا يطمحون بحكمٍ علماني يفصل الدين عن الدولة، وهو مطلب ظل محل جدال بين مجاميع المتظاهرين. لكن ما أجمع عليه المتظاهرون كان رفضهم للطبقة السياسية برمتها، وليس أبلغ من ذلك هجاؤهم لها بعباراتٍ مهينة كاشفة وفاضحة لحكمها الفاسد والزائف، ولقادتها “القمامات” و”السرسرية”. 

شعارات متغيرة بتأثيرٍ أقل 

طالما تتغير السياقات بأفرادها وظروفها، تظل الشعارات والهتافات عرضة للتحول والتغيير. فعلى سبيل المثال، اقتبس شعار “هاية شبابك يا وطن هايه” من قبل مجاميع من الحشد الشعبي ليصبح “هاية شبابك يا حشد هايه”. فاستبدال كلمة “الوطن” بالـ”الحشد” لا يُنتج سرديةً مغايرة فحسب، بل إنه يُغير معاني الهوية والانتماء. لكن تأثيره سيظل منحصراً بفئات محددة تنتمي لتلك الجماعات المرتبطة به. أما هتافات تشرين فسيظل يتذكرها العراقيون بكونها شعاراتٍ تتمحور حول العراق ولأجله. وبذلك، ستظل عصية على الشطب من الذاكرة الجمعية، حيةً في الوجدان. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

تميّزت ثورة تشرين التي انطلقت في شهر تشرين الأول عام 2019 بشعاراتها وهتافاتها المؤثرة والمتنوعة في الشكل والمحتوى.i وعلى وجه الخصوص، امتاز عدد منها بإيقاعٍ ونغمةٍ قريبة على الأذن العراقية، مألوفة، شعبية، مُحبّبة، دخلت القلب دون استئذان ورُدّدت بعفوية شديدة لا في سوح الاحتجاج فحسب، بل حتى على مواقع التواصل الاجتماعي. 

وكوني باحثة مهتمة في دراسة الحراكات الاجتماعية وبسبب خلفيتي الأكاديمية في حقل الترجمة واللغة، وجدت نفسي حينها تلقائياً منغمسة في ترجمة العديد من تلك الهتافات إلى اللغة الإنجليزية ومشاركتها مع الآخرين على السوشيال ميديا. حالي كحال الكثير من العراقيات والعراقيين في الشتات، كنا ملاصقين لشاشات هواتفنا النقالة طيلة فترة الاحتجاجات ونحن نتابع بترقب وخوف وحذر وأمل معاً تطوّرات الحراك الشبابي الثوري. وتتأرجح مشاعرنا بين الحزن والفرح تارة، وبين الحُلم واليأس تارة أخرى. نبتسم في ثانية ونذرف الدموع في الثانية نفسها. كنا نعيش كل هذه التناقضات والمشاعر الملتبسة في الوقت نفسه. وأسوةً بغيري، وجدتني أردّد بعضاً من هتافات تشرين وأشعر بنوعٍ من الألفة تجاهها. وشيئاً فشيئاً، بدأت تتبادر إلى ذهني أسئلة تتعلق بمصدر تلك الهتافات: من أين جاءت؟ من كتبها؟ من لحّنها؟ هل كانت أصليةً أم مقتبسة؟ فبدأتُ رحلة البحث المثيرة عن خمسة من أهم تلك الشعارات وأكثرها تأثيراً ورواجاً، وأشارك في هذه المقالة، الاستنتاجات التي توصلت إليها في دراسة بحثية تعقبتُ فيها أثر بعضٍ من أهم شعارات حراك تشرين الاحتجاجي في أشهره الثلاثة الأولى.ii 

الهتافات في الموروث الشعبيّ العراقي 

تُعد الشعارات والهتافات أكثر من مجرد نصوص لغوية، إذ أنها تُشكل أداءً جمعياً يدمج بين جماليات الاحتجاجات والسياسة من خلال مساهمتها في وضع الجسد في قلب الحيّز السياسي.iii فعندما تصدح حناجر المحتجين بوجه الخطر والقمع، تُضاف رمزية مهمة إلى الهتافات، كما حصل خلال تظاهرات تشرين. فظل المحتجون يهتفون بلا هوادة غير عابئين بالدخانيات والذخيرة الحيّة ونيران القناصين والقوات الأمنية، بشجاعةٍ تُلهب حماسة الجموع وهم يهتفون في اللحظةِ ذاتها بتناسق وانسجامٍ يؤجج المشاعر ويخلق شعوراً واحداً بالمسؤولية. 

تمتاز الثقافة العراقية بوجود أنواع مختلفة من الهتافات، على سبيل المثال، “الهوسة” أو “العراضة”، وهي أنشودة شعرية ظهرت في جنوب العراق واستخدمت خلال الصراعات العشائرية والحروب لإشعال الحماس بين الناس. أما الهوسة فتكون ارتجالية يؤديها شخص موهوب يُطلق عليه لقب “المهوال” ويستهلّ الأناشيد بعبارة “ها خوتي ها” [يا إخواني رددوا بعدي!]. وهناك أيضاً الأهزوجة وهي تشبه إلى حدّ كبير الأغاني، ولكن كثيراً ما يغنيها مجموعة من الناس. ويُشار أحياناً إلى أغاني الحرب باسم أهازيج أو أناشيد.  

لقد تطورت جميع أنواع الأناشيد العراقية تاريخياً. فالهوسة، على سبيل المثال، اندمجت مع الشعر والأغاني. 

مثلت هذه الأنواع الأدبية المنابع التي استلهم منها المتظاهرون في صياغة شعاراتهم وهتافاتهم، فالهتافات لا تأتي من فراغ وإنما تنهل من تراث الأمم، ثقافتها الشعبية، نصوصها التاريخية والدينية، فنونها، وطقوسها الشعبية، والخ.iv وهذا ما حصل مع هتافات حراك تشرين الاحتجاجي. ولأن غالبية المحتجين كانوا من خلفيةٍ شيعية، فكان المصدر الأساسي للهتافات الشعارات الشيعية وطقوس عاشوراء الدينية. كما تأثرت بعض الهتافات بالأغاني الوطنية من الحرب الإيرانية العراقية أو “الأهازيج”. السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن للمتظاهرين إعادة استخدام الهتافات التي قد تشكل مشكلة لشرائح أخرى من السكان العراقيين بسبب ارتباطهم بنظام صدام أو هويات طائفية محددة؟ وهنا مكمن استثنائية شعارات تشرين وإبداعها. فالمحتجون لم يكتفوا بنقل الشعارات القديمة كما هي، بل قاموا بتغيير بعض كلماتها تغييراً جوهرياً غيّر من السردية المرتبطة بالشعارات الأصلية وساعد على استحضار سرديات جديدة عابرة للطائفية تتمحور حول العراق فقط، وتخلصت بذاك من أي سرديات إشكالية مرتبطة بمذهب أو طائفة أو حزب من خلال بنائها لمخزون ثقافي شعبي جديد من خلال ترديدها ليس في سوح الاحتجاج فحسب، بل كذلك على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال تصويرها ونشرها ومشاركتها المتكررة. بمعنى آخر، تمكن المحتجون من كسر النمط المرتبط بالشعارات الأصلية وخلق نمط مغاير تماماً، يخاطب اللحظة الاحتجاجية، بل ويمتد إلى ما بعدها. 

“هاية شبابك يا وطن هاية”: سردية شبابية حول التضحية والانتماء 

شاب يحمل مصاب في ساحة حافظ القاضي\ تصوير: فاروق الجمل

أكدت العديد من شعارات وهتافات ثورة تشرين على الشعور بالانتماء للعراق وشعبه. وارتبطت أبرز تلك الشعارات بطلبة الجامعات والمدارس وهم يدخلون نفق التحرير كل يوم أحد، فيهتفون بصوتٍ واحد بعد أدائهم للنشيد الوطني: هاية شبابك يا وطن هاية، ضحت بدمها ورفعت الراية”، إشارةً الى التضحيات الجمة التي قدمها شباب العراق على مدى السنوات السابقة، وتحديداً إلى شهداء ثورة تشرين. اللافت أن هذا الشعار ظهر أول مرة عام 2012 كأنشودة دينية عن فاطمة ابنة النبي محمد. واستندت الأنشودة الى قصيدة شيعية تصوّر السيدة فاطمة على أنها “نموذج للعفة والتدين للنساء”. وعام 2014، أُعيد توظيف الشعار نفسه من قبل أنصار مقتدى الصدر، للإشادة بأعضاء جماعة سرايا السلام المسلحة التي أسسها الصدر، بزعم دعم قوات الأمن العراقية خلال المعارك ضد تنظيم “داعش” الإرهابي من خلال حماية الأضرحة الإسلامية والمسيحية. وكانت كلماتها تقول: “هاية سرايا ابن الصدر هايه، ضحت بديها ورفعت الراية، هايه رجالك مقتدى هاية، للموت نبقه وياك  وفايه”.  

يمكن القول إن تكرار هذا الهتاف في سياقاتٍ مختلفة ساعد على نشره على نطاق أوسع، مما جعله مألوفاً لدى المتظاهرين. لكن الهتاف بنسخته الأخيرة أزال أثر السرديات الدينية والسياسية المرتبطة بالنسخ السابقة من خلال حذف أي إشارة دينية أو مذهبية وأضفى طابعاً عراقياً خالصاً على الهتاف مما حشّد الجموع حوله، إلى درجة أن الشعبية الجديدة التي اكتسبها مكّنت من تحويله الى أغنية بعد وقتٍ قصير. 

“حر ورافض للأصنام، لا إيران ولا صدام”: سردية السيادة والحرية ومناهضة إيران 

عبّر متظاهرو تشرين عن رفضهم للتدخل الأجنبي عموماً أياً كان مصدره، وبشكلٍ خاص نددوا بالتدخل الإيراني “إيران برة برة، بغداد تبقى حرة”. كما أنهم رددوا نسخاً جديدة من أهازيج حربية ارتبطت بالحرب الإيرانية العراقية، كأهزوجة “منصورة يا بغداد” و”يا كاع ترابج كافوري“، التي كانت قد استبدلت كلماتها بكلماتٍ جديدة عن تشرين.  

لم تخلُ إعادة توظيف تلك الأناشيد من إشكاليات رغم أن الأغاني الجديدة محت أي رابط بينها وبين البعث أو نظام صدام، إلا أنها -بالنسبة لبعض النقاد– كانت تغذيها خطابات عنيفة وقبلية ناقضت الطبيعة السلمية للاحتجاجات. إلا أن أداء أغاني الحرب بتوظيفها الجديد كان قد مثل هجاءً لاذعاً لإيران، والهجاء من شأنه أن يثير الصدمة وفي الوقت نفسه يعيد جذب الانتباه إلى التظاهرات وحث الجماهير على المشاركة.v فاللجوء إلى المخزون الثقافي المشترك للشعب العراقي كان بمثابة تكتيك للمتظاهرين لتحقيق الهدف أعلاه. 

تزامن ترديد تلك الشعارات والأهازيج مع تصاعد آلة القمع ضد المتظاهرين، فهناك ارتباط وثيق بين عنف اللغة والعنف الجسدي على الأرض. فمع تزايد حدة الخطاب المناهض والمشيطن للمتظاهرين واصماً إياهم بالـ”البعثية” أو “أبناء السفارات” أو “الجوكرية” في وسائل الإعلام المرتبطة بالنظام الإيراني أو “محور المقاومة” في العراق ولبنان، استمر استهداف المتظاهرين العُزل بعنفٍ غير مسبوق أو مبرر.vi فجاء الرد من جموعٍ من متظاهري محافظة ذي قار، وهم يستلهمون من طقوس عاشوراء ومسيراتها، حيث تتجمع حشود من الحجاج لترديد الشعارات الدينية المكتوبة على لوحٍ يرفعه شخص أمامهم، فهتفوا بالأهزوجة التالية: 

ما ترهبنا الصوتيات، بينا عناد شروكية 

نرجع نوكفلك هوسات، وإحنا نسكت الصوتية 

ما نتراجع لا هيهات، خل تسمعنا الحزبية 

إي والله، إي والله وإسمع ذي قار 

من كل شارع، من كل دار 

نطلع ما نرضى بأحزاب 

وكت السكته أنا لسان، وأنا معلم الحرية 

إسمع وأسكت يا بطران، وعلك بإذنك ترجية 

مو بعثي من أشتم إيران، أنعل أبو البعثية 

حر ورافض للأصنام 

لا إيران ولا صدام 

أنا معلم الحرية 

بالهتاف والتصفيق والأداء الحماسي الشجاع، رفض محتجو ذي قار كل الاتهامات الموجهة إليهم، ووجهوا رداً بليغاً صاعقاً للأحزاب عن طريق الهجاء الشعري، مستعيدين هويتهم الجنوبية باستخدام لفظة “شروكية” بدلالاتها الإيجابية.  

ولأن الهجاء لا يمر من دون عواقب، كما يرى الباحثون، جاء الرد عنيفاً من قبل القوات الأمنية.vii ففي الثامن والعشرين من تشرين الثاني، بعد أيامٍ من تلك التظاهرة، هاجمت مجموعة من القوات الأمنية المتظاهرين في الناصرية مركز محافظة ذي قار، ما أسفر عن مقتل 25 شخصاً وإصابة عدد أكبر. وعُرف هذا الهجوم بـ”مجزرة جسر الزيتون” نسبة إلى الجسر الذي تم إطلاق الرصاص الحي عليه. كان الاعتداء الشرارة التي أطلقت تظاهرات في المحافظات الشمالية والغربية في العراق، إذ نددت جموعٌ من المتظاهرين في تلك الأماكن بالمجزرة، معبرةً عن تضامنها مع احتجاجات تشرين.  

“نموت عشرة، نموت مية”: سردية التضامن العابرة للطائفية 

المسيرة الطلابية\ تصوير: محمد البولاني

في أوائل كانون الأول، نظم العديد من المتظاهرين الشباب مسيراتٍ في محافظات عدة في غرب وشمال البلاد، بما في ذلك الموصل وتكريت والأنبار، للتضامن مع الناصرية. علاوة على ذلك، أقام طلاب جامعتي الموصل وتكريت وقفات احتجاجية حداداً على الضحايا. فارتدى الطلبة ملابسَ سوداء ورددوا شعارات تشرين. ومع ذلك، واجه الطلاب قمعاً فورياً ولم يتمكّنوا من مواصلة احتجاجاتهم.  

شكلت مشاركة المحتجين في المناطق السُّنية لحظة مهمة عابرة للطائفية علت فيها الهوية العراقية على أي هوية فرعية أخرى. من أهم الشعارات التي رددها المحتجون بعد تحويرها قليلاً كان شعار ارتبط باحتجاجات البصرة عام 2018: “نموت عشرة، نموت مية، أبقى قافل على القضية”. استبدل متظاهرو المحافظات الغربية والشمالية المقطع الثاني للهتاف بِـ”يبقى صوت الناصرية“، وهو الشعار نفسه الذي رفعه محتجو الناصرية بعد مجزرة الزيتون. ليس ذلك فحسب، بل أن مجموعة من متظاهري تكريت قامت بالضرب أو اللطم على صدورهم محاكين طقوس شهر محرم، فكان تفعيل هذه الحركة الجسدية محمولاً بالرمزية الاحتجاجية ضد الحكومة والتضامنية مع المحتجين في الجنوب.viii 

على أن أصل ذلك الشعار لا يعود لتظاهرات البصرة. فبعد البحث والتحري، تبين أن أول استخدام له ربما كان عام 2010، إذ يُظهر فيديو على اليوتيوب بذلك التاريخ حشداً من الحجاج الشيعة وهم يحيون ذكرى وفاة الإمام الحسين، هاتفين: “يموت عشرة، يموت مية، يبقى صوت الجعفرية. قولوا عنا رافضية، يبقى صوت الجعفرية”. تُثير كلماتٍ كـ”جعفرية” و”رافضية” سردية مذهبية تتمحور حول الهوية الشيعية وتحمل بين طياتها أيضاً حساً طائفياً تستدعيه المفردة الأخيرة. فباستبدال تلك الصفات بـ”قضية” عام 2018، ومن ثم بـ”صوت الناصرية”، يتغير الخطاب جذرياً، وتتغير معه السردية. في حالة تظاهرات تشرين، كان التركيز على مقاومة أبناء الناصرية للعنف السلطوي والتعبير عن دعمهم والتنديد لما تعرضوا له. 

“ما نريد قائد جعفري”: سردية الحكم غير الإسلامي 

سائق دراجة في نفق التحرير\ تصوير: سجاد محمد

وعوداً الى الناصرية، خرج المحتجون مرة أخرى في الشهر ذاته، متحدين عنف السلطة، ببسالةٍ وجرأة، مستلهمين مرةً أخرى من طقوس عاشوراء، ليوجهوا رسالة سياسية أخرى شديدة اللهجة ترفض الحكم الإسلامي الشيعي برمته، طالما ارتبط بالفساد والتبعية:  

نريدلنا قائد مو مثل هاي القمامات 

نريدلنا قائد مو من ذيول السفارات 

ما نريد قائد جعفري، تاليها يطلع سرسري 

نريد قائد شريف، ومو مهم عدنا الديانات  

وظفت هذه الأبيات الشعرية القليلة شعاراً قديماً كان قد رُفع في سياق انتفاضة عام 1991 (الانتفاضة الشعبانية) ضد الحكم البعثي ونظام صدام حسين. وكان الشعار يقول في وقتها: “ماكو ولي إلا علي ونريد قائد جعفري”. عكس الشعار رغبة العراقيين الشيعة آنذاك في أن يحكمهم قادة شيعة يسيرون على نهج علي بن أبي طالب في الحكم الذي يُعتقد بأنه عادل ومنصف. وفي مرحلة ما بعد 2003، استُغل الشعار وأُعيد نشره على نطاقٍ واسع من قبل السياسيين والزعماء الدينيين لتأسيس تصور عن استقامة الشيعة في الحكم. ومنذ ذلك الحين، أثار الشعار الجدل. فعلى سبيل المثال، أُنتقد الشعار كونه يغذي لغةً طائفية تزيد من الانقسامات بين العراقيين وتُقصي جميع الطوائف الأخرى، بما في ذلك السنة وغير المسلمين وفشله في تأسيس هوية وخطاب عراقيين موحدين حتى في سياق انتفاضة عام 1991، مما أدى إلى ظهور سرد طائفي بدلاً من ذلك. 

وبهذا رفض هتاف الناصرية بشكلٍ مباشر السرديات المسيسة التي يطرحها السياسيون الشيعة عن كونهم الضحية وعن حقهم في الحكم.  

 لم يعد من الممكن خداع الأجيال الجديدة بسرديات القرن الماضي، ولم يعد للخلفيات الدينية أو المذهبية للقادة والأحزاب الحاكمة أي وزن أو أهمية، على الأقل كانت تلك رسالة الشعارات أعلاه. إذ حاولت انتزاع الشرعية من الأحزاب الحاكمة مطالبةً بحكمٍ عادل لا علاقة له بالمذاهب ولا الأديان. 

 من الجدير بالذكر، أن العديد من متظاهري تشرين، وليس جميعهم بالطبع، كانوا يطمحون بحكمٍ علماني يفصل الدين عن الدولة، وهو مطلب ظل محل جدال بين مجاميع المتظاهرين. لكن ما أجمع عليه المتظاهرون كان رفضهم للطبقة السياسية برمتها، وليس أبلغ من ذلك هجاؤهم لها بعباراتٍ مهينة كاشفة وفاضحة لحكمها الفاسد والزائف، ولقادتها “القمامات” و”السرسرية”. 

شعارات متغيرة بتأثيرٍ أقل 

طالما تتغير السياقات بأفرادها وظروفها، تظل الشعارات والهتافات عرضة للتحول والتغيير. فعلى سبيل المثال، اقتبس شعار “هاية شبابك يا وطن هايه” من قبل مجاميع من الحشد الشعبي ليصبح “هاية شبابك يا حشد هايه”. فاستبدال كلمة “الوطن” بالـ”الحشد” لا يُنتج سرديةً مغايرة فحسب، بل إنه يُغير معاني الهوية والانتماء. لكن تأثيره سيظل منحصراً بفئات محددة تنتمي لتلك الجماعات المرتبطة به. أما هتافات تشرين فسيظل يتذكرها العراقيون بكونها شعاراتٍ تتمحور حول العراق ولأجله. وبذلك، ستظل عصية على الشطب من الذاكرة الجمعية، حيةً في الوجدان.