جولة في بغداد المزدهرة: من "احتراق" التأسيس إلى خراب هولاكو
27 أيلول 2023
ذكر ماركوبولو أن بغداد كانت تصنع الحرير الموشّى بالذهب، وقال إن جميع اللؤلؤ الذي يصدر من الهند إلى أوروبا كان يثقب في بغداد، فيما عرفت عاصمة الرشيد بأسواقها الكبيرة، وكانت كما يقول القزويني مجمعاً لطيبات الدنيا وما من متاع ثمين ولا عرض نفيس إلا ويحمل إليها.. جولة طويلة في بغداد المزدهرة..
تقع بغداد في وسط العراق بحدوده الأصلية الممتدة حسب الجغرافيين المسلمين، من الموصل حتى عبادان، ودرجة عرضها ثلاث وثلاثون وثلث وهو نفس عرضها تبعا للجغرافيا الحديثة، وفي هذا الموقع يقترب الرافدين من بعضهما إلى مسافة مئة كيلومتر، وهي أقرب مسافة لهما قبل أن يلتقيا نهائيا في ناحية القرنة. ولذلك اعتبرالجغرافيون القدماء بغداد مدينة للنهرين، وكانت المدينة تتصل بالفرات بقناة ملاحية تسمى نهر عيسى. ويقع مرفأ هذا النهر كما حدده مؤرخ بغداد المعاصر مصطفى جواد عند منعطف طريق بغداد/ الدورة قرب حي البياع في الجانب الغربي.
وكان النهر يتفرع قرب هذا المكان إلى فرعين يصبان في دجلة.
كان موقع بغداد جزءاً من مملكة سامية غابرة تسمى “اشنونا” وجدت مراكزها في جنوب شرقي المدينة. ترجع هذه المملكة إلى بواكير الألف الثاني ق.م، ومنها وصلنا أحد أقدم الشرائع في التاريخ، كما عثر فيها على بحوث مبكرة في الرياضيات تشكل السلف الأبعد لرياضيات فيتاغورس.
وكان هذا الموقع معروفاً عند ظهور الإسلام باسم “كلواذا”. ويبدو أن معلومات عن هذه المملكة كانت متوفرة لدى الكتاب المسلمين، إذ يذكر صاعد الأندلسي في “طبقات الأمم” أن كلواذا كانت داراً عظمى (عاصمة) لمملكة غابرة.
وبحكم موقعها الذي يتوسط المواصلات النهرية المؤدية إلى البحر المتوسط
والخليج، كانت تقوم في بغداد سوق شهرية للتجار يديرها الساسانيون. وقد هاجمها المثنى بن حارثة في بداية الفتح الإسلامي للعراق واستولى على أموال نفيسة ليمون بها عمليات الفتح.
بغداد المنصور
اختار المنصور بغداد لبناء عاصمته لاعتبارين، أولهما موقعها الجغرافي هذا، وقد وصفه كما أورد الطبري على النحو التالي، “هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة، ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة (الفراتية) وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه آل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك”. وإشارته إلى الصين ترجع إلى اتساع التجارة معها منذ مملكة الحيرة ثم ما حدث من تطور للعلاقة معها بعد العون العسكري الذي قدمه المنصور لإمبراطورها سو تسونغ.
الاعتبار الثاني هو البيئة الصحية للموقع الذي وصف حينذاك بأنه طيب الهواء عذب الماء قليل الهوام. ويرجع ذلك إلى نهر دجلة الذي يشق المدينة من وسطها، فضلا عن غطائها النباتي الكثيف.
بدئ بتأسيس بغداد عام 145 هـ وأنجز بناؤها عام 149 هـ المصادف 762 للميلاد، فيكون عمرها حتى هذه السنة (بداية 1986 الميلادية، 1506 هجرية، 1223 شمسي، 1257 عام قمري – وقت كتابة المقال).
حشد المنصور لبناء عاصمته عدداً غفيراً من البنائين والصناع والشغيلة العاديين من الشام وكردستان ومدن عراقية أخرى، وعين جماعة من ذوي المعرفة بالهندسة والأمناء للأشراف على البناء. وقد ذكر المؤرخون من هؤلاء إسمين هما أبو حنيفة والحجاج بن أرطاة. وقيل إن (أبو حنيفة) إبتكر طريقة لعد اللبن الذي استخدم في البناء، ولكن هذا لا يصح فقد كان أبو حنيفة يتصدر حركة مقاطعة للخلافتين الأموية والعباسية وكانت قد رجحت في كتابات سابقة انه مات في حبس المنصور. ولعل الرواية عن اللبن كانت إشاعة من العباسيين أنفسهم.
وقد نسب إليه أنه كان يقول: لوأرادوا بناء مسجد وأرادوني على آجره ما فعلت.. وأنا أميل إلى أن الإمام الأعظم اختار أن يحرم نفسه من شرف المساهمة في بناء هذه المدينة المثيرة للخيال لأن همه السياسي كان أكبر من همه الحضاري. أما الحجاج بن أرطاة فكان من المشتغلين بعدد من المعارف منها الفقه والحديث والهندسة. ولم يكن له نفس اتجاه أبو حنيفة. وقد عبر عن نزوع تكنوقراطي بانقطاعه عن صلاة الجمعة ولما سئل عن السبب قال: أخشى أن يزاحمني البقالون.. وفي تقديري أن الحجاج بن ارطاة يستحق – رغم هذا اللؤم الطبقي – أن يسجل ضمن بناة بغداد وأن يكون له موقع فيها يحمل اسمه، فهو على أية حال أحق بذلك من أنفال 8 شباط و17 تموز.
بالرماد والنار
بعد انتهاء المشاورات والمداولات بشأن تصميم المدينة خططت الأسس بالرماد وتمشى المنصور خلالها لينجزها. ثم أوعز أن تنثر على خطوط الرماد بذور قطن واشتعلت فيها النار ووقف هو يتأملها من فوق. ثم أصدر أمره بالشروع، وقام بوضع أول لبنة بيده وقال: “باسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، إبنوا على بركة الله”.
بنيت المدينة أول الأمر على الجانب الغربي – الكرخ وموضعها كما حدده مصطفى جواد بين الكاظمية وجسر الشهداء حوالي الحارة المسماة العطيفية. وكانت المدينة مدورة وجعل مقر الخليفة ومسكنه في مركزها. والسبب كما يقول الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” أن المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض والمدورة تتساوى أبعادها عنه. وكان المنصور يتوخى بسط السلطة بالتكافؤ على جميع أنحاء المدينة.
أرسي حول المدينة سوران خارجي وداخلي، أولها أعلى، وعرض كل منهما عشرين ذراعاً وبينهما مسافة ستين ذراعاً خالية من البناء والسكان، ولكل سور أربع بوابات حديد من فردتين. وجعل بوابات السورين مزورّة عن بعضها، أي غير متقابلة. ومنه أخذت بغداد أحد أسمائها المشهورة وهو الزوراء. وكان الغرض من ذلك دفاعياً وأمنياً في آن واحد.
ويمتد من كل بوابة دهليز معقود بالحصى والآخر ينتهي إلى رحبة تتفرع منها دروب المدينة. طول الدهليز ثلاثون ذراع وعرضه عشرون، أما الشوارع فعرضها أربعون. وتقوم بين كل بوابتين ثمانية عشر برجاً للمراقبة. وقد عين موقع البوابات تبعا لجهات الأقاليم وهي: باب خراسان للقادم من الشرق وباب الكوفة للقادم من الحجاز وباب الشام للقادم من الغرب وباب البصرة للقادم من الجزيرة العربية وبلاد فارس الجنوبية. وكان بين كل بوابة مسافة ميل (الميل العربي حوالي 1972 متر). وشيد على كل من البوابات الأربعة قبة خصصت لجلوس الخليفة. وكانت تتوسط
المدينة الخضراء المقامة على قصر الخليفة. وكان علو القبة ثمانين ذراع وعلى رأسها تمثال لفارس متحرك في يده رمح تقول الخرافة أنه كان يخبر الخليفة إذا حدث تمرد أو فتنة وذلك بأن يشير برمحه إلى الجهة التي يحدث فيها حدث كهذا.
وقد رد ياقوت الحموي في معجم البلدان – مادة بغداد – هذه الخرافة التي أوردها الخطيب البغدادي وقال إنها من الكذب الفاحش وأن مثل هذه الأشياء ” إنما تحكى عن سحَرة مصر وأضرابهم” أما الملة الإسلامية فأنها “تجل عن مثل هذه الخرافات”. ومن الواضح أن هذا التمثال وضع لمعرفة اتجاه الرياح.
وقد يكون المنصور أو أحد خلفائه استفاد من هيئة التمثال لإشاعة هذه الخرافة لتثبيط معارضيه. ولو أن معظم هؤلاء لم يكونوا ممن تنطلني عليهم مثل هذه الحيل الدينية.
ضمت المدينة المدورة إلى جانب قصر الخليفة قصور الحاشية والقواد ومساكن عامة الناس. وبنيت للمدينة أسواق في أطرافها رتبت تبعاً لأصنافها، وهو الترتيب الذي كان شائعاً في المدن الإسلامية. وروعي في هذا الترتيب بالأخص عزل الأسواق التي تتعاطى بالحاجات ذات الروائح الكريهة أو التي تلوث البيئة أو تترك فضلات مثل حوانيت القصابين. وكانت المدينة تكنس يومياً.
وكانت تتخلل المدينة قنوات معقودة لتزويدها بمياه الشرب والغسيل، وكانت القنوات تسحب من فروع دجلة أو روافدها خارج المدينة حيث تكون المياه أقل تعرضاً للتلوث. ولهذا السبب أيضاً استخدمت القنوات المعقودة. والقنوات مبطنة بالصاروج المكون من النورة ومادة أخرى كالرماد وغيره، وهو صامد للماء ونقي يستعمل في أبنية بغداد إلى وقت قريب، أما سقف القنوات فمعقود بالآجر.
وتضمن تصميم المدينة خمسة جسور على دجلة اثنان منها لعامة الناس واثنان للأغراض الرسمية، وواحد للنساء.
كانت المادة الأساسية للبناء هي اللبن المسمى بالجعفري وهو من الحجم الكبير تزن الواحدة ما يعادل سبعة عشر كيلوغراماً. واستعمل الأجر والحصى للعقادة.
وبلغت تكاليف البناء ما بين 18 مليون وأربعة ملايين درهم تبعاً لإختلاف
الروايات. وهذان الرقمان أوردهما الخطيب البغدادي يلاحظ ما بينهما من تفاوت كبير دون إن يتمكن من الجزم بأحدهما. والرقم الثاني هو ما اختاره ابن خلدون، ولعلهُ حتماً قد أخطأ قراءة هذا الرقم فجعله في “تاريخ العرب” أربعين مليون درهم.
والرقم ليس كبيراً بالنسبة لبناء مدينة. وسبب ذلك شدة تغيير المنصور الذي عرف بالبخل (لقب المنصور بسبب ذلك بالدوانيقي، نسبة إلى الدانق وهو سدس الدرهم وكان يحاسب عليه) ومع أنه لم يلجأ إلى السخرة- التي جرت عليها المجتمعات الإقطاعية – فقد حرص على تقنين أجور العاملين في بناء عاصمته لتقليص الكلفة إلى الحدود الممكنة. وكانت يومية الأسطى من البنائين أو الصناع ما بين خمس وأربع حبات فضه وهذا المبلغ يقل عن الدرهم. أما يومية الشغيل فما بين حبتين إلى ثلاثة. لكن المنصور عمل على رفع القيمة الشرائية لعملته بإغراق الموقع بالمواد الغذائية الرئيسية.
وكان الكبش يباع في ذلك الوقت بدرهم واحد والحمل بأربع دوانيق أي أرخص من الكبش بدانقين. وكان التمر آل ستين رطل بدرهم (الرطل العراقي يعادل حوالي نصف أوقية) والعسل عشرة أرطال بدرهم ولحم البقر كل تسعين رطلاً بدرهم وسعر رطل الخبز خمسة بالمئة من الدَرهم.
الكرخ قبل الرصافة
قلت إن بغداد بنيت أول الأمر في الكرخ – الجانب الغربي لدجلة. أما الجانب الشرقي فجعله المنصور معسكراً أوكل قيادته لولي عهده محمد المهدي. وسمي من ثم عسكر المهدي قبل أن يعرف باسم الرصافة. والاسم الأخير مستمد من أسم قصر بناه هارون الرشيد في الجانب الشرقي. وكانت المدينة في بدايتها صغيرة كما ذكرت لكنها اتسعت بعد وقت قصير فصارت تمتد من الكاظمية الحالية حتى الجسر المعلق في كرادة مريم حيث يقوم ما يسمى بالقصر الجمهوري، ولو أن الموقع الأخير لم يكن مأهولاً تماماً وكانت معظم مساحاته مشغولة بالبساتين.
من الملاحق التي أشير إلى أن مدينة المنصور كانت تحتويها، نفق للنجاة يقول الخطيب البغدادي أن طوله كان فرسخين ويقول ابن الجوزي في “مناقب بغداد ” أن طوله ثلاثة فراسخ.
بحسب تقدير الخطيب يكون طول النفق أقل من إثني عشر كيلومتر وطوله بتقدير إبن الجوزي أقل من 18 كيلومتر. وكان النفق يؤدي إلى خارج المدينة، ويمكننا قبول هذه الرواية مستأنسين بوجود القنوات المعقودة التي كانت تجلب الماء من مسافة بعيدة خارج المدينة. فمن يبني مثل هذه القنوات لا يعسر عليه شق نفق خالي من الماء. وكانت حال المنصور تملي عليه التفكير باحتياطات السلامة لأنه جابه تمردات عديدة من أطراف شتى، وقد أضطر في واحدة منها وهو تحرك البصرة بقيادة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، إلى إيقاف بناء بغداد بعد أن شرع فيه حتى يتفرغ للقتال.
المدينة تتسع
اتسعت بغداد بسرعة بعد تأسيسها في الجانب الغربي فامتد البناء إلى الجانب
الشرقي – الرصافة، الذي صار فيما بعد مقر الخليفة. وأهملت المدينة المدورة، لكن الكرخ بقي عامراً. وبلغت بغداد أوج اتساعها في عهد الرشيد، وذكر الخطيب البغدادي إذ كانت تحتوي على ستة آلاف درب وزقاق في الكرخ وأربعة آلاف في الرصافة. ولعل هذا الرقم من مرحلة سابقة أي قبل أن تكبر الرصافة على حساب الكرخ. وأهم ما اشتملت عليه الرصافة دار الخلافة، وكانت مدينة بذاتها. وقد أقيمت على دجلة.
وحدد مصطفى جواد موقعها الحالي بشارع المستنصر الممتد بين جسر الأحرار وبناية الدفتردار. وتضم دار الخلافة مقر الخليفة ومسكنه ومساكن أسرته لبضعة درجات، ولها جامع تصلي فيه الجمعة، وتتخللها بساتين ورياض تحوي على أصناف نادرة ومتنوعة من الأشجار، والأزهار ونباتات الزينة والطيور. وكان في دار الخلافة أيضاً حرس الخليفة الذي قدر بعشرين ألف. كما قدر عدد الخدم في بعض الأوقات بعشرة آلاف وعدد الفراشين بثمانمائة وعدد النساء من الحرائر والجواري بعشرة آلاف. (وردت أرقام مقاربة عن القصر الإمبراطوري الصيني). وكان لدار الخلافة ميزانيتها المسماة بيت مال الخاصة وتبعاً لكشف أورده هلال الصحابي كان قد أجراه الوزير اللامع إسلام علي بن عيسى لعام 306 هـ بلغت الميزانية 14 مليوناً و829 ألفاً و840 دينار (ميزانية قصر بكنكهام البريطاني 12 مليون باون).
وكانت المدينة مقسمة إلى محلات كبيرة وصفت بأن كل منها أشبه بمدينة وناهزت في عصرها الذهبي أربعين محلة على الجانبين. وأورد الخطيب البغدادي عن تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر (طيفور)، المعاصر للمأمون، أن مساحتها في ذلك الوقت بلغت ثلاثة وخمسين ألفاً وسبعمائة وخمس ين جريب، وعن نسخة أخرى من الكتاب أنها كانت ثلاثة وأربعين ألفاً وسبعمائة وخمسين جريب، وهي مساحتها في عهد (الموفق/ النصف الثاني من القرن الثالث). ومقدار الجريب مختلف عليه بين المؤرخين المعاصرين من 1384 حتى 2400 متر مربع. وبحساب الرقم الأدنى تكون المساحة
بتقديرها الأقل في عهد الموفق ثلاثة وسبعين كيلومتراً مربعاً. وهذه مساحة المدينة نفسها دون القرى التابعة لها والتي تقع في المعتاد خارج السور. أما نفوسها فقدرت بمليونين، وهي بذلك تكون إحدى المدن الكبرى الثلاث في عصرها وهي القسطنطينية والعاصمة الامبروطورية للصين المسماة نشانغ كن إي مدينة السلام الدائم، وهو اسم بغداد نفسها وكانت دروب بغداد وأسواقها شديدة الازدحام. وقد ذكر ماركوبولو أن العدد الهائل لسكانها مع ما عرفت به من قوة، أقلق هولاكو حين جاء لحصارها فلجأ إلى المكيدة ليستطيع اقتحامها كانت بغداد مدينة خدمات كما هي مدينة منتجة. وقد اشتهرت بإنتاج وتصدير الورق والأقمشة القطنية والحريرية والزجاجيات والمعاجين والأدوية. وقد ذكر ماركوبولو، الذي زارها بعد سنوات من سقوطها، أنها كانت تصنع الحرير الموشّى بالذهب والدمقس والسجاد المطرز بصور الطيور والضواري، وقال إن جميع اللؤلؤ الذي يصدر من الهند إلى أوربا كان يثقب في بغداد. وتخصص الجانب الغربي فيها بإنتاج الخمور التي كانت معاصرها تتخلل بساتين الكروم الكثيفة.
وازدهرت فيها صناعة الفخار والآجر الخالي من الأملاح الذي عوض به البغادة عن افتقار بيئتهم الجغرافية إلى مقالع الحجارة. وكان ريف المدينة يمدها بأقواتها من الحبوب التي تأتيها من سامراء والسواد. ولم تشهد المدينة طوال تاريخها الإسلامي، أي حتى سقوطها بيد هولاكو، أزمة مجاعة وانما كانت تواجه أزمات غلاء ناتجة في الغالب عن سبب سياسي أو إداري. وكانت هذه الأزمات تحل بانتفاضات العامة التي كانت ترغم رأس السلطة خليفة أم وزيراً أم عسكرياً متقلباً، على اتخاذ إجراءات لتلافي الأزمة، وكانت التجارة قطاعاً أساسياً في الاقتصاد البغدادي نظرا لموقع المدينة الجغرافي ومكانتها السياسية، وكذلك بحكم النشاط الاقتصادي المحلي وارتفاع مستوى المعيشة في المدينة. ونضع هنا في الحساب كون بغداد عاصمة لإمبراطورية مترامية الأطراف بما يعنيه ذلك من استئثارها بنصيب وافر من النهوبات الخارجية.
وبحسب الإحصاءات التي أوردها هلال الصحابي في “رسوم دار الخلافة” فأن ميزانية هارون الرشيد قاربت المليار وكذلك ميزانية جده المنصور.
وقد انعكست هذه الحقيقة في اللغة فظهرت مفردتان تدلان على المليار هما البَنوٌر والبَطّات. وكانت في بغداد ميزانيتان: خاصة لدار الخلافة وعامة للدولة. ووجدت في بغداد فئة أصحاب الملايين التي ضمت تجار ومسؤولين. وكان عدد أفراد الطبقة الوسطى كبيراً وهي تشمل الأطباء والمهندسين والعطارين والصيادلة والكتاب (موظفي الدولة) والملاكين العقاريين وصغار التجار وآبار الحرفيين والأدباء، والفقهاء بعد القرن الثالث. وعرفت بغداد بأسواقها الكبيرة إذ كانت كما يقول القزويني مجمعاً لطيبات الدنيا وما من متاع ثمين ولا عرض نفيس إلا ويحمل إليها. وكان من المنطقي تبعا لذلك أن ترتفع الأسعار كما يقول ابن خلدون من نتائج التقدم الحضاري (الاستئجار في العراق) وهو أمر وارد بقدر ما يعني التقدم الحضاري من نمو اقتصادي مستند إلى علاقات الملكية الخاصة حيث يسود قانون العرض والطلب. وقد شكا الغرباء من صعوبة العيش في بغداد بسبب ذلك.
ويبدو أن الأراضي كانت أغلى من أي سلعة أخرى إذ بلغ سعر الذراع في الأماكن الرديئة على دجلة ديناراً واحداً. وهو سعر مرتفع حتى بالقياس المعاصر قبل الانفجار النفطي الأخير. مع التنبيه إلى أن هذا هو سعر الضفاف التي كانت المكان المفضل لسكنى المسئولين وأفراد الطبقة العليا، ولعل السعر كان أقل في الأماكن البعيدة من النهر. وكانت وسائط النقل غالية ايضاً، فقد بلغ سعر الحمار أكثر من مائة وخمسين درهم. وقد شكا إبن هِفّان، راوية أبو نؤاس، من عدم قدرته على شراء حمار لركوبه، كما ترددت شكوى مماثلة لجحظه البرمكي وابن الرومي. هذا عن الحمير وهي أقل وسائط النقل شأناً. ولا شك في أن أسعار البغال والبراذين
والخيول كانت أعلى بما لا يقاس.
لكن الأغذية الأساسية لم تكن غالية، عدا اللحوم. ويرجع ذلك إلى وفرة المنتوج الزراعي في المدينة وجوارها. وكان بمقدور العامي أن يحصل على قوته اليومي من الأغذية النباتية كالبقول والخضروات كما لم يكن يتعذر عليه الحصول على مقادير من لحوم البقر والغنم التي كانت أرخص من لحوم الدجاج والسمك. ومع ذلك فقد شكا أبو حيان بمرارة من اقتصاره على البقول أي عدم قدرته على تناول اللحوم. وكان أبو حيان من كبار مثقفي عصره لكنه لم يستطع التلاؤم مع السلطة لشدة حساسيته فعاش محروماً أغلب عمره.
كان النشاط الاقتصادي في بغداد قائماً على النقد. وقد أنشأت الدولة دار الضرب التي تتولى سك النقود وفق النسب المحددة رسمياً. وكانت العملة الأساسية هي الدينار الذهب والدرهم الفضة، ومقدار كل منهما مثقال في المعتاد. كما وجدت كسور الدرهم وهي الدانق والفلس وكلاهما سدس الدرهم، ويسكان في معدن غير نفيس.
والنسبة بين الدينار والدرهم تراوحت بين العشرة إلى الخمسة وعشرين. وبنتيجة تطور الاقتصاد النقدي ظهر النظام المصرفي الذي تزامن ظهوره كما يبدو في بغداد و تشانغ آن. وكانت مهنة الصيرفي شائعة في المدن الإسلامية قبل بغداد لكنها كانت مقتصرة على الصرف ثم تطورت إلى قبول الودائع والقيام بأعمال الإيداع والسحب.
وقد سمي الصيرفي في هذا الطور بالجهبيذ وسمي النظام المصرفي “الجهبذة”، وكان السحب يتم بصكوك. ويحتوي الصك على أمر بالدفع لشخص معين الاسم مع ذكر المبلغ المطلوب دفعه، ويذيل بتوقيع الآمر بالدفع. ويبدو أن الصك كان يذيل بأكثر من توقيع. وكان المودعون هم الأفراد ومؤسسات الدولة على السواء. وكان الصيرفي يتقاضى عمولة لقاء خدماته ولا يأخذ أو يعطي فائدة.
وخلافاً للفكرة المبسطة عن عطايا الخلفاء وغيرهم من ذوي السلطان بأنها كانت تتم نقداً فان المدفوعات كانت تتم في الغالب بالصكوك على الجهبذ. ويبدو وأن الدولة وجدت حاجة إلى حصر ودائعها في مؤسسة خاصة بها فأنشأت جهبذة رسمية يديرها موظف يعينه الوزير. ولعل هذه أقدم صيغة عرفت حتى الآن لمصرف الدولة.
المعيشة في بغداد
وكمقصد مشترك لجمهور العالم الإسلامي، كان على بغداد أن تطور اقتصادها الخدماتي لكي تفي بمطالب زوارها، وكان من ذلك الخدمات الفندقية . وقد استعمل اسم فندق وخان لنزل المسافرين. والفندق عربية أو قديمة التعريب إذ سمعت من أعراب قضاعة، أما الخان فمغولية. وكانت فنادق بغداد على درجات، شأن الفنادق الحديثة. وكانت المطاعم آثيرة أيضاً ومن عدة أصناف: مطاعم الشواء ومطاعم للأكارع والرؤوس (الباجه) وأخرى للهريسة التي اعتاد البغادة على أكلها في الصباح، كما اشتهرت بغداد بأكلة الباقلاء (الفول) التي لا تزال شائعة حتى اليوم.
وكانت لأصناف المطاعم أماكن خاصة بها، وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في شكواه التي أختتم بها كتاب “الإمتاع والمؤانسة” إسم درب الحاجب كمكان لمطاعم الباقلاء ودرب الرواسين وهم باعة الرؤوس الذين يسمون اليوم “باجه جية”. وكان هناك حوانيت لبيع الماء واللبن والحبوب والسكنجبين وهو الزنجبيل أو السكنجبيل كما يعرف اليوم. وقد أوكلت مهمة الإشراف على هذه المرافق إلى المحتسب وهو موظف كبير كان يجمع بين واجبات مسؤول البلدية والمراقب الصحي. كما اشتهرت بغداد بحاناتها التي كانت تنشأ غالباً في ضواحي المدينة لتكون بعيدة عن الأنظار ولأن هواة شرب الخمر كانوا يفضلون الشرب في الربوع الخضراء. وقد تلازم الشرب
والنظر إلى الزهور والرياحين في الخمريات الإسلامية. وعرفت بغداد الحدائق والمنتزهات العامة التي غرست فيها تنويعات شتى من نباتات الزينة. وكانت المنتزهات تحتوي على مصاطب لإستراحة المتنزهين. وإصطلاح التنزه بهذا المعنى من مستحدثات القاموس العربي، وقد أنكره الفيروزآبادي لضيق أفقه اللغوي وأثبته الزمخشري في “أساس البلاغة”. وكانت بساتين بغداد وضواحيها مقصد السياح وأهل اللهو. كما انتشرت المراقص في المدينة ولو إنها لم تكن على غرار الملاهي الحديثة، فغالباً ما كانت في البيوت والقصور، وغالباً ما كانت المغنيات والراقصات من الجواري اللواتي يؤدين أدوارهن بترتيب من مالكيهن. وعرفت هذه الفئة بالقيان وصاحبهن هو المقين، وكان المقين بمنزلة صاحب الملهى. وقد تأفف صاحب الزنج علي بن محمد من مفاسد بغداد وهدد بالانتقام منها. بينما اتجه فريق من الفقهاء والزهاد إلى اعتبار الإقامة في بغداد دليلا على الانتهازية.
وهذه زيادة عن الحدة، فبغداد لم تكمن مدينة لهو فقط بل جمعت كل ما تجمعه مدينة متحضرة من مفارقات الحضارة الطبقية وقد سماها مستشرق إنكليزي معاصر “باريس القرن الثامن عشر” وهو لم يعدو الصواب.
ومن المرافق الترفيهية ببغداد مسرح الدمى المسمى آنذاك خيال الظل. ويبدو أنه كان معروفاً في النصف الأول من القرن الثالث إذ نقل البيت الشابشتي اسم رجل كان متخصصاً بهذا الفن يدعى عبادة المخنث. وكان معاصراً لدعبل الخزاعي وأراد إن يهجوه مرة فهدده قائلاً: لئن فعلت لأخرجن أمك في الخيال. وخاف دعبل فلم يتعرض له.
وكان من هذه المرافق أيضاً حديقة الحيوان الملحقة بدار الخلافة. وكانت تسمى “الحَير” (حاء مفتوحة). وقد ضمت حيوانات برية وطيور وضواري، وكانت مفتوحة للجمهور بدون مقابل. ويبدو أن صيد الضواري وحبسها في الأقفاص كان مألوفاً يومذاك. ويروي صاحب “عمدة الطالب” أن نقيباً علوياً من أهل الحجاز دعي لزيارة بغداد فلما دخل الحدود العراقية رأى أسداً في قفص فأمتنع عن مواصلة الزيارة قائلاً: لا أدخل بلاداً تذل فيها الأسود.
وتميزت بغداد بجسورها الجميلة على دجلة. وقد وصلنا وصف شعري لأحد
الجسور يشير إلى أنه كان من منتزهات بغداد لجمال رونقه والتفنن في تصاميمه.
وكانت الجسور تقام فوق عوامات وتمتاز بإتقان التركيب لتوفير معامل الأمن المطلوب. وذكر الخطيب أنه كان لبغداد في زمان سابق له جسران أحدهما للرواح والآخر للمجيء. وقد تفاوت عدد الجسور تبعاً للظروف التي كانت المدينة تمر بها فوصلت مرة إلى الستة ونزلت في غيرها إلى واحد.
ولعبت دجلة شوطاً عظيماً كمضمار للنشاط الاقتصادي والسياحي. وتفنن البغادة في دق السفن والقوارب بأحجام وأشكال مختلفة عرفنا منها: الطيارات، السُميريات، الزلكلات، الشباّرات، الحراقات، والشذاة وغيرها. وكانت مراكب النزهة تصمم على شكل حيوانات وتحتوي على مقاصير وقباب من خشب الساج. وكانت ضفاف دجلة
على الجانبين مكسوة بالمراطم التي عرفت حينذاك باسمين: المسنيات، جمع مسنّاة، والجوارق جمع جورق والأخيرة من التركية وقد اختفت من التداول أما الأولى فمشتقة من التسنية بمعنى التعلية ولا تزال مستعملة في لهجة بغداد مع تحريفها إلى مسناية. وكانت القصور تبنى على المسنيات ويكون بعضها داخلاً في الماء وكانت المراكب الشخصية ترسو على المسناة المؤدية إلى القصر بسلالم. وقد وردتنا إحصائية من عهد الموفق لعدد السميريات العاملة في دجلة تفيد أنها بلغت ثلاثين ألفاً وواردها اليومي تسعون ألف درهم. وينبغي تعديل أحد الرقمين لتكون الإحصائية معقولة. لكنها على أي حال تشير إلى ضخامة الأسطول النهري في ذلك الحين. وقد
استغل نهر دجلة لأغراض النقل والشحن على نطاق لم يتكرر في العصور اللاحقة للعباسيين بما فيها عصرنا الحاضر.
واشتهرت بغداد بحماماتِها.. وفي رحلة ابن بطوطة وصف للحمامات البغدادية في الطور المغولي يفيد أنها كانت مفروشة بالقار وجدرانها مطلية به إلى نصفها والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض. وكان في كل حمام خلوات وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام عليه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد وفي زاوية كل خلوة حوض آخر للاغتسال فيه أيضاً أنبوبان للماء البارد والحار. وقد بالغت بعض المصادر بعدد حمامات بغداد فأوصلتها إلى مئة ألف. لكن هلال الصحابي يقول إنها بلغت في زمانه مئة وخمسين ونيف، وهو رقم معقول ويكفي حاجة مدينة مولعة بالنظافة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن بيوت الطبقتين العليا والوسطى
كانت تحتوي على حمامات تغني أربابها عن الذهاب إلى الحمامات العمومية. وكان الصابون مادة أساسية للغسل وكان يصنع في بغداد لكن أجوده هو ما كان يأتي من بلاد الشام. ولا يزال العراقيون يسمون صابون الغار بالصابون الرقي نسبة إلى مدينة الرقّة التي اشتهرت بضاعته وقد تحدث ابن بطوطة عن الصابون المطيّب الذي كان يُصنع في اللاذقية ويقصد به الصابون المعطر (ورد في ألف ليلة وليلة باسم الصابون الممسّك نسبة إلى المسك). وكانت المادة الثانية هي الأشنان المأخوذ من نبات بري من الفصيلة الشوكية ويستعمله الفقراء العاجزون عن شراء الصابون. وللأشنان رغوة كرغوة الصابون وقدرة إزاحة مماثلة.
تنظيمات بغداد
ظهرت في بغداد شأن غيرها من حواضر الإسلام تنظيمات مهنية للعاملين في بعض القطاعات الاقتصادية وعرفت هذه التنظيمات بنفس اسمها الحالي وهو النقابة.
وكان الغرض الأرأس تدبير أمور الحرفة وضمان الأداء الأفضل وحل المشاكل الناجمة بين أهلها أو بينهم وبين الآخرين. ولم يكن لها دور ملموس في الدفاع عن مصالح العاملين ضد الدولة أو المخدومين من أرباب العمل وغيرهم.
وردتنا إشارات تدل على وجود مشيخة للصرافين ونقابة للدلالين كما وجدت
منظمات للشباب بلغت أرقى أشكالها في عهد الناصر لدين الله الذي أنشأ منظمة واسعة عالية التنظيم للفتيان. ويبدو أن التنظيم امتد إلى نشاطات اللصوص، وقد ذكر الجاحظ وغيره إسم شخصية بارزة من زعماء اللصوص في بغداد يدعى عثمان الخياط حاول أن يضع لجماعته قواعد انضباطية تذكرنا من بعض الوجوه بتعليمات بعض القادة الثوريين إلى مقاتليهم.. ويجدر بالذكر أن لصوص بغداد كانوا على إرتباط بحركات العامة وشكلوا معها في أوقات معينة جبهات عمل موجهة ضد السلطة أو للدفاع عن المدينة ضد المنقلبين العسكريين. ويخبرنا ابن الأثير أن زعيماً لإحدى عصابات اللصوص يدعى البُرْجُمي كان يتمتع بشعبية واسعة في بغداد حتى أن العامة ثاروا على خطيب الجمعة في أكبر جوامع المدينة وفرضوا عليه أن يخطب للبُرجُمي، أي أن يذكره في خطبة الجمعة بدلاً من الخليفة.
ومن المنظمات الهامة التي ظهرت في ذلك الحين نقابة العباسيين ونقابة الطالبيين وهما منظمتان أرستقراطيتان، أنشئتا لرعاية شؤون العباسيين والعلويين وقد تولت هاتان النقابتان ضبط أسماء أبناء العشيرتين من الأحياء والتحقق من أنسابهم ومتابعة أوضاعهم الاجتماعية وشؤون معيشتهم والدفاع عن مصالحهم. وكان لكل منهما نقيب تعينه الدولة.
على صعيد الخدمات الاجتماعية نجد صراعاً بين فقراء المدينة وسلطاتها
وأغنيائها وقد اتخذ الصراع من جانب الفقراء منحى مطلبياً.. أهل بغداد لم يتعاطفوا كثيراً مع الحركات الاجتماعية التي كانت تعصف بالعالم الإسلامي آنذاك. ويرجع ذلك إلى إن الأزمة المعاشية في المدينة لم تحتدم إلى حد تفجير صراع من المستوى الذي كانت تخوضه تلك الحركات. فالثروات الضخمة التي كانت تنصبّ في المدينة والازدهار الاقتصادي والنشاط الإنتاجي المتقدم قد جعل من الممكن للفقراء أن يحصلوا على الكفاف. ومما ساعد على ذلك بعض الإلتزام بتعاليم الشريعة المتعلقة بالضمان الاجتماعي والمتمثلة في الزكاة وعموم الصدقات وأفعال الخير. وقد أقيمت في أوقات متفرقة مطاعم شعبية تقدم الطعام المجاني للفقراء بينما ساهمت مقادير الزكاة وصدقة التطوع والأخماس في تخفيف الوطأة عنهم. وكان النضال المطلبي لأهل بغداد يدور في هذا الفلك، المطالبة بحقوق الفقراء المنصوص عليها في الشرع مع استنكار المبالغة في البذخ من جانب السلطة والأغنياء، والاحتجاج الجماهيري الموجه ضد موجات الغلاء.
وقد ترك المطلب الأول تأثيراً مباشراً على حركات اللصوص العيارين، فالمعروف أن السلطة الإسلامية بعد الراشدين لم تهتم كثيراً بجباية الزكاة وسمحت للأغنياء، منذ خلافة عثمان، أن يدفعوها بأنفسهم للمستحقين حيث أسقط عنها مفهوم الضريبة الإلزامية المتضمن في الشريعة. وما كانت تجمعه السلطة أحياناً من هذه الضريبة لم تكن توزعه على مستحقيه، وبالطبع فقد هبطت حصيلة الزكاة إلى أدنى منسوب لها بعد أن صارت قضية وازع ديني. وقد استند العيارون إلى أن أموال الأغنياء لم تعد ملكاً لهم لأنها مستهلكة بالزكاة المتراكمة عليهم.. وممن نظَّر لهم ذلك أبو نواس وكان هذا من النقاط المشتركة بين العياريين والعامة.
وفي خضم هذا الصراع، وبتأثير الوضع الحضاري للمدينة، كانت السلطة تقدم بعض الخدمات الاجتماعية للجمهور. وأفضل ما قدم هنا هو الخدمات الطبية، وقد تولت السلطة بنفسها إنشاء المستشفيات العامة التي تطبب مجاناً. وبني أحد المستشفيات بإشراف الرازي/ الفيلسوف المتزندق والطبيب العظيم المحب للفقراء.
وكان يتولى إدارة المستشفى بنفسه. ومن المستشفيات المشهورة المارستان
العضدي الذي أمر ببنائه في الجانب الغربي عضد الدولة البويهي أحد الحكام المرموقين في تاريخ بغداد الإسلامية. والمارستان هو الاسم الذي عرفت به المشافي حينذاك وهو فارسي مركب من كلمتين: مار بمعنى مريض، وستان وتعني مكان.. وقد استمر المارستان العضدي أمداً طويلاً تخلله إهمال وخراب، ولكنه قياسي بالنسبة للمستشفيات. ففي ترجمة الطبيب المعروف بإبن المارستانية “من عيون الانباء” قال إبن أبي أصيبعة أنه تولى النظر في شؤون المارستان العضدي. وابن المارستانية توفى عام 599 للهجرة، أي بعد أزيد من قرنين من إنشاء المستشفى المذكور..
ولدينا وصف حي لمستوى الخدمات الطبية كتبه الحاخام بنيامين الطليطلي الذي زار بغداد في منتصف القرن الخامس الهجري حين كانت قد تخلصت من حكم السلاجقة، والوصف كالآتي:
“شيد – الخليفة – أبنية على الضفة الثانية من النهر (الجانب الشرقي) تحتوي على بيوت كثيرة وشوارع منتظمة وملاذات للمرضى الذين يؤخذون إلى هناك للاستشفاء. ويوجد هناك نحو ستين عيادة، وكل مريض يطلب إعانة يطعم من حساب الخليفة إلى يوم شفائه. ويوجد بناء كبير يدعى المارستان يحجز فيه كل فاقدي الشعور وخصوصاً في الصيف حتى يعود إليهم رشدهم..”.
وهذا النمط من الخدمات استمر في الواقع طوال العمر الحضاري لبغداد ولكن مع تفاوت في المستوى وتقطعات ناجمة عن الاضطراب السياسي وسيطرة المتغلبين العسكريين من المماليك الأتراك والسلاجقة.
ثقافة بغداد
كانت بغداد أيضاً من حواضر الثقافة الإسلامية، وتبتدئ فعاليتها في هذا المضمار على يد مؤسسها نفسه. والمصادر تميل إلى اعتبار المنصور أول من ترجمت له علوم الأوائل من الهنود والفرس والسريان والإغريق. وكان للمنصور شغف خاص بالمثقفين حمله أحياناً على التغاضي عن نشاطاتهم المناوئة له. فقد صفح عن المفضل الضبي بعد انضمامه إلى حركة البصرة بقيادة إبراهيم بن عبد الله، وتغاضى عن بشار بن برد بعد قصيدته التي أعلن فيها تأييده لإبراهيم وتوعد المنصور بالهلاك، وعن أبو حنيفة الذي أيد إبراهيم أيضاً وأفتى أتباعه بالقتال معه، ولم ينكل به إلا بعد إن بقي مصراً على مقاطعته وعدم التعاون معه. وكانت خلافة المنصور حقبة غليان سياسي ساهم فيه المثقفون بنشاط كبير مما ألقى عليه عبء التوفيق بين سياسته الثقافية ومصلحة بقائه في الحكم. وكان له إعجاب خاص بشيخ المعتزلة في زمانه عمرو بن عبيد وبذل جهوداً لاستدراجه إلى جانبه لم تكلل بالنجاح. ورويت له أرجوزة يعترف فيها بصلابة هذا الرجل يقول مؤرخو الأدب أنها المرة الوحيدة التي مدح فيها خليفة أو ملك رجلاً عادياً.
وأصيبت العلاقة بين السلطة والمثقفين بانتكاسة في خلافة ابنه المهدي الذي أبدى حقداً دينياً على هذه الفئة انعكست في القمع الدموي الذي صبه عليها تحت ستار مكافحة الزندقة. لكن هذه السياسة تراجعت في خلافة الرشيد حيث نعم المثقفون برعاية كبيرة عمت الأدباء والمتكلمين والفقهاء والأطباء والمشتغلين بعلوم الطبيعة.
لكن فريقا من الفقهاء والمتكلمين واصلوا نهج أسلافهم في مقاطعة السلطة ولو دون أن يتعرضوا للمضايقة. وأسس الرشيد بيت الحكمة للترجمة والتأليف مبرهناً من خلال ذلك على العلاقة الديالكتيكية بين الحضارة الطبقية والطغيان. ثم جاءت القفزة في عهد المأمون الذي جمع بين شخصية المثقف وشخصية الحاكم، فبلغ غاية تطوره ليحتضن سيرورة ترجمة استوفت أمهات كتب الإغريق والفرس كما شهدت منعطفاً في سيرورة التأليف التي استمرت نشيطة حتى أفول الحضارة.
ومن منجزات المأمون احتضانه المعتزلة بعقلانيتها المتشددة التي حفزت الوعي الديني للخروج من قيد المأثور وفتحت له آفاق التفكير الحر في الأشياء. وقطع الفكر المعتزلي في هذا العهد شوطاً بعيداً في مسيرة نضجه. ولو أن ذلك تم على حساب الموقف السياسي للمعتزلة الأوائل. وكانت الثقافة لدى المأمون رهانه الخاص لإنشاء مملكة زاهية.
تطوّر التعليم
في هذه الأثناء تطور التعليم في بغداد متمشياً مع التطور الشامل في الأمصار الإسلامية الأخرى. وكان من وسائله في المراحل الأولى الكتاتيب وهي بمستوى المدارس الابتدائية، والمساجد التي تتلقف خريجي الكتاتيب ليدرسوا في حلقات يدير كلاً منها أستاذ متخصص في فنه. وكانت العلوم الطبيعية تدرس في مجالس أصحابها.
وكانت مجالس العلماء بمثابة الكليات المعاصرة ويحظى أصحابها بالدعم من السلطة ويحضرها الطلاب مقابل أجر أو بدونه. ولم يكن لهذا الدعم مردود سلبي لأن الدراسة في المساجد والمجالس العلمية كانت حرة وغير خاضعة لإشراف الدولة. وقد بقيت على هذه الحالة حتى تأسست المدارس العالية في العصر السلجوقي. كان ذلك حين أنشأ نظام الملك وزير السلاجقة في بغداد المدرسة التي سميت باسمه على الجانب الشرقي. ولم يكن المقصود بإنشاء هذه المدارس تطوير التعليم إنما السيطرة عليه.
وقد كرست النظامية لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة حصراً ولم يسمح لها بتدريس الفلسفة والطبيعيات. وينسجم هذا الترتيب مع سياسة نظام الملك السلفية المناوئة للفكر العقلاني ولجميع الفرق الإسلامية عدا أهل السنة. ولم تظفر المعرفة الإسلامية بحصيلة من هذه المدارس، لكن ظهورها يؤشر من جهة أخرى بداية الشكل الجامعي للتعليم في بغداد (التعليم الجامعي ظهر أولاً في القاهرة حين أسس الفاطميون الجامع الأزهر لتدريس العلوم الدينية والدنيوية، وهو قد يكون أول جامعة في التاريخ).
من معاهد العلم الأخرى دور الكتب التي كانت توفر أماكن للبحوث والمناظرة إلى جانب خدماتها للمطالعين. وكانت المكتبات تنشأ مستقلة أو ملحقة بالمدارس والمساجد. وكانت لدار الخلافة مكتبة كبرى خاصة بها. وقد ورد في تاريخ بناء المدرسة المستنصرية أنه نقل منها إلى المستنصرية ثمانون ألف كتاب كدفعة أولى لمكتبتها التي بُنيت معه. وتقدم دور الكتب خدماتها مجاناً وهي مفتوحة للعموم.
واعتمد عليها الباحثون في الحصول على مصادرهم غير ان ذلك لم يغنيهم عن اقتناء مصادرهم الخاصة بهم. وكانت المكتبات الشخصية من لوازم العمل الثقافي. وقد بلغ الولع بالكتب واقتنائها والمحافظة عليها في بغداد، كما في غيرها من حواضر الإسلام، حداً نسجت حوله الحكايات. وكثيراً ما يعثر المتصفح للمخطوطات على عبارات وأشعار يكتبها مالكو الكتب تعبر عن قيمة الكتاب عندهم ودرجة علاقتهم به.
وكانت لسوق الكتب في بغداد مكانتها بين أسواق المدينة. وقد عرفت هذه المهنة بالوراقة وأصحابها الوراقون وهو إصطلاح تمايز عن “الكتبي” المختص بالمكتبات. وكانت حوانيت الوراقة، شأن المكتبات، ملتقى للمثقفين.
من معاهد التعليم أيضا كانت المستشفيات التي جمعت بين التطبيب وتعليم الطب، كشأنها في العصر الحاضر. كما ظهرت مدارس طبية مستقلة عن المستشفيات، منها مدرسة الطب الملحقة بالمدرسة المستنصرية. ودرّس الطب أيضاً في المدارس الخاصة للأطباء والعلماء. وقد حقق أطباء بغداد منجزات هامة في حقل اختصاصهم تأتي في السياق العام للطب الإسلامي الذي يمثل مجموع المساهمات الموحدة للعصور أو الأقاليم الإسلامية. وكان من ذلك تطور الجراحة بإستعمال التخدير. وقد وردتنا إشارة إلى المخدر من عهد هارون الرشيد حيث يخبرنا أبو الفرج الأصفهاني في “مقاتل الطالبين” أن أحمد بن عيسى بن زيد كان مسجوناً بأمر الرشيد في بغداد فدبر أتباعه من الزيدية مكيدة لإخراجه من السجن تمت بوضع البنج في طعام قدموه للسجانين الذين غابوا عن الوعي فور تناولهم هذا الطعام (أنظر فصل أحمد بن عيسى بن زيد من الكتاب المذكور). وفي ترجمة الناصر لدين الله العباسي المتوفى عام 622 هـ أورد الصفدي في “نكْت الهيمان” أنه سقى المرقد ثلاث مرات شق فيها ذكره لاستخراج حصاة المثانة. وقد نجحت العملية في المرات الثلاثة كلها.
ويشير هذا الخبر إلى أنه سقي سائلاً مخدراً، وكانت هي الطريقة الشائعة في التخدير.
وعلى ذكر الناصر يقول الصفدي أن الماء الذي كان يشربه كان يؤتى به من خارج المدينة ويغلى سبع مرات قبل أن يقدم له، ونجد في ذلك فكرة مبكرة عن التعقيم.
وعرف البغادة كما عرف غيرهم من المسلمين علاقة البيئة بالصحة، وعلى هذا الأساس كانوا يختارون مواقع بناء المستشفيات، وللرازي قصة مشهورة في ذلك.
الصحة والفن في بغداد
من المنجزات الهامة لبغداد تأسيس الصيدليات. ويكشف كتاب أمريكي في تاريخ عن أن الصيدلة انفصلت HISTORY OF PHARMACY الصيدلة عنوانه عن الطب لأول مرة في بغداد حيث أنشئت الصيدلية المستقلة عن عيادة الطبيب من الكتاب المذكور وقد ظهر لقب صيدلاني ARAB MEDICINE إلى جانب عطار ليدل على هذا التخصص. وكانت الصيدلة مندمجة مع صناعة العطريات، ومن هنا كانت الدلالة المشتركة للقب “عطار” كصانع أو بائع عطور وأدوية على السواء. لكن ظهور اصطلاح “صيدلاني” يكرس تمايز الصيدلة عن العطارة ولو دون أن يؤدي بالضرورة إلى انفصالهما، على الأقل بالنسبة للبائع ومحل البيع.
خلافا للفكرة البسيطة من تحريم أو كراهية التصوير في الشرع الإسلامي، كان لبغداد نصيبها من الفنون التشكيلية. ثمة في الواقع ما يدل على أن الزخرفة والفسيفساء لم تكونا الفنين الوحيدين في بغداد . فمنذ وقت مبكر نسمع عن رسام معاصر لبشار بن برد يدعى حمدان المصور، بينما يدلنا تمثال الفارس المتحرك على قبة المدينة المدورة وتصاميم مراكب النزهة التي استوحت صور الحيوانات وتماثيل دار الشجرة التي سبق أن وصفناها، يدلنا في جملته على وجود قدر ملموس من فن النحت. وقد وردنا درهم من عهد المتوكل وعليه صورته منحوتة نحتاً بارزاً. ويستدل بعض النقاد المعاصرين من تراث يحيى الوسطي على وجود مدرسة بغدادية في الرسم. ويرجع الفضل في انحفاظ هذا التراث إلى وجوده في مخطوطات أتيح لها أن تخرج من بغداد قبل أن تمتد إليها يد العبث والغزو. ولو قدر لأكثر من هذا أن يسلم لكنا نملك اليوم ما يغير من النظرة السائدة حول التأثير المبالغ فيه لتحريم فن التصوير.. وتصدرت بغداد أمصار العالم الإسلامي –ربما عدا الأندلس– في الموسيقى والغناء. إن كتاب الأغاني لأبو الفرج الأصفهاني مكرس في جملته للغناء البغدادي، وعسى أن لا يذهب بنا الوهم إلى الغناء البغدادي هو ما نسمعه اليوم من ألحان محلية صرفة، فهذا هو موروث العصر العثماني المنقطع في الزمان والمكان والمعبر عن واقع تحلل حضاري.
أما العصر العباسي فلم يصلنا غناؤه لعدم تسجيل نوطاته. وقد نقل إلينا أبو حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة” وقائع من حساسية أهل بغداد للغناء والموسيقى ربما كانت تشير إلى الرقي المتقابل في الذوق الفني لكل من الأداء والتلقي في مدينة تمتعت بقدر وافر من زهو الحضارة.
على صعيد الفن العسكري، كان لبغداد جيش نظامي استخدم أولاً لقمع الغير
واستخدم آخراً للدفاع عن المدينة بعد أن تمزقت الإمبراطورية وتحولت الخلافة العباسية إلى دولة – مدينة تقتصر على العاصمة وجوارها. ومن ممارسات العسكرية العباسية في الطور الأول إرسال قوة تدخل إلى الصين عام 138 بطلب من الإمبراطور سو تسونغ لمجابهة عصيان أدى إلى فقدانه العرش. وقد أعادت القوة العباسية الإمبراطور إلى عرشه، وكان قوامها أربعة آلاف. وكان المنصور قد أرسل هذه القوة قبل بناء بغداد وأبقاها سرا ولذلك لم تنكشف لنا إلا في العصر الحديث حيث تم الاطلاع على السجلات التاريخية الصينية التي روت هذا الحدث. وبدى نجاح هذه القوة القليلة العدد نسبياً في مهمتها على أنها كانت قوة منتخبة من جيش رفيع التنظيم والتدريب.
كان عدد الجيش البغدادي تبعاً لإحصائية من عهد المأمون مئة وخمسة وعشرين ألفاً. وكان يعتمد على التطوع إذ لم يواصل العباسيون أسلوب التجنيد الإجباري الذي اتبعه الأمويون. وكان راتب جندي المشاة تسعمائة وستين درهم في السنة عدا الطعام والمخصصات الأخرى، أما الفارس فيأخذ ضعفي هذا المبلغ. فهو جيش مرفه نسبياً، وقد لعب من خلال وضعه هذا دوره كجيش إمبراطوري قائم على التوسع والعدوان وقمع المعارضة.
وفي الطور الثاني كان الجيش البغدادي أقرب إلى العامة، وقد شاركته في حروبه الدفاعية عن المدينة. وكان الخليفة العباسي الذي يواجه غزواً خارجياً يوزع السلاح على العامة التي كانت تندفع في مقاتلتها للغزاة بنفس اندفاعها في مقاتلة السلطة أثناء الأزمات. وقد استطاع البغادة أن يهزموا الحصار المغولي الأول بالتعاون مع الجيش النظامي، حين كان للسلطة متمثلة في الخليفة ووزيره، نَفَس للمقاومة.
من الفنون العسكرية التي استخدمها الجيش البغدادي الملابس الصامدة للنار.
وكانت هذه الملابس تعالج بمادة الطلق بطريقة لم تصلنا تفاصيلها. والطلق مادة معدنية تشبه الزئبق توجد متلبدة في مكانها وهي غير قابلة للاحتراق. وعرف المسلمون هذه الخاصية فيها فكانوا يأتون بعروق الطلق ويسحنونه ويطلون به الشيء الذي يريدون تعريضه للنار. وقد استعمله الدراويش والسحرة لألعابهم النارية. واستعماله للأغراض العسكرية يرجع إلى عهد الرشيد، وكانت الخزانة العسكرية للدولة تحتفظ بمقادير منه على الدوام. وقد ورد ذكر الطلق في استجواب الوزير علي بن عيسى الذي اتهم بإرسال مقادير منه إلى قرامطة شرقي الجزيرة.
وكان لبغداد قوة نهرية ضاربة. كنت قد أشرت إلى أسطول النزهة والتجارة في دجلة وإلى العدد الكبير والمتنوع من سفنه وقواربه وأشير هنا إلى أن الأسطول الحربي كان كبيراً ومتنوعاً أيضاً. وقد استعملت فيه بعض المراكب المستعملة في الأسطول العادي كالسميريات والحراقات. واحتوى أيضاً على سفن حربية ضخمة هي البوارج. وقد جرت أول معركة نهرية في حرب الأمين والمأمون، لكن أضخم المعارك التي خاضها الأسطول البغدادي كانت في الحرب ضد الزنج في جنوب العراق. وكان مجال عمل الأسطول في دجلة والفرات ونهر عيسى. وفي إحدى الحروب مع القرامطة أرسل المقتدر خمسمائة سميرية عبر نهر عيسى لمنعهم من عبور الفرات بعد ما توغلوا فيه من جهة البصرة. ويبدو أن هذا الأسطول أخمد في الحقبة الأخيرة، إذ لم يرد له ذكر في حصار بغداد وسقوطها على يد هولاكو.
ابتدع البغادة في إحدى معاركهم الفاصلة ضد الغزاة نوعاً من القذائف سميت قوارير النفط الطيار. ويؤخذ من اسمها أنها قناني معبأة بالنفط الذي يشير وصفه بالطيار إلى إمكان اتصافه بسرعة الاشتعال. ومن الجدير هنا بالذكر أن النفط كان يستثمر تجارياً في العراق وكانت له دائرة تعني بشئونه. وكان الاستثمار يعتمد على مكامنه القريبة من السطح. وقد استعملت قوارير النفط الطيار في معارك الدفاع من بغداد ضد السلطان السلجوقي محمد شاه وبلغ عدد ما استعمل منها في تلك المعارك ثمانية عشر ألف قارورة، وانجلت المعارك عن هزيمة منكرة للسلطان السلجوقي. إن قوارير النفط الطيار التي استعملها البغادة عام 551 للهجرة هي سلف قريب لقنابل مولوتوف.
من المنشآت الدفاعية الهامة لبغداد سورها الأخير الذي بني عام 516 هـ. ويخبرنا ابن الجوزي في “مناقب بغداد” أنه شيد بجهد مشترك من السلطة والعامة. وكان السور يمتد هلالياً من باب المعظم الحالي ويتجه إلى حي الشيخ عمر ثم ينزل إلى حي باب الشيخ ومنه إلى الباب الشرقي. وكانت له أربع بوابات ويطوف حول السور خندق يأخذ من دجلة ويصب فيها. وكان للسور دور هام في عرقلة الإجتياح المغولي لكن ضعف إحدى بواباته المسماة برج العجمي (في موضع باب الشيخ الحالي) مكن المغول من أحداث ثغرة بمجانيقهم فدخلوا فيها.
انتهت بغداد الإسلامية بعد خمسمائة عام من تأسيسها. وكان سقوطها على يد هولاكو بداية النهاية لحضارة الإسلام التي استعصمتها في أكثر أحقابها ازدهاراً وسرعان ما فقدت المدينة معالم عمرها الحضاري تحت وطأة الغزوات المتعاقبة فلم يبق منها غير الذكريات التي حفظتها ألف ليلة وليلة.
* نُشر هذا المقال في العدد 328 في مجلة الثقافة الجديدة العراقية عام 2008، إلا أن العلوي يُشير إلى أن كتابته تعود إلى عام 1986 حيث كان يُقيم في دمشق. نشر المقال بالأساس تحت عنوان ”
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
تقع بغداد في وسط العراق بحدوده الأصلية الممتدة حسب الجغرافيين المسلمين، من الموصل حتى عبادان، ودرجة عرضها ثلاث وثلاثون وثلث وهو نفس عرضها تبعا للجغرافيا الحديثة، وفي هذا الموقع يقترب الرافدين من بعضهما إلى مسافة مئة كيلومتر، وهي أقرب مسافة لهما قبل أن يلتقيا نهائيا في ناحية القرنة. ولذلك اعتبرالجغرافيون القدماء بغداد مدينة للنهرين، وكانت المدينة تتصل بالفرات بقناة ملاحية تسمى نهر عيسى. ويقع مرفأ هذا النهر كما حدده مؤرخ بغداد المعاصر مصطفى جواد عند منعطف طريق بغداد/ الدورة قرب حي البياع في الجانب الغربي.
وكان النهر يتفرع قرب هذا المكان إلى فرعين يصبان في دجلة.
كان موقع بغداد جزءاً من مملكة سامية غابرة تسمى “اشنونا” وجدت مراكزها في جنوب شرقي المدينة. ترجع هذه المملكة إلى بواكير الألف الثاني ق.م، ومنها وصلنا أحد أقدم الشرائع في التاريخ، كما عثر فيها على بحوث مبكرة في الرياضيات تشكل السلف الأبعد لرياضيات فيتاغورس.
وكان هذا الموقع معروفاً عند ظهور الإسلام باسم “كلواذا”. ويبدو أن معلومات عن هذه المملكة كانت متوفرة لدى الكتاب المسلمين، إذ يذكر صاعد الأندلسي في “طبقات الأمم” أن كلواذا كانت داراً عظمى (عاصمة) لمملكة غابرة.
وبحكم موقعها الذي يتوسط المواصلات النهرية المؤدية إلى البحر المتوسط
والخليج، كانت تقوم في بغداد سوق شهرية للتجار يديرها الساسانيون. وقد هاجمها المثنى بن حارثة في بداية الفتح الإسلامي للعراق واستولى على أموال نفيسة ليمون بها عمليات الفتح.
بغداد المنصور
اختار المنصور بغداد لبناء عاصمته لاعتبارين، أولهما موقعها الجغرافي هذا، وقد وصفه كما أورد الطبري على النحو التالي، “هذا موضع معسكر صالح، هذه دجلة، ليس بيننا وبين الصين شيء، يأتينا فيها كل ما في البحر وتأتينا الميرة من الجزيرة (الفراتية) وأرمينية وما حول ذلك، وهذا الفرات يجيء فيه آل شيء من الشام والرقة وما حول ذلك”. وإشارته إلى الصين ترجع إلى اتساع التجارة معها منذ مملكة الحيرة ثم ما حدث من تطور للعلاقة معها بعد العون العسكري الذي قدمه المنصور لإمبراطورها سو تسونغ.
الاعتبار الثاني هو البيئة الصحية للموقع الذي وصف حينذاك بأنه طيب الهواء عذب الماء قليل الهوام. ويرجع ذلك إلى نهر دجلة الذي يشق المدينة من وسطها، فضلا عن غطائها النباتي الكثيف.
بدئ بتأسيس بغداد عام 145 هـ وأنجز بناؤها عام 149 هـ المصادف 762 للميلاد، فيكون عمرها حتى هذه السنة (بداية 1986 الميلادية، 1506 هجرية، 1223 شمسي، 1257 عام قمري – وقت كتابة المقال).
حشد المنصور لبناء عاصمته عدداً غفيراً من البنائين والصناع والشغيلة العاديين من الشام وكردستان ومدن عراقية أخرى، وعين جماعة من ذوي المعرفة بالهندسة والأمناء للأشراف على البناء. وقد ذكر المؤرخون من هؤلاء إسمين هما أبو حنيفة والحجاج بن أرطاة. وقيل إن (أبو حنيفة) إبتكر طريقة لعد اللبن الذي استخدم في البناء، ولكن هذا لا يصح فقد كان أبو حنيفة يتصدر حركة مقاطعة للخلافتين الأموية والعباسية وكانت قد رجحت في كتابات سابقة انه مات في حبس المنصور. ولعل الرواية عن اللبن كانت إشاعة من العباسيين أنفسهم.
وقد نسب إليه أنه كان يقول: لوأرادوا بناء مسجد وأرادوني على آجره ما فعلت.. وأنا أميل إلى أن الإمام الأعظم اختار أن يحرم نفسه من شرف المساهمة في بناء هذه المدينة المثيرة للخيال لأن همه السياسي كان أكبر من همه الحضاري. أما الحجاج بن أرطاة فكان من المشتغلين بعدد من المعارف منها الفقه والحديث والهندسة. ولم يكن له نفس اتجاه أبو حنيفة. وقد عبر عن نزوع تكنوقراطي بانقطاعه عن صلاة الجمعة ولما سئل عن السبب قال: أخشى أن يزاحمني البقالون.. وفي تقديري أن الحجاج بن ارطاة يستحق – رغم هذا اللؤم الطبقي – أن يسجل ضمن بناة بغداد وأن يكون له موقع فيها يحمل اسمه، فهو على أية حال أحق بذلك من أنفال 8 شباط و17 تموز.
بالرماد والنار
بعد انتهاء المشاورات والمداولات بشأن تصميم المدينة خططت الأسس بالرماد وتمشى المنصور خلالها لينجزها. ثم أوعز أن تنثر على خطوط الرماد بذور قطن واشتعلت فيها النار ووقف هو يتأملها من فوق. ثم أصدر أمره بالشروع، وقام بوضع أول لبنة بيده وقال: “باسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، إبنوا على بركة الله”.
بنيت المدينة أول الأمر على الجانب الغربي – الكرخ وموضعها كما حدده مصطفى جواد بين الكاظمية وجسر الشهداء حوالي الحارة المسماة العطيفية. وكانت المدينة مدورة وجعل مقر الخليفة ومسكنه في مركزها. والسبب كما يقول الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” أن المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض والمدورة تتساوى أبعادها عنه. وكان المنصور يتوخى بسط السلطة بالتكافؤ على جميع أنحاء المدينة.
أرسي حول المدينة سوران خارجي وداخلي، أولها أعلى، وعرض كل منهما عشرين ذراعاً وبينهما مسافة ستين ذراعاً خالية من البناء والسكان، ولكل سور أربع بوابات حديد من فردتين. وجعل بوابات السورين مزورّة عن بعضها، أي غير متقابلة. ومنه أخذت بغداد أحد أسمائها المشهورة وهو الزوراء. وكان الغرض من ذلك دفاعياً وأمنياً في آن واحد.
ويمتد من كل بوابة دهليز معقود بالحصى والآخر ينتهي إلى رحبة تتفرع منها دروب المدينة. طول الدهليز ثلاثون ذراع وعرضه عشرون، أما الشوارع فعرضها أربعون. وتقوم بين كل بوابتين ثمانية عشر برجاً للمراقبة. وقد عين موقع البوابات تبعا لجهات الأقاليم وهي: باب خراسان للقادم من الشرق وباب الكوفة للقادم من الحجاز وباب الشام للقادم من الغرب وباب البصرة للقادم من الجزيرة العربية وبلاد فارس الجنوبية. وكان بين كل بوابة مسافة ميل (الميل العربي حوالي 1972 متر). وشيد على كل من البوابات الأربعة قبة خصصت لجلوس الخليفة. وكانت تتوسط
المدينة الخضراء المقامة على قصر الخليفة. وكان علو القبة ثمانين ذراع وعلى رأسها تمثال لفارس متحرك في يده رمح تقول الخرافة أنه كان يخبر الخليفة إذا حدث تمرد أو فتنة وذلك بأن يشير برمحه إلى الجهة التي يحدث فيها حدث كهذا.
وقد رد ياقوت الحموي في معجم البلدان – مادة بغداد – هذه الخرافة التي أوردها الخطيب البغدادي وقال إنها من الكذب الفاحش وأن مثل هذه الأشياء ” إنما تحكى عن سحَرة مصر وأضرابهم” أما الملة الإسلامية فأنها “تجل عن مثل هذه الخرافات”. ومن الواضح أن هذا التمثال وضع لمعرفة اتجاه الرياح.
وقد يكون المنصور أو أحد خلفائه استفاد من هيئة التمثال لإشاعة هذه الخرافة لتثبيط معارضيه. ولو أن معظم هؤلاء لم يكونوا ممن تنطلني عليهم مثل هذه الحيل الدينية.
ضمت المدينة المدورة إلى جانب قصر الخليفة قصور الحاشية والقواد ومساكن عامة الناس. وبنيت للمدينة أسواق في أطرافها رتبت تبعاً لأصنافها، وهو الترتيب الذي كان شائعاً في المدن الإسلامية. وروعي في هذا الترتيب بالأخص عزل الأسواق التي تتعاطى بالحاجات ذات الروائح الكريهة أو التي تلوث البيئة أو تترك فضلات مثل حوانيت القصابين. وكانت المدينة تكنس يومياً.
وكانت تتخلل المدينة قنوات معقودة لتزويدها بمياه الشرب والغسيل، وكانت القنوات تسحب من فروع دجلة أو روافدها خارج المدينة حيث تكون المياه أقل تعرضاً للتلوث. ولهذا السبب أيضاً استخدمت القنوات المعقودة. والقنوات مبطنة بالصاروج المكون من النورة ومادة أخرى كالرماد وغيره، وهو صامد للماء ونقي يستعمل في أبنية بغداد إلى وقت قريب، أما سقف القنوات فمعقود بالآجر.
وتضمن تصميم المدينة خمسة جسور على دجلة اثنان منها لعامة الناس واثنان للأغراض الرسمية، وواحد للنساء.
كانت المادة الأساسية للبناء هي اللبن المسمى بالجعفري وهو من الحجم الكبير تزن الواحدة ما يعادل سبعة عشر كيلوغراماً. واستعمل الأجر والحصى للعقادة.
وبلغت تكاليف البناء ما بين 18 مليون وأربعة ملايين درهم تبعاً لإختلاف
الروايات. وهذان الرقمان أوردهما الخطيب البغدادي يلاحظ ما بينهما من تفاوت كبير دون إن يتمكن من الجزم بأحدهما. والرقم الثاني هو ما اختاره ابن خلدون، ولعلهُ حتماً قد أخطأ قراءة هذا الرقم فجعله في “تاريخ العرب” أربعين مليون درهم.
والرقم ليس كبيراً بالنسبة لبناء مدينة. وسبب ذلك شدة تغيير المنصور الذي عرف بالبخل (لقب المنصور بسبب ذلك بالدوانيقي، نسبة إلى الدانق وهو سدس الدرهم وكان يحاسب عليه) ومع أنه لم يلجأ إلى السخرة- التي جرت عليها المجتمعات الإقطاعية – فقد حرص على تقنين أجور العاملين في بناء عاصمته لتقليص الكلفة إلى الحدود الممكنة. وكانت يومية الأسطى من البنائين أو الصناع ما بين خمس وأربع حبات فضه وهذا المبلغ يقل عن الدرهم. أما يومية الشغيل فما بين حبتين إلى ثلاثة. لكن المنصور عمل على رفع القيمة الشرائية لعملته بإغراق الموقع بالمواد الغذائية الرئيسية.
وكان الكبش يباع في ذلك الوقت بدرهم واحد والحمل بأربع دوانيق أي أرخص من الكبش بدانقين. وكان التمر آل ستين رطل بدرهم (الرطل العراقي يعادل حوالي نصف أوقية) والعسل عشرة أرطال بدرهم ولحم البقر كل تسعين رطلاً بدرهم وسعر رطل الخبز خمسة بالمئة من الدَرهم.
الكرخ قبل الرصافة
قلت إن بغداد بنيت أول الأمر في الكرخ – الجانب الغربي لدجلة. أما الجانب الشرقي فجعله المنصور معسكراً أوكل قيادته لولي عهده محمد المهدي. وسمي من ثم عسكر المهدي قبل أن يعرف باسم الرصافة. والاسم الأخير مستمد من أسم قصر بناه هارون الرشيد في الجانب الشرقي. وكانت المدينة في بدايتها صغيرة كما ذكرت لكنها اتسعت بعد وقت قصير فصارت تمتد من الكاظمية الحالية حتى الجسر المعلق في كرادة مريم حيث يقوم ما يسمى بالقصر الجمهوري، ولو أن الموقع الأخير لم يكن مأهولاً تماماً وكانت معظم مساحاته مشغولة بالبساتين.
من الملاحق التي أشير إلى أن مدينة المنصور كانت تحتويها، نفق للنجاة يقول الخطيب البغدادي أن طوله كان فرسخين ويقول ابن الجوزي في “مناقب بغداد ” أن طوله ثلاثة فراسخ.
بحسب تقدير الخطيب يكون طول النفق أقل من إثني عشر كيلومتر وطوله بتقدير إبن الجوزي أقل من 18 كيلومتر. وكان النفق يؤدي إلى خارج المدينة، ويمكننا قبول هذه الرواية مستأنسين بوجود القنوات المعقودة التي كانت تجلب الماء من مسافة بعيدة خارج المدينة. فمن يبني مثل هذه القنوات لا يعسر عليه شق نفق خالي من الماء. وكانت حال المنصور تملي عليه التفكير باحتياطات السلامة لأنه جابه تمردات عديدة من أطراف شتى، وقد أضطر في واحدة منها وهو تحرك البصرة بقيادة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، إلى إيقاف بناء بغداد بعد أن شرع فيه حتى يتفرغ للقتال.
المدينة تتسع
اتسعت بغداد بسرعة بعد تأسيسها في الجانب الغربي فامتد البناء إلى الجانب
الشرقي – الرصافة، الذي صار فيما بعد مقر الخليفة. وأهملت المدينة المدورة، لكن الكرخ بقي عامراً. وبلغت بغداد أوج اتساعها في عهد الرشيد، وذكر الخطيب البغدادي إذ كانت تحتوي على ستة آلاف درب وزقاق في الكرخ وأربعة آلاف في الرصافة. ولعل هذا الرقم من مرحلة سابقة أي قبل أن تكبر الرصافة على حساب الكرخ. وأهم ما اشتملت عليه الرصافة دار الخلافة، وكانت مدينة بذاتها. وقد أقيمت على دجلة.
وحدد مصطفى جواد موقعها الحالي بشارع المستنصر الممتد بين جسر الأحرار وبناية الدفتردار. وتضم دار الخلافة مقر الخليفة ومسكنه ومساكن أسرته لبضعة درجات، ولها جامع تصلي فيه الجمعة، وتتخللها بساتين ورياض تحوي على أصناف نادرة ومتنوعة من الأشجار، والأزهار ونباتات الزينة والطيور. وكان في دار الخلافة أيضاً حرس الخليفة الذي قدر بعشرين ألف. كما قدر عدد الخدم في بعض الأوقات بعشرة آلاف وعدد الفراشين بثمانمائة وعدد النساء من الحرائر والجواري بعشرة آلاف. (وردت أرقام مقاربة عن القصر الإمبراطوري الصيني). وكان لدار الخلافة ميزانيتها المسماة بيت مال الخاصة وتبعاً لكشف أورده هلال الصحابي كان قد أجراه الوزير اللامع إسلام علي بن عيسى لعام 306 هـ بلغت الميزانية 14 مليوناً و829 ألفاً و840 دينار (ميزانية قصر بكنكهام البريطاني 12 مليون باون).
وكانت المدينة مقسمة إلى محلات كبيرة وصفت بأن كل منها أشبه بمدينة وناهزت في عصرها الذهبي أربعين محلة على الجانبين. وأورد الخطيب البغدادي عن تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر (طيفور)، المعاصر للمأمون، أن مساحتها في ذلك الوقت بلغت ثلاثة وخمسين ألفاً وسبعمائة وخمس ين جريب، وعن نسخة أخرى من الكتاب أنها كانت ثلاثة وأربعين ألفاً وسبعمائة وخمسين جريب، وهي مساحتها في عهد (الموفق/ النصف الثاني من القرن الثالث). ومقدار الجريب مختلف عليه بين المؤرخين المعاصرين من 1384 حتى 2400 متر مربع. وبحساب الرقم الأدنى تكون المساحة
بتقديرها الأقل في عهد الموفق ثلاثة وسبعين كيلومتراً مربعاً. وهذه مساحة المدينة نفسها دون القرى التابعة لها والتي تقع في المعتاد خارج السور. أما نفوسها فقدرت بمليونين، وهي بذلك تكون إحدى المدن الكبرى الثلاث في عصرها وهي القسطنطينية والعاصمة الامبروطورية للصين المسماة نشانغ كن إي مدينة السلام الدائم، وهو اسم بغداد نفسها وكانت دروب بغداد وأسواقها شديدة الازدحام. وقد ذكر ماركوبولو أن العدد الهائل لسكانها مع ما عرفت به من قوة، أقلق هولاكو حين جاء لحصارها فلجأ إلى المكيدة ليستطيع اقتحامها كانت بغداد مدينة خدمات كما هي مدينة منتجة. وقد اشتهرت بإنتاج وتصدير الورق والأقمشة القطنية والحريرية والزجاجيات والمعاجين والأدوية. وقد ذكر ماركوبولو، الذي زارها بعد سنوات من سقوطها، أنها كانت تصنع الحرير الموشّى بالذهب والدمقس والسجاد المطرز بصور الطيور والضواري، وقال إن جميع اللؤلؤ الذي يصدر من الهند إلى أوربا كان يثقب في بغداد. وتخصص الجانب الغربي فيها بإنتاج الخمور التي كانت معاصرها تتخلل بساتين الكروم الكثيفة.
وازدهرت فيها صناعة الفخار والآجر الخالي من الأملاح الذي عوض به البغادة عن افتقار بيئتهم الجغرافية إلى مقالع الحجارة. وكان ريف المدينة يمدها بأقواتها من الحبوب التي تأتيها من سامراء والسواد. ولم تشهد المدينة طوال تاريخها الإسلامي، أي حتى سقوطها بيد هولاكو، أزمة مجاعة وانما كانت تواجه أزمات غلاء ناتجة في الغالب عن سبب سياسي أو إداري. وكانت هذه الأزمات تحل بانتفاضات العامة التي كانت ترغم رأس السلطة خليفة أم وزيراً أم عسكرياً متقلباً، على اتخاذ إجراءات لتلافي الأزمة، وكانت التجارة قطاعاً أساسياً في الاقتصاد البغدادي نظرا لموقع المدينة الجغرافي ومكانتها السياسية، وكذلك بحكم النشاط الاقتصادي المحلي وارتفاع مستوى المعيشة في المدينة. ونضع هنا في الحساب كون بغداد عاصمة لإمبراطورية مترامية الأطراف بما يعنيه ذلك من استئثارها بنصيب وافر من النهوبات الخارجية.
وبحسب الإحصاءات التي أوردها هلال الصحابي في “رسوم دار الخلافة” فأن ميزانية هارون الرشيد قاربت المليار وكذلك ميزانية جده المنصور.
وقد انعكست هذه الحقيقة في اللغة فظهرت مفردتان تدلان على المليار هما البَنوٌر والبَطّات. وكانت في بغداد ميزانيتان: خاصة لدار الخلافة وعامة للدولة. ووجدت في بغداد فئة أصحاب الملايين التي ضمت تجار ومسؤولين. وكان عدد أفراد الطبقة الوسطى كبيراً وهي تشمل الأطباء والمهندسين والعطارين والصيادلة والكتاب (موظفي الدولة) والملاكين العقاريين وصغار التجار وآبار الحرفيين والأدباء، والفقهاء بعد القرن الثالث. وعرفت بغداد بأسواقها الكبيرة إذ كانت كما يقول القزويني مجمعاً لطيبات الدنيا وما من متاع ثمين ولا عرض نفيس إلا ويحمل إليها. وكان من المنطقي تبعا لذلك أن ترتفع الأسعار كما يقول ابن خلدون من نتائج التقدم الحضاري (الاستئجار في العراق) وهو أمر وارد بقدر ما يعني التقدم الحضاري من نمو اقتصادي مستند إلى علاقات الملكية الخاصة حيث يسود قانون العرض والطلب. وقد شكا الغرباء من صعوبة العيش في بغداد بسبب ذلك.
ويبدو أن الأراضي كانت أغلى من أي سلعة أخرى إذ بلغ سعر الذراع في الأماكن الرديئة على دجلة ديناراً واحداً. وهو سعر مرتفع حتى بالقياس المعاصر قبل الانفجار النفطي الأخير. مع التنبيه إلى أن هذا هو سعر الضفاف التي كانت المكان المفضل لسكنى المسئولين وأفراد الطبقة العليا، ولعل السعر كان أقل في الأماكن البعيدة من النهر. وكانت وسائط النقل غالية ايضاً، فقد بلغ سعر الحمار أكثر من مائة وخمسين درهم. وقد شكا إبن هِفّان، راوية أبو نؤاس، من عدم قدرته على شراء حمار لركوبه، كما ترددت شكوى مماثلة لجحظه البرمكي وابن الرومي. هذا عن الحمير وهي أقل وسائط النقل شأناً. ولا شك في أن أسعار البغال والبراذين
والخيول كانت أعلى بما لا يقاس.
لكن الأغذية الأساسية لم تكن غالية، عدا اللحوم. ويرجع ذلك إلى وفرة المنتوج الزراعي في المدينة وجوارها. وكان بمقدور العامي أن يحصل على قوته اليومي من الأغذية النباتية كالبقول والخضروات كما لم يكن يتعذر عليه الحصول على مقادير من لحوم البقر والغنم التي كانت أرخص من لحوم الدجاج والسمك. ومع ذلك فقد شكا أبو حيان بمرارة من اقتصاره على البقول أي عدم قدرته على تناول اللحوم. وكان أبو حيان من كبار مثقفي عصره لكنه لم يستطع التلاؤم مع السلطة لشدة حساسيته فعاش محروماً أغلب عمره.
كان النشاط الاقتصادي في بغداد قائماً على النقد. وقد أنشأت الدولة دار الضرب التي تتولى سك النقود وفق النسب المحددة رسمياً. وكانت العملة الأساسية هي الدينار الذهب والدرهم الفضة، ومقدار كل منهما مثقال في المعتاد. كما وجدت كسور الدرهم وهي الدانق والفلس وكلاهما سدس الدرهم، ويسكان في معدن غير نفيس.
والنسبة بين الدينار والدرهم تراوحت بين العشرة إلى الخمسة وعشرين. وبنتيجة تطور الاقتصاد النقدي ظهر النظام المصرفي الذي تزامن ظهوره كما يبدو في بغداد و تشانغ آن. وكانت مهنة الصيرفي شائعة في المدن الإسلامية قبل بغداد لكنها كانت مقتصرة على الصرف ثم تطورت إلى قبول الودائع والقيام بأعمال الإيداع والسحب.
وقد سمي الصيرفي في هذا الطور بالجهبيذ وسمي النظام المصرفي “الجهبذة”، وكان السحب يتم بصكوك. ويحتوي الصك على أمر بالدفع لشخص معين الاسم مع ذكر المبلغ المطلوب دفعه، ويذيل بتوقيع الآمر بالدفع. ويبدو أن الصك كان يذيل بأكثر من توقيع. وكان المودعون هم الأفراد ومؤسسات الدولة على السواء. وكان الصيرفي يتقاضى عمولة لقاء خدماته ولا يأخذ أو يعطي فائدة.
وخلافاً للفكرة المبسطة عن عطايا الخلفاء وغيرهم من ذوي السلطان بأنها كانت تتم نقداً فان المدفوعات كانت تتم في الغالب بالصكوك على الجهبذ. ويبدو وأن الدولة وجدت حاجة إلى حصر ودائعها في مؤسسة خاصة بها فأنشأت جهبذة رسمية يديرها موظف يعينه الوزير. ولعل هذه أقدم صيغة عرفت حتى الآن لمصرف الدولة.
المعيشة في بغداد
وكمقصد مشترك لجمهور العالم الإسلامي، كان على بغداد أن تطور اقتصادها الخدماتي لكي تفي بمطالب زوارها، وكان من ذلك الخدمات الفندقية . وقد استعمل اسم فندق وخان لنزل المسافرين. والفندق عربية أو قديمة التعريب إذ سمعت من أعراب قضاعة، أما الخان فمغولية. وكانت فنادق بغداد على درجات، شأن الفنادق الحديثة. وكانت المطاعم آثيرة أيضاً ومن عدة أصناف: مطاعم الشواء ومطاعم للأكارع والرؤوس (الباجه) وأخرى للهريسة التي اعتاد البغادة على أكلها في الصباح، كما اشتهرت بغداد بأكلة الباقلاء (الفول) التي لا تزال شائعة حتى اليوم.
وكانت لأصناف المطاعم أماكن خاصة بها، وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في شكواه التي أختتم بها كتاب “الإمتاع والمؤانسة” إسم درب الحاجب كمكان لمطاعم الباقلاء ودرب الرواسين وهم باعة الرؤوس الذين يسمون اليوم “باجه جية”. وكان هناك حوانيت لبيع الماء واللبن والحبوب والسكنجبين وهو الزنجبيل أو السكنجبيل كما يعرف اليوم. وقد أوكلت مهمة الإشراف على هذه المرافق إلى المحتسب وهو موظف كبير كان يجمع بين واجبات مسؤول البلدية والمراقب الصحي. كما اشتهرت بغداد بحاناتها التي كانت تنشأ غالباً في ضواحي المدينة لتكون بعيدة عن الأنظار ولأن هواة شرب الخمر كانوا يفضلون الشرب في الربوع الخضراء. وقد تلازم الشرب
والنظر إلى الزهور والرياحين في الخمريات الإسلامية. وعرفت بغداد الحدائق والمنتزهات العامة التي غرست فيها تنويعات شتى من نباتات الزينة. وكانت المنتزهات تحتوي على مصاطب لإستراحة المتنزهين. وإصطلاح التنزه بهذا المعنى من مستحدثات القاموس العربي، وقد أنكره الفيروزآبادي لضيق أفقه اللغوي وأثبته الزمخشري في “أساس البلاغة”. وكانت بساتين بغداد وضواحيها مقصد السياح وأهل اللهو. كما انتشرت المراقص في المدينة ولو إنها لم تكن على غرار الملاهي الحديثة، فغالباً ما كانت في البيوت والقصور، وغالباً ما كانت المغنيات والراقصات من الجواري اللواتي يؤدين أدوارهن بترتيب من مالكيهن. وعرفت هذه الفئة بالقيان وصاحبهن هو المقين، وكان المقين بمنزلة صاحب الملهى. وقد تأفف صاحب الزنج علي بن محمد من مفاسد بغداد وهدد بالانتقام منها. بينما اتجه فريق من الفقهاء والزهاد إلى اعتبار الإقامة في بغداد دليلا على الانتهازية.
وهذه زيادة عن الحدة، فبغداد لم تكمن مدينة لهو فقط بل جمعت كل ما تجمعه مدينة متحضرة من مفارقات الحضارة الطبقية وقد سماها مستشرق إنكليزي معاصر “باريس القرن الثامن عشر” وهو لم يعدو الصواب.
ومن المرافق الترفيهية ببغداد مسرح الدمى المسمى آنذاك خيال الظل. ويبدو أنه كان معروفاً في النصف الأول من القرن الثالث إذ نقل البيت الشابشتي اسم رجل كان متخصصاً بهذا الفن يدعى عبادة المخنث. وكان معاصراً لدعبل الخزاعي وأراد إن يهجوه مرة فهدده قائلاً: لئن فعلت لأخرجن أمك في الخيال. وخاف دعبل فلم يتعرض له.
وكان من هذه المرافق أيضاً حديقة الحيوان الملحقة بدار الخلافة. وكانت تسمى “الحَير” (حاء مفتوحة). وقد ضمت حيوانات برية وطيور وضواري، وكانت مفتوحة للجمهور بدون مقابل. ويبدو أن صيد الضواري وحبسها في الأقفاص كان مألوفاً يومذاك. ويروي صاحب “عمدة الطالب” أن نقيباً علوياً من أهل الحجاز دعي لزيارة بغداد فلما دخل الحدود العراقية رأى أسداً في قفص فأمتنع عن مواصلة الزيارة قائلاً: لا أدخل بلاداً تذل فيها الأسود.
وتميزت بغداد بجسورها الجميلة على دجلة. وقد وصلنا وصف شعري لأحد
الجسور يشير إلى أنه كان من منتزهات بغداد لجمال رونقه والتفنن في تصاميمه.
وكانت الجسور تقام فوق عوامات وتمتاز بإتقان التركيب لتوفير معامل الأمن المطلوب. وذكر الخطيب أنه كان لبغداد في زمان سابق له جسران أحدهما للرواح والآخر للمجيء. وقد تفاوت عدد الجسور تبعاً للظروف التي كانت المدينة تمر بها فوصلت مرة إلى الستة ونزلت في غيرها إلى واحد.
ولعبت دجلة شوطاً عظيماً كمضمار للنشاط الاقتصادي والسياحي. وتفنن البغادة في دق السفن والقوارب بأحجام وأشكال مختلفة عرفنا منها: الطيارات، السُميريات، الزلكلات، الشباّرات، الحراقات، والشذاة وغيرها. وكانت مراكب النزهة تصمم على شكل حيوانات وتحتوي على مقاصير وقباب من خشب الساج. وكانت ضفاف دجلة
على الجانبين مكسوة بالمراطم التي عرفت حينذاك باسمين: المسنيات، جمع مسنّاة، والجوارق جمع جورق والأخيرة من التركية وقد اختفت من التداول أما الأولى فمشتقة من التسنية بمعنى التعلية ولا تزال مستعملة في لهجة بغداد مع تحريفها إلى مسناية. وكانت القصور تبنى على المسنيات ويكون بعضها داخلاً في الماء وكانت المراكب الشخصية ترسو على المسناة المؤدية إلى القصر بسلالم. وقد وردتنا إحصائية من عهد الموفق لعدد السميريات العاملة في دجلة تفيد أنها بلغت ثلاثين ألفاً وواردها اليومي تسعون ألف درهم. وينبغي تعديل أحد الرقمين لتكون الإحصائية معقولة. لكنها على أي حال تشير إلى ضخامة الأسطول النهري في ذلك الحين. وقد
استغل نهر دجلة لأغراض النقل والشحن على نطاق لم يتكرر في العصور اللاحقة للعباسيين بما فيها عصرنا الحاضر.
واشتهرت بغداد بحماماتِها.. وفي رحلة ابن بطوطة وصف للحمامات البغدادية في الطور المغولي يفيد أنها كانت مفروشة بالقار وجدرانها مطلية به إلى نصفها والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض. وكان في كل حمام خلوات وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام عليه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد وفي زاوية كل خلوة حوض آخر للاغتسال فيه أيضاً أنبوبان للماء البارد والحار. وقد بالغت بعض المصادر بعدد حمامات بغداد فأوصلتها إلى مئة ألف. لكن هلال الصحابي يقول إنها بلغت في زمانه مئة وخمسين ونيف، وهو رقم معقول ويكفي حاجة مدينة مولعة بالنظافة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن بيوت الطبقتين العليا والوسطى
كانت تحتوي على حمامات تغني أربابها عن الذهاب إلى الحمامات العمومية. وكان الصابون مادة أساسية للغسل وكان يصنع في بغداد لكن أجوده هو ما كان يأتي من بلاد الشام. ولا يزال العراقيون يسمون صابون الغار بالصابون الرقي نسبة إلى مدينة الرقّة التي اشتهرت بضاعته وقد تحدث ابن بطوطة عن الصابون المطيّب الذي كان يُصنع في اللاذقية ويقصد به الصابون المعطر (ورد في ألف ليلة وليلة باسم الصابون الممسّك نسبة إلى المسك). وكانت المادة الثانية هي الأشنان المأخوذ من نبات بري من الفصيلة الشوكية ويستعمله الفقراء العاجزون عن شراء الصابون. وللأشنان رغوة كرغوة الصابون وقدرة إزاحة مماثلة.
تنظيمات بغداد
ظهرت في بغداد شأن غيرها من حواضر الإسلام تنظيمات مهنية للعاملين في بعض القطاعات الاقتصادية وعرفت هذه التنظيمات بنفس اسمها الحالي وهو النقابة.
وكان الغرض الأرأس تدبير أمور الحرفة وضمان الأداء الأفضل وحل المشاكل الناجمة بين أهلها أو بينهم وبين الآخرين. ولم يكن لها دور ملموس في الدفاع عن مصالح العاملين ضد الدولة أو المخدومين من أرباب العمل وغيرهم.
وردتنا إشارات تدل على وجود مشيخة للصرافين ونقابة للدلالين كما وجدت
منظمات للشباب بلغت أرقى أشكالها في عهد الناصر لدين الله الذي أنشأ منظمة واسعة عالية التنظيم للفتيان. ويبدو أن التنظيم امتد إلى نشاطات اللصوص، وقد ذكر الجاحظ وغيره إسم شخصية بارزة من زعماء اللصوص في بغداد يدعى عثمان الخياط حاول أن يضع لجماعته قواعد انضباطية تذكرنا من بعض الوجوه بتعليمات بعض القادة الثوريين إلى مقاتليهم.. ويجدر بالذكر أن لصوص بغداد كانوا على إرتباط بحركات العامة وشكلوا معها في أوقات معينة جبهات عمل موجهة ضد السلطة أو للدفاع عن المدينة ضد المنقلبين العسكريين. ويخبرنا ابن الأثير أن زعيماً لإحدى عصابات اللصوص يدعى البُرْجُمي كان يتمتع بشعبية واسعة في بغداد حتى أن العامة ثاروا على خطيب الجمعة في أكبر جوامع المدينة وفرضوا عليه أن يخطب للبُرجُمي، أي أن يذكره في خطبة الجمعة بدلاً من الخليفة.
ومن المنظمات الهامة التي ظهرت في ذلك الحين نقابة العباسيين ونقابة الطالبيين وهما منظمتان أرستقراطيتان، أنشئتا لرعاية شؤون العباسيين والعلويين وقد تولت هاتان النقابتان ضبط أسماء أبناء العشيرتين من الأحياء والتحقق من أنسابهم ومتابعة أوضاعهم الاجتماعية وشؤون معيشتهم والدفاع عن مصالحهم. وكان لكل منهما نقيب تعينه الدولة.
على صعيد الخدمات الاجتماعية نجد صراعاً بين فقراء المدينة وسلطاتها
وأغنيائها وقد اتخذ الصراع من جانب الفقراء منحى مطلبياً.. أهل بغداد لم يتعاطفوا كثيراً مع الحركات الاجتماعية التي كانت تعصف بالعالم الإسلامي آنذاك. ويرجع ذلك إلى إن الأزمة المعاشية في المدينة لم تحتدم إلى حد تفجير صراع من المستوى الذي كانت تخوضه تلك الحركات. فالثروات الضخمة التي كانت تنصبّ في المدينة والازدهار الاقتصادي والنشاط الإنتاجي المتقدم قد جعل من الممكن للفقراء أن يحصلوا على الكفاف. ومما ساعد على ذلك بعض الإلتزام بتعاليم الشريعة المتعلقة بالضمان الاجتماعي والمتمثلة في الزكاة وعموم الصدقات وأفعال الخير. وقد أقيمت في أوقات متفرقة مطاعم شعبية تقدم الطعام المجاني للفقراء بينما ساهمت مقادير الزكاة وصدقة التطوع والأخماس في تخفيف الوطأة عنهم. وكان النضال المطلبي لأهل بغداد يدور في هذا الفلك، المطالبة بحقوق الفقراء المنصوص عليها في الشرع مع استنكار المبالغة في البذخ من جانب السلطة والأغنياء، والاحتجاج الجماهيري الموجه ضد موجات الغلاء.
وقد ترك المطلب الأول تأثيراً مباشراً على حركات اللصوص العيارين، فالمعروف أن السلطة الإسلامية بعد الراشدين لم تهتم كثيراً بجباية الزكاة وسمحت للأغنياء، منذ خلافة عثمان، أن يدفعوها بأنفسهم للمستحقين حيث أسقط عنها مفهوم الضريبة الإلزامية المتضمن في الشريعة. وما كانت تجمعه السلطة أحياناً من هذه الضريبة لم تكن توزعه على مستحقيه، وبالطبع فقد هبطت حصيلة الزكاة إلى أدنى منسوب لها بعد أن صارت قضية وازع ديني. وقد استند العيارون إلى أن أموال الأغنياء لم تعد ملكاً لهم لأنها مستهلكة بالزكاة المتراكمة عليهم.. وممن نظَّر لهم ذلك أبو نواس وكان هذا من النقاط المشتركة بين العياريين والعامة.
وفي خضم هذا الصراع، وبتأثير الوضع الحضاري للمدينة، كانت السلطة تقدم بعض الخدمات الاجتماعية للجمهور. وأفضل ما قدم هنا هو الخدمات الطبية، وقد تولت السلطة بنفسها إنشاء المستشفيات العامة التي تطبب مجاناً. وبني أحد المستشفيات بإشراف الرازي/ الفيلسوف المتزندق والطبيب العظيم المحب للفقراء.
وكان يتولى إدارة المستشفى بنفسه. ومن المستشفيات المشهورة المارستان
العضدي الذي أمر ببنائه في الجانب الغربي عضد الدولة البويهي أحد الحكام المرموقين في تاريخ بغداد الإسلامية. والمارستان هو الاسم الذي عرفت به المشافي حينذاك وهو فارسي مركب من كلمتين: مار بمعنى مريض، وستان وتعني مكان.. وقد استمر المارستان العضدي أمداً طويلاً تخلله إهمال وخراب، ولكنه قياسي بالنسبة للمستشفيات. ففي ترجمة الطبيب المعروف بإبن المارستانية “من عيون الانباء” قال إبن أبي أصيبعة أنه تولى النظر في شؤون المارستان العضدي. وابن المارستانية توفى عام 599 للهجرة، أي بعد أزيد من قرنين من إنشاء المستشفى المذكور..
ولدينا وصف حي لمستوى الخدمات الطبية كتبه الحاخام بنيامين الطليطلي الذي زار بغداد في منتصف القرن الخامس الهجري حين كانت قد تخلصت من حكم السلاجقة، والوصف كالآتي:
“شيد – الخليفة – أبنية على الضفة الثانية من النهر (الجانب الشرقي) تحتوي على بيوت كثيرة وشوارع منتظمة وملاذات للمرضى الذين يؤخذون إلى هناك للاستشفاء. ويوجد هناك نحو ستين عيادة، وكل مريض يطلب إعانة يطعم من حساب الخليفة إلى يوم شفائه. ويوجد بناء كبير يدعى المارستان يحجز فيه كل فاقدي الشعور وخصوصاً في الصيف حتى يعود إليهم رشدهم..”.
وهذا النمط من الخدمات استمر في الواقع طوال العمر الحضاري لبغداد ولكن مع تفاوت في المستوى وتقطعات ناجمة عن الاضطراب السياسي وسيطرة المتغلبين العسكريين من المماليك الأتراك والسلاجقة.
ثقافة بغداد
كانت بغداد أيضاً من حواضر الثقافة الإسلامية، وتبتدئ فعاليتها في هذا المضمار على يد مؤسسها نفسه. والمصادر تميل إلى اعتبار المنصور أول من ترجمت له علوم الأوائل من الهنود والفرس والسريان والإغريق. وكان للمنصور شغف خاص بالمثقفين حمله أحياناً على التغاضي عن نشاطاتهم المناوئة له. فقد صفح عن المفضل الضبي بعد انضمامه إلى حركة البصرة بقيادة إبراهيم بن عبد الله، وتغاضى عن بشار بن برد بعد قصيدته التي أعلن فيها تأييده لإبراهيم وتوعد المنصور بالهلاك، وعن أبو حنيفة الذي أيد إبراهيم أيضاً وأفتى أتباعه بالقتال معه، ولم ينكل به إلا بعد إن بقي مصراً على مقاطعته وعدم التعاون معه. وكانت خلافة المنصور حقبة غليان سياسي ساهم فيه المثقفون بنشاط كبير مما ألقى عليه عبء التوفيق بين سياسته الثقافية ومصلحة بقائه في الحكم. وكان له إعجاب خاص بشيخ المعتزلة في زمانه عمرو بن عبيد وبذل جهوداً لاستدراجه إلى جانبه لم تكلل بالنجاح. ورويت له أرجوزة يعترف فيها بصلابة هذا الرجل يقول مؤرخو الأدب أنها المرة الوحيدة التي مدح فيها خليفة أو ملك رجلاً عادياً.
وأصيبت العلاقة بين السلطة والمثقفين بانتكاسة في خلافة ابنه المهدي الذي أبدى حقداً دينياً على هذه الفئة انعكست في القمع الدموي الذي صبه عليها تحت ستار مكافحة الزندقة. لكن هذه السياسة تراجعت في خلافة الرشيد حيث نعم المثقفون برعاية كبيرة عمت الأدباء والمتكلمين والفقهاء والأطباء والمشتغلين بعلوم الطبيعة.
لكن فريقا من الفقهاء والمتكلمين واصلوا نهج أسلافهم في مقاطعة السلطة ولو دون أن يتعرضوا للمضايقة. وأسس الرشيد بيت الحكمة للترجمة والتأليف مبرهناً من خلال ذلك على العلاقة الديالكتيكية بين الحضارة الطبقية والطغيان. ثم جاءت القفزة في عهد المأمون الذي جمع بين شخصية المثقف وشخصية الحاكم، فبلغ غاية تطوره ليحتضن سيرورة ترجمة استوفت أمهات كتب الإغريق والفرس كما شهدت منعطفاً في سيرورة التأليف التي استمرت نشيطة حتى أفول الحضارة.
ومن منجزات المأمون احتضانه المعتزلة بعقلانيتها المتشددة التي حفزت الوعي الديني للخروج من قيد المأثور وفتحت له آفاق التفكير الحر في الأشياء. وقطع الفكر المعتزلي في هذا العهد شوطاً بعيداً في مسيرة نضجه. ولو أن ذلك تم على حساب الموقف السياسي للمعتزلة الأوائل. وكانت الثقافة لدى المأمون رهانه الخاص لإنشاء مملكة زاهية.
تطوّر التعليم
في هذه الأثناء تطور التعليم في بغداد متمشياً مع التطور الشامل في الأمصار الإسلامية الأخرى. وكان من وسائله في المراحل الأولى الكتاتيب وهي بمستوى المدارس الابتدائية، والمساجد التي تتلقف خريجي الكتاتيب ليدرسوا في حلقات يدير كلاً منها أستاذ متخصص في فنه. وكانت العلوم الطبيعية تدرس في مجالس أصحابها.
وكانت مجالس العلماء بمثابة الكليات المعاصرة ويحظى أصحابها بالدعم من السلطة ويحضرها الطلاب مقابل أجر أو بدونه. ولم يكن لهذا الدعم مردود سلبي لأن الدراسة في المساجد والمجالس العلمية كانت حرة وغير خاضعة لإشراف الدولة. وقد بقيت على هذه الحالة حتى تأسست المدارس العالية في العصر السلجوقي. كان ذلك حين أنشأ نظام الملك وزير السلاجقة في بغداد المدرسة التي سميت باسمه على الجانب الشرقي. ولم يكن المقصود بإنشاء هذه المدارس تطوير التعليم إنما السيطرة عليه.
وقد كرست النظامية لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة حصراً ولم يسمح لها بتدريس الفلسفة والطبيعيات. وينسجم هذا الترتيب مع سياسة نظام الملك السلفية المناوئة للفكر العقلاني ولجميع الفرق الإسلامية عدا أهل السنة. ولم تظفر المعرفة الإسلامية بحصيلة من هذه المدارس، لكن ظهورها يؤشر من جهة أخرى بداية الشكل الجامعي للتعليم في بغداد (التعليم الجامعي ظهر أولاً في القاهرة حين أسس الفاطميون الجامع الأزهر لتدريس العلوم الدينية والدنيوية، وهو قد يكون أول جامعة في التاريخ).
من معاهد العلم الأخرى دور الكتب التي كانت توفر أماكن للبحوث والمناظرة إلى جانب خدماتها للمطالعين. وكانت المكتبات تنشأ مستقلة أو ملحقة بالمدارس والمساجد. وكانت لدار الخلافة مكتبة كبرى خاصة بها. وقد ورد في تاريخ بناء المدرسة المستنصرية أنه نقل منها إلى المستنصرية ثمانون ألف كتاب كدفعة أولى لمكتبتها التي بُنيت معه. وتقدم دور الكتب خدماتها مجاناً وهي مفتوحة للعموم.
واعتمد عليها الباحثون في الحصول على مصادرهم غير ان ذلك لم يغنيهم عن اقتناء مصادرهم الخاصة بهم. وكانت المكتبات الشخصية من لوازم العمل الثقافي. وقد بلغ الولع بالكتب واقتنائها والمحافظة عليها في بغداد، كما في غيرها من حواضر الإسلام، حداً نسجت حوله الحكايات. وكثيراً ما يعثر المتصفح للمخطوطات على عبارات وأشعار يكتبها مالكو الكتب تعبر عن قيمة الكتاب عندهم ودرجة علاقتهم به.
وكانت لسوق الكتب في بغداد مكانتها بين أسواق المدينة. وقد عرفت هذه المهنة بالوراقة وأصحابها الوراقون وهو إصطلاح تمايز عن “الكتبي” المختص بالمكتبات. وكانت حوانيت الوراقة، شأن المكتبات، ملتقى للمثقفين.
من معاهد التعليم أيضا كانت المستشفيات التي جمعت بين التطبيب وتعليم الطب، كشأنها في العصر الحاضر. كما ظهرت مدارس طبية مستقلة عن المستشفيات، منها مدرسة الطب الملحقة بالمدرسة المستنصرية. ودرّس الطب أيضاً في المدارس الخاصة للأطباء والعلماء. وقد حقق أطباء بغداد منجزات هامة في حقل اختصاصهم تأتي في السياق العام للطب الإسلامي الذي يمثل مجموع المساهمات الموحدة للعصور أو الأقاليم الإسلامية. وكان من ذلك تطور الجراحة بإستعمال التخدير. وقد وردتنا إشارة إلى المخدر من عهد هارون الرشيد حيث يخبرنا أبو الفرج الأصفهاني في “مقاتل الطالبين” أن أحمد بن عيسى بن زيد كان مسجوناً بأمر الرشيد في بغداد فدبر أتباعه من الزيدية مكيدة لإخراجه من السجن تمت بوضع البنج في طعام قدموه للسجانين الذين غابوا عن الوعي فور تناولهم هذا الطعام (أنظر فصل أحمد بن عيسى بن زيد من الكتاب المذكور). وفي ترجمة الناصر لدين الله العباسي المتوفى عام 622 هـ أورد الصفدي في “نكْت الهيمان” أنه سقى المرقد ثلاث مرات شق فيها ذكره لاستخراج حصاة المثانة. وقد نجحت العملية في المرات الثلاثة كلها.
ويشير هذا الخبر إلى أنه سقي سائلاً مخدراً، وكانت هي الطريقة الشائعة في التخدير.
وعلى ذكر الناصر يقول الصفدي أن الماء الذي كان يشربه كان يؤتى به من خارج المدينة ويغلى سبع مرات قبل أن يقدم له، ونجد في ذلك فكرة مبكرة عن التعقيم.
وعرف البغادة كما عرف غيرهم من المسلمين علاقة البيئة بالصحة، وعلى هذا الأساس كانوا يختارون مواقع بناء المستشفيات، وللرازي قصة مشهورة في ذلك.
الصحة والفن في بغداد
من المنجزات الهامة لبغداد تأسيس الصيدليات. ويكشف كتاب أمريكي في تاريخ عن أن الصيدلة انفصلت HISTORY OF PHARMACY الصيدلة عنوانه عن الطب لأول مرة في بغداد حيث أنشئت الصيدلية المستقلة عن عيادة الطبيب من الكتاب المذكور وقد ظهر لقب صيدلاني ARAB MEDICINE إلى جانب عطار ليدل على هذا التخصص. وكانت الصيدلة مندمجة مع صناعة العطريات، ومن هنا كانت الدلالة المشتركة للقب “عطار” كصانع أو بائع عطور وأدوية على السواء. لكن ظهور اصطلاح “صيدلاني” يكرس تمايز الصيدلة عن العطارة ولو دون أن يؤدي بالضرورة إلى انفصالهما، على الأقل بالنسبة للبائع ومحل البيع.
خلافا للفكرة البسيطة من تحريم أو كراهية التصوير في الشرع الإسلامي، كان لبغداد نصيبها من الفنون التشكيلية. ثمة في الواقع ما يدل على أن الزخرفة والفسيفساء لم تكونا الفنين الوحيدين في بغداد . فمنذ وقت مبكر نسمع عن رسام معاصر لبشار بن برد يدعى حمدان المصور، بينما يدلنا تمثال الفارس المتحرك على قبة المدينة المدورة وتصاميم مراكب النزهة التي استوحت صور الحيوانات وتماثيل دار الشجرة التي سبق أن وصفناها، يدلنا في جملته على وجود قدر ملموس من فن النحت. وقد وردنا درهم من عهد المتوكل وعليه صورته منحوتة نحتاً بارزاً. ويستدل بعض النقاد المعاصرين من تراث يحيى الوسطي على وجود مدرسة بغدادية في الرسم. ويرجع الفضل في انحفاظ هذا التراث إلى وجوده في مخطوطات أتيح لها أن تخرج من بغداد قبل أن تمتد إليها يد العبث والغزو. ولو قدر لأكثر من هذا أن يسلم لكنا نملك اليوم ما يغير من النظرة السائدة حول التأثير المبالغ فيه لتحريم فن التصوير.. وتصدرت بغداد أمصار العالم الإسلامي –ربما عدا الأندلس– في الموسيقى والغناء. إن كتاب الأغاني لأبو الفرج الأصفهاني مكرس في جملته للغناء البغدادي، وعسى أن لا يذهب بنا الوهم إلى الغناء البغدادي هو ما نسمعه اليوم من ألحان محلية صرفة، فهذا هو موروث العصر العثماني المنقطع في الزمان والمكان والمعبر عن واقع تحلل حضاري.
أما العصر العباسي فلم يصلنا غناؤه لعدم تسجيل نوطاته. وقد نقل إلينا أبو حيان التوحيدي في “الإمتاع والمؤانسة” وقائع من حساسية أهل بغداد للغناء والموسيقى ربما كانت تشير إلى الرقي المتقابل في الذوق الفني لكل من الأداء والتلقي في مدينة تمتعت بقدر وافر من زهو الحضارة.
على صعيد الفن العسكري، كان لبغداد جيش نظامي استخدم أولاً لقمع الغير
واستخدم آخراً للدفاع عن المدينة بعد أن تمزقت الإمبراطورية وتحولت الخلافة العباسية إلى دولة – مدينة تقتصر على العاصمة وجوارها. ومن ممارسات العسكرية العباسية في الطور الأول إرسال قوة تدخل إلى الصين عام 138 بطلب من الإمبراطور سو تسونغ لمجابهة عصيان أدى إلى فقدانه العرش. وقد أعادت القوة العباسية الإمبراطور إلى عرشه، وكان قوامها أربعة آلاف. وكان المنصور قد أرسل هذه القوة قبل بناء بغداد وأبقاها سرا ولذلك لم تنكشف لنا إلا في العصر الحديث حيث تم الاطلاع على السجلات التاريخية الصينية التي روت هذا الحدث. وبدى نجاح هذه القوة القليلة العدد نسبياً في مهمتها على أنها كانت قوة منتخبة من جيش رفيع التنظيم والتدريب.
كان عدد الجيش البغدادي تبعاً لإحصائية من عهد المأمون مئة وخمسة وعشرين ألفاً. وكان يعتمد على التطوع إذ لم يواصل العباسيون أسلوب التجنيد الإجباري الذي اتبعه الأمويون. وكان راتب جندي المشاة تسعمائة وستين درهم في السنة عدا الطعام والمخصصات الأخرى، أما الفارس فيأخذ ضعفي هذا المبلغ. فهو جيش مرفه نسبياً، وقد لعب من خلال وضعه هذا دوره كجيش إمبراطوري قائم على التوسع والعدوان وقمع المعارضة.
وفي الطور الثاني كان الجيش البغدادي أقرب إلى العامة، وقد شاركته في حروبه الدفاعية عن المدينة. وكان الخليفة العباسي الذي يواجه غزواً خارجياً يوزع السلاح على العامة التي كانت تندفع في مقاتلتها للغزاة بنفس اندفاعها في مقاتلة السلطة أثناء الأزمات. وقد استطاع البغادة أن يهزموا الحصار المغولي الأول بالتعاون مع الجيش النظامي، حين كان للسلطة متمثلة في الخليفة ووزيره، نَفَس للمقاومة.
من الفنون العسكرية التي استخدمها الجيش البغدادي الملابس الصامدة للنار.
وكانت هذه الملابس تعالج بمادة الطلق بطريقة لم تصلنا تفاصيلها. والطلق مادة معدنية تشبه الزئبق توجد متلبدة في مكانها وهي غير قابلة للاحتراق. وعرف المسلمون هذه الخاصية فيها فكانوا يأتون بعروق الطلق ويسحنونه ويطلون به الشيء الذي يريدون تعريضه للنار. وقد استعمله الدراويش والسحرة لألعابهم النارية. واستعماله للأغراض العسكرية يرجع إلى عهد الرشيد، وكانت الخزانة العسكرية للدولة تحتفظ بمقادير منه على الدوام. وقد ورد ذكر الطلق في استجواب الوزير علي بن عيسى الذي اتهم بإرسال مقادير منه إلى قرامطة شرقي الجزيرة.
وكان لبغداد قوة نهرية ضاربة. كنت قد أشرت إلى أسطول النزهة والتجارة في دجلة وإلى العدد الكبير والمتنوع من سفنه وقواربه وأشير هنا إلى أن الأسطول الحربي كان كبيراً ومتنوعاً أيضاً. وقد استعملت فيه بعض المراكب المستعملة في الأسطول العادي كالسميريات والحراقات. واحتوى أيضاً على سفن حربية ضخمة هي البوارج. وقد جرت أول معركة نهرية في حرب الأمين والمأمون، لكن أضخم المعارك التي خاضها الأسطول البغدادي كانت في الحرب ضد الزنج في جنوب العراق. وكان مجال عمل الأسطول في دجلة والفرات ونهر عيسى. وفي إحدى الحروب مع القرامطة أرسل المقتدر خمسمائة سميرية عبر نهر عيسى لمنعهم من عبور الفرات بعد ما توغلوا فيه من جهة البصرة. ويبدو أن هذا الأسطول أخمد في الحقبة الأخيرة، إذ لم يرد له ذكر في حصار بغداد وسقوطها على يد هولاكو.
ابتدع البغادة في إحدى معاركهم الفاصلة ضد الغزاة نوعاً من القذائف سميت قوارير النفط الطيار. ويؤخذ من اسمها أنها قناني معبأة بالنفط الذي يشير وصفه بالطيار إلى إمكان اتصافه بسرعة الاشتعال. ومن الجدير هنا بالذكر أن النفط كان يستثمر تجارياً في العراق وكانت له دائرة تعني بشئونه. وكان الاستثمار يعتمد على مكامنه القريبة من السطح. وقد استعملت قوارير النفط الطيار في معارك الدفاع من بغداد ضد السلطان السلجوقي محمد شاه وبلغ عدد ما استعمل منها في تلك المعارك ثمانية عشر ألف قارورة، وانجلت المعارك عن هزيمة منكرة للسلطان السلجوقي. إن قوارير النفط الطيار التي استعملها البغادة عام 551 للهجرة هي سلف قريب لقنابل مولوتوف.
من المنشآت الدفاعية الهامة لبغداد سورها الأخير الذي بني عام 516 هـ. ويخبرنا ابن الجوزي في “مناقب بغداد” أنه شيد بجهد مشترك من السلطة والعامة. وكان السور يمتد هلالياً من باب المعظم الحالي ويتجه إلى حي الشيخ عمر ثم ينزل إلى حي باب الشيخ ومنه إلى الباب الشرقي. وكانت له أربع بوابات ويطوف حول السور خندق يأخذ من دجلة ويصب فيها. وكان للسور دور هام في عرقلة الإجتياح المغولي لكن ضعف إحدى بواباته المسماة برج العجمي (في موضع باب الشيخ الحالي) مكن المغول من أحداث ثغرة بمجانيقهم فدخلوا فيها.
انتهت بغداد الإسلامية بعد خمسمائة عام من تأسيسها. وكان سقوطها على يد هولاكو بداية النهاية لحضارة الإسلام التي استعصمتها في أكثر أحقابها ازدهاراً وسرعان ما فقدت المدينة معالم عمرها الحضاري تحت وطأة الغزوات المتعاقبة فلم يبق منها غير الذكريات التي حفظتها ألف ليلة وليلة.
* نُشر هذا المقال في العدد 328 في مجلة الثقافة الجديدة العراقية عام 2008، إلا أن العلوي يُشير إلى أن كتابته تعود إلى عام 1986 حيث كان يُقيم في دمشق. نشر المقال بالأساس تحت عنوان ”