فالح عبد الجبار يدافع عن هادي العلوي: عقلاني في زمن الانفلات
26 أيلول 2023
إن هادي العلوي يدافع عن القيم الإنسانية في تراثنا، ويسعى جاهداً إلى غرسها في عمق الوجدان العربي المعاصر، بهدف إنهاء "حق" تعذيب الإنسان.. كيف رد فالح عبد الجبار على اتهامات صحيفة "القبس" ضد هادي العلوي؟
يفرد فالح عبد الجبار أكثر من ألفي كلمة ليردّ فيها على كاتب في صحيفة “القبس” الكويتية رمّز إلى نفسه بالأحرف الأولى من اسمه، ليهاجم هادي العلوي، وكتابه “من تاريخ التعذيب في الإسلام”.
على عادته، لا ينجرّ عبد الجبار خلف المهاترات، ويتخذ الفرص لشرح الأفكار، أو التفكير في الأفكار نفسها عبر الكتابة.. وهكذا فعل، فقد نشر مقالته “العقاب البدني والتراث الإسلامي بين هادي العلوي وسلمان رشدي” على مجلة أدب ونقد في عدد 52 الصادرة في تشرين الثاني 1989، لتكون مقالة تردّ على التطرف المتصاعد، وإضعاف حجّة الكاتب والسخرية، والأهم من ذلك هو الغوص في فكر هادي العلوي، وطريقة رؤيته للتاريخ وأشخاصه وأحداثه.
في تفسيره لفكره، يكتب فالح عبد الجبار، أن أعمال هادي العلوي تعاملت مع الإسلام على أنه دين وحضارة وتاريخ في آنٍ معاً. وأن كتابات المفكر العراقي فيها نظرة “تمييز تطوري”، وفق اصطلاح عبد الجبار، الذي يرى أن العلوي نظر إلى التراث على أنه ظاهرة تتطور في سلسلة متصلة من التناقضات المستديمة الكامنة.
في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة هادي العلوي، يُعيد جمار نشر مقالة عبد الجبار عنه، لأنها تشرح الكثير من أفكار العلوي، وتدخل عميقاً إلى تفكيك منطقة في التفكير والكتابة.
منذ سنوات صدر للباحث العراقي، الأستاذ هادي العلوي، كتاب مكثف يعرض لواحدة من إشكاليات تراثنا القديم والمعاصر: التعذيب الجسدي. وافتتح الكتاب المعنون “من تاريخ التعذيب في الإسلام” ويقع في 77 صفحة بعد الإهداء: “إلى ضحايا التعذيب العنصري في معتقلات الفاشية والرجعية العربية”.
يحاول الكتاب في كثافته، أن يؤسس لوعي مناهض للتعذيب، يقوم على احترام الإنسان كقمة شاملة.
ويرتكز العلوي هنا، كما في أبحاث أخرى، إلى الصراعات الفكرية التي حفل بها تراثنا، مستخلصاً منها ما يخدم تعميق القيم الإنسانية في الوعي الجماعي العربي، الذي تتميّز مكوناته الراهنة، بضعف نسبي في العناصر المناهضة للتعذيب، المنفلت (لدى بعض الدول العربية والإسلامية جوائظ عالمية أولى في هذا الباب!).
للوهلة الأولى، ولمن يكتفي بقراءة الأغلفة (وثقافتنا، أو بوجه أصح: صحافتنا مبتلاة بقطع واسع من هؤلاء) يبدو أن العلوي يذهب إلى القول إن الإسلام بما هو إسلام حافل بالتعذيب. ويمكن اللعب على مثل هذا الإيهام بالاستناد إلى عنوان الكتاب: من تاريخ التعذيب في الإسلام.
وبوسع قارئ الأغلفة أن يستشيط غيظاً وأن يصرخ ويتوعد ويهتف: واسلاماه!
بيد أن تعبير “الإسلام” أو تعابير من قبيل: الفقه الإسلامي، الفرق في الإسلام، الخراج في الإسلام.. الخ، (وفي سوق الكتاب من أمثال العناوين) تقصد كما هو جلي دراسة ظاهرة معينة في التاريخ الإسلامي، أي التاريخ العربي وتاريخ الشعوب الأخرى منذ ظهور الإسلام. ويضع بعض الباحثين نقطة النهاية مع سقوط الخلافة العباسية، وآخرون مع سقوط الخلافة العثمانية، الخ. وإذا كان ثمة خلاف في التحقيب يمس نقطة المنتهى، فلا خلاف على المبتدى.
ولو رجعنا إلى أعمال العلوي لوجدنا إنه يفهم تعبير الإسلام على أنه دين وأنه حضارة وأنه تاريخ في آن معاً. بما يعنيه ذلك على الصعيد الديني من نظرة إيمانية للكون وللخالق ومن شعائر الطقوس، وبما يعنيه ذلك على الصعيد الديني من نظرة إيمانية للكون وللخالق ومن شعائر الطقوس، وبما يعنيه على الصعيد التاريخ من امتداد هذه الظاهرات في الزمان، وما حفلت به من صراع وتطور.
هذا التمييز لمفهوم الإسلام عند العلوي يجده المرء في كتاباته، وقد خص لها مبحثاً واسمه (الإسلام حكم الدين وحكم الحضارة، الذي نشر في وثائق ندوة طرابلس – لبنان) 1986، وبوسع القارئ الرجوع إليه، إن كانت غريزته التوثيقية بحاجة إلى يقين برهان مجسّد.
وهناك تمييز آخر يستشفّه القارئ من كتابات العلوي، وهو تمييز تطوري إن جان القول. وأعني به نظرة الباحث العلوي إلى تراثنا، كما إلى التراث العالمي بأسره، لا على أنه كتلة من صوان لا تمايز فيها ولا حياة، بل على أنه ظاهرة تتطور في سلسلة متصلة من التناقضات المستديمة الكامنة، كضرورة، في قلب ظاهرة، سيان إن تجلت هذه التناقضات في الفكر أم في السياسة، في الحياة الاجتماعية أم في الحياة الاقتصادية.
وفي الواقع ان نظرة سطحية إلى الأحداث الخارجية لتاريخنا كفيلة بتدعيم هذه الرؤية، فثمة أكثر من 70 فرقة إسلامية، والصراع الفكري (وأحياناً المسلح) لم ينقطع فيما بينها، وهناك الصراعات الكبيرة على السلطة، في عهد الخلفاء الراشدين، والصراع الأموي – العباسي والصراع داخل كل إمبراطورية، الصراع بين الفقه والفلسفة، والصراع بين المدارس الفقهية الخ، الخ، وليست هذه السمة محصورة بالتراث العربي – الإسلامي، بل هي قانون تاريخي يصح على سائر الحضارات، وينفي الادعاءات القائلة بسكونية الشرق الإسلامي.
وفي هذه الكنوز من التراث يحاول العلوي، شأن الكثير من الباحثين المعاصرين (مروة، تيزيني، مهدي عامل، بلوز، الخ) أن يستخلص عناصر العقلانية من هذا التراث المتناقض، لكيما يؤسس لوعي عقلاني معاصر لصيق بتراثه الخاص، ومنفتح على الإرث الإنساني القديم والمعاصر، وذلك في زمن انفلات النقيض (اللاعقلانية) انفلاتاً يذكرنا بالعصور المظلمة. وحسبنا الإشارة إلى مباحثه الهامة عن ابن الرازي وابن عربي، ونظرية الحركة الجوهرية عند الملا صدرا، ومباحثه الأخرى: المستطرف الجديد، قاموس التراث، وغيرها من الكتابات الجادة.
(إن العقل السلفي يرى إلى تراثنا من منظارة الواحدية، التي تضفي على التاريخ تماثلاً سريعاً.
إن كل معاينة لتراثنا على أنه كينونة متناقضة تثير رعب السلفيين الذين يعيشون في “الماضي التليد”، سالخين عنه عناصره المضيئة والعقلانية، وممجدين كل ما فيه من عتمة وبلادة.
وأي مسعى لإبراز العقلاني في تراثنا، ومسح تراب الأزمنة الغابرة عنه، هو في نظر السلفي هرطقة وزندقة تستحق الحرق، في الحد الأدنى.
إن دراكولا السلفي هذا يريد أن يفرض علينا بقوة الإرهاب، أن نرى إلى تراثنا كما يشتهي، لا كما جرى حقاً).
هذا المدخل، الطويل نوعاً ما ضروري لمخاطبة القاري بخصوص كلمة نشرتها جريدة “القبس” في ملحق العدد 7187 (في 31 تموز 1989) وهي مقالة غفل (تحمل الحرفين: ج.ف) وتطلع علينا بعنوان منذر، متوعد: سلمان رشدي يفرح العلوي!
والكلمة الروعة تتعلق بكتابي “من تاريخ التعذيب في الإسلام”. و”الاغتيال السياسي في الإسلام”.
وخلافاً لما تقتضيه الأعراف من عرض محتوى الكتاب قيد المعاينة ونقد هذا المحتوى، واستخلاص النتائج، وإصدار الأحكام، نراه يقيم عرفاً جديداً بالمقلوب: أولاً إصدار الحكم (بالحرق طبعاً) ثانياً بنيان دوافع الجريمة الأدبية الرهيبة، ثالثاً عرض مسوغات هذا الحكم.. كل ذلك دون إيراد مقتبس واحد من الكتاب. بل انه يعلن دون أدنى تردد “لا أجد من المجدي عرض تفاصيل الكتابين لماذا؟” إن مضمون ما يمكن أن يكون قد كتبه (ليلاحظ القاري صيغة ما يمكن أن يكون قد) “في هاتين الدراستين ليس بمستعصٍ على المرء أن يحذره”. (أغلب الظن: يحزره وليس يحذره).
نحن إذن إزاء “حزورة” ينبغي فك طلاسمها. لكن هذه الحزورات ليس لغزاً هيروغليفياً.
فما دام العلوي ماركسياً، وما دام عراقياً في المعارضة، فذلك قرار اتهام بحد ذاته. وبذا تزول الدهشة إزاء البداهة. فما كتبه العلوي لا يكتبه سوى “يهودي” “من جامعة تل أبيب” أو “مستشرق من لندن من يهود العراق”، وهو استمرار “لتراث القرامطة وباقي الباطنية” (هل كان القرامطة باطنيين؟) وفي كتاب العلوي أتحدث “السعودية القديمة والشيوعية الجديدة” ولا عجب في ذلك فهو لا “يقيم في دار السلام” (اتهموه بالسكن في براغ التي لم يزرها في حياته). أنه “نوع من سلمان رشدي” (يا سكاكين السلفية أتحدى!).
لماذا فعل هذا الماركسي – القرمطي – الباطني – اليهودي – المستشرق ما فعل؟
إنه “الانقياد لايدولوجيا الشيوعية” من مركز الأبحاث ومقره خارج “ديار السلام” في براغ. (علي حد علمي لا يوجد سوى مراسل للمركز في براغ). لا تنسوا أيضاً أن الشيوعية فقدت “طموحات التصدير” في عصر غورباتشوف، وعلى “القرامطة في براغ أو صوفيا البحث عن نسب في التاريخ العربي”.
هذا كلّه بعد لم يشبع نهم الكاتب (ج.ف) للكلام. هناك وراء كتب العلوي ارث ثالث هو “أرث الحزب الشيوعي العراقي الذي أسسه الإيرانيون والإسرائيليون” (الحزب تأسس في 1934 وإسرائيل عام 1948!!) هل رأيتم لماذا لا يجد ج.ف. ضرورة لعرض محتوى الكتابين فالجرم والبداهة صنوان! ولم العجب. فالباطنيون يشتغلون في الكي. جي . بي. والشيوعيون العراقيون من مؤسسي الباطنية. والقرامطة ثاروا لحساب الموساد، والكومنترن أسس الشعوبية في العصر العباسي!
هذه هي زبدة التجريم الذي يحتل نصف “الطقطوقة” التي نشرتها القبس بكل جدية مع صورتي الغلاف للكتابين المذكورين. لقد شطب الكاتب على القرامطة، والباطنية، والحركة الشعوبية، ودمجها بحركات سياسية معاصرة، وأصدر لها هوية تنظيمية واحدة تنطلق من مركز واحد. وكما قلت، فإنني أجزم أنه لم يقرأ الكتاب. لربما قلّب الصفحات، لكنه لم ير غير الغلاف وملحوظة الافتتاح.
جذور القمع (التعذيب)
أولاً: يرجع العلوي التعذيب لا إلى الأديان بما هي أديان، بل إلى الصراع الطبقي في المجتمع الذي تديره الدولة، فهو “أسبق ظهوراً في الدولة” (ص16) وهو موجه “في الأساس ضد الطبقات المنتجة لصالح الطبقة أو الطبقات السائدة”.
والصراع لا يقتصر على هاتين الجبهتين بل يتعداهما إلى صراع “داخل الطبقة السائدة أخذ شكل الاستثمار بثمار المنتجين. ومع نشوء حافز السلطة كقيمة مستقلة نسبياً عن وظيفة الدولة الاجتماعية ولا سيما في الشرق، يظهر صراع آخر يتمثل في التنافس على الاستئثار بالمزايا التي توفرها قيادة الدولة”.
ويؤرخ العلوي “أول تطبيق لهذا النوع من التعذيب.. إلى خلافة معاوية بن ابي سفيان” (ص12).
ثانياً: يرى العلوي أن التعذيب الجسدي السياسي لم يكن حالة مستمرة عند سائر الخلفاء الأمويين والعباسيين، بل يرى أنه إذ استمر، بعد معاوية، عند زياد بن ابيه “فقد انقطع في خلافة عمر بن عبد العزيز (ص13).، وتواصل على يد هشام بن عبد الملك وولاته في الأقالم (ص13).
أما خلفاء بني العباس، فقد استمر التعذيب عند بعضهم، وانقطع عند البعض الآخر، وراح خلفاء بني العباس هم أنفسهم ضحايا للتعذيب (ص20).
وسبب استمرار التعذيب، هنا أيضاً هو احتدام الصراع السياسي. فالعباسيون واجهوا معارضة متزايدة من نفس الجماعات التي عارضت الأمويين: الشيعة، الإمامية، والزيدية، الخوارج، المعتزلة.. وفرق أخرى ضمت الشيعة الإسماعيلية ولواحقها.. والخرمية والزنج، فضلاً عن المنافسين للخلفاء والخارجين عليهم طمعاً في السلطان” (ص15).
ثالثاً: لم يمر تيار التعذيب الجسدي السياسي دون مقاومة. فقد كان يواجه مقاومة من “جمهور المسلمين الذين اعتادوا حكم الخلفاء المقيد بالشرع” ومن “العرب الذين لم يتعودوا الخضوع لسلطة لا سيما سلطة مستبدة” و”معارضة أهل العراق المتمسكين بالولاء لعلي بن ابي طالب وأولاده” (ص17).
رابعاً: يعرض العلوي لموقف الرسول الكريم الذي يحرم تعذيب الحي وتشويه الميت مكرساً لها حيزاً واسعاً (ص35،36،37،38). كما يعرض موقف مختلف الفقهاء، السنة والشيعة، المعارض للتعذيب. بل أن موقف الفقهاء ينزع حتى إلى عدم رواية أخبار التعذيب كي لا تصير هذه حجة للإفراط والغلو (ص49).
خامساً: يشدد العلوي على أن التعذيب السياسي “ظل مقتصراً على الصراع الداخلي دون العلاقات الخارجية” (ص15) “هناك تمييز ملحوظ في المعاملة بين أسرى الحرب من الكفار وأسرى الحرب المسلمين. وكان الأسير الكافر يسترق أو يفادي أو يقتل بالوسائل الاعتيادية تبعاً لأحكام الشريعة في أسرى الحرب ولم تجر العادة على قتله تحت التعذيب” (ص15-16).
ما الذي نستخلصه من ذلك؟ إن جذور التعذيب اجتماعية – سياسية، وإنها ترتبط بعوامل الصراع الاجتماعي. وإنها تجلت في تاريخنا على شكل نزوع تيارين متناقضين، أحدهما يمارس التعذيب والآخر يناهضه. ويتضح من قراءة كتاب العلوي ان فقهاء المدارس الإسلامية وقفوا ضد التعذيب، مستندين إلى أحاديث الرسول كمرجع شرعي، ومنطلقين من موقف سياسي – اجتماعي مناهض لهذه الممارسة. وان عدداً من الخلفاء الحاكمين في الحقبتين الأموية والعباسية (ومعهم فتاوى فقهاء أتباع) وقفوا مع التعذيب الجسدي وتفننوا في ممارسته، وابتكار وسائل جديدة فجديدة: حمل الرؤوس المقطوعة (بدأه الأميون زمن معاوية) والضرب والجلد، وتقطيع الأوصال، وسلخ الجلود، والإعدام حرقاً، والحرق بالتنور، وقرض اللحم، وقلع الأظفار، الخ.
كما نرى، فان الفقهاء المعارضين والحكام الممارسين للتعذيب الجسدي السياسي ينتمون إلى حضارة واحدة بالمعنى الاجتماعي والمعرفي. كما ينتمون إلى دين واحد، بالمعنى الإيماني الواسع، أو اللاهوتي الضيق. مع ذلك، فقد افترقت مواقفهم إزاء قضية التعذيب الجسدي. فما الذي يثبته ذلك؟! إنه يثبت ببساطة وجود تضاد اجتماعي – سياسي – فكري داخل الكينونة التي نطلق عليها اسم الحضارة الإسلامية.
بعد هذا التوثيق لبعض جوانب كتاب العلوي، يمكن للقارئ ان يفهم الادعاءات الكاذبة من جانب “القبس”، وقولنا إن كاتبها لم يقرأ كتاب العلوي قط.
ويستطيع القاريء أن يدرك ذلك من الأقوال التالية التي يوردها الكاتب الغفل في جريدة القبس.
- فهو ينصح العلوي بالعودة إلى الصفحات النيرة من التراث حين نهى الرسول عن التعذيب، في حين ان العلوي يورد أحاديث الرسول حول تحريم التعذيب على مدى 5 صفحات متتالية (35-38). وينصحه أيضاً بأن يدرس أخلاق عمر وعلي اللذين رفضا التعذيب، في حين أن العلوي يشيد بعمر وعلي، وبعهد الخلفاء الراشدين عموماً (انظر ص13 مثلاً).
واضح انه كان الكاتب الغفل ليجرؤ على تقديم مثل هذه “النصائح” لو انه قرأ الكتاب.
وما كان له ان يرمي العلوي بتهمة تصوير تاريخ الإسلام على انه تاريخ تعذيب، لو انه قرأ التقدير الكبير الذي يسبغه العلوي على مواقف فقهاء المسلمين الداعية إلى التخفيف حتى في عقوبات الحدود.
وينبغي لي أن أتناول بإيجاز قضية أخرى. هي قضية العلاقة بين التعذيب والأديان عموماً. إن العلوي، كما أشرت يحيل إلى عوامل اجتماعية – سياسية. وهذا لا يقتصر على عصور الإسلام، بل يشمل حضارات أخرى حملت عقائد دينية مغايرة: التعذيب عند الآشوريين، التعذيب في أوروبا في العصور الوسطى، التعذيب في التبت (ضد الأقنان)، التعذيب في الصين (ص50-53).
ويرى العلوي ان فكرة القربان، والإبادة الجماعية، والعذاب الآخروي، الموجودة في عدد من الأديان السماوية وغير السماوية، قد استخدمت كذريعة لممارسة التعذيب. ولكن ذلك يرتبط بنشوء صراعات اجتماعية محددة، وليس بمجرد نشوء دين معين. والدليل على ذلك، كما أراه من قراءة الكتاب، هو روح التسامح التي يعرضها كتاب العلوي على الرسول الكريم الذي حرم.. إحراق الأحياء، أي عدم الإعدام بالنار، لأنه داخل في عذاب الآخرة، الذي يتولاه الله ولا يجوز للبشر ان يتشبه به فيه (ص64) وكذلك تسامح عمر وعلي وغيرهما من الخلفاء، حيث يقف هذا التوجه عندهم على أرضية القيم الأخلاقية والاجتماعية، ونرى ذلك بوضوح أيضاً من كون المسيحية الأولى، استناداً للعلوي، تخلو من قانون العقوبات اليهودي، بينما سلكت الكنيسة القروسطية سبيلاً آخر (ص67).
وفي حين ان القمع استشرى في الكنيسة الأوروبية، نجد ان الكنيسة الشرقية “لعبت دوراً أقرب إلى روح المسيح الأول” (ص68).
إن نزعة اختزال الدين إلى منظومة عقوبات، وتبسيطه إلى جملة تحريمات، ونزعه التشبه البشري بالعقاب الآخروي الإلهي نزعة قائمة عند عدد من الحكام، وهي تعمل، كما يرى العلوي، على بلورة شخصية نزاعة إلى ممارسة القمع غير المشروع، فيما لو توفرت ظروف اجتماعية مواتية لها. الأنكى من ذلك ان هذه النزعة تقدم نفسها في ثوب مقدس لتحمي “مشروعيتها”.
إن هذا الكتاب كما نرى هو إشادة بناء راسخ ينبذ التعذيب الجسدي المعاصر، المنفلت اليوم تحتن أسماء حسنى كثيرة، “إسلامية” و”اشتراكية” “عربية” أو “غير عربية”!!
إن العلوي يدافع عن القيم الإنسانية في تراثنا، ويسعى جاهداً إلى غرسها في عمق الوجدان العربي المعاصر، بهدف إنهاء “حق” تعذيب الإنسان.
وقد عبر العلوي عن هذا الموقف، المتماسك حتى النهاية، في المداخلة التي ألقاها في ندوة “البيريسترويكا عربياً” (مجلة النهج العدد 23-24) وأدان فيها القمع الستاليني والقمع في الصين، انطلاقاً من الدفاع عن الإنسان كقيمة شاملة. ولا مجال للقول إنه يفتح العين على “تعذيب” هنا، ويغلق العين الأخرى على “تعذيب” هناك.
أخيراً لا يمكن اتهام العلوي بأن ما يورده عن أحوال التعذيب ووقائعه هو مؤامرة تزوير حمراء حبكت خيوطها في الكومنترن. فالعلوي يرتكز على وقائع موثقة من مراجع لا يعرف كاتب القبس عنها سوى الاسم لا المضمون ومنها: الطبري، ابن الاثير، أبو الفرج الأصفهاني، اليعقوبي، الماوردي، السهيلي، ابن عبد البر، الدينوري، ابن طاووس، ابن النديم، ابن هشام، ابن كثير، المقريزي، ابن سعد، صحيح مسلم، الترمذي، سنن ابن ماجه، أبو داوود، ابن تيمية، الأقسراني الحنفي، أبو عبيد، أبو يعلى، الشاطبي، ابن عمار الكافي، ابن قدامه، أبو سعيد السيرافي الأقسراني، الجويني، المقدس، وأخيراً الغزالي العظيم..
إذا كان عمالقة كهؤلاء مزورون للتاريخ ومشنعون على التراث وجهلة فلماذا يكون قزم مثل (ج.ف) مصححاً للتراث وعارفاً به!
- في الذكرى السادسة والعشرين يُعيد جمار نشر مقالة “العقاب البدني والتراث الإسلامي بين هادي العلوي وسلمان رشدي” لفالح عبد الجبار، والتي نشرت على مجلة أدب ونقد في عدد 52 الصادرة في تشرين الثاني 1989.
بعنوان “العقاب البدني والتراث الإسلامي.. بين هادي العلوي وسلمان رشدي”
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
يفرد فالح عبد الجبار أكثر من ألفي كلمة ليردّ فيها على كاتب في صحيفة “القبس” الكويتية رمّز إلى نفسه بالأحرف الأولى من اسمه، ليهاجم هادي العلوي، وكتابه “من تاريخ التعذيب في الإسلام”.
على عادته، لا ينجرّ عبد الجبار خلف المهاترات، ويتخذ الفرص لشرح الأفكار، أو التفكير في الأفكار نفسها عبر الكتابة.. وهكذا فعل، فقد نشر مقالته “العقاب البدني والتراث الإسلامي بين هادي العلوي وسلمان رشدي” على مجلة أدب ونقد في عدد 52 الصادرة في تشرين الثاني 1989، لتكون مقالة تردّ على التطرف المتصاعد، وإضعاف حجّة الكاتب والسخرية، والأهم من ذلك هو الغوص في فكر هادي العلوي، وطريقة رؤيته للتاريخ وأشخاصه وأحداثه.
في تفسيره لفكره، يكتب فالح عبد الجبار، أن أعمال هادي العلوي تعاملت مع الإسلام على أنه دين وحضارة وتاريخ في آنٍ معاً. وأن كتابات المفكر العراقي فيها نظرة “تمييز تطوري”، وفق اصطلاح عبد الجبار، الذي يرى أن العلوي نظر إلى التراث على أنه ظاهرة تتطور في سلسلة متصلة من التناقضات المستديمة الكامنة.
في الذكرى السادسة والعشرين لوفاة هادي العلوي، يُعيد جمار نشر مقالة عبد الجبار عنه، لأنها تشرح الكثير من أفكار العلوي، وتدخل عميقاً إلى تفكيك منطقة في التفكير والكتابة.
منذ سنوات صدر للباحث العراقي، الأستاذ هادي العلوي، كتاب مكثف يعرض لواحدة من إشكاليات تراثنا القديم والمعاصر: التعذيب الجسدي. وافتتح الكتاب المعنون “من تاريخ التعذيب في الإسلام” ويقع في 77 صفحة بعد الإهداء: “إلى ضحايا التعذيب العنصري في معتقلات الفاشية والرجعية العربية”.
يحاول الكتاب في كثافته، أن يؤسس لوعي مناهض للتعذيب، يقوم على احترام الإنسان كقمة شاملة.
ويرتكز العلوي هنا، كما في أبحاث أخرى، إلى الصراعات الفكرية التي حفل بها تراثنا، مستخلصاً منها ما يخدم تعميق القيم الإنسانية في الوعي الجماعي العربي، الذي تتميّز مكوناته الراهنة، بضعف نسبي في العناصر المناهضة للتعذيب، المنفلت (لدى بعض الدول العربية والإسلامية جوائظ عالمية أولى في هذا الباب!).
للوهلة الأولى، ولمن يكتفي بقراءة الأغلفة (وثقافتنا، أو بوجه أصح: صحافتنا مبتلاة بقطع واسع من هؤلاء) يبدو أن العلوي يذهب إلى القول إن الإسلام بما هو إسلام حافل بالتعذيب. ويمكن اللعب على مثل هذا الإيهام بالاستناد إلى عنوان الكتاب: من تاريخ التعذيب في الإسلام.
وبوسع قارئ الأغلفة أن يستشيط غيظاً وأن يصرخ ويتوعد ويهتف: واسلاماه!
بيد أن تعبير “الإسلام” أو تعابير من قبيل: الفقه الإسلامي، الفرق في الإسلام، الخراج في الإسلام.. الخ، (وفي سوق الكتاب من أمثال العناوين) تقصد كما هو جلي دراسة ظاهرة معينة في التاريخ الإسلامي، أي التاريخ العربي وتاريخ الشعوب الأخرى منذ ظهور الإسلام. ويضع بعض الباحثين نقطة النهاية مع سقوط الخلافة العباسية، وآخرون مع سقوط الخلافة العثمانية، الخ. وإذا كان ثمة خلاف في التحقيب يمس نقطة المنتهى، فلا خلاف على المبتدى.
ولو رجعنا إلى أعمال العلوي لوجدنا إنه يفهم تعبير الإسلام على أنه دين وأنه حضارة وأنه تاريخ في آن معاً. بما يعنيه ذلك على الصعيد الديني من نظرة إيمانية للكون وللخالق ومن شعائر الطقوس، وبما يعنيه ذلك على الصعيد الديني من نظرة إيمانية للكون وللخالق ومن شعائر الطقوس، وبما يعنيه على الصعيد التاريخ من امتداد هذه الظاهرات في الزمان، وما حفلت به من صراع وتطور.
هذا التمييز لمفهوم الإسلام عند العلوي يجده المرء في كتاباته، وقد خص لها مبحثاً واسمه (الإسلام حكم الدين وحكم الحضارة، الذي نشر في وثائق ندوة طرابلس – لبنان) 1986، وبوسع القارئ الرجوع إليه، إن كانت غريزته التوثيقية بحاجة إلى يقين برهان مجسّد.
وهناك تمييز آخر يستشفّه القارئ من كتابات العلوي، وهو تمييز تطوري إن جان القول. وأعني به نظرة الباحث العلوي إلى تراثنا، كما إلى التراث العالمي بأسره، لا على أنه كتلة من صوان لا تمايز فيها ولا حياة، بل على أنه ظاهرة تتطور في سلسلة متصلة من التناقضات المستديمة الكامنة، كضرورة، في قلب ظاهرة، سيان إن تجلت هذه التناقضات في الفكر أم في السياسة، في الحياة الاجتماعية أم في الحياة الاقتصادية.
وفي الواقع ان نظرة سطحية إلى الأحداث الخارجية لتاريخنا كفيلة بتدعيم هذه الرؤية، فثمة أكثر من 70 فرقة إسلامية، والصراع الفكري (وأحياناً المسلح) لم ينقطع فيما بينها، وهناك الصراعات الكبيرة على السلطة، في عهد الخلفاء الراشدين، والصراع الأموي – العباسي والصراع داخل كل إمبراطورية، الصراع بين الفقه والفلسفة، والصراع بين المدارس الفقهية الخ، الخ، وليست هذه السمة محصورة بالتراث العربي – الإسلامي، بل هي قانون تاريخي يصح على سائر الحضارات، وينفي الادعاءات القائلة بسكونية الشرق الإسلامي.
وفي هذه الكنوز من التراث يحاول العلوي، شأن الكثير من الباحثين المعاصرين (مروة، تيزيني، مهدي عامل، بلوز، الخ) أن يستخلص عناصر العقلانية من هذا التراث المتناقض، لكيما يؤسس لوعي عقلاني معاصر لصيق بتراثه الخاص، ومنفتح على الإرث الإنساني القديم والمعاصر، وذلك في زمن انفلات النقيض (اللاعقلانية) انفلاتاً يذكرنا بالعصور المظلمة. وحسبنا الإشارة إلى مباحثه الهامة عن ابن الرازي وابن عربي، ونظرية الحركة الجوهرية عند الملا صدرا، ومباحثه الأخرى: المستطرف الجديد، قاموس التراث، وغيرها من الكتابات الجادة.
(إن العقل السلفي يرى إلى تراثنا من منظارة الواحدية، التي تضفي على التاريخ تماثلاً سريعاً.
إن كل معاينة لتراثنا على أنه كينونة متناقضة تثير رعب السلفيين الذين يعيشون في “الماضي التليد”، سالخين عنه عناصره المضيئة والعقلانية، وممجدين كل ما فيه من عتمة وبلادة.
وأي مسعى لإبراز العقلاني في تراثنا، ومسح تراب الأزمنة الغابرة عنه، هو في نظر السلفي هرطقة وزندقة تستحق الحرق، في الحد الأدنى.
إن دراكولا السلفي هذا يريد أن يفرض علينا بقوة الإرهاب، أن نرى إلى تراثنا كما يشتهي، لا كما جرى حقاً).
هذا المدخل، الطويل نوعاً ما ضروري لمخاطبة القاري بخصوص كلمة نشرتها جريدة “القبس” في ملحق العدد 7187 (في 31 تموز 1989) وهي مقالة غفل (تحمل الحرفين: ج.ف) وتطلع علينا بعنوان منذر، متوعد: سلمان رشدي يفرح العلوي!
والكلمة الروعة تتعلق بكتابي “من تاريخ التعذيب في الإسلام”. و”الاغتيال السياسي في الإسلام”.
وخلافاً لما تقتضيه الأعراف من عرض محتوى الكتاب قيد المعاينة ونقد هذا المحتوى، واستخلاص النتائج، وإصدار الأحكام، نراه يقيم عرفاً جديداً بالمقلوب: أولاً إصدار الحكم (بالحرق طبعاً) ثانياً بنيان دوافع الجريمة الأدبية الرهيبة، ثالثاً عرض مسوغات هذا الحكم.. كل ذلك دون إيراد مقتبس واحد من الكتاب. بل انه يعلن دون أدنى تردد “لا أجد من المجدي عرض تفاصيل الكتابين لماذا؟” إن مضمون ما يمكن أن يكون قد كتبه (ليلاحظ القاري صيغة ما يمكن أن يكون قد) “في هاتين الدراستين ليس بمستعصٍ على المرء أن يحذره”. (أغلب الظن: يحزره وليس يحذره).
نحن إذن إزاء “حزورة” ينبغي فك طلاسمها. لكن هذه الحزورات ليس لغزاً هيروغليفياً.
فما دام العلوي ماركسياً، وما دام عراقياً في المعارضة، فذلك قرار اتهام بحد ذاته. وبذا تزول الدهشة إزاء البداهة. فما كتبه العلوي لا يكتبه سوى “يهودي” “من جامعة تل أبيب” أو “مستشرق من لندن من يهود العراق”، وهو استمرار “لتراث القرامطة وباقي الباطنية” (هل كان القرامطة باطنيين؟) وفي كتاب العلوي أتحدث “السعودية القديمة والشيوعية الجديدة” ولا عجب في ذلك فهو لا “يقيم في دار السلام” (اتهموه بالسكن في براغ التي لم يزرها في حياته). أنه “نوع من سلمان رشدي” (يا سكاكين السلفية أتحدى!).
لماذا فعل هذا الماركسي – القرمطي – الباطني – اليهودي – المستشرق ما فعل؟
إنه “الانقياد لايدولوجيا الشيوعية” من مركز الأبحاث ومقره خارج “ديار السلام” في براغ. (علي حد علمي لا يوجد سوى مراسل للمركز في براغ). لا تنسوا أيضاً أن الشيوعية فقدت “طموحات التصدير” في عصر غورباتشوف، وعلى “القرامطة في براغ أو صوفيا البحث عن نسب في التاريخ العربي”.
هذا كلّه بعد لم يشبع نهم الكاتب (ج.ف) للكلام. هناك وراء كتب العلوي ارث ثالث هو “أرث الحزب الشيوعي العراقي الذي أسسه الإيرانيون والإسرائيليون” (الحزب تأسس في 1934 وإسرائيل عام 1948!!) هل رأيتم لماذا لا يجد ج.ف. ضرورة لعرض محتوى الكتابين فالجرم والبداهة صنوان! ولم العجب. فالباطنيون يشتغلون في الكي. جي . بي. والشيوعيون العراقيون من مؤسسي الباطنية. والقرامطة ثاروا لحساب الموساد، والكومنترن أسس الشعوبية في العصر العباسي!
هذه هي زبدة التجريم الذي يحتل نصف “الطقطوقة” التي نشرتها القبس بكل جدية مع صورتي الغلاف للكتابين المذكورين. لقد شطب الكاتب على القرامطة، والباطنية، والحركة الشعوبية، ودمجها بحركات سياسية معاصرة، وأصدر لها هوية تنظيمية واحدة تنطلق من مركز واحد. وكما قلت، فإنني أجزم أنه لم يقرأ الكتاب. لربما قلّب الصفحات، لكنه لم ير غير الغلاف وملحوظة الافتتاح.
جذور القمع (التعذيب)
أولاً: يرجع العلوي التعذيب لا إلى الأديان بما هي أديان، بل إلى الصراع الطبقي في المجتمع الذي تديره الدولة، فهو “أسبق ظهوراً في الدولة” (ص16) وهو موجه “في الأساس ضد الطبقات المنتجة لصالح الطبقة أو الطبقات السائدة”.
والصراع لا يقتصر على هاتين الجبهتين بل يتعداهما إلى صراع “داخل الطبقة السائدة أخذ شكل الاستثمار بثمار المنتجين. ومع نشوء حافز السلطة كقيمة مستقلة نسبياً عن وظيفة الدولة الاجتماعية ولا سيما في الشرق، يظهر صراع آخر يتمثل في التنافس على الاستئثار بالمزايا التي توفرها قيادة الدولة”.
ويؤرخ العلوي “أول تطبيق لهذا النوع من التعذيب.. إلى خلافة معاوية بن ابي سفيان” (ص12).
ثانياً: يرى العلوي أن التعذيب الجسدي السياسي لم يكن حالة مستمرة عند سائر الخلفاء الأمويين والعباسيين، بل يرى أنه إذ استمر، بعد معاوية، عند زياد بن ابيه “فقد انقطع في خلافة عمر بن عبد العزيز (ص13).، وتواصل على يد هشام بن عبد الملك وولاته في الأقالم (ص13).
أما خلفاء بني العباس، فقد استمر التعذيب عند بعضهم، وانقطع عند البعض الآخر، وراح خلفاء بني العباس هم أنفسهم ضحايا للتعذيب (ص20).
وسبب استمرار التعذيب، هنا أيضاً هو احتدام الصراع السياسي. فالعباسيون واجهوا معارضة متزايدة من نفس الجماعات التي عارضت الأمويين: الشيعة، الإمامية، والزيدية، الخوارج، المعتزلة.. وفرق أخرى ضمت الشيعة الإسماعيلية ولواحقها.. والخرمية والزنج، فضلاً عن المنافسين للخلفاء والخارجين عليهم طمعاً في السلطان” (ص15).
ثالثاً: لم يمر تيار التعذيب الجسدي السياسي دون مقاومة. فقد كان يواجه مقاومة من “جمهور المسلمين الذين اعتادوا حكم الخلفاء المقيد بالشرع” ومن “العرب الذين لم يتعودوا الخضوع لسلطة لا سيما سلطة مستبدة” و”معارضة أهل العراق المتمسكين بالولاء لعلي بن ابي طالب وأولاده” (ص17).
رابعاً: يعرض العلوي لموقف الرسول الكريم الذي يحرم تعذيب الحي وتشويه الميت مكرساً لها حيزاً واسعاً (ص35،36،37،38). كما يعرض موقف مختلف الفقهاء، السنة والشيعة، المعارض للتعذيب. بل أن موقف الفقهاء ينزع حتى إلى عدم رواية أخبار التعذيب كي لا تصير هذه حجة للإفراط والغلو (ص49).
خامساً: يشدد العلوي على أن التعذيب السياسي “ظل مقتصراً على الصراع الداخلي دون العلاقات الخارجية” (ص15) “هناك تمييز ملحوظ في المعاملة بين أسرى الحرب من الكفار وأسرى الحرب المسلمين. وكان الأسير الكافر يسترق أو يفادي أو يقتل بالوسائل الاعتيادية تبعاً لأحكام الشريعة في أسرى الحرب ولم تجر العادة على قتله تحت التعذيب” (ص15-16).
ما الذي نستخلصه من ذلك؟ إن جذور التعذيب اجتماعية – سياسية، وإنها ترتبط بعوامل الصراع الاجتماعي. وإنها تجلت في تاريخنا على شكل نزوع تيارين متناقضين، أحدهما يمارس التعذيب والآخر يناهضه. ويتضح من قراءة كتاب العلوي ان فقهاء المدارس الإسلامية وقفوا ضد التعذيب، مستندين إلى أحاديث الرسول كمرجع شرعي، ومنطلقين من موقف سياسي – اجتماعي مناهض لهذه الممارسة. وان عدداً من الخلفاء الحاكمين في الحقبتين الأموية والعباسية (ومعهم فتاوى فقهاء أتباع) وقفوا مع التعذيب الجسدي وتفننوا في ممارسته، وابتكار وسائل جديدة فجديدة: حمل الرؤوس المقطوعة (بدأه الأميون زمن معاوية) والضرب والجلد، وتقطيع الأوصال، وسلخ الجلود، والإعدام حرقاً، والحرق بالتنور، وقرض اللحم، وقلع الأظفار، الخ.
كما نرى، فان الفقهاء المعارضين والحكام الممارسين للتعذيب الجسدي السياسي ينتمون إلى حضارة واحدة بالمعنى الاجتماعي والمعرفي. كما ينتمون إلى دين واحد، بالمعنى الإيماني الواسع، أو اللاهوتي الضيق. مع ذلك، فقد افترقت مواقفهم إزاء قضية التعذيب الجسدي. فما الذي يثبته ذلك؟! إنه يثبت ببساطة وجود تضاد اجتماعي – سياسي – فكري داخل الكينونة التي نطلق عليها اسم الحضارة الإسلامية.
بعد هذا التوثيق لبعض جوانب كتاب العلوي، يمكن للقارئ ان يفهم الادعاءات الكاذبة من جانب “القبس”، وقولنا إن كاتبها لم يقرأ كتاب العلوي قط.
ويستطيع القاريء أن يدرك ذلك من الأقوال التالية التي يوردها الكاتب الغفل في جريدة القبس.
- فهو ينصح العلوي بالعودة إلى الصفحات النيرة من التراث حين نهى الرسول عن التعذيب، في حين ان العلوي يورد أحاديث الرسول حول تحريم التعذيب على مدى 5 صفحات متتالية (35-38). وينصحه أيضاً بأن يدرس أخلاق عمر وعلي اللذين رفضا التعذيب، في حين أن العلوي يشيد بعمر وعلي، وبعهد الخلفاء الراشدين عموماً (انظر ص13 مثلاً).
واضح انه كان الكاتب الغفل ليجرؤ على تقديم مثل هذه “النصائح” لو انه قرأ الكتاب.
وما كان له ان يرمي العلوي بتهمة تصوير تاريخ الإسلام على انه تاريخ تعذيب، لو انه قرأ التقدير الكبير الذي يسبغه العلوي على مواقف فقهاء المسلمين الداعية إلى التخفيف حتى في عقوبات الحدود.
وينبغي لي أن أتناول بإيجاز قضية أخرى. هي قضية العلاقة بين التعذيب والأديان عموماً. إن العلوي، كما أشرت يحيل إلى عوامل اجتماعية – سياسية. وهذا لا يقتصر على عصور الإسلام، بل يشمل حضارات أخرى حملت عقائد دينية مغايرة: التعذيب عند الآشوريين، التعذيب في أوروبا في العصور الوسطى، التعذيب في التبت (ضد الأقنان)، التعذيب في الصين (ص50-53).
ويرى العلوي ان فكرة القربان، والإبادة الجماعية، والعذاب الآخروي، الموجودة في عدد من الأديان السماوية وغير السماوية، قد استخدمت كذريعة لممارسة التعذيب. ولكن ذلك يرتبط بنشوء صراعات اجتماعية محددة، وليس بمجرد نشوء دين معين. والدليل على ذلك، كما أراه من قراءة الكتاب، هو روح التسامح التي يعرضها كتاب العلوي على الرسول الكريم الذي حرم.. إحراق الأحياء، أي عدم الإعدام بالنار، لأنه داخل في عذاب الآخرة، الذي يتولاه الله ولا يجوز للبشر ان يتشبه به فيه (ص64) وكذلك تسامح عمر وعلي وغيرهما من الخلفاء، حيث يقف هذا التوجه عندهم على أرضية القيم الأخلاقية والاجتماعية، ونرى ذلك بوضوح أيضاً من كون المسيحية الأولى، استناداً للعلوي، تخلو من قانون العقوبات اليهودي، بينما سلكت الكنيسة القروسطية سبيلاً آخر (ص67).
وفي حين ان القمع استشرى في الكنيسة الأوروبية، نجد ان الكنيسة الشرقية “لعبت دوراً أقرب إلى روح المسيح الأول” (ص68).
إن نزعة اختزال الدين إلى منظومة عقوبات، وتبسيطه إلى جملة تحريمات، ونزعه التشبه البشري بالعقاب الآخروي الإلهي نزعة قائمة عند عدد من الحكام، وهي تعمل، كما يرى العلوي، على بلورة شخصية نزاعة إلى ممارسة القمع غير المشروع، فيما لو توفرت ظروف اجتماعية مواتية لها. الأنكى من ذلك ان هذه النزعة تقدم نفسها في ثوب مقدس لتحمي “مشروعيتها”.
إن هذا الكتاب كما نرى هو إشادة بناء راسخ ينبذ التعذيب الجسدي المعاصر، المنفلت اليوم تحتن أسماء حسنى كثيرة، “إسلامية” و”اشتراكية” “عربية” أو “غير عربية”!!
إن العلوي يدافع عن القيم الإنسانية في تراثنا، ويسعى جاهداً إلى غرسها في عمق الوجدان العربي المعاصر، بهدف إنهاء “حق” تعذيب الإنسان.
وقد عبر العلوي عن هذا الموقف، المتماسك حتى النهاية، في المداخلة التي ألقاها في ندوة “البيريسترويكا عربياً” (مجلة النهج العدد 23-24) وأدان فيها القمع الستاليني والقمع في الصين، انطلاقاً من الدفاع عن الإنسان كقيمة شاملة. ولا مجال للقول إنه يفتح العين على “تعذيب” هنا، ويغلق العين الأخرى على “تعذيب” هناك.
أخيراً لا يمكن اتهام العلوي بأن ما يورده عن أحوال التعذيب ووقائعه هو مؤامرة تزوير حمراء حبكت خيوطها في الكومنترن. فالعلوي يرتكز على وقائع موثقة من مراجع لا يعرف كاتب القبس عنها سوى الاسم لا المضمون ومنها: الطبري، ابن الاثير، أبو الفرج الأصفهاني، اليعقوبي، الماوردي، السهيلي، ابن عبد البر، الدينوري، ابن طاووس، ابن النديم، ابن هشام، ابن كثير، المقريزي، ابن سعد، صحيح مسلم، الترمذي، سنن ابن ماجه، أبو داوود، ابن تيمية، الأقسراني الحنفي، أبو عبيد، أبو يعلى، الشاطبي، ابن عمار الكافي، ابن قدامه، أبو سعيد السيرافي الأقسراني، الجويني، المقدس، وأخيراً الغزالي العظيم..
إذا كان عمالقة كهؤلاء مزورون للتاريخ ومشنعون على التراث وجهلة فلماذا يكون قزم مثل (ج.ف) مصححاً للتراث وعارفاً به!
- في الذكرى السادسة والعشرين يُعيد جمار نشر مقالة “العقاب البدني والتراث الإسلامي بين هادي العلوي وسلمان رشدي” لفالح عبد الجبار، والتي نشرت على مجلة أدب ونقد في عدد 52 الصادرة في تشرين الثاني 1989.
بعنوان “العقاب البدني والتراث الإسلامي.. بين هادي العلوي وسلمان رشدي”