جيل الفراق 

ديمة ياسين

15 أيلول 2023

كل ما أعرفه أنني وفي أحيانٍ كثيرة أشعر بأن كل ذلك الظلام الذي مررت به أنا وجيلي أصبح لا يقارن بالظلام الذي مرّ به جيل الاحتلال والحرب الأهلية. بالنسبة لهم نحن جيل الخلاص. فالضياع والشتات ربما كانا أرحم من الموت "الرحيم" مع الجماعة - التي أصبحت "نحن" و"أنتم" و"هُم".. عن " جيل الفراق" في العراق..

أنا من جيل الفراق. جيل الأحلام الناقصة وقصص الحب البريئة التي لم تكتمل. نحن جيل مواليد السبعينات، الذين فتحنا أعيننا على حرب الثماني سنوات مع إيران، وكبرنا ونحن نرى لافتاتٍ سوداً تحمل أسماء ضحايا الحرب تغطي جدران البيوت. كنا نروي عطشنا ونحن عائدون من المدارس بأكل ثمار التوت والنبق التي كانت أشجارها الضخمة تظلل شوارع المدينة وأفرعها. نشرب مياهاً باردة من السبيل الذي يضعه الأهالي أمام بيوتهم، ليرتوي الناس ويترحّموا على أرواح الذين فُقدوا أو قُتلوا في حرب بلا جدوى.  

أنا من جيل احتفل بنهاية الحرب صيف عام 1988، في شوارع ضجت بالناس والأغاني والرقص لثلاثة أيام كاملة، بعد إعلان بيان وقف إطلاق النار. مارسنا احتفالاً آشورياً قديماً برش الماء على بعضنا البعض في شوارع العاصمة، غرباء جمعتهم الحرب وحدود مغلقة لثماني سنوات حوّلت العراق إلى سجن كبير مقفل على الملايين من أهله.  

لم تدمْ الفرحة طويلاً، وعادت طبول الحرب تقرع من جديد. لم نتنفّسْ سوى سنتين ينقصها ستة أيام فقط لتكتمل، ونعيد احتفالنا بالذكرى الثانية لانتهاء الحرب. لكن بدل أن نرشّ بعضنا بالماء هذه المرة، رُّش بلدنا بالدم مرة أخرى. احتل الجيش العراقي الكويت بأمر من صدام حسين. ثار العراقيون، فأعدمهم رجال صدام ودُفن الكثير منهم أحياءً. انسحب الجيش العراقي من الكويت، فارتكبت قوات التحالف الدولي مجزرة بجنوده وقطعاته في “طريق الموت السريع”. عاصفة الصحراء، الصدمة والترويع، أم المعارك، محافظة النداء، حرب الخليج الأولى، العقوبات الاقتصادية، وغيرها من العناوين أطلقت على أحداث حياتنا كأنها أفلام هوليوديّة، وكأن كل ما يحدث لنا كان تنقصه عناوين ليبرر دماءنا المسفوكة ومستقبلنا المسروق. 

أنا من جيل الهروب. نحن الذين اقتُلعنا من أرضنا على عجل، عسى أن ننجو من الجوع في أيام الحصار. حملنا في حقائبنا “ما خف وزنه وغلا ثمنه”، وتوجهنا إلى باصات وسيارات تحملنا الى الأردن، المعبر الوحيد الذي كان مفتوحاً أمام العراقيين، بعد أن أُغلقت أبواب العالم وشبابيكه في وجوهنا. ما زلتُ أذكر منظر البيوت وأشجار النخيل تبتعد عني شيئاً فشيئاً، وتغيبُ في الأفق حتى تتلاشى تماماً. ما زلتُ أذكر كلمات أمي وهي توصينا بقلة الكلام والإجابات القصيرة، التي لا تكشف ما نحمله من حُلي ذهبية، أخاطتها بطيّات ملابسنا، لنهربها خارج حدود العراق بعد أن منعتنا حكومتنا من نقل “ما غلا ثمنه” من ممتلكاتنا الخاصة، لكننا كنا من غير ذلك سنجوع في بلد غريب.  

على حدود العراق اصطفّ الرجال والشباب في صفٍّ واحد طويل للتفتيش، لا يرتدون سوى ملابسهم الداخلية، بينما عبثت امرأة بأجسادنا نحن الإناث في غرفة تفتيش النساء. المشهد نفسه، أعيد في حدود الأردن، صف طويل من رجال نصف عراة وغرفة للنساء تلمس فيها المفتشة صدورنا، وبين أفخاذنا تبحث عن أسرارنا المدفونة. 

هكذا بدأت الحكاية، أو ربما انتهت. حكاية جيلٍ بأكمله. ولدنا لنجد الحروب في انتظارنا، تذهب واحدة، فتترك الباب مفتوحاً لأخرى. كنا مراهقين أو على أعتاب سنّ العشرين. نرى الأسى في عيون أهالينا وخوفهم علينا من الضياع في بلدان لا يعرفون فيها أحداً. تحوّلنا فجأة الى عبء كبير عليهم، خاصة الإناث منا. فنحن أيضاً جيل عرائس الاغتراب. في ليلة وضحاها تحوّل الآباء والأمهات إلى باحثين عن “نصيب جيد” لبناتهم. وتعريف “النصيب الجيّد” هنا اعتمد لدى الكثيرين على جواز سفر وبلد إقامة الخطيب المستقبلي. أصبح الرجل الذي “نفذ بجلده” واستطاع الرحيل إلى خارج البلاد “بضاعة مرغوبة” ومشروع هروب ناجح من بلاد الحروب إلى بلاد المستقبل. هكذا بدأ “زواج الصالونات”. بدأه أمهات وآباء. تزوج الكثير منهم عن علاقات حب يحكونها لأولادهم وبناتهم، ثم يعرضون لهم/لهن صوراً ملونة لمشاريع أزواج وزوجات المستقبل.  

زيجات انتهى الكثير منها بالطلاق.  

أنا من جيل من رحل منه لم يعد. فبعد أن تركنا الأرض، أكلتها الحروب وأصبح من بقي منا فيها وقوداً لنيرانها. فغذينا بلاد الغربة بأحلامنا المبعثرة بين لغات جديدة نحاول إتقانها، ومجتمعات أكثرها لطفاً يستغل حاجتنا لبعض استقرار، فيرفع إيجارات البيوت أضعاف سعرها، وأغلبها يرى فينا “حرامية”، نسرق فرص العمل والضرائب ونزاحم “أهل البلد” على لقمة عيشهم. لذلك عندما شاهدنا احتلال بلادنا ينقل حياً مباشراً على الفضائيات، كنا مشوشين. فكل ما يحدث هو امتداد “منطقي” لكل تلك الحروب والأزمات التي شهدناها في حياتنا، لكن هل يعقل أن تستمر دوامة الخراب تلك وتزداد عمقاً وسواداً كل يوم؟  

تتشبّث أعيننا التي ودّعها النوم حينها بشاشاتٍ لا تتسع لحجم ذكرياتنا ومعرفتنا لتلك المدن التي تحولت الى منظر سينمائي متلفز من دخان ونار. لتلك القنابل التي أمطرت مدننا القديمة ومسحت آثار أقدامنا وأصابعنا وأنفاسنا عنها. كنتُ حينها أعمل في جامعة أمريكية في بلد عربي. كنا قبل سقوط بغداد بأيام نجمع أنفسنا، نحن العراقيين والعراقيات من موظفين/ات وطلاب في الجامعة لنشكل مجموعة ترفض دخول الاحتلال لبلادنا، واعين تماماً بأن ما نفعله هو ذو طابع معنوي فقط لن يغيّر أبداً من واقع الأشياء. كانت قوات الاحتلال تتقدّم في الأراضي العراقية وتقترب من العاصمة ويتناقل أخبارها الآخرون من غير العراقيين كأنها إحدى ألعاب الفيديو أو مسلسل حربي شيّق يتابعه الجميع. توقعات ورهانات وحلفان على أن بغداد لن تسقط، ستقاوم المحتل، وكأن دخول باقي العراق كان عادياً. كنا نسمع عبارات مثل “بغداد ستصدّهم! لن يستطيعوا دخولها. هؤلاء العلوج، لن يدخلوا بغداد”. مصطلح “العلوج” هو ما كان يردده محمد سعيد الصحاف، وزير الخارجية العراقي آنذاك، ليصف القوات الأمريكية، فيضْحَكُ العالم، ويبحث عن أصل كلمة “علوج”. صدّق البعضُ الوزيرَ ببذلته العسكرية ونكرانه لوصول الدبابات الأمريكية لأطراف بغداد. 

 صدام حسين، الرئيس العراقي، ظهر ببذلته العسكرية في أحد شوارع بغداد يُحييّ الناس وهم يلتفون حوله بالهتاف والأهازيج. منظر اعتدناه نحن الذين عاصرنا تلفزيون العراق الرسمي وجولات الرئيس في الشارع والبيوت والمدارس ليوزع “مكارمه” على شعب خائف صدّق أن “للحيطان آذاناً”. كان معظمنا يعرف أن من ظهر في الفيديو المسرب للرئيس هو “بديل” صدام حسين، شبيه الرئيس الذي كان يظهر في الأزمات بعد أن تعرضت “النسخة الأصلية” لمحاولات اغتيال عدة.  

عندما سمعتُ بدخول القوات الأمريكية لبغداد، دخلتُ مكتبي في الجامعة بسرعة وأغلقتُ الباب. شعرت بأنني قد سقطتُ في دوامة مظلمة لا قرار لها. كان الهواء ثقيلاً يجثم كالصخرة على صدري. توقف عقلي عن التفكير، فأي منطق هذا الذي يبيح كل هذا الظلم، ألم يكتفِ العالم من دمائنا؟ تركت مكتبي بسرعة كأنني أهرب من نفسي واتجهت الى كافيتريا الطلبة، حيث عادة ما نجتمع نحن العراقيين لنواسي بعضنا. كنت أبحث في الوجوه المخطوفة عن ناسي، عمَّن يفهم كل هذا الثقل الذي يجثم على صدري. تذكرتُ ما كنا نردّد في العراق مع كل حرب أو أزمة تحدث  “الموت مع الجماعة أرحم”، كنت أبحث عن الرحمة بين كل هذا الموت. وجدت جمعاً كبيراً من الناس يتحلقون حول شاشة تلفاز كبيرة في الكافيتريا. كان الهدوء والوجوم يعمّان المكان وصوت المذيع يردد اسم بغداد ما بين كلمات سريعة لاهفة، أو ربما تخيلتها أنا كذلك. كانت الشاشة تعرض صوراً لمواطنين عراقيين يبدو عليهم عوز وتعب الحصار يركضون حاملين كراسي ومستمسكات وأغراضاً مختلفة. يحملون كل ما يحمل من مبانٍ ودوائر حكومية، بينما تقف مدرعات الجيش الأمريكي وجنوده بخوذهم ورشاشاتهم متفرجين. لمحت من بين الطلاب بعض من أعرفهم فاقتربت أبحث عن الموت الرحيم معهم. قلتُ بصوت مخنوق: ما الذي يحدث؟ فأجاب أحدهم بوجوم: نهب وسلب لدوائر الحكومة. قلت بلا تفكير: لماذا؟ فجاء الرد من طالب عراقي لم يتجاوز عمره التاسعة عشرة، أعرفه لأنه كان من أشد المتحمسين لتجمعنا العراقي الشبه يومي، والذي بدأناه مع بدء إعلان عمليات الاجتياح، وكنت أعرف جيداً إنه لم يرَ العراق أبداً. جاء صوته بارداً، غريباً ومختلفاً ”جاء وقتنا، أم إنكم كنتم تظنون إنها ستدوم لكم؟”. توقف الزمن في تلك اللحظة تماماً وسمعت صوتي يقول: من تقصد؟ نحن مَن؟  

صمِتَ عقلي، لم أفكر حتى بمن بقي من عائلتي الممتدة هناك، لم أفكر بالأصدقاء والبيت. كل ما خطر في مخيلتي تلك اللحظة هي أشجار التوت والنبق والنخيل. لا أعرف لماذا، كأن ذكرياتي في العراق كله تجمعت بها. كان صوت نحيب جارتنا في بغداد، والتي فقدت أخاها في حرب إيران يتردد في أذني، نحيب سمعته كل يوم ولسنين طويلة من شباك غرفتي القريبة من شباك غرفتها. كنت أراها أحياناً صامتة تجلس تحت شجرة النبق الكبيرة في حديقة دارهم، ساهمة في الفراغ. لم أرها وهي تبكي أبداً، لكنني كنت أسمع نحيبها الذي يسمعه الناس في الحي، فيحكون قصة فقدانها لعقلها عندما سمعت خبر استشهاد أخيها التوأم في بداية الحرب. 

قال “كنتم تظنون إنها ستدوم لكم!” من نحن؟  

بقي طنين صافرة الإنذار الحقير في رأسي يعيد نفسه لسنوات كلما دخلت غرفة مظلمة أو أطفأت النور لأنام. لم آكل اللحم لسنين طويلة لأن رائحته كانت تذكرني برائحة اللحم البشري المحروق التي فاحت في شوارع حيّنا بعد أن قصفت قوات التحالف ملجأ العامرية عام 1991 وقتلت فيه ما يزيد على 400 من المدنيين. لا يزال صوت الألعاب النارية وشكل الدخان يرعبني رغم محاولاتي المستمرَّة بتذكير نفسي أنها تطلق للاحتفال لا للموت.  

بعد الاحتلال، بحثتُ في الناجين من الناس الذين أعرفهم فوجدت قصص قتل وتهجير وخطف واغتيالات تنتظرني، وقد أخذَت من أخذت منهم. لم أعُد إلى العراق حتى عام 2019، بعد 27 سنة من الغياب. عدت إلى شوارع تغيّرت واختلفت ملامحها. كان الناس يتظاهرون ضدّ من وصلوا الحكم بعد الاحتلال. كان من التقيت بهم هناك، يحملُ كلٌ منهم عشرات القصص عن فقدانهم لأحبة في الحرب الأهلية والتفجيرات، وعن جثث كانوا يمرون بها في طريقهم للمدارس. مرَّ عشرون عاماً على الاحتلال، وما زلت لا أعرف مَن “نحن” التي كان يقصدها ذلك الشاب العراقي. كل ما أعرفه أنني وفي أحيانٍ كثيرة أشعر بأن كل ذلك الظلام الذي مررت به أنا وجيلي أصبح لا يقارن بالظلام الذي مرّ به جيل الاحتلال والحرب الأهلية. بالنسبة لهم نحن جيل الخلاص. فالضياع والشتات ربما كانا أرحم من الموت “الرحيم” مع الجماعة – التي أصبحت “نحن” و”أنتم” و”هُم”. جماعات تولد جماعات. تُفرقنا طريقة التلقين رغم أننا مجموعون، كُلنا بلا استثناء، بالدوامة السوداء ذاتها، بعمقها الذي لا ينتهي.  

  • يندرج هذا النص ضمن دفتر “عشرون عاماً على الحرب على العراق” بمشاركة موقع “السفير العربي”  وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.  

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

أنا من جيل الفراق. جيل الأحلام الناقصة وقصص الحب البريئة التي لم تكتمل. نحن جيل مواليد السبعينات، الذين فتحنا أعيننا على حرب الثماني سنوات مع إيران، وكبرنا ونحن نرى لافتاتٍ سوداً تحمل أسماء ضحايا الحرب تغطي جدران البيوت. كنا نروي عطشنا ونحن عائدون من المدارس بأكل ثمار التوت والنبق التي كانت أشجارها الضخمة تظلل شوارع المدينة وأفرعها. نشرب مياهاً باردة من السبيل الذي يضعه الأهالي أمام بيوتهم، ليرتوي الناس ويترحّموا على أرواح الذين فُقدوا أو قُتلوا في حرب بلا جدوى.  

أنا من جيل احتفل بنهاية الحرب صيف عام 1988، في شوارع ضجت بالناس والأغاني والرقص لثلاثة أيام كاملة، بعد إعلان بيان وقف إطلاق النار. مارسنا احتفالاً آشورياً قديماً برش الماء على بعضنا البعض في شوارع العاصمة، غرباء جمعتهم الحرب وحدود مغلقة لثماني سنوات حوّلت العراق إلى سجن كبير مقفل على الملايين من أهله.  

لم تدمْ الفرحة طويلاً، وعادت طبول الحرب تقرع من جديد. لم نتنفّسْ سوى سنتين ينقصها ستة أيام فقط لتكتمل، ونعيد احتفالنا بالذكرى الثانية لانتهاء الحرب. لكن بدل أن نرشّ بعضنا بالماء هذه المرة، رُّش بلدنا بالدم مرة أخرى. احتل الجيش العراقي الكويت بأمر من صدام حسين. ثار العراقيون، فأعدمهم رجال صدام ودُفن الكثير منهم أحياءً. انسحب الجيش العراقي من الكويت، فارتكبت قوات التحالف الدولي مجزرة بجنوده وقطعاته في “طريق الموت السريع”. عاصفة الصحراء، الصدمة والترويع، أم المعارك، محافظة النداء، حرب الخليج الأولى، العقوبات الاقتصادية، وغيرها من العناوين أطلقت على أحداث حياتنا كأنها أفلام هوليوديّة، وكأن كل ما يحدث لنا كان تنقصه عناوين ليبرر دماءنا المسفوكة ومستقبلنا المسروق. 

أنا من جيل الهروب. نحن الذين اقتُلعنا من أرضنا على عجل، عسى أن ننجو من الجوع في أيام الحصار. حملنا في حقائبنا “ما خف وزنه وغلا ثمنه”، وتوجهنا إلى باصات وسيارات تحملنا الى الأردن، المعبر الوحيد الذي كان مفتوحاً أمام العراقيين، بعد أن أُغلقت أبواب العالم وشبابيكه في وجوهنا. ما زلتُ أذكر منظر البيوت وأشجار النخيل تبتعد عني شيئاً فشيئاً، وتغيبُ في الأفق حتى تتلاشى تماماً. ما زلتُ أذكر كلمات أمي وهي توصينا بقلة الكلام والإجابات القصيرة، التي لا تكشف ما نحمله من حُلي ذهبية، أخاطتها بطيّات ملابسنا، لنهربها خارج حدود العراق بعد أن منعتنا حكومتنا من نقل “ما غلا ثمنه” من ممتلكاتنا الخاصة، لكننا كنا من غير ذلك سنجوع في بلد غريب.  

على حدود العراق اصطفّ الرجال والشباب في صفٍّ واحد طويل للتفتيش، لا يرتدون سوى ملابسهم الداخلية، بينما عبثت امرأة بأجسادنا نحن الإناث في غرفة تفتيش النساء. المشهد نفسه، أعيد في حدود الأردن، صف طويل من رجال نصف عراة وغرفة للنساء تلمس فيها المفتشة صدورنا، وبين أفخاذنا تبحث عن أسرارنا المدفونة. 

هكذا بدأت الحكاية، أو ربما انتهت. حكاية جيلٍ بأكمله. ولدنا لنجد الحروب في انتظارنا، تذهب واحدة، فتترك الباب مفتوحاً لأخرى. كنا مراهقين أو على أعتاب سنّ العشرين. نرى الأسى في عيون أهالينا وخوفهم علينا من الضياع في بلدان لا يعرفون فيها أحداً. تحوّلنا فجأة الى عبء كبير عليهم، خاصة الإناث منا. فنحن أيضاً جيل عرائس الاغتراب. في ليلة وضحاها تحوّل الآباء والأمهات إلى باحثين عن “نصيب جيد” لبناتهم. وتعريف “النصيب الجيّد” هنا اعتمد لدى الكثيرين على جواز سفر وبلد إقامة الخطيب المستقبلي. أصبح الرجل الذي “نفذ بجلده” واستطاع الرحيل إلى خارج البلاد “بضاعة مرغوبة” ومشروع هروب ناجح من بلاد الحروب إلى بلاد المستقبل. هكذا بدأ “زواج الصالونات”. بدأه أمهات وآباء. تزوج الكثير منهم عن علاقات حب يحكونها لأولادهم وبناتهم، ثم يعرضون لهم/لهن صوراً ملونة لمشاريع أزواج وزوجات المستقبل.  

زيجات انتهى الكثير منها بالطلاق.  

أنا من جيل من رحل منه لم يعد. فبعد أن تركنا الأرض، أكلتها الحروب وأصبح من بقي منا فيها وقوداً لنيرانها. فغذينا بلاد الغربة بأحلامنا المبعثرة بين لغات جديدة نحاول إتقانها، ومجتمعات أكثرها لطفاً يستغل حاجتنا لبعض استقرار، فيرفع إيجارات البيوت أضعاف سعرها، وأغلبها يرى فينا “حرامية”، نسرق فرص العمل والضرائب ونزاحم “أهل البلد” على لقمة عيشهم. لذلك عندما شاهدنا احتلال بلادنا ينقل حياً مباشراً على الفضائيات، كنا مشوشين. فكل ما يحدث هو امتداد “منطقي” لكل تلك الحروب والأزمات التي شهدناها في حياتنا، لكن هل يعقل أن تستمر دوامة الخراب تلك وتزداد عمقاً وسواداً كل يوم؟  

تتشبّث أعيننا التي ودّعها النوم حينها بشاشاتٍ لا تتسع لحجم ذكرياتنا ومعرفتنا لتلك المدن التي تحولت الى منظر سينمائي متلفز من دخان ونار. لتلك القنابل التي أمطرت مدننا القديمة ومسحت آثار أقدامنا وأصابعنا وأنفاسنا عنها. كنتُ حينها أعمل في جامعة أمريكية في بلد عربي. كنا قبل سقوط بغداد بأيام نجمع أنفسنا، نحن العراقيين والعراقيات من موظفين/ات وطلاب في الجامعة لنشكل مجموعة ترفض دخول الاحتلال لبلادنا، واعين تماماً بأن ما نفعله هو ذو طابع معنوي فقط لن يغيّر أبداً من واقع الأشياء. كانت قوات الاحتلال تتقدّم في الأراضي العراقية وتقترب من العاصمة ويتناقل أخبارها الآخرون من غير العراقيين كأنها إحدى ألعاب الفيديو أو مسلسل حربي شيّق يتابعه الجميع. توقعات ورهانات وحلفان على أن بغداد لن تسقط، ستقاوم المحتل، وكأن دخول باقي العراق كان عادياً. كنا نسمع عبارات مثل “بغداد ستصدّهم! لن يستطيعوا دخولها. هؤلاء العلوج، لن يدخلوا بغداد”. مصطلح “العلوج” هو ما كان يردده محمد سعيد الصحاف، وزير الخارجية العراقي آنذاك، ليصف القوات الأمريكية، فيضْحَكُ العالم، ويبحث عن أصل كلمة “علوج”. صدّق البعضُ الوزيرَ ببذلته العسكرية ونكرانه لوصول الدبابات الأمريكية لأطراف بغداد. 

 صدام حسين، الرئيس العراقي، ظهر ببذلته العسكرية في أحد شوارع بغداد يُحييّ الناس وهم يلتفون حوله بالهتاف والأهازيج. منظر اعتدناه نحن الذين عاصرنا تلفزيون العراق الرسمي وجولات الرئيس في الشارع والبيوت والمدارس ليوزع “مكارمه” على شعب خائف صدّق أن “للحيطان آذاناً”. كان معظمنا يعرف أن من ظهر في الفيديو المسرب للرئيس هو “بديل” صدام حسين، شبيه الرئيس الذي كان يظهر في الأزمات بعد أن تعرضت “النسخة الأصلية” لمحاولات اغتيال عدة.  

عندما سمعتُ بدخول القوات الأمريكية لبغداد، دخلتُ مكتبي في الجامعة بسرعة وأغلقتُ الباب. شعرت بأنني قد سقطتُ في دوامة مظلمة لا قرار لها. كان الهواء ثقيلاً يجثم كالصخرة على صدري. توقف عقلي عن التفكير، فأي منطق هذا الذي يبيح كل هذا الظلم، ألم يكتفِ العالم من دمائنا؟ تركت مكتبي بسرعة كأنني أهرب من نفسي واتجهت الى كافيتريا الطلبة، حيث عادة ما نجتمع نحن العراقيين لنواسي بعضنا. كنت أبحث في الوجوه المخطوفة عن ناسي، عمَّن يفهم كل هذا الثقل الذي يجثم على صدري. تذكرتُ ما كنا نردّد في العراق مع كل حرب أو أزمة تحدث  “الموت مع الجماعة أرحم”، كنت أبحث عن الرحمة بين كل هذا الموت. وجدت جمعاً كبيراً من الناس يتحلقون حول شاشة تلفاز كبيرة في الكافيتريا. كان الهدوء والوجوم يعمّان المكان وصوت المذيع يردد اسم بغداد ما بين كلمات سريعة لاهفة، أو ربما تخيلتها أنا كذلك. كانت الشاشة تعرض صوراً لمواطنين عراقيين يبدو عليهم عوز وتعب الحصار يركضون حاملين كراسي ومستمسكات وأغراضاً مختلفة. يحملون كل ما يحمل من مبانٍ ودوائر حكومية، بينما تقف مدرعات الجيش الأمريكي وجنوده بخوذهم ورشاشاتهم متفرجين. لمحت من بين الطلاب بعض من أعرفهم فاقتربت أبحث عن الموت الرحيم معهم. قلتُ بصوت مخنوق: ما الذي يحدث؟ فأجاب أحدهم بوجوم: نهب وسلب لدوائر الحكومة. قلت بلا تفكير: لماذا؟ فجاء الرد من طالب عراقي لم يتجاوز عمره التاسعة عشرة، أعرفه لأنه كان من أشد المتحمسين لتجمعنا العراقي الشبه يومي، والذي بدأناه مع بدء إعلان عمليات الاجتياح، وكنت أعرف جيداً إنه لم يرَ العراق أبداً. جاء صوته بارداً، غريباً ومختلفاً ”جاء وقتنا، أم إنكم كنتم تظنون إنها ستدوم لكم؟”. توقف الزمن في تلك اللحظة تماماً وسمعت صوتي يقول: من تقصد؟ نحن مَن؟  

صمِتَ عقلي، لم أفكر حتى بمن بقي من عائلتي الممتدة هناك، لم أفكر بالأصدقاء والبيت. كل ما خطر في مخيلتي تلك اللحظة هي أشجار التوت والنبق والنخيل. لا أعرف لماذا، كأن ذكرياتي في العراق كله تجمعت بها. كان صوت نحيب جارتنا في بغداد، والتي فقدت أخاها في حرب إيران يتردد في أذني، نحيب سمعته كل يوم ولسنين طويلة من شباك غرفتي القريبة من شباك غرفتها. كنت أراها أحياناً صامتة تجلس تحت شجرة النبق الكبيرة في حديقة دارهم، ساهمة في الفراغ. لم أرها وهي تبكي أبداً، لكنني كنت أسمع نحيبها الذي يسمعه الناس في الحي، فيحكون قصة فقدانها لعقلها عندما سمعت خبر استشهاد أخيها التوأم في بداية الحرب. 

قال “كنتم تظنون إنها ستدوم لكم!” من نحن؟  

بقي طنين صافرة الإنذار الحقير في رأسي يعيد نفسه لسنوات كلما دخلت غرفة مظلمة أو أطفأت النور لأنام. لم آكل اللحم لسنين طويلة لأن رائحته كانت تذكرني برائحة اللحم البشري المحروق التي فاحت في شوارع حيّنا بعد أن قصفت قوات التحالف ملجأ العامرية عام 1991 وقتلت فيه ما يزيد على 400 من المدنيين. لا يزال صوت الألعاب النارية وشكل الدخان يرعبني رغم محاولاتي المستمرَّة بتذكير نفسي أنها تطلق للاحتفال لا للموت.  

بعد الاحتلال، بحثتُ في الناجين من الناس الذين أعرفهم فوجدت قصص قتل وتهجير وخطف واغتيالات تنتظرني، وقد أخذَت من أخذت منهم. لم أعُد إلى العراق حتى عام 2019، بعد 27 سنة من الغياب. عدت إلى شوارع تغيّرت واختلفت ملامحها. كان الناس يتظاهرون ضدّ من وصلوا الحكم بعد الاحتلال. كان من التقيت بهم هناك، يحملُ كلٌ منهم عشرات القصص عن فقدانهم لأحبة في الحرب الأهلية والتفجيرات، وعن جثث كانوا يمرون بها في طريقهم للمدارس. مرَّ عشرون عاماً على الاحتلال، وما زلت لا أعرف مَن “نحن” التي كان يقصدها ذلك الشاب العراقي. كل ما أعرفه أنني وفي أحيانٍ كثيرة أشعر بأن كل ذلك الظلام الذي مررت به أنا وجيلي أصبح لا يقارن بالظلام الذي مرّ به جيل الاحتلال والحرب الأهلية. بالنسبة لهم نحن جيل الخلاص. فالضياع والشتات ربما كانا أرحم من الموت “الرحيم” مع الجماعة – التي أصبحت “نحن” و”أنتم” و”هُم”. جماعات تولد جماعات. تُفرقنا طريقة التلقين رغم أننا مجموعون، كُلنا بلا استثناء، بالدوامة السوداء ذاتها، بعمقها الذي لا ينتهي.  

  • يندرج هذا النص ضمن دفتر “عشرون عاماً على الحرب على العراق” بمشاركة موقع “السفير العربي”  وبدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ.