التاريخ البديل للشعيرة العاشورائية: منابع الغلوّ والتسييس
03 أيلول 2023
بداية العشرينيات، أصدر مرجعان شيعيّان معروفان فتويَين ضدّ التطبير والضرب بالسلاسل، واتخذ شيخ الطائفة في دمشق موقفاً مماثلاً، لينشب جدال بينهم ومنافسيهم سمي بـ"الفتنة الشيعية الكبرى".. لكن مذّاك حصل الكثير.. عن منابع الغلوّ والتسييس والتاريخ البديل للشعيرة العاشورائية.
قبل الليلة الأولى من شهر محرم، تبدأ هيئات ومواكب كربلاء الحسينية بنصب سرادقها على أرصفة وحافات الطرق الداخلية المؤدية الى ضريحَي الحسين والعباس، ولدي الإمام علي ابن ابي طالب.
تمضي الأيام العشرة الأوائل من الشهر بمسيرات تردّد الهتافات والأشعار التي تسترجع ما مرّ به الحسين وأهل بيته في أحداث الطف في كربلاء وفق مرويات -جزء منها سياسي اجتماعي-، لتنتهي داخل الضريحين بفاصل من اللطم. وفي ليلة العاشر من محرّم “ليلة الطبك” توزّع مواكب وهيئات التطبير الحلوى تحضيراً لصباح النزف والدماء-التطبير/ ضرب الرؤوس بالسيوف-.
صبيحة اليوم العاشر، سينطلق الراكضون نحو كربلاء، في تقليد بدأه رجل الدين الميرزا صالح القزويني سنة 1300 هـ 1882 م، من داره بمنطقة طويريج على مبعدة حوالي 20 كيلومتراً.
في اليوم الثالث عشر من محرم تتجمع العشائر المحيطة بكربلاء بمواكب تمزج بين شعائر مدنية وأخرى قبلية إحياء لذكرى دفن الإمام، فتصير الأيام اللاحقة انتظاراً وتحضيراً لزيارة الأربعين.
بما تقدّم، يمكن اختزال تاريخ “الشعائر الحسينية” أو الشعائر الحسينية القديمة، لكنّ أخرى جديدة تظهر وتتطور باستمرار مثل التطيين والمشي على الجمر وأخرى غيرها؛ لتثير الجدل وتستدعي الاختلاف دون التركيز على المتغيّرات السياسية والفقهية التي أنتجتها أو ساعدت في ظهورها.
تحقيب الشعيرة
يعيد بعض مؤرخي المذهب الاثني عشري تاريخ الشعيرة الحسينية إلى تاريخ واقعة كربلاء نفسه، إلّا أن هذه جملة محايدة جداً، فالتاريخ الأنثروبولوجي الثقافي لهذه الشعائر لا بد أن يمر بتبدلات نتيجة متغيرات السلطة والتبادل الثقافي بين الشعوب.
والحال هذه، يمكن تلخيص الشعيرة العاشورائية بمرحلتين حاسمتين، الأولى هي التقليدية، أي استذكار الحسين على الطريقة السائدة بين محبيه وأبنائه في القرون التي تلت القرن الأول الهجري. أما الثانية، فهي مرحلة التأثّر الثقافي، والتي بدأ نشاطها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
والمشترك بين الحقبتين التي مرّت بهما الشعائر العاشورائية هو فاعل السياسة، فالشعائر أو الطقوس هي بالنهاية آليات ثقافية، وبالتالي فهي مجال خصب لتمرير المواقف السياسية.
ندب ومراثٍ شعرية
كانت الشعيرة قائمة على عناصر محددة في طورها الأول، كالندب وكتابة المراثي الشعرية، ثم تطوّرت بعد ذلك إلى زيارة قبر الإمام وقراءة سورة الفاتحة والتي بدأت، كما هو معروف، بحركة التوّابين التي قادها المختار الثقفي رافعاً شعار “يا لثارات الحسين”. ورغم ذلك، لم تسلم هذه الشعائر على بساطتها من قمع السلطات الأموية والعباسية وصولاً إلى حكم المتوكل العباسي الذي أمر بهدم قبر الحسين وتسويته بالأرض.
لم تشهد هذه العناصر تكثيفاً أو تطوراً واضحاً إلّا مع حكم البويهيين لبغداد وخصوصاً مع مدّة حكم معز الدولة البويهي 334 - 356هـ/945- 966 م، الذي ناصر الشيعة وحوّل الشعائر إلى عادة سنوية، فنزل في بغداد أول موكب عزاء “بالمعنى الحديث” سنة 351 هـ 963 م فأُغلقت الأسواق ولُبس السواد، وخرج الرجال حاسري الرؤوس حفاة الأقدام نهاراً إلى قبر الحسين في كربلاء، وخرجت النساء ليلاً وقد سوّدن وجوههن وحللن شعورهن يُردّدن مراثيَ حزينة، كان هذا، من جهة أخرى، أوَّل فعالية طقوسية تثير استقطابا طائفيا فأدّت، بسبب سبّ الصحابة الذي كان جزءاً من الطقس، الى صدامات بين الشيعة -أتباع الإمامية- والسُنة، غير أن نشاط الشعائر هذا قد انتهى مع مجيء السلاجقة للحكم 429 هـ 1037 م.
الصفويون وسياسات الدولة الأيدلوجية
على يد حكّام الدولة الصفوية -الإثني عشرية- 907 -1135 هـ 1501-1722 أعيد إنتاج الشعائر والطقوس الحسينية فتحوّلت، على يد رجال الدين، إلى أداة لنشر المذهب الإثني عشري، فغُرست داخل مدن إيران، وتعبّأت شيئاً فشيئاً، بثقافات فارسية.
هذه الطقوس ذات الحمولة الثقافية الفارسية أُعيد إنتاجها داخل المدن “المقدسة” في العراق منتصف القرن التاسع عشر مدفوعةً بالصراع الصفوي العثماني، إلّا أن نشاطها كان بالمجمل يقتصر على ساكني المدن المقدسة.
اكتملت عناصر وأركان هذه الطقوس بسبّ الصحابة، وانتشرت أكثر مع الصعود السكاني في العراق، اذ تشيّعت معظم العشائر السنية في وسط وجنوب العراق كنتيجة لنشاط رجال الدين الشيعة في استقطاب هذه العشائر ضمن أجواء الصراع سالف الذكر. فبدأت العشائر دخول المهرجان الطقوسي مع قَبَليّاتها الخاصة، فكان العباس بن علي رمزها ومحرّكها داخل الفعل الشعائري لما يمثله موقف العباس في مرويات الطَفّ من قيم تتطابق مع قيمهم وشعاراتهم كالنخوة والشجاعة والإيثار.
الشعائر والدولة
كانت عناصر الطقوسية الشيعية راسخة، مع تشكّل هيكل الدولة الحديثة في العراق عام 1921م كمواكب اللطم والتطبير والضرب بسلاسل الحديد والتشابيه والأهازيج، بموازاة دولة وطنية مركزية التفتت عنها الحوزة الشيعية، فصارت عناصر المعارضة: دولة/ سلطة وطائفة معارضة تمتلك شعائرها المتنوعة ورجال دين، إن لم يكونوا مؤيدين مباركين للشعائر والطقوس فهم لا يعارضونها، وهذا هو سياق رجال الدين الشيعة عبر التاريخ في ما يتعلق بالشعائر، لتنمو فكرة المظلومية الشيعية حتى عام 2003.
ساعد بذلك موقف الحكومات المتعاقبة، ففي الحقبة الملكية كانت دائماً ما تتعرّض هذه الطقوس للمنع أو الإباحة المشروطة، وبعدها أصدر عبد الكريم قاسم مرسوماً يمنع إقامة هذه الشعائر واستمرت سياسته مع العارفيَن، ثم أعقبتها سياسات حزب البعث الأشدّ، فحاولت السلطة إلغاء زيارة الأربعين في عام 1976، وفي العام التالي تكررت المحاولة فتحوّلت الى تظاهرة كبيرة ضد النظام واحتلّ الزوار مركز شرطة، وعلى إثره قامت الحكومة بحملة قمع كبيرة كانت نتيجتها اعتقال وإعدام المئات وتهجير الكثير من الرواديد ورؤساء المواكب بحجة تبيعتهم الفارسية، إلا أنه ورغم ذلك كانت هذه الطقوس تمارس ولو على نطاق محدود، ثم انتهت تقريباً بعد بداية الحرب العراقية الإيرانية عام 1980م.
فتنة الشعائر
عام 1926م أصدر المرجع أبو الحسن الأصفهاني في النجف ومهدي القزويني في البصرة فتويَين ضد التطبير والضرب بالسلاسل، واتخذ شيخ الطائفة في دمشق محسن الأمين موقفاً مماثلاً، لينشب جدال بينهم ومنافسيهم، نعته الكاتب العراقي جعفر الخليلي بـ”الفتنة الشيعية الكبرى”.
كان ذاك آخر جدال حقيقياً يتعلق بهذه الطقوس، فمذّاك والى الآن يتحكم بالشعائر/ الطقوس، الطقوس ذاتها، وهي بذاتها من تؤثر في إنتاج المواقف المضادّة لتلك العقلانية وأصحابها.
في السردية الشعائرية، يتحرّك غالبية المجتهدين الذين كانوا يدافعون عن الشعائر ويدفعون إليها كالتطبير والضرب بالسلاسل وغيرها، بدافع المصلحة مثل الهيمنة المذهبية، إضافة إلى المصالح الاقتصادية المترتبة عنها، في ظل متغيّر الدولة الحديثة التي نشأت في العراق، ليرتبط مفهوم الهوية الشيعية، من خلال هؤلاء المجتهدين، بهذه الشعائر/ الطقوس، وبالقصص الأسطورية عن الحسين والأئمة.
كربلاء والنجف: صراع المناطق والمراجع
تعد الشعيرة مجالاً حيوياً لإسقاط الصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي مجتمع كالعراقي، تتداخل وتعيش هذه العناصر بشكل استثنائي، لا تنحصر دراسة ظاهرة ثقافية فيه مثل الشعائر في فهم واحد لها، وللعلاقة بين النجف وكربلاء عناصر عدّة.
ركّز علي الوردي على الصراع بين مناطق العراق ومدنه بشكل كبير وأطلق على هذه العصبيات التقليدية تسمية “صراع البلدات”، الّا أن في القصة الكربلائية-النجفية اختلافات كبيرة جوهرها صراع بين رؤى مذهبية شيعية صار لاحقاً صراعاً بين مرجعيتين شيعيتين.
في كربلاء، صنع الشيرازيون سردية الصراع وأداروها بشكل كبير، فيما مثلت النجف الخط العقلاني بين طرفي هذا المستجد في المذهب الشيعي.
يتبنى الشيرازيون، وهم أسرة دينية معروفة صارت لهم في ما بعد مرجعية في كربلاء، خطّ المغالاة بالطقوس والشعائر، ويتبنون أيضاً المرويات الأكثر جدلاً مثل سبّ الصحابة وزوجات نبي الإسلام والدفاع عن كل شعيرة أياً كان شكلها، فيذهبون لمباركتها ولعن منتقدَيها وتفسيقهم.
يعتقد الشيرازيون أن المدينة التي دُفن فيها الحسين والعباس هي مقر التشيّع، وهي مدينة ثورية حسب أدبياتهم لا مدينة غارقة بعلم الكلام تنتج سياسيين على الطريقة الغربية مثل النجف، في إشارة إلى حزب الدعوة، وبالتالي لابد أن يكون مركز المرجعية عندهم.
مثّل حزب الدعوة للشيرازيين “صيغة غربية ديمقراطية في التنظيم”، وقد اتخذوا موقفاً سلبياً من رجال الدين الذين أخذوا تأييدا من مرجعية النجف في ما يتعلق بتأسيس حزب الدعوة فرفعوا شعار “لا للحزبية … نعم للمرجعية”.
هذا الانقسام الأيدلوجي/العقائدي/ البلدياتي / الأسري، ألقى بظلاله على حقل الشعائر، فصار الشيرازيون بقيادة حسن الشيرازي ومحمد الشيرازي يتهمون حزب الدعوة ومرجعيته بمعارضة الممارسات الشعائرية “التطبير والضرب بالسلاسل”.
تحوّلت الهيئات الكربلائية البسيطة التي اشتغل عليها الشيرازيون تنظيميا من أجل مواجهة أنموذج النجف إلى هيئات تطبير وضرب بالسلاسل، وفي يوم العاشر عام 1965م، هجمت مجموعة كبيرة من أتباع الشيرازي على مؤسسة خيرية تابعة لحزب الدعوة في كربلاء وقاموا باقتحامها وتخريبها بحجة معاداة الشعائر.
على الرغم من موقف الشيرازيين من التحزّب، شكّلوا في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم حركتهم السياسية “حركة الوفاق الإسلامية” وأعيد إحياؤها بعد 2003 فسجلت كحزب سياسي ودخلت الانتخابات المحلية والنيابية في أكثر من دورة. إلّا أنهم لم يحصدوا أصواتاً، فازداد تركيزهم على هذه الشعائر.
تتبنّى ولاية الفقيه، التي كان الشيرازيون مؤيدين لها ببداية الثورة الإسلامية في إيران، موقفاً سلبياً حازماً ضد الشعائر، من دون أن يؤثر على هيمنتها، لأنها بالنهاية ولاية فقيه حاكمة للدولة، أما في العراق فالأمر مختلف بشكل كبير وحساس بشكل أكبر.
حقبة جديدة
قرابة عام بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين، بدأ الموسم العاشورائي الأول، كانت الفوضى السياسية والأمنية هوية تلك السنة، في وقت كان المراجع ورجال الدين الشيعة يتحضّرون لكربلاء، ليعيدوا إنتاجها كعاصمة للطقوسية الشيعية، ساعد على ذلك الاستقطاب الطائفي والطبقة السياسية الجديدة الباحثة حينها عن شرعيّة تؤطر عملها السياسي. فكانت الشعائر حينها كثيفة الحضور.
على امتداد تاريخ الشعائر/ الطقوس الحسينية، لم يكن ثمة نقاش حول مكان إقامتها، فالمدن التي يقدّسها الشيعة، كلها مؤهلة، إلّا أن عملية صناعة كربلاء بوصفها مركزا للشعيرة الحسينية لم يتمظهر بشكله المعروف اليوم إلا بعد عام 2003، ما يحيل لدلائل على رؤية النظام السياسي والمؤسسات الدينية المتحالفة معه لهذه الشعائر، فإبراز مدينة واحدة تعيش تدفقا مركّزاً من الجمهور، فكرة مناسبة لصناعة فضاء جماهيري يمتصّ النظام السياسي منه وجهاً من المشروعية. وخلال مختلف الحقب، هذه المرة الأولى التي تتأطّر فيها الطقوس مؤسساتياً.
صار خطاب المؤامرة على المذهب والشعيرة هو التقنية الدفاعية، التي من خلالها يتم كسب الناس سياسياً وتبرير أخطاء الحكّام، وهو بالنهاية جزء من سياسات الدولة الجديدة في صدّ الناس عن الرؤية الواقعية للأحداث، فما توقفت أن تزداد كثافة طقوس محرم إلى الحد الذي يثير العجب والجدال كل عام.
انتصار الأنموذج الشيرازي
يوفر الخطاب السياسي والديني الذي تلا عام 2003م الهاجس المناسب للتحشيد الطائفي لصالح هذه الطقوس مع صمت وتخادم مضمر بين هذا الخطاب وبين الصوت العقلاني المفترض، فأنتج الشيرازيون ودعموا مؤسسات إعلامية غنية جدا (الإسراء ميديا وفضائية الإمام الحسين وغيرها الكثير) وصار لهم تأثير ينتج ويوجّه الخطاب الشعائري: صنعوا “رواديد” صاروا نجوما بل ومتحكمين، يتصدّرهم باسم الكربلائي الذي يرتقي القداسة بالنسبة للنظام السياسي/ المذهبي، ويحظى باحترام الجمع الشيعي. فـ”المُلا” بوصفه نجماً يمثل الأنموذج الشيرازي، صار أيقونة الشعائر بطورها المُغالي الحديث، وإن كان شيرازيا يشتم الصحابة على المنابر.
تبييض أخلاقي على تيك توك
بالتوازي مع الخراب السياسي والخدمي، وتخلّف القطاعين التعليمي والصحي، أنتج النظام الجديد الهجين اقتصاداً مشوهاً وشبكات زبائنية مرتبطة بالمزاج الطائفي في العراق، فظهرت ونَمَت جماعات مالية ضخمة مرتبطة بكبار النظام السياسي/ الديني/ المذهبي، إحدى وظائفها تبييض هذه الأموال أخلاقياً/ مذهبياً من خلال دعم المزاج الطائفي ونشاطاته كبناء الحسينيات وفتح الهيئات ودعمها بالمال.
على جميع الطرق المؤدية إلى كربلاء توجد الآلاف من الحسينيات والمواكب التي تتبارى في ما بينها بالبذخ مع مواسم عاشوراء، الكثير منها إن لم تكن لسياسيين أو رجال دين أو تجار متحالفين/مستفيدين معهم، فهي مدعومة منهم.
هذه التقنيات الخطابية والدعم المالي الكبير للشعائر صنعت هوساً في فكرة الشعائر.
هذه الشعائر، إضافة الى كونها فعّالية مسيسة تنتج أغراضا تبتغيها المؤسسات الدينية والسياسية على سواء، صارت علامة من علامات عصر الميديا الحديث، أبطالُها يوظّفون أي فعل من أجل كسب المزيد من التفاعل والمشاهدات، فصارت صناعة المشاهير والنجوم السطحيين الاستعراضيين في رحاب الشعائر أو صارت الشعائر في فضائها، لتفتح الاحتمالات كلها، على أشكال جديدة محتملة، أكثر غلوّاً وغرابةً من المشي على الجمر ومواكب كلاب رُقيّة والتطيين والإيقاعات الراقصة، وستكون هناك مرجعيات ورجال دين يباركونها ويفسّقون منتقديها.
اعتمد هذا المقال على عدّة كتب، “العمامة والأفندي” لفالح عبد الجبار، “تراجيديا كربلاء” لإبراهيم الحيدري، “شيعة العراق” لإسحق نقاش، “العراق” لحنا بطاطو، و”سوسيولوجيا المقدس” لفيليب ميلور وكريس شلنج.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
قبل الليلة الأولى من شهر محرم، تبدأ هيئات ومواكب كربلاء الحسينية بنصب سرادقها على أرصفة وحافات الطرق الداخلية المؤدية الى ضريحَي الحسين والعباس، ولدي الإمام علي ابن ابي طالب.
تمضي الأيام العشرة الأوائل من الشهر بمسيرات تردّد الهتافات والأشعار التي تسترجع ما مرّ به الحسين وأهل بيته في أحداث الطف في كربلاء وفق مرويات -جزء منها سياسي اجتماعي-، لتنتهي داخل الضريحين بفاصل من اللطم. وفي ليلة العاشر من محرّم “ليلة الطبك” توزّع مواكب وهيئات التطبير الحلوى تحضيراً لصباح النزف والدماء-التطبير/ ضرب الرؤوس بالسيوف-.
صبيحة اليوم العاشر، سينطلق الراكضون نحو كربلاء، في تقليد بدأه رجل الدين الميرزا صالح القزويني سنة 1300 هـ 1882 م، من داره بمنطقة طويريج على مبعدة حوالي 20 كيلومتراً.
في اليوم الثالث عشر من محرم تتجمع العشائر المحيطة بكربلاء بمواكب تمزج بين شعائر مدنية وأخرى قبلية إحياء لذكرى دفن الإمام، فتصير الأيام اللاحقة انتظاراً وتحضيراً لزيارة الأربعين.
بما تقدّم، يمكن اختزال تاريخ “الشعائر الحسينية” أو الشعائر الحسينية القديمة، لكنّ أخرى جديدة تظهر وتتطور باستمرار مثل التطيين والمشي على الجمر وأخرى غيرها؛ لتثير الجدل وتستدعي الاختلاف دون التركيز على المتغيّرات السياسية والفقهية التي أنتجتها أو ساعدت في ظهورها.
تحقيب الشعيرة
يعيد بعض مؤرخي المذهب الاثني عشري تاريخ الشعيرة الحسينية إلى تاريخ واقعة كربلاء نفسه، إلّا أن هذه جملة محايدة جداً، فالتاريخ الأنثروبولوجي الثقافي لهذه الشعائر لا بد أن يمر بتبدلات نتيجة متغيرات السلطة والتبادل الثقافي بين الشعوب.
والحال هذه، يمكن تلخيص الشعيرة العاشورائية بمرحلتين حاسمتين، الأولى هي التقليدية، أي استذكار الحسين على الطريقة السائدة بين محبيه وأبنائه في القرون التي تلت القرن الأول الهجري. أما الثانية، فهي مرحلة التأثّر الثقافي، والتي بدأ نشاطها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
والمشترك بين الحقبتين التي مرّت بهما الشعائر العاشورائية هو فاعل السياسة، فالشعائر أو الطقوس هي بالنهاية آليات ثقافية، وبالتالي فهي مجال خصب لتمرير المواقف السياسية.
ندب ومراثٍ شعرية
كانت الشعيرة قائمة على عناصر محددة في طورها الأول، كالندب وكتابة المراثي الشعرية، ثم تطوّرت بعد ذلك إلى زيارة قبر الإمام وقراءة سورة الفاتحة والتي بدأت، كما هو معروف، بحركة التوّابين التي قادها المختار الثقفي رافعاً شعار “يا لثارات الحسين”. ورغم ذلك، لم تسلم هذه الشعائر على بساطتها من قمع السلطات الأموية والعباسية وصولاً إلى حكم المتوكل العباسي الذي أمر بهدم قبر الحسين وتسويته بالأرض.
لم تشهد هذه العناصر تكثيفاً أو تطوراً واضحاً إلّا مع حكم البويهيين لبغداد وخصوصاً مع مدّة حكم معز الدولة البويهي 334 - 356هـ/945- 966 م، الذي ناصر الشيعة وحوّل الشعائر إلى عادة سنوية، فنزل في بغداد أول موكب عزاء “بالمعنى الحديث” سنة 351 هـ 963 م فأُغلقت الأسواق ولُبس السواد، وخرج الرجال حاسري الرؤوس حفاة الأقدام نهاراً إلى قبر الحسين في كربلاء، وخرجت النساء ليلاً وقد سوّدن وجوههن وحللن شعورهن يُردّدن مراثيَ حزينة، كان هذا، من جهة أخرى، أوَّل فعالية طقوسية تثير استقطابا طائفيا فأدّت، بسبب سبّ الصحابة الذي كان جزءاً من الطقس، الى صدامات بين الشيعة -أتباع الإمامية- والسُنة، غير أن نشاط الشعائر هذا قد انتهى مع مجيء السلاجقة للحكم 429 هـ 1037 م.
الصفويون وسياسات الدولة الأيدلوجية
على يد حكّام الدولة الصفوية -الإثني عشرية- 907 -1135 هـ 1501-1722 أعيد إنتاج الشعائر والطقوس الحسينية فتحوّلت، على يد رجال الدين، إلى أداة لنشر المذهب الإثني عشري، فغُرست داخل مدن إيران، وتعبّأت شيئاً فشيئاً، بثقافات فارسية.
هذه الطقوس ذات الحمولة الثقافية الفارسية أُعيد إنتاجها داخل المدن “المقدسة” في العراق منتصف القرن التاسع عشر مدفوعةً بالصراع الصفوي العثماني، إلّا أن نشاطها كان بالمجمل يقتصر على ساكني المدن المقدسة.
اكتملت عناصر وأركان هذه الطقوس بسبّ الصحابة، وانتشرت أكثر مع الصعود السكاني في العراق، اذ تشيّعت معظم العشائر السنية في وسط وجنوب العراق كنتيجة لنشاط رجال الدين الشيعة في استقطاب هذه العشائر ضمن أجواء الصراع سالف الذكر. فبدأت العشائر دخول المهرجان الطقوسي مع قَبَليّاتها الخاصة، فكان العباس بن علي رمزها ومحرّكها داخل الفعل الشعائري لما يمثله موقف العباس في مرويات الطَفّ من قيم تتطابق مع قيمهم وشعاراتهم كالنخوة والشجاعة والإيثار.
الشعائر والدولة
كانت عناصر الطقوسية الشيعية راسخة، مع تشكّل هيكل الدولة الحديثة في العراق عام 1921م كمواكب اللطم والتطبير والضرب بسلاسل الحديد والتشابيه والأهازيج، بموازاة دولة وطنية مركزية التفتت عنها الحوزة الشيعية، فصارت عناصر المعارضة: دولة/ سلطة وطائفة معارضة تمتلك شعائرها المتنوعة ورجال دين، إن لم يكونوا مؤيدين مباركين للشعائر والطقوس فهم لا يعارضونها، وهذا هو سياق رجال الدين الشيعة عبر التاريخ في ما يتعلق بالشعائر، لتنمو فكرة المظلومية الشيعية حتى عام 2003.
ساعد بذلك موقف الحكومات المتعاقبة، ففي الحقبة الملكية كانت دائماً ما تتعرّض هذه الطقوس للمنع أو الإباحة المشروطة، وبعدها أصدر عبد الكريم قاسم مرسوماً يمنع إقامة هذه الشعائر واستمرت سياسته مع العارفيَن، ثم أعقبتها سياسات حزب البعث الأشدّ، فحاولت السلطة إلغاء زيارة الأربعين في عام 1976، وفي العام التالي تكررت المحاولة فتحوّلت الى تظاهرة كبيرة ضد النظام واحتلّ الزوار مركز شرطة، وعلى إثره قامت الحكومة بحملة قمع كبيرة كانت نتيجتها اعتقال وإعدام المئات وتهجير الكثير من الرواديد ورؤساء المواكب بحجة تبيعتهم الفارسية، إلا أنه ورغم ذلك كانت هذه الطقوس تمارس ولو على نطاق محدود، ثم انتهت تقريباً بعد بداية الحرب العراقية الإيرانية عام 1980م.
فتنة الشعائر
عام 1926م أصدر المرجع أبو الحسن الأصفهاني في النجف ومهدي القزويني في البصرة فتويَين ضد التطبير والضرب بالسلاسل، واتخذ شيخ الطائفة في دمشق محسن الأمين موقفاً مماثلاً، لينشب جدال بينهم ومنافسيهم، نعته الكاتب العراقي جعفر الخليلي بـ”الفتنة الشيعية الكبرى”.
كان ذاك آخر جدال حقيقياً يتعلق بهذه الطقوس، فمذّاك والى الآن يتحكم بالشعائر/ الطقوس، الطقوس ذاتها، وهي بذاتها من تؤثر في إنتاج المواقف المضادّة لتلك العقلانية وأصحابها.
في السردية الشعائرية، يتحرّك غالبية المجتهدين الذين كانوا يدافعون عن الشعائر ويدفعون إليها كالتطبير والضرب بالسلاسل وغيرها، بدافع المصلحة مثل الهيمنة المذهبية، إضافة إلى المصالح الاقتصادية المترتبة عنها، في ظل متغيّر الدولة الحديثة التي نشأت في العراق، ليرتبط مفهوم الهوية الشيعية، من خلال هؤلاء المجتهدين، بهذه الشعائر/ الطقوس، وبالقصص الأسطورية عن الحسين والأئمة.
كربلاء والنجف: صراع المناطق والمراجع
تعد الشعيرة مجالاً حيوياً لإسقاط الصراعات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي مجتمع كالعراقي، تتداخل وتعيش هذه العناصر بشكل استثنائي، لا تنحصر دراسة ظاهرة ثقافية فيه مثل الشعائر في فهم واحد لها، وللعلاقة بين النجف وكربلاء عناصر عدّة.
ركّز علي الوردي على الصراع بين مناطق العراق ومدنه بشكل كبير وأطلق على هذه العصبيات التقليدية تسمية “صراع البلدات”، الّا أن في القصة الكربلائية-النجفية اختلافات كبيرة جوهرها صراع بين رؤى مذهبية شيعية صار لاحقاً صراعاً بين مرجعيتين شيعيتين.
في كربلاء، صنع الشيرازيون سردية الصراع وأداروها بشكل كبير، فيما مثلت النجف الخط العقلاني بين طرفي هذا المستجد في المذهب الشيعي.
يتبنى الشيرازيون، وهم أسرة دينية معروفة صارت لهم في ما بعد مرجعية في كربلاء، خطّ المغالاة بالطقوس والشعائر، ويتبنون أيضاً المرويات الأكثر جدلاً مثل سبّ الصحابة وزوجات نبي الإسلام والدفاع عن كل شعيرة أياً كان شكلها، فيذهبون لمباركتها ولعن منتقدَيها وتفسيقهم.
يعتقد الشيرازيون أن المدينة التي دُفن فيها الحسين والعباس هي مقر التشيّع، وهي مدينة ثورية حسب أدبياتهم لا مدينة غارقة بعلم الكلام تنتج سياسيين على الطريقة الغربية مثل النجف، في إشارة إلى حزب الدعوة، وبالتالي لابد أن يكون مركز المرجعية عندهم.
مثّل حزب الدعوة للشيرازيين “صيغة غربية ديمقراطية في التنظيم”، وقد اتخذوا موقفاً سلبياً من رجال الدين الذين أخذوا تأييدا من مرجعية النجف في ما يتعلق بتأسيس حزب الدعوة فرفعوا شعار “لا للحزبية … نعم للمرجعية”.
هذا الانقسام الأيدلوجي/العقائدي/ البلدياتي / الأسري، ألقى بظلاله على حقل الشعائر، فصار الشيرازيون بقيادة حسن الشيرازي ومحمد الشيرازي يتهمون حزب الدعوة ومرجعيته بمعارضة الممارسات الشعائرية “التطبير والضرب بالسلاسل”.
تحوّلت الهيئات الكربلائية البسيطة التي اشتغل عليها الشيرازيون تنظيميا من أجل مواجهة أنموذج النجف إلى هيئات تطبير وضرب بالسلاسل، وفي يوم العاشر عام 1965م، هجمت مجموعة كبيرة من أتباع الشيرازي على مؤسسة خيرية تابعة لحزب الدعوة في كربلاء وقاموا باقتحامها وتخريبها بحجة معاداة الشعائر.
على الرغم من موقف الشيرازيين من التحزّب، شكّلوا في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم حركتهم السياسية “حركة الوفاق الإسلامية” وأعيد إحياؤها بعد 2003 فسجلت كحزب سياسي ودخلت الانتخابات المحلية والنيابية في أكثر من دورة. إلّا أنهم لم يحصدوا أصواتاً، فازداد تركيزهم على هذه الشعائر.
تتبنّى ولاية الفقيه، التي كان الشيرازيون مؤيدين لها ببداية الثورة الإسلامية في إيران، موقفاً سلبياً حازماً ضد الشعائر، من دون أن يؤثر على هيمنتها، لأنها بالنهاية ولاية فقيه حاكمة للدولة، أما في العراق فالأمر مختلف بشكل كبير وحساس بشكل أكبر.
حقبة جديدة
قرابة عام بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط نظام صدام حسين، بدأ الموسم العاشورائي الأول، كانت الفوضى السياسية والأمنية هوية تلك السنة، في وقت كان المراجع ورجال الدين الشيعة يتحضّرون لكربلاء، ليعيدوا إنتاجها كعاصمة للطقوسية الشيعية، ساعد على ذلك الاستقطاب الطائفي والطبقة السياسية الجديدة الباحثة حينها عن شرعيّة تؤطر عملها السياسي. فكانت الشعائر حينها كثيفة الحضور.
على امتداد تاريخ الشعائر/ الطقوس الحسينية، لم يكن ثمة نقاش حول مكان إقامتها، فالمدن التي يقدّسها الشيعة، كلها مؤهلة، إلّا أن عملية صناعة كربلاء بوصفها مركزا للشعيرة الحسينية لم يتمظهر بشكله المعروف اليوم إلا بعد عام 2003، ما يحيل لدلائل على رؤية النظام السياسي والمؤسسات الدينية المتحالفة معه لهذه الشعائر، فإبراز مدينة واحدة تعيش تدفقا مركّزاً من الجمهور، فكرة مناسبة لصناعة فضاء جماهيري يمتصّ النظام السياسي منه وجهاً من المشروعية. وخلال مختلف الحقب، هذه المرة الأولى التي تتأطّر فيها الطقوس مؤسساتياً.
صار خطاب المؤامرة على المذهب والشعيرة هو التقنية الدفاعية، التي من خلالها يتم كسب الناس سياسياً وتبرير أخطاء الحكّام، وهو بالنهاية جزء من سياسات الدولة الجديدة في صدّ الناس عن الرؤية الواقعية للأحداث، فما توقفت أن تزداد كثافة طقوس محرم إلى الحد الذي يثير العجب والجدال كل عام.
انتصار الأنموذج الشيرازي
يوفر الخطاب السياسي والديني الذي تلا عام 2003م الهاجس المناسب للتحشيد الطائفي لصالح هذه الطقوس مع صمت وتخادم مضمر بين هذا الخطاب وبين الصوت العقلاني المفترض، فأنتج الشيرازيون ودعموا مؤسسات إعلامية غنية جدا (الإسراء ميديا وفضائية الإمام الحسين وغيرها الكثير) وصار لهم تأثير ينتج ويوجّه الخطاب الشعائري: صنعوا “رواديد” صاروا نجوما بل ومتحكمين، يتصدّرهم باسم الكربلائي الذي يرتقي القداسة بالنسبة للنظام السياسي/ المذهبي، ويحظى باحترام الجمع الشيعي. فـ”المُلا” بوصفه نجماً يمثل الأنموذج الشيرازي، صار أيقونة الشعائر بطورها المُغالي الحديث، وإن كان شيرازيا يشتم الصحابة على المنابر.
تبييض أخلاقي على تيك توك
بالتوازي مع الخراب السياسي والخدمي، وتخلّف القطاعين التعليمي والصحي، أنتج النظام الجديد الهجين اقتصاداً مشوهاً وشبكات زبائنية مرتبطة بالمزاج الطائفي في العراق، فظهرت ونَمَت جماعات مالية ضخمة مرتبطة بكبار النظام السياسي/ الديني/ المذهبي، إحدى وظائفها تبييض هذه الأموال أخلاقياً/ مذهبياً من خلال دعم المزاج الطائفي ونشاطاته كبناء الحسينيات وفتح الهيئات ودعمها بالمال.
على جميع الطرق المؤدية إلى كربلاء توجد الآلاف من الحسينيات والمواكب التي تتبارى في ما بينها بالبذخ مع مواسم عاشوراء، الكثير منها إن لم تكن لسياسيين أو رجال دين أو تجار متحالفين/مستفيدين معهم، فهي مدعومة منهم.
هذه التقنيات الخطابية والدعم المالي الكبير للشعائر صنعت هوساً في فكرة الشعائر.
هذه الشعائر، إضافة الى كونها فعّالية مسيسة تنتج أغراضا تبتغيها المؤسسات الدينية والسياسية على سواء، صارت علامة من علامات عصر الميديا الحديث، أبطالُها يوظّفون أي فعل من أجل كسب المزيد من التفاعل والمشاهدات، فصارت صناعة المشاهير والنجوم السطحيين الاستعراضيين في رحاب الشعائر أو صارت الشعائر في فضائها، لتفتح الاحتمالات كلها، على أشكال جديدة محتملة، أكثر غلوّاً وغرابةً من المشي على الجمر ومواكب كلاب رُقيّة والتطيين والإيقاعات الراقصة، وستكون هناك مرجعيات ورجال دين يباركونها ويفسّقون منتقديها.
اعتمد هذا المقال على عدّة كتب، “العمامة والأفندي” لفالح عبد الجبار، “تراجيديا كربلاء” لإبراهيم الحيدري، “شيعة العراق” لإسحق نقاش، “العراق” لحنا بطاطو، و”سوسيولوجيا المقدس” لفيليب ميلور وكريس شلنج.
* تنشر هذه المادة بالشراكة مع الشبكة العراقية للصحافة الاستقصائية ”نيريج”