"العيشة تريد".. كادحات في قيظ ذي قار
31 آب 2023
ملايين من كبار السن في العراق يعانون من الارتفاع المتزايد في درجات الحرارة، ولكن عمل النساء تحت الشمس في ذي قار يفاقم هذه المعاناة.. حكاية أم كرار وأم جاسم و"التمكين" الذي تنتظرانه للحفاظ على رزقهما وعافيتهما في درجة حرارة تقترب من نصف الغليان.. عن "العيشة" التي "تُريد" من الكادحات في قيظ ذي قار..
تفترش أم كرار ومعها العشرات من النساء والرجال أرضاً مقفرة مفتوحة صيفاً وشتاءً في سوق الهرج وسط مدينة الناصرية.
أم كرار تبيع وتشتري الملابس المستخدمة (البالة) منذ عشرين عاماً.
يبعد بيتها مسافة ساعة عن مكان السوق، لذلك فهي تخرج يومياً الساعة السابعة صباحاً لتصل إلى بقعتها في السوق حيث تفرش بسطتها وتجلس تحت سقيفة مهجورة تؤمن لها بعض الظل وهي تستقبل المشترين.
تغادر السيدة الخمسينية عائدة إلى بيتها الساعة الحادية عشرة، حيث تكون ساعات الصباح محتملة للعمل بالنسبة لها رغم الحر.
“حارة حارة بس الحمدلله والشكر.. الله هم يتباوع لحالنا.. هم ينطينا على قد قابليتنا”، تقول أم كرار رغم إصابتها بالسكري والضغط اللذين يتأثران بارتفاع الحرارة، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى اضطرابات فسيولوجية، أبرزها ارتفاع ضغط الدم، وانتشار بعض أنواع الحساسية منها تحسس الجلد والجهاز التنفسي.i
حالها في ذلك كحال ملايين من كبار السن في العراق الذين يعانون بشكل خاص من الارتفاع المتزايد في درجات الحرارة، ولكن العمل تحت الشمس، وفي ذي قار تحديداً يفاقم هذه المعاناة.
فذي قار، الواقعة 400 كم جنوب العاصمة بغداد، تعد واحدة من أكثر المحافظات المتضررة من التغيّر المناخي نتيجة شح مياه الأنهار المغذية لها، وهبوب الرياح الموسمية المثيرة للغبار، وطبعاً ارتفاع درجات الحرارة، حيث تسجل دائرة الأنواء الجوية يومياً درجة حرارة تتجاوز 49 مئوي، خلال أشهر الصيف في أماكن مفتوحة فيما تصل إلى 55 درجة مئوي في الأماكن والشوارع المغلقة، وفقاً لأحمد كريم، معاون مدير الدائرة.
سوق الهرج يقع ضمن المناطق الأعلى حرارة، وغالبية الباعة من النساء يرتدين اللون الأسود، ما يجعلهم أكثر عرضة للشعور بالحرارة بصفته لونا يمتص الأشعة بقدر كبير ويخزنها بدل إعادة عكسها، علاوة على المخاطر الأخرى مثل التسبب بأمراض جلدية، قد تصل لسرطان.
“كتلتني الشمس”
تحت مظلة صغيرة تضع أم جاسم بسطة لبيع السمك الزوري على شارع ترابي في السوق فيما تتطاير حرارته اللاهبة أمام الأعين.
تشكو السيدة الخمسينية من آلام دائمة في الرأس بسبب حرارة الشمس.
تشير أم جاسم بيديها المتيبستين وشرايينها التي تكاد تخرق جلدها الجاف أسفل بسطتها، ثم تتناول شرائط دواء تخبئها في الظل قائلة: “العيشة تريد.. وعندي عائلة جبيرة.. هسا أخذت حبايتين”.
لا تحتمل أم جاسم حرارة تموز المرتفعة. فالصداع الذي يصيبها جراء الحر يشعرها بألم وإرهاق شديدين، يجبرانها أحياناً على لزوم البيت لفترات تصل الى عشرة أيام مقابل كل يوم عمل.
“ذاك اليوم بسّطت، غاد قعدت، كتلتني الشمس والسيارات، ما تحملت”.
تزداد نسبة الإصابة بضربات شمس تؤدي إلى صداع شديد، وزغللة في العين، وشعور عال بالإعياء والتعب، وفقد الكثير من السوائل نتيجة الاستفراغ والاسهال المتكرر، ما يصيب الإنسان بحالة جفاف خطيرة، خاصة كبار السن والفقراء والأطفال.1
كما أن جزءا كبيرا من النساء العاملات في سوق الهرج هن في مرحلة عمرية بين الأربعينيات حتى نهاية الستينيات، وهي مرحلة يتعرضن خلالها لما يُعرف بالهبّات الساخنة نتيجة دخولهن مرحلة انقطاع الطمث. يؤدي ارتفاع حرارة أجسادهن إلى شعورهن بأعراض مزعجة مثل الاختناق وضيق تنفس عدا عن الشعور بالإعياء وآلام الرأس، وهي أعراض تتفاقم بتواجدهن تحت الشمس.
وبشكل عام، يكون كبار السن أكثر تأثراً بارتفاع درجات الحرارة بسبب انخفاض قدرة أجسادهم على التعرق وأداء عمليات الأيض. وهذا أمر يلاحظه الدكتور حسين رياض، مدير قسم الصحة العامة في محافظة ذي قار، في فصل الصيف حيث يطرأ ارتفاع في عدد كبار السن المراجعين للمراكز الصحية، لكنه يعي أن الظروف الاقتصادية تجبر الكثير من النساء الكبيرات في السن على العمل في هذه الظروف.
ليست الشمس وحدها ما يضر بالباعة في سوق الهرج فثمة مكب نفايات يحيط السوق.
كما أن السوق غير مهيأة لهذا النوع من الأعمال، إذ تعاني الأسواق إهمالاً حكومياً في جميع الجوانب، أسوة بأسواق أخرى في مدينة الناصرية -مركز محافظة ذي قار-، حيث تفتقر للظروف الصحية والبيئية السليمة فلا يجد الباعة ملاذا من الشمس سوى بالاحتماء تحت مظلات صغيرة أو تحت خرق ينصبونها على أعمدة.
يشكل هذا بدوره اهمالاً لشريحة تعتاش على قوت يومي لها من خلال بيع الخضراوات واللحوم والملابس والألبان كلها مجتمعة في مكان واحد، وتجد آلاء ناجي، مديرة قسم تمكين المرأة في إدارة المحافظة، أن هذا الإهمال قابل لأن يعالج بقليل من العناية من قبل الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني، وتعد تجهيز الأسواق وتهيئتها مصلحة عامة لا تقتصر فائدتها على النساء، رغم كونهن الأكثر تضرراً، بل هي مصلحة كافة الباعة والمشترين الذي تضمن لهم سلامة ما يشترونه من منتجات كذلك.
تمكين النساء.. في الأسواق أيضاً
بالنسبة لأم جاسم، هذه الأيام القليلة التي تعملها شهرياً توفر الحد الأدنى من احتياجات عائلتها، لأن راتب الرعاية الذي تتقاضاه بقيمة 170 ألف د.ع -بعد اقتطاع 5 آلاف من قبل مكاتب تسليم الرواتب- يكاد يغطي مشتريات يومية بسيطة.. “شسوي بيهن؟ جاي مي تتن لفات.. هنه ذني” تقول.
تعد ذي قار محافظة منتجة للنفط، ومع ذلك فهي تسجل حالات فقر وحرمان مرتفعة بين المحافظات، خصوصاً بين النساء.
يصنف مكتب حقوق الإنسان بالمحافظة وضع النساء العاملات في هذا الاقتصاد غير الرسمي وغير المحمي على أنه مأساوي جداً، وفق داخل المشرفاوي، مدير المكتب، الذي شدد على ضرورة إجراء مسح حكومي دقيق للعائلات في المدينة يحدد نسبة الأسر الواقعة تحت خط الفقر ومعالجة أوضاعهم بخطط وبرامج حقيقية.
بيد أن المشرفاوي قد نوه أيضاً إلى ضرورة عدم الاعتماد على المساعدات الإنسانية والدعم المحدد، لأنه لا يكفي ولا يشمل الجميع، ومن ضمنهم النساء؛ خاصة في مثل هذه الفترة الحالية التي لا تمتلك فيها الحكومة البحبوحة الاقتصادية التي تمكنها من دعم العائلات الفقيرة، على حد قوله.
بحسبه، فإن شمول المرأة بقانون الرعاية الاجتماعية يخضع للعديد من التعليمات والإجراءات، التي تحرم العديد من النسوة الاستفادة من الدعم نظراً لوجود معيل أو مستفيد من هذا البرنامج ضمن العائلة الواحدة.
حتى المبالغ التي يحصلون عليها غير كافية لسد الاحتياجات العامة في ظل ارتفاع الأسعار والإيجارات وأجور الخدمات المختلفة، يؤكد المشرفاوي.
تخبرنا أم كرار أنها خلال العشرين سنة الماضية عملت بائعة لحاجيات مختلفة، من الأثاث الخشبي إلى الثلاجات والملابس وغيرها. وبرغم وصفها لعملها بأنه “جهاد”، إلا أنها اعتادت عليه ولا تستطيع تركه والجلوس في المنزل.
تشير آلاء ناجي، مديرة قسم تمكين المرأة في إدارة المحافظة، إلى أن هؤلاء النساء مرتبطات بهذه النوعية من العمل لأنهن بتن يتقنّه بعد مزاولته لسنوات طويلة، خاصة النساء الأكبر سناً، اللواتي يكنّ أقل قدرة على تعلم مهن جديدة مثل الخياطة أو تصنيع الألبان ولا يرغبن بذلك.
بيد أنه ليس الاعتياد وحده ما كان الدافع للعمل بالنسبة لأم كرار، فعملها يؤمن لها الحد الأدنى من العيش الكريم، حيث تصف رزقها بأنه رزق كل يوم ليومه.. “هي هاي، أحصِّل بيه يومية مِسواك” تقول.
بالرغم من حصولها على راتب تقاعد زوجها المتوفى منذ 11 عاماُ، إلا أنه يكفي فقط للاحتياجات المعيشية الشهرية ولا يغطي المصاريف الطارئة، مثل عندما اضطرت لتقديم معاملة رهن مقابل مليون دينار (حوالي ٧٦٠ دولارا)، احتاجتها لدفع تكاليف عملية لإحدى بناتها.
لذلك، فليس من المفيد العمل على تغيير طبيعة مهن هؤلاء النساء، عبر ضمهنّ لبرنامج تمكين المرأة اقتصادياً، مثل إدخالهن دورات تدريب للعمل في مهن محددة مثل الخياطة وصناعة الألبان، تقول ناجي. بل الأجدى أن تهتم الجهات الرسمية بتوفير بنية تحتية جيدة في الأسواق الشعبية الموجودة بالفعل، وتجهيزها بأكشاك تمنح لهنّ لتمكينهن من العمل بمهنهن الأصلية فيها بظروف صحية وإنسانية.
برنامج تمكين المرأة الذي تعمل عليه الحكومة المركزية بالتعاون مع الحكومات المحلية من خلال دوائرها المختلفة، مازال يخضع للإجراءات غير الفاعلة. دعا ذلك إلى إشراك المنظمات الدولية لتمكين النساء العاملات في الأسواق وفي الشوارع من خلال إنشاء أكشاك، إلا أن طبيعة البيروقراطية الحكومية تشكّل العائق الأبرز في إيجاد أرضية مناسبة لهذه مشاريع.
ظروف النساء العاملات في محافظة تفتقر للعديد من مقومات الرعاية الاجتماعية والصحية والاقتصادية، ما يدفع بالكثير من النساء إلى افتراش الشوارع والأرصفة تحت شمس حارقة في فترة ذروة صيفية يطلق عليها أهل المنطقة اسم “أيام طبّاخات الرّطب”، كونها لشدة حرارتها تسهم في نضوج محصول التمر، إلا أن جميع الأفكار والبرامج الداعمة لهؤلاء النساء لم تنضج بعد.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
"قبرها مفتوح أربعين يوماً": تجارب نساء بـ"النفاس" بين الطب والخرافة
19 يناير 2025
العراق وإيران.. دروب العلاقة القديمة والجديدة بين البلدين
16 يناير 2025
استقطاعات رواتب موظفي العراق.. عن مليارات الدولارات مجهولة المصير
14 يناير 2025
"جسم رجال لو بنت بيوت".. ماذا نعرف عن متلازمة التكيُّس وعوارضها؟
12 يناير 2025
تفترش أم كرار ومعها العشرات من النساء والرجال أرضاً مقفرة مفتوحة صيفاً وشتاءً في سوق الهرج وسط مدينة الناصرية.
أم كرار تبيع وتشتري الملابس المستخدمة (البالة) منذ عشرين عاماً.
يبعد بيتها مسافة ساعة عن مكان السوق، لذلك فهي تخرج يومياً الساعة السابعة صباحاً لتصل إلى بقعتها في السوق حيث تفرش بسطتها وتجلس تحت سقيفة مهجورة تؤمن لها بعض الظل وهي تستقبل المشترين.
تغادر السيدة الخمسينية عائدة إلى بيتها الساعة الحادية عشرة، حيث تكون ساعات الصباح محتملة للعمل بالنسبة لها رغم الحر.
“حارة حارة بس الحمدلله والشكر.. الله هم يتباوع لحالنا.. هم ينطينا على قد قابليتنا”، تقول أم كرار رغم إصابتها بالسكري والضغط اللذين يتأثران بارتفاع الحرارة، إذ يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى اضطرابات فسيولوجية، أبرزها ارتفاع ضغط الدم، وانتشار بعض أنواع الحساسية منها تحسس الجلد والجهاز التنفسي.i
حالها في ذلك كحال ملايين من كبار السن في العراق الذين يعانون بشكل خاص من الارتفاع المتزايد في درجات الحرارة، ولكن العمل تحت الشمس، وفي ذي قار تحديداً يفاقم هذه المعاناة.
فذي قار، الواقعة 400 كم جنوب العاصمة بغداد، تعد واحدة من أكثر المحافظات المتضررة من التغيّر المناخي نتيجة شح مياه الأنهار المغذية لها، وهبوب الرياح الموسمية المثيرة للغبار، وطبعاً ارتفاع درجات الحرارة، حيث تسجل دائرة الأنواء الجوية يومياً درجة حرارة تتجاوز 49 مئوي، خلال أشهر الصيف في أماكن مفتوحة فيما تصل إلى 55 درجة مئوي في الأماكن والشوارع المغلقة، وفقاً لأحمد كريم، معاون مدير الدائرة.
سوق الهرج يقع ضمن المناطق الأعلى حرارة، وغالبية الباعة من النساء يرتدين اللون الأسود، ما يجعلهم أكثر عرضة للشعور بالحرارة بصفته لونا يمتص الأشعة بقدر كبير ويخزنها بدل إعادة عكسها، علاوة على المخاطر الأخرى مثل التسبب بأمراض جلدية، قد تصل لسرطان.
“كتلتني الشمس”
تحت مظلة صغيرة تضع أم جاسم بسطة لبيع السمك الزوري على شارع ترابي في السوق فيما تتطاير حرارته اللاهبة أمام الأعين.
تشكو السيدة الخمسينية من آلام دائمة في الرأس بسبب حرارة الشمس.
تشير أم جاسم بيديها المتيبستين وشرايينها التي تكاد تخرق جلدها الجاف أسفل بسطتها، ثم تتناول شرائط دواء تخبئها في الظل قائلة: “العيشة تريد.. وعندي عائلة جبيرة.. هسا أخذت حبايتين”.
لا تحتمل أم جاسم حرارة تموز المرتفعة. فالصداع الذي يصيبها جراء الحر يشعرها بألم وإرهاق شديدين، يجبرانها أحياناً على لزوم البيت لفترات تصل الى عشرة أيام مقابل كل يوم عمل.
“ذاك اليوم بسّطت، غاد قعدت، كتلتني الشمس والسيارات، ما تحملت”.
تزداد نسبة الإصابة بضربات شمس تؤدي إلى صداع شديد، وزغللة في العين، وشعور عال بالإعياء والتعب، وفقد الكثير من السوائل نتيجة الاستفراغ والاسهال المتكرر، ما يصيب الإنسان بحالة جفاف خطيرة، خاصة كبار السن والفقراء والأطفال.1
كما أن جزءا كبيرا من النساء العاملات في سوق الهرج هن في مرحلة عمرية بين الأربعينيات حتى نهاية الستينيات، وهي مرحلة يتعرضن خلالها لما يُعرف بالهبّات الساخنة نتيجة دخولهن مرحلة انقطاع الطمث. يؤدي ارتفاع حرارة أجسادهن إلى شعورهن بأعراض مزعجة مثل الاختناق وضيق تنفس عدا عن الشعور بالإعياء وآلام الرأس، وهي أعراض تتفاقم بتواجدهن تحت الشمس.
وبشكل عام، يكون كبار السن أكثر تأثراً بارتفاع درجات الحرارة بسبب انخفاض قدرة أجسادهم على التعرق وأداء عمليات الأيض. وهذا أمر يلاحظه الدكتور حسين رياض، مدير قسم الصحة العامة في محافظة ذي قار، في فصل الصيف حيث يطرأ ارتفاع في عدد كبار السن المراجعين للمراكز الصحية، لكنه يعي أن الظروف الاقتصادية تجبر الكثير من النساء الكبيرات في السن على العمل في هذه الظروف.
ليست الشمس وحدها ما يضر بالباعة في سوق الهرج فثمة مكب نفايات يحيط السوق.
كما أن السوق غير مهيأة لهذا النوع من الأعمال، إذ تعاني الأسواق إهمالاً حكومياً في جميع الجوانب، أسوة بأسواق أخرى في مدينة الناصرية -مركز محافظة ذي قار-، حيث تفتقر للظروف الصحية والبيئية السليمة فلا يجد الباعة ملاذا من الشمس سوى بالاحتماء تحت مظلات صغيرة أو تحت خرق ينصبونها على أعمدة.
يشكل هذا بدوره اهمالاً لشريحة تعتاش على قوت يومي لها من خلال بيع الخضراوات واللحوم والملابس والألبان كلها مجتمعة في مكان واحد، وتجد آلاء ناجي، مديرة قسم تمكين المرأة في إدارة المحافظة، أن هذا الإهمال قابل لأن يعالج بقليل من العناية من قبل الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني، وتعد تجهيز الأسواق وتهيئتها مصلحة عامة لا تقتصر فائدتها على النساء، رغم كونهن الأكثر تضرراً، بل هي مصلحة كافة الباعة والمشترين الذي تضمن لهم سلامة ما يشترونه من منتجات كذلك.
تمكين النساء.. في الأسواق أيضاً
بالنسبة لأم جاسم، هذه الأيام القليلة التي تعملها شهرياً توفر الحد الأدنى من احتياجات عائلتها، لأن راتب الرعاية الذي تتقاضاه بقيمة 170 ألف د.ع -بعد اقتطاع 5 آلاف من قبل مكاتب تسليم الرواتب- يكاد يغطي مشتريات يومية بسيطة.. “شسوي بيهن؟ جاي مي تتن لفات.. هنه ذني” تقول.
تعد ذي قار محافظة منتجة للنفط، ومع ذلك فهي تسجل حالات فقر وحرمان مرتفعة بين المحافظات، خصوصاً بين النساء.
يصنف مكتب حقوق الإنسان بالمحافظة وضع النساء العاملات في هذا الاقتصاد غير الرسمي وغير المحمي على أنه مأساوي جداً، وفق داخل المشرفاوي، مدير المكتب، الذي شدد على ضرورة إجراء مسح حكومي دقيق للعائلات في المدينة يحدد نسبة الأسر الواقعة تحت خط الفقر ومعالجة أوضاعهم بخطط وبرامج حقيقية.
بيد أن المشرفاوي قد نوه أيضاً إلى ضرورة عدم الاعتماد على المساعدات الإنسانية والدعم المحدد، لأنه لا يكفي ولا يشمل الجميع، ومن ضمنهم النساء؛ خاصة في مثل هذه الفترة الحالية التي لا تمتلك فيها الحكومة البحبوحة الاقتصادية التي تمكنها من دعم العائلات الفقيرة، على حد قوله.
بحسبه، فإن شمول المرأة بقانون الرعاية الاجتماعية يخضع للعديد من التعليمات والإجراءات، التي تحرم العديد من النسوة الاستفادة من الدعم نظراً لوجود معيل أو مستفيد من هذا البرنامج ضمن العائلة الواحدة.
حتى المبالغ التي يحصلون عليها غير كافية لسد الاحتياجات العامة في ظل ارتفاع الأسعار والإيجارات وأجور الخدمات المختلفة، يؤكد المشرفاوي.
تخبرنا أم كرار أنها خلال العشرين سنة الماضية عملت بائعة لحاجيات مختلفة، من الأثاث الخشبي إلى الثلاجات والملابس وغيرها. وبرغم وصفها لعملها بأنه “جهاد”، إلا أنها اعتادت عليه ولا تستطيع تركه والجلوس في المنزل.
تشير آلاء ناجي، مديرة قسم تمكين المرأة في إدارة المحافظة، إلى أن هؤلاء النساء مرتبطات بهذه النوعية من العمل لأنهن بتن يتقنّه بعد مزاولته لسنوات طويلة، خاصة النساء الأكبر سناً، اللواتي يكنّ أقل قدرة على تعلم مهن جديدة مثل الخياطة أو تصنيع الألبان ولا يرغبن بذلك.
بيد أنه ليس الاعتياد وحده ما كان الدافع للعمل بالنسبة لأم كرار، فعملها يؤمن لها الحد الأدنى من العيش الكريم، حيث تصف رزقها بأنه رزق كل يوم ليومه.. “هي هاي، أحصِّل بيه يومية مِسواك” تقول.
بالرغم من حصولها على راتب تقاعد زوجها المتوفى منذ 11 عاماُ، إلا أنه يكفي فقط للاحتياجات المعيشية الشهرية ولا يغطي المصاريف الطارئة، مثل عندما اضطرت لتقديم معاملة رهن مقابل مليون دينار (حوالي ٧٦٠ دولارا)، احتاجتها لدفع تكاليف عملية لإحدى بناتها.
لذلك، فليس من المفيد العمل على تغيير طبيعة مهن هؤلاء النساء، عبر ضمهنّ لبرنامج تمكين المرأة اقتصادياً، مثل إدخالهن دورات تدريب للعمل في مهن محددة مثل الخياطة وصناعة الألبان، تقول ناجي. بل الأجدى أن تهتم الجهات الرسمية بتوفير بنية تحتية جيدة في الأسواق الشعبية الموجودة بالفعل، وتجهيزها بأكشاك تمنح لهنّ لتمكينهن من العمل بمهنهن الأصلية فيها بظروف صحية وإنسانية.
برنامج تمكين المرأة الذي تعمل عليه الحكومة المركزية بالتعاون مع الحكومات المحلية من خلال دوائرها المختلفة، مازال يخضع للإجراءات غير الفاعلة. دعا ذلك إلى إشراك المنظمات الدولية لتمكين النساء العاملات في الأسواق وفي الشوارع من خلال إنشاء أكشاك، إلا أن طبيعة البيروقراطية الحكومية تشكّل العائق الأبرز في إيجاد أرضية مناسبة لهذه مشاريع.
ظروف النساء العاملات في محافظة تفتقر للعديد من مقومات الرعاية الاجتماعية والصحية والاقتصادية، ما يدفع بالكثير من النساء إلى افتراش الشوارع والأرصفة تحت شمس حارقة في فترة ذروة صيفية يطلق عليها أهل المنطقة اسم “أيام طبّاخات الرّطب”، كونها لشدة حرارتها تسهم في نضوج محصول التمر، إلا أن جميع الأفكار والبرامج الداعمة لهؤلاء النساء لم تنضج بعد.