"حجي نسوان".. نساء يُروِّحن عن آلام الصيف
24 آب 2023
جلسات الشاي البيتية التي كثيراً ما توصم بأنها "حجي نسوان" وتضييع وقت، كثيراً ما تكون هي المساحات الوحيدة المتاحة للنساء للحديث ولمؤازرة إحداهن الأخرى.. هنا حيث تنهمر دموعهن وترتفع ضحكاتهن والنكات والسخرية من مشاكلهن كل على طريقتها.. عن نساء في "عصرونية" يُروِّحن عن آلام الصيف
“ترضِع الحليب والعرگ”.
سخرت زينب التي جلست تُرضع ابنتها من حجم ثديها والألم الذي يرافقها جراء حبسه في الحمالة. تضطر المرأة العشرينية لارتداء الحمالة طيلة الوقت، حتى في المنزل، لأنها تعيش مع أهل زوجها ولا تقدر على أخذ مساحة من الحرية لتُطعم ابنتها وتتنفس براحة خشية من غيرة رجال البيت وقوانينهم.
وإن شكت لأم زوجها وأمها نعتوها بالمدللة وأنهن ربين عشرات الأطفال في ظروف أسوأ مما عاشتها فتخرس عن شكواها.
في تلك العصرونية القائظ حيث تجمعت بعض النساء في بيت زميلة أمي في العمل، أدركت أن كل واحدة منهن -مثلي أنا- تعاني من ضيق صدرها إثر الحمالة التي ترتديها، وأنها حالما تعود إلى البيت سترمي بها بقوة.
كانت هذه هي إحدى الشكاوى والآلام التي لم أكن أدركها في سن صغيرة. كان هذا قبل أن أدرك ماذا يعني أن أكون امرأة، وقد أكملت الآن عقدي الثاني، وسط هذا المحيط الذي يوصمنا بالعار لا لشيء سوى رفضه لما نحنُ عليه.
لذلك، زاد كرهي لجسدي ولكوني امرأة، خاصة في الصيف.
بيد أن هذا الصيف كان مُختلفاً، ولأول مرة استمعتُ لجلسات النساء بأذن المرأة التي باتت تأخذ ألمها وحقها على محمل الجد، وأبصرتُ ما يغضّن أطرافهن عنهُ من معاناة يومية.
كانتِ النساء المُجتمِعات يلمَعَن من البهرجة والأناقة والابتسامة وهالة من الحسد تحوط كل واحدة منهن تجاه الأخرى، لأن كل واحدة ترى ألمها أكبر من ألم الأخريات وأن معاناتها هي الأكبر.
قبل أن تكمل المرضع شكواها قاطعتها أرملة شهيد إحدى الحروب السابقة “على الأقل أكو على راسج رجال”، متذمرة من سيطرة أخوتها عليها وأنها لا تقدر الخروج إلا بتصاريح أصعب من التصاريح الأمنية العراقية، وأنهم يتدخلون بلباسها وكل شيء يخصها.
حضرت في تلك اللحظة ملايين الأرامل أو المغيب أزواجهن ممن حالفهن الحظ ليسكنَّ تحت سقف معيل ذكر من عائلتهن.
تعاني هؤلاء النسوة نقص أو غياب الخصوصية والحرية في اللبس داخل المنزل وانعدام حق الخروج لأماكن ينفسن بها عن جور هذا الفصل ولزوجة أيامه. فجارتنا المطلقة كانت مدعوة إلى “الكعدة” ولكن أخاها منعها من الخروج من البيت، رغم أنها معلمة وتجاوزت الأربعين.
تعامل المرأة البالغة والراشدة كطفلة لا مساحة قرار لها وإن حملت شهادة وشغلت من المناصب ما شغلت.
وإن كانت المرأة لأسرة تحفظ لها حقها بالخروج، فإن غياب أماكن الترفيه في أغلب محافظات العراق تعد مشكلة تعاني منها النساء. أغلب المقاهي مُعدة للرجال فقط ولا مساحة للنساء فيها. بل حتى الشوارع غير المبلطة لا تمنح المرأة مساحة مريحة لتمشي فيها، فإن خرجت بثوبها الأسود عادت ولونه أبيض من التراب، ناهيك عن الحفريات التي تؤذي الاقدام. وحتى إن وجد شارع مبلط فسيلازمها قذف كلمات جارحة من أفواه المتحرشين.
كانت قد سادت مؤخراً النميمة حول جارتنا الشابة التي استشهد زوجها في مجزرة سبايكر، لما قررت ترك ثوب الحداد بعد سنوات، وذلك تماشياً مع متطلبات بيئة عملها كطبيبة أطفال، وهي المعيلة لنفسها ولابنتها.
قرار الأرملة بترك لون الحداد خلال العمل، لكون لهيب الصيف ينجذب للأسود ويجعلها عرضة لأمراض كثيرة، عرّضها لألسنة النمامين والنمامات الذين “شككوا” فيها، وأن ما ذلك إلا لأنها “تبحث عن رجال”، والذهاب حد إطلاق صفات عليها وأحياناً تعهيرها.
عادت بصيرتي تتفحص دواخل هؤلاء النسوة فاستقرت عند امرأة بشعر مجعد؛ هي المرأة الوحيدة السافرة بيننا. لطالما حسدت هذه السيدة على حرية ملبسها.. على أنها ليست مجبرة على الاختفاء تحت أكوام الملابس من جوارب وأكمام وعباءات قاتمة.
لكن في تلك العصرونية الحارة استرعى انتباهي أنها كانت تلبس قميصاً بأكمام طويلة وبنطالها طويل. عبرتُ عن استغرابي لملبسها في هذا الحر، فسألتُ بهمس:
“ها خالة شنو.. حتلبسين حجاب؟”.
ضحكت ثم رفعت كم قميصها لتريني شعر ذراعها، ثم سرعان ما أعادته وأرفقت حركتها بغمزة كأنها تكشف عن سر عظيم وليس عن شعر نابت على ذراعها كما على أذرع الجميع، مفضلة أن تخفيه حتى عن صديقاتها.
تعاني النساء السافرات من ضغط اجتماعي في الصيف لإزالة شعر جسدها. أو ستوصم بعدم النظافة، رغم أن من يوصمها بهذا الوصف هم رجال لا أحد يعايرهم بأجسادهم المشعرة أو نساء لديهن الشعر والمعاناة ذاتها.
لنتحدث عن إزالة الشعر إذن. عن الحسابات التي تُسيِّر العملية.
كثيرات يتجهن لاستخدام شفرة الحلاقة لأن تكلفتها المادية أقل من غيرها، حيث يتراوح ما بين ألف إلى أربعة آلاف دينار عراقي.
وإذا قررن اختيار نوع رخيص فإنه عادة ما يكون رديئاً، ثم إذا كررن استعمال الأداة ذاتها من أجل التوفير فستدفع الثمن في صحتها على المدى البعيد، حيث ينبت الشعر تحت الجلد وتظهر الالتهابات.
ثم أن الالتهابات الناجمة عن الحلاقة المتكررة في المناطق الحساسة يؤدي إلى اسمرارها، مما يجعل المرأة تحت وطأة الضغط الاجتماعي وتنميطه للجمال؛ فلون هذه المناطق يجب أن يكون “ابيض وناعم مرمر” حتى لو كانت المرأة سمراء!
وليست هناك رفاهية، حتى لو استخدمت النساء الشمع أو الحلاوة لإزالة الشعر، وخصوصاً في الصيف. وصحيح أن ألم الإزالة لحظة ويعدي، ولكن أثره على المدى البعيد لا يزول إذ يسبب التجاعيد والترهلات المبكرة مما يجعل نساء كثيرات يستخدمن لمنتجات كيماوية “ضد التجاعيد”.
طبعاً قلة من النساء يستطعن تحمل تكلفة إزالة الشعر بالليزر، إذ يتراوح سعر الجلسة الواحدة بين ٢٥-٦٠ دولارا، باختلاف الجهاز والمركز.
قاطع صوت الجرس سلسلة تفكيري لتظهر صديقة أخرى لأمي وزميلاتها.
كانت يدها ملفوفة بضماد طبي.. فهمنا على الفور، ولكنها قالت مستبقة إيانا أنها وقعت حينما كانت تنظف مروحة السقف.
جميعنا -حتى أنا أصغرهن- كنا نعلم أن ما ذلك إلا من فعل زوجها سليط اللسان واليد.
بالتأكيد عنّفها لأمر تافه كعادته فهو لا يحتاج عادة مبرراً لعنفه فما بالك بالصيف!
يأتي الصيف فيصير “حجة” تبيح للمُعنِّفين إيذاء النساء حوله. اذ يزداد العنف الأسري مع ازدياد درجات الحرارة وتدهور الوضع الاقتصادي، كأن المرأة آلة يُنفِّسُ بها الرجل عن غضبه.
لا يلاحظ زوجها ولا أزواج وآباء وأبناء غيره كيف تقضي النساء نصف يومهن في التنظيف والطبخ وتلبية احتياجات الأسرة، سواء كانت امرأة عاملة أو أم أو كليهما!
يتزامن الصيف مع العطل المدرسية.. فتزداد مهام الأم ونساء البيت مع تواجد أغلب افراد العائلة في البيت وتزداد طلباتهم. تقضي المرأة العراقية حوالي ست ساعات من يومها في العمل والرعاية المنزلية، ما بين إعداد الطعام والتنظيف ورعاية الأطفال وكبار السن وتلبية طلبات البالغين، ويزداد عدد هذه الساعات إذا كانت المرأة تسكن مع أهل زوجها في “بيت العيال”.
فحتى في أيام الدورة الشهرية ووسط الألم تُجبر المرأة على تلبية طلبات الأسرة، ومن المحرم عليها ان تبوح بنزفها. ويزيد من وابل الأمر انقطاع التيار الكهربائي لتُطبخ النساء بينما تطبخ لُقمة الرجال والأطفال..
تتعرض النساء للإرهاق والتعب النفسي والجسدي بسبب الحرارة المرتفعة التي تؤثر على نشاطهن وصحتهن.. فمن يخفف عنهن؟
النساء للنساء..
وجلسات الشاي البيتية هذه التي كثيراً ما توصم بأنها “حجي نسوان” وتضييع وقت، كثيراً ما تكون هي المساحات الوحيدة المتاحة للنساء للحديث ولمؤازرة إحداهن الأخرى.. هنا حيث تنهمر دموعهن وترتفع ضحكاتهن والنكات والسخرية من مشاكلهن كل على طريقتها.
رغم أن بعضهن خضعن لرفض أنوثتهن وحاربن غيرهن من النساء، لكن هذا لا يمحي وجود اللواتي يمسكن بيد بعضهن البعض ويصغين بحُب وتعاضد. يسندن ويصبرن بعض ويتشاركن التجارب والمعرفة الحياتية محاولات أن يتجاوزن أزمات وتعقيدات المجتمع والطبيعة والمناخ.. حتى الصيف القادم.
** فضلت الكاتبة والمتحدثات عدم الإشارة إلى اسمهن الحقيقي.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
“ترضِع الحليب والعرگ”.
سخرت زينب التي جلست تُرضع ابنتها من حجم ثديها والألم الذي يرافقها جراء حبسه في الحمالة. تضطر المرأة العشرينية لارتداء الحمالة طيلة الوقت، حتى في المنزل، لأنها تعيش مع أهل زوجها ولا تقدر على أخذ مساحة من الحرية لتُطعم ابنتها وتتنفس براحة خشية من غيرة رجال البيت وقوانينهم.
وإن شكت لأم زوجها وأمها نعتوها بالمدللة وأنهن ربين عشرات الأطفال في ظروف أسوأ مما عاشتها فتخرس عن شكواها.
في تلك العصرونية القائظ حيث تجمعت بعض النساء في بيت زميلة أمي في العمل، أدركت أن كل واحدة منهن -مثلي أنا- تعاني من ضيق صدرها إثر الحمالة التي ترتديها، وأنها حالما تعود إلى البيت سترمي بها بقوة.
كانت هذه هي إحدى الشكاوى والآلام التي لم أكن أدركها في سن صغيرة. كان هذا قبل أن أدرك ماذا يعني أن أكون امرأة، وقد أكملت الآن عقدي الثاني، وسط هذا المحيط الذي يوصمنا بالعار لا لشيء سوى رفضه لما نحنُ عليه.
لذلك، زاد كرهي لجسدي ولكوني امرأة، خاصة في الصيف.
بيد أن هذا الصيف كان مُختلفاً، ولأول مرة استمعتُ لجلسات النساء بأذن المرأة التي باتت تأخذ ألمها وحقها على محمل الجد، وأبصرتُ ما يغضّن أطرافهن عنهُ من معاناة يومية.
كانتِ النساء المُجتمِعات يلمَعَن من البهرجة والأناقة والابتسامة وهالة من الحسد تحوط كل واحدة منهن تجاه الأخرى، لأن كل واحدة ترى ألمها أكبر من ألم الأخريات وأن معاناتها هي الأكبر.
قبل أن تكمل المرضع شكواها قاطعتها أرملة شهيد إحدى الحروب السابقة “على الأقل أكو على راسج رجال”، متذمرة من سيطرة أخوتها عليها وأنها لا تقدر الخروج إلا بتصاريح أصعب من التصاريح الأمنية العراقية، وأنهم يتدخلون بلباسها وكل شيء يخصها.
حضرت في تلك اللحظة ملايين الأرامل أو المغيب أزواجهن ممن حالفهن الحظ ليسكنَّ تحت سقف معيل ذكر من عائلتهن.
تعاني هؤلاء النسوة نقص أو غياب الخصوصية والحرية في اللبس داخل المنزل وانعدام حق الخروج لأماكن ينفسن بها عن جور هذا الفصل ولزوجة أيامه. فجارتنا المطلقة كانت مدعوة إلى “الكعدة” ولكن أخاها منعها من الخروج من البيت، رغم أنها معلمة وتجاوزت الأربعين.
تعامل المرأة البالغة والراشدة كطفلة لا مساحة قرار لها وإن حملت شهادة وشغلت من المناصب ما شغلت.
وإن كانت المرأة لأسرة تحفظ لها حقها بالخروج، فإن غياب أماكن الترفيه في أغلب محافظات العراق تعد مشكلة تعاني منها النساء. أغلب المقاهي مُعدة للرجال فقط ولا مساحة للنساء فيها. بل حتى الشوارع غير المبلطة لا تمنح المرأة مساحة مريحة لتمشي فيها، فإن خرجت بثوبها الأسود عادت ولونه أبيض من التراب، ناهيك عن الحفريات التي تؤذي الاقدام. وحتى إن وجد شارع مبلط فسيلازمها قذف كلمات جارحة من أفواه المتحرشين.
كانت قد سادت مؤخراً النميمة حول جارتنا الشابة التي استشهد زوجها في مجزرة سبايكر، لما قررت ترك ثوب الحداد بعد سنوات، وذلك تماشياً مع متطلبات بيئة عملها كطبيبة أطفال، وهي المعيلة لنفسها ولابنتها.
قرار الأرملة بترك لون الحداد خلال العمل، لكون لهيب الصيف ينجذب للأسود ويجعلها عرضة لأمراض كثيرة، عرّضها لألسنة النمامين والنمامات الذين “شككوا” فيها، وأن ما ذلك إلا لأنها “تبحث عن رجال”، والذهاب حد إطلاق صفات عليها وأحياناً تعهيرها.
عادت بصيرتي تتفحص دواخل هؤلاء النسوة فاستقرت عند امرأة بشعر مجعد؛ هي المرأة الوحيدة السافرة بيننا. لطالما حسدت هذه السيدة على حرية ملبسها.. على أنها ليست مجبرة على الاختفاء تحت أكوام الملابس من جوارب وأكمام وعباءات قاتمة.
لكن في تلك العصرونية الحارة استرعى انتباهي أنها كانت تلبس قميصاً بأكمام طويلة وبنطالها طويل. عبرتُ عن استغرابي لملبسها في هذا الحر، فسألتُ بهمس:
“ها خالة شنو.. حتلبسين حجاب؟”.
ضحكت ثم رفعت كم قميصها لتريني شعر ذراعها، ثم سرعان ما أعادته وأرفقت حركتها بغمزة كأنها تكشف عن سر عظيم وليس عن شعر نابت على ذراعها كما على أذرع الجميع، مفضلة أن تخفيه حتى عن صديقاتها.
تعاني النساء السافرات من ضغط اجتماعي في الصيف لإزالة شعر جسدها. أو ستوصم بعدم النظافة، رغم أن من يوصمها بهذا الوصف هم رجال لا أحد يعايرهم بأجسادهم المشعرة أو نساء لديهن الشعر والمعاناة ذاتها.
لنتحدث عن إزالة الشعر إذن. عن الحسابات التي تُسيِّر العملية.
كثيرات يتجهن لاستخدام شفرة الحلاقة لأن تكلفتها المادية أقل من غيرها، حيث يتراوح ما بين ألف إلى أربعة آلاف دينار عراقي.
وإذا قررن اختيار نوع رخيص فإنه عادة ما يكون رديئاً، ثم إذا كررن استعمال الأداة ذاتها من أجل التوفير فستدفع الثمن في صحتها على المدى البعيد، حيث ينبت الشعر تحت الجلد وتظهر الالتهابات.
ثم أن الالتهابات الناجمة عن الحلاقة المتكررة في المناطق الحساسة يؤدي إلى اسمرارها، مما يجعل المرأة تحت وطأة الضغط الاجتماعي وتنميطه للجمال؛ فلون هذه المناطق يجب أن يكون “ابيض وناعم مرمر” حتى لو كانت المرأة سمراء!
وليست هناك رفاهية، حتى لو استخدمت النساء الشمع أو الحلاوة لإزالة الشعر، وخصوصاً في الصيف. وصحيح أن ألم الإزالة لحظة ويعدي، ولكن أثره على المدى البعيد لا يزول إذ يسبب التجاعيد والترهلات المبكرة مما يجعل نساء كثيرات يستخدمن لمنتجات كيماوية “ضد التجاعيد”.
طبعاً قلة من النساء يستطعن تحمل تكلفة إزالة الشعر بالليزر، إذ يتراوح سعر الجلسة الواحدة بين ٢٥-٦٠ دولارا، باختلاف الجهاز والمركز.
قاطع صوت الجرس سلسلة تفكيري لتظهر صديقة أخرى لأمي وزميلاتها.
كانت يدها ملفوفة بضماد طبي.. فهمنا على الفور، ولكنها قالت مستبقة إيانا أنها وقعت حينما كانت تنظف مروحة السقف.
جميعنا -حتى أنا أصغرهن- كنا نعلم أن ما ذلك إلا من فعل زوجها سليط اللسان واليد.
بالتأكيد عنّفها لأمر تافه كعادته فهو لا يحتاج عادة مبرراً لعنفه فما بالك بالصيف!
يأتي الصيف فيصير “حجة” تبيح للمُعنِّفين إيذاء النساء حوله. اذ يزداد العنف الأسري مع ازدياد درجات الحرارة وتدهور الوضع الاقتصادي، كأن المرأة آلة يُنفِّسُ بها الرجل عن غضبه.
لا يلاحظ زوجها ولا أزواج وآباء وأبناء غيره كيف تقضي النساء نصف يومهن في التنظيف والطبخ وتلبية احتياجات الأسرة، سواء كانت امرأة عاملة أو أم أو كليهما!
يتزامن الصيف مع العطل المدرسية.. فتزداد مهام الأم ونساء البيت مع تواجد أغلب افراد العائلة في البيت وتزداد طلباتهم. تقضي المرأة العراقية حوالي ست ساعات من يومها في العمل والرعاية المنزلية، ما بين إعداد الطعام والتنظيف ورعاية الأطفال وكبار السن وتلبية طلبات البالغين، ويزداد عدد هذه الساعات إذا كانت المرأة تسكن مع أهل زوجها في “بيت العيال”.
فحتى في أيام الدورة الشهرية ووسط الألم تُجبر المرأة على تلبية طلبات الأسرة، ومن المحرم عليها ان تبوح بنزفها. ويزيد من وابل الأمر انقطاع التيار الكهربائي لتُطبخ النساء بينما تطبخ لُقمة الرجال والأطفال..
تتعرض النساء للإرهاق والتعب النفسي والجسدي بسبب الحرارة المرتفعة التي تؤثر على نشاطهن وصحتهن.. فمن يخفف عنهن؟
النساء للنساء..
وجلسات الشاي البيتية هذه التي كثيراً ما توصم بأنها “حجي نسوان” وتضييع وقت، كثيراً ما تكون هي المساحات الوحيدة المتاحة للنساء للحديث ولمؤازرة إحداهن الأخرى.. هنا حيث تنهمر دموعهن وترتفع ضحكاتهن والنكات والسخرية من مشاكلهن كل على طريقتها.
رغم أن بعضهن خضعن لرفض أنوثتهن وحاربن غيرهن من النساء، لكن هذا لا يمحي وجود اللواتي يمسكن بيد بعضهن البعض ويصغين بحُب وتعاضد. يسندن ويصبرن بعض ويتشاركن التجارب والمعرفة الحياتية محاولات أن يتجاوزن أزمات وتعقيدات المجتمع والطبيعة والمناخ.. حتى الصيف القادم.
** فضلت الكاتبة والمتحدثات عدم الإشارة إلى اسمهن الحقيقي.