"أقيموا لها التماثيل"

رجال يبكون البِغال: "كانت معنا في السلم والحرب" 

رشيد صوفي

08 آب 2023

يقترح سياسي كردي إقامة تماثيل للبغال تخليداً لدورها في "الثورة الكردية" والمجتمع الريفي الكردستاني، ويبكي رجلان على بغلتيهما بعد أن فارقاهما في ظروف عصيبة.. بينما يشكو الجميع نكران جميلها.. قصة البغال في كردستان من الحرب إلى السلم.

بكى شكري عبد الله كثيراً عندما فارقت “سوري” الحياة، وما زال يبكي كلما يتذكرها بعد مرور عشرات السنين على رحيلها. 

كانت “سوري” تنقل الأسلحة والأمتعة وحتى الجرحى خلال معارك الكرد مع قوات صدام حسين في ثمانينيات القرن الماضي، ما جعلها عزيزة لدى صاحبها. 

تلك البغلة نفقت بقصف جوي لطيران الجيش العراقي استهدف مفرزة من مفارز البيشمركة قرب الحدود العراقية التركية نهاية الثمانينيات. 

كان عبد الله (63 عاماً) عنصراً في المفرزة، وكانت “سوري” ترعى في مرعى أخضر قريب عندما وقع القصف، ويشعر الرجل بتأنيب ضمير كلما تذكر أنه لم يستطع حمايتها. 

“سميتها سوري أي البغلة الحمراء، لأنها كانت حمراء اللون”، يقول لـ”جمّار”. 

كان للبغال دور مهم في حياة الكرد، فهي دواب معروفة بقدرتها على النقل والحمل، كما أنها تتحلى بالهدوء والصبر ومواصلة السير وسط الطرق الوعرة. 

وما زال عبد الله يشعر حتى الآن بامتنان إزاء بغلته سوري لأنها خففت الأعباء عنه طيلة عامين متواصلين في التنقل بين المناطق بدءاً من الحدود الإيرانية في محافظة السليمانية وصولاً إلى نهاية الحدود العراقية التركية في منطقة زاخو، متحملة أجواء الشتاء والبرد القارس وحر الصيف الشديد. 

والبغل حيوان أليف هجين ينتج عن تزاوج الفرس (أنثى الخيل) مع ذكر الحمار، وهو ثديي من آكلات الأعشاب. 

البغال على سفوح جبال كردستان – تصوير الكاتب 

ويشبه البغل أبويه إلى حد ما في أذنيه الطويلتين وعرفه القصير وذيله الذي توجد به خصلة شعر طويلة في نهايته كما عند الحمار. 

ويرث عن الحمار كذلك صغر رأسه ودقة قوائمه وصغر حوافره، ويشبه أمه الفرس في قوتها وضخامة جسمها واللون والشكل. 

وهو حيوان معمّر وعقيم وكذلك أنثاه، وهو قليل التعرُّض للأمراض ويمتاز ببصره وقوته، لذا ينجز أعمالاً شاقة يعجز عنها الحصان. 

وبسبب الطبيعة الجبلية الوعرة في كردستان العراق، كانت البغال قديماً أفضل وسيلة نقل داخل مناطق الإقليم، وقد استُخدمت حتى في الأغراض العسكرية. 

ريفنك هروري، السياسي الكردي وعضو برلمان إقليم كردستان، یستذكر بغلاً كان يملكه في ثمانينيات القرن الماضي، حمله على ظهره أعواماً عدة في تنقلاته في المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات البيشمركة. 

ويحرص هروري (60 عاماً) على عدم نسيان فضل هذا البغل الذي تحمّل كثيراً من المشقات والصعوبات من دون أن يفقد هدوءه وصبره. 

“كان بغلاً قوياً وحساساً. كنت أحبه كثيراً لكنني فقدته بسبب اضطراري للهجرة إلى تركيا عام 1988، وحينها بكيت كثيراً عندما تركته، وكلما أتذكره أشعر بالتقصير تجاهه”، يقول لـ”جمّار”. 

كان بغل هروري ذكياً ومدركاً للطرق الخطرة والوعرة والآمنة. 

في إحدى الليالي كان هروري عائداً من واجبه إلى مقر رئيسي للبيشمركة في جبل كارة، وكانت الأجواء ضبابية والغابات كثيفة فضلّ طريقه، إلا أن البغل قاده إلى الطريق الصحيح المؤدي إلى المقر. 

“لولا ذكاء البغل لتعرّضت حياتي للخطر”. 

كما ساعده البغل كثيراً في تنقلاته خلال إجراء اللقاء والندوات مع سكان القرى الواقعة تحت سيطرة البيشمركة، وفي إحدى المرات نقله من كردستان إلى إيران في رحلة استمرت سبعة أيام عندما ذهب في زيارة علاجية. 

وسيلة رئيسة 

حتى بداية سبعينيات القرن الماضي، كانت البغال وسيلة النقل الرئيسة في أغلب المناطق الجبلية في كردستان، إذ أن معظم طرق الأرياف والقرى الجبلية غير معبدة ومن الصعوبة الوصول إليها، لذلك أصبح امتلاك البغل ضرورة لا يمكن التخلي عنها. 

كان حاجي مصطفى (71 عاماً)، وهو من أهالي قرية ويزة شمالي أربيل على الحدود العراقية الإيرانية، يمتلك بغلة سماها “جوان” ومعناها الجميلة في اللغة الكردية. 

ويتذكر أنه عاش مع البغلة أفضل أيام شبابه، إذ كان يتباهى بها أمام شباب القرية. 

تصوير الكاتب 

ساهمت جوان في تحسين حياة مصطفى الذي كان يستخدمها في نقل مواد ومستلزمات سكان القرية والمناطق المجاورة لها، خصوصا المواد الغذائية والحنطة والشعير والتبغ وثمار الفاكهة وغيرها. 

“كانت تستطيع حمل أكثر من 150 كيلوغراماً في كل مرة، وكنت أقبض 7 إلى 8 دنانير عن كل حمل على ظهر البغلة من قريتنا إلى أربيل، وهو مبلغ جيد في ذلك الحين”. 

اشترى حاجي مصطفى بغلته بـ30 ديناراً في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكان امتلاك البغل في ذلك الوقت بمثابة شراء سيارة راقية في الوقت الحالي. 

وقد كان ينقل بها كل شيء حتى العرائس. 

“نقلت بها أيضاً العديد من المرضى من النساء والرجال إلى المستشفى، كما استخدمتها للتنقل في الكثير من المناسبات الاجتماعية والأعمال اليومية”، يقول لـ”جمّار”. 

وساعده البغل على توطيد علاقاته بأهالي المناطق الأخرى لأنه سهّل له التجوال المستمر بين الأرياف والقرى. 

وكان أصحاب البغال في القرية ينظمون سباقات بين دوابهم بشكل شبه يومي، لذا كان حاجي مصطفى يعتني بجوان جيداً لتتميز بين بقية الحيوانات. 

وأمضى أكثر من خمسة أعوام في “صداقة قوية” مع جوان، لكنه تخلى عنها عندما اشترى سيارة “بيك آب”. 

تتميز البغال بأنها أكثر صلابة من الخيول، كما تأكل وجباتٍ أقل، ولديها قدرة تحمل أكبر من الخيول التي تساويها في الوزن والطول، ما يجعلها من الحيوانات المرنة التي تستطيع العيش في البيئات القاسية. 

وكذلك يتميز البغل بأنه قليل العناد وكثير الذكاء، ما يعني أنه أكثر حذراً وإدراكاً للخطر عند ركوبه. 

وتصدر البغال أصوات النهيق والصهيل، كما تصدر أصواتاً أخرى تجمع بين الصوتين معاً عند حماسها أو تعرضها للخطر. 

لكنها لم تعد مثيرة للاهتمام كما في الماضي. 

أزاحتها السيارات 

يعزو محمد عمر (51 عاماً)، وهو يعمل في تربية وبيع البغال، سبب تراجع استخدامها إلى اعتماد أهالي القرى على السيارات وتطور نمط الحياة. 

وعلى الرغم من ذلك، ما زال بعض سكان المناطق الجبلية الوعرة والمهربين الذين ينقلون البضائع إلى تركيا وإيران يستخدمونها. 

البغال داخل مدن كردستان – تصوير الكاتب 

“عندما كان التهريب مزدهراً، كان سعر البغل الواحد يتجاوز أربعة آلاف دولار، في حين يتراوح سعره حالياً بين 600 و1000 دولار”، يقول عمر لـ”جمّار”. 

ويشير إلى أن سعر البغل يعتمد على نوعيته وعمره وقوته وصحته، موضحاً أن أثنى البغل مرغوبة أكثر في الشراء كونها تتمتع بقوة وهدوء أكبر من الذكر. 

ويرغب مقتنو البغال باللون الرمادي والأصفر والأحمر. 

ويبدأ البغل برفع الأحمال وهو في الرابعة من عمره، ويستمر في ذلك حتى عمر 30 عاماً، كما أنه يقاوم الأمراض. 

وتعد المناطق الكردية في إيران من المصادر الأساسية للبغال. 

يقول سليمان تمر رئيس منظمة حقوق الحيوان في كردستان إن صنف البغل الكردي الأصيل يواجه انقراضاً ملحوظاً بسبب الإهمال الكبير وتراجع الإقبال على تربيته في الأعوام الأخيرة، ولم يبق من هذا الصنف سوی عدد قلیل في المناطق الجبلية. 

ويتمتع البغل الكردي بمميزات عدة منها عرض مساحة أرجله وضخامة عضلاته وهدوء طبعه ومقاومته للأجواء الباردة، فضلاً عن قدرته على حمل أثقال تتجاوز 200 كيلوغرام. 

وبإمكان هذه البغال السير أكثر من 25 كيلومتراً من دون استراحة، وفقاً لتمر. 

وجُلبت أنواع من البغال من مناطق جنوب العراق والخليج، إلا أنها لم تستطع التأقلم مع الأجواء في إقليم كردستان. 

ثمينة في الوعورة 

على الرغم من أن استخدام البغال شهد تراجعاً ملحوظاً، إلا أن سكان بعض المناطق الجبلية ما زالوا يعتمدون عليها بشكل كبير في حياتهم اليومية. 

ففي بلدة تويلة المحاذية للحدود الإيرانية، ما زالت البغال تؤدي دوراً رئيساً في التنقل ورفع الحمولات. 

تحتوي هذه البلدة على شوارع ضيقة ووعرة جداً يتعذر على السيارات الوصول إليها، ما منح البغال ثمناً مرتفعاً مقارنة بمناطق أخرى. 

“يتراوح سعر البغل الجيد هنا بين 1000 و1500 دولار، وهذا مبلغ يمكن شراء سيارة قديمة به لكنها لن تكون مفيدة كالبغل”، يقول عزيز سليم أحد سكان القرية. 

وكانت مديرية بلدية حلبجة أعلنت في وقت سابق تعيين بغال لاستخدامها في رفع النفايات في بلدة تويلة الجبلية شرقي المحافظة. 

وألزمت البلدية إحدى الشركات العاملة في رفع النفايات بناحية تويلة بتثبيت أربعة بغال لاستخدامها في رفع النفايات باعتبار المناطق التي تستخدم فيها هذه البغال وعرة وضيقة يصعب وصول الآليات إليها. 

وخصصت الشركة مبلغ 95 ألف دینار لكل بغل، كمصاریف لتوفير العلف والاحتياجات الأخرى. 

تصوير الكاتب 

وتقع بلدة تويلة على الحدود العراقية الإيرانية، على بعد نحو 34 كيلومتراً شرقي حلبجة. 

ويعد يوم 8 أيار من كل عام يوماً دولياً للحمير تحتفي به الكثير من شعوب المعمورة، أطلقته منظمات حقوق الحيوان بهدف الاحتفال بقرابة 59 مليوناً من الحمير والبغال التي تعيش في الكرة الأرضيّة، بحيث يتم الدفاع عن الحمار وتوعية الجماهير بضرورة الاهتمام به وتقديم العناية اللازمة له. 

ويقترح هروري إقامة تماثيل للبغال تخليداً لدورها في “الثورة الكردية” والمجتمع الريفي الكردستاني. 

ومنكم/ن نستفيد ونتعلم

هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media

اقرأ ايضاً

بكى شكري عبد الله كثيراً عندما فارقت “سوري” الحياة، وما زال يبكي كلما يتذكرها بعد مرور عشرات السنين على رحيلها. 

كانت “سوري” تنقل الأسلحة والأمتعة وحتى الجرحى خلال معارك الكرد مع قوات صدام حسين في ثمانينيات القرن الماضي، ما جعلها عزيزة لدى صاحبها. 

تلك البغلة نفقت بقصف جوي لطيران الجيش العراقي استهدف مفرزة من مفارز البيشمركة قرب الحدود العراقية التركية نهاية الثمانينيات. 

كان عبد الله (63 عاماً) عنصراً في المفرزة، وكانت “سوري” ترعى في مرعى أخضر قريب عندما وقع القصف، ويشعر الرجل بتأنيب ضمير كلما تذكر أنه لم يستطع حمايتها. 

“سميتها سوري أي البغلة الحمراء، لأنها كانت حمراء اللون”، يقول لـ”جمّار”. 

كان للبغال دور مهم في حياة الكرد، فهي دواب معروفة بقدرتها على النقل والحمل، كما أنها تتحلى بالهدوء والصبر ومواصلة السير وسط الطرق الوعرة. 

وما زال عبد الله يشعر حتى الآن بامتنان إزاء بغلته سوري لأنها خففت الأعباء عنه طيلة عامين متواصلين في التنقل بين المناطق بدءاً من الحدود الإيرانية في محافظة السليمانية وصولاً إلى نهاية الحدود العراقية التركية في منطقة زاخو، متحملة أجواء الشتاء والبرد القارس وحر الصيف الشديد. 

والبغل حيوان أليف هجين ينتج عن تزاوج الفرس (أنثى الخيل) مع ذكر الحمار، وهو ثديي من آكلات الأعشاب. 

البغال على سفوح جبال كردستان – تصوير الكاتب 

ويشبه البغل أبويه إلى حد ما في أذنيه الطويلتين وعرفه القصير وذيله الذي توجد به خصلة شعر طويلة في نهايته كما عند الحمار. 

ويرث عن الحمار كذلك صغر رأسه ودقة قوائمه وصغر حوافره، ويشبه أمه الفرس في قوتها وضخامة جسمها واللون والشكل. 

وهو حيوان معمّر وعقيم وكذلك أنثاه، وهو قليل التعرُّض للأمراض ويمتاز ببصره وقوته، لذا ينجز أعمالاً شاقة يعجز عنها الحصان. 

وبسبب الطبيعة الجبلية الوعرة في كردستان العراق، كانت البغال قديماً أفضل وسيلة نقل داخل مناطق الإقليم، وقد استُخدمت حتى في الأغراض العسكرية. 

ريفنك هروري، السياسي الكردي وعضو برلمان إقليم كردستان، یستذكر بغلاً كان يملكه في ثمانينيات القرن الماضي، حمله على ظهره أعواماً عدة في تنقلاته في المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات البيشمركة. 

ويحرص هروري (60 عاماً) على عدم نسيان فضل هذا البغل الذي تحمّل كثيراً من المشقات والصعوبات من دون أن يفقد هدوءه وصبره. 

“كان بغلاً قوياً وحساساً. كنت أحبه كثيراً لكنني فقدته بسبب اضطراري للهجرة إلى تركيا عام 1988، وحينها بكيت كثيراً عندما تركته، وكلما أتذكره أشعر بالتقصير تجاهه”، يقول لـ”جمّار”. 

كان بغل هروري ذكياً ومدركاً للطرق الخطرة والوعرة والآمنة. 

في إحدى الليالي كان هروري عائداً من واجبه إلى مقر رئيسي للبيشمركة في جبل كارة، وكانت الأجواء ضبابية والغابات كثيفة فضلّ طريقه، إلا أن البغل قاده إلى الطريق الصحيح المؤدي إلى المقر. 

“لولا ذكاء البغل لتعرّضت حياتي للخطر”. 

كما ساعده البغل كثيراً في تنقلاته خلال إجراء اللقاء والندوات مع سكان القرى الواقعة تحت سيطرة البيشمركة، وفي إحدى المرات نقله من كردستان إلى إيران في رحلة استمرت سبعة أيام عندما ذهب في زيارة علاجية. 

وسيلة رئيسة 

حتى بداية سبعينيات القرن الماضي، كانت البغال وسيلة النقل الرئيسة في أغلب المناطق الجبلية في كردستان، إذ أن معظم طرق الأرياف والقرى الجبلية غير معبدة ومن الصعوبة الوصول إليها، لذلك أصبح امتلاك البغل ضرورة لا يمكن التخلي عنها. 

كان حاجي مصطفى (71 عاماً)، وهو من أهالي قرية ويزة شمالي أربيل على الحدود العراقية الإيرانية، يمتلك بغلة سماها “جوان” ومعناها الجميلة في اللغة الكردية. 

ويتذكر أنه عاش مع البغلة أفضل أيام شبابه، إذ كان يتباهى بها أمام شباب القرية. 

تصوير الكاتب 

ساهمت جوان في تحسين حياة مصطفى الذي كان يستخدمها في نقل مواد ومستلزمات سكان القرية والمناطق المجاورة لها، خصوصا المواد الغذائية والحنطة والشعير والتبغ وثمار الفاكهة وغيرها. 

“كانت تستطيع حمل أكثر من 150 كيلوغراماً في كل مرة، وكنت أقبض 7 إلى 8 دنانير عن كل حمل على ظهر البغلة من قريتنا إلى أربيل، وهو مبلغ جيد في ذلك الحين”. 

اشترى حاجي مصطفى بغلته بـ30 ديناراً في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكان امتلاك البغل في ذلك الوقت بمثابة شراء سيارة راقية في الوقت الحالي. 

وقد كان ينقل بها كل شيء حتى العرائس. 

“نقلت بها أيضاً العديد من المرضى من النساء والرجال إلى المستشفى، كما استخدمتها للتنقل في الكثير من المناسبات الاجتماعية والأعمال اليومية”، يقول لـ”جمّار”. 

وساعده البغل على توطيد علاقاته بأهالي المناطق الأخرى لأنه سهّل له التجوال المستمر بين الأرياف والقرى. 

وكان أصحاب البغال في القرية ينظمون سباقات بين دوابهم بشكل شبه يومي، لذا كان حاجي مصطفى يعتني بجوان جيداً لتتميز بين بقية الحيوانات. 

وأمضى أكثر من خمسة أعوام في “صداقة قوية” مع جوان، لكنه تخلى عنها عندما اشترى سيارة “بيك آب”. 

تتميز البغال بأنها أكثر صلابة من الخيول، كما تأكل وجباتٍ أقل، ولديها قدرة تحمل أكبر من الخيول التي تساويها في الوزن والطول، ما يجعلها من الحيوانات المرنة التي تستطيع العيش في البيئات القاسية. 

وكذلك يتميز البغل بأنه قليل العناد وكثير الذكاء، ما يعني أنه أكثر حذراً وإدراكاً للخطر عند ركوبه. 

وتصدر البغال أصوات النهيق والصهيل، كما تصدر أصواتاً أخرى تجمع بين الصوتين معاً عند حماسها أو تعرضها للخطر. 

لكنها لم تعد مثيرة للاهتمام كما في الماضي. 

أزاحتها السيارات 

يعزو محمد عمر (51 عاماً)، وهو يعمل في تربية وبيع البغال، سبب تراجع استخدامها إلى اعتماد أهالي القرى على السيارات وتطور نمط الحياة. 

وعلى الرغم من ذلك، ما زال بعض سكان المناطق الجبلية الوعرة والمهربين الذين ينقلون البضائع إلى تركيا وإيران يستخدمونها. 

البغال داخل مدن كردستان – تصوير الكاتب 

“عندما كان التهريب مزدهراً، كان سعر البغل الواحد يتجاوز أربعة آلاف دولار، في حين يتراوح سعره حالياً بين 600 و1000 دولار”، يقول عمر لـ”جمّار”. 

ويشير إلى أن سعر البغل يعتمد على نوعيته وعمره وقوته وصحته، موضحاً أن أثنى البغل مرغوبة أكثر في الشراء كونها تتمتع بقوة وهدوء أكبر من الذكر. 

ويرغب مقتنو البغال باللون الرمادي والأصفر والأحمر. 

ويبدأ البغل برفع الأحمال وهو في الرابعة من عمره، ويستمر في ذلك حتى عمر 30 عاماً، كما أنه يقاوم الأمراض. 

وتعد المناطق الكردية في إيران من المصادر الأساسية للبغال. 

يقول سليمان تمر رئيس منظمة حقوق الحيوان في كردستان إن صنف البغل الكردي الأصيل يواجه انقراضاً ملحوظاً بسبب الإهمال الكبير وتراجع الإقبال على تربيته في الأعوام الأخيرة، ولم يبق من هذا الصنف سوی عدد قلیل في المناطق الجبلية. 

ويتمتع البغل الكردي بمميزات عدة منها عرض مساحة أرجله وضخامة عضلاته وهدوء طبعه ومقاومته للأجواء الباردة، فضلاً عن قدرته على حمل أثقال تتجاوز 200 كيلوغرام. 

وبإمكان هذه البغال السير أكثر من 25 كيلومتراً من دون استراحة، وفقاً لتمر. 

وجُلبت أنواع من البغال من مناطق جنوب العراق والخليج، إلا أنها لم تستطع التأقلم مع الأجواء في إقليم كردستان. 

ثمينة في الوعورة 

على الرغم من أن استخدام البغال شهد تراجعاً ملحوظاً، إلا أن سكان بعض المناطق الجبلية ما زالوا يعتمدون عليها بشكل كبير في حياتهم اليومية. 

ففي بلدة تويلة المحاذية للحدود الإيرانية، ما زالت البغال تؤدي دوراً رئيساً في التنقل ورفع الحمولات. 

تحتوي هذه البلدة على شوارع ضيقة ووعرة جداً يتعذر على السيارات الوصول إليها، ما منح البغال ثمناً مرتفعاً مقارنة بمناطق أخرى. 

“يتراوح سعر البغل الجيد هنا بين 1000 و1500 دولار، وهذا مبلغ يمكن شراء سيارة قديمة به لكنها لن تكون مفيدة كالبغل”، يقول عزيز سليم أحد سكان القرية. 

وكانت مديرية بلدية حلبجة أعلنت في وقت سابق تعيين بغال لاستخدامها في رفع النفايات في بلدة تويلة الجبلية شرقي المحافظة. 

وألزمت البلدية إحدى الشركات العاملة في رفع النفايات بناحية تويلة بتثبيت أربعة بغال لاستخدامها في رفع النفايات باعتبار المناطق التي تستخدم فيها هذه البغال وعرة وضيقة يصعب وصول الآليات إليها. 

وخصصت الشركة مبلغ 95 ألف دینار لكل بغل، كمصاریف لتوفير العلف والاحتياجات الأخرى. 

تصوير الكاتب 

وتقع بلدة تويلة على الحدود العراقية الإيرانية، على بعد نحو 34 كيلومتراً شرقي حلبجة. 

ويعد يوم 8 أيار من كل عام يوماً دولياً للحمير تحتفي به الكثير من شعوب المعمورة، أطلقته منظمات حقوق الحيوان بهدف الاحتفال بقرابة 59 مليوناً من الحمير والبغال التي تعيش في الكرة الأرضيّة، بحيث يتم الدفاع عن الحمار وتوعية الجماهير بضرورة الاهتمام به وتقديم العناية اللازمة له. 

ويقترح هروري إقامة تماثيل للبغال تخليداً لدورها في “الثورة الكردية” والمجتمع الريفي الكردستاني.