"ماذا نأكل؟".. عن طعام القتلة والمقتولين
09 تموز 2023
ماذا كُنا نأكل أثناءَ الحرب، وماذا أكلنا بعدها؟ وماذا أكل الجنود والضباط في حرب العراق وإيران؟ ماذا أكلَ الطغاة؟ ماذا كان عواد بزونة يأكل؟.. هل للغذاء سرٌّ في قدرتنا على القتال؟ يوميات عن طعام القتلة والمقتولين.
أنا جبان.
نبت الخوف في صدري منذ الصغر، رُبّما كانت البداية عندما سقطت الصواريخ الأمريكية عام 2003 على الفرقة الحزبيّة خلف بيتنا. لكنني لم أعترف لنفسي بذلك حتى بلغت السابعة والعشرين. ويوم فكرت بتجاوز خوفي والخروج من عزلتي، نصحوني بتجربة السفر إلى مكان بعيد.
جوازي لم يترك لي خيارات كثيرة، لذا حسمت أمري وقررت الذهاب إلى إيران. وحين كنت في الطائرة المتوجّهة إلى طهران، شعرت برعشة خفيفة، ثم انخفاض مفاجئ لحرارة الجسم، وهبوط في ضغط الدم.. لنقل إنني كنت أرتجف يومَ تذكرت أنني ذاهب لشعب بيننا وبينهم حرب استمرت لثماني سنوات، وأنهار دم.
سألت نفسي هل تجاوزوا الرغبة في الانتقام منّا، وهل تجاوزنا نحن ذلك؟
سمعتُ امرأة في الكرسي، خلفي، تعدّد أسماء أخوتها الذين قتلوا في الحرب. صارت يدي ترتجف أكثر. استعدت للحظة كل أحاديث الحرب التي طالما ردّدها أبي على مسامعنا. أتذكر مرّة أنه تحدث عن الجنود الإيرانيين الذين رموا بأنفسهم أمام الدبابات العراقية ليؤخروا سيرها نحو هدفها. تخيّلُ صوت تكسّر العظام وحده جعل جسمي يتصلب، وصارت أضلعي تضغط على رئتي، كدّت أموت من الخوف.
حين وصلت إلى طهران، استقبلتني زينب سوهرابي، مترجمة إيرانية، كنت قد اتفقت معها مسبقاً عبر الأنترنت على مرافقتي. اقلتني بسيارتها “السمند” وقد مرّرنا بالقرب من مقبرة “بهشت زهراء”. بالجانب الذي دفن فيه قتلى حرب إيران، نظرت إلى صور لشباب ربما قد قتلوا على يد أحد أقاربي البعيدين، أو واحد من أعمامي.
انزلقت بنا السيارة نحو الشمال، وصلنا بعد ذلك بأربع ساعات إلى “جالوس”، كنت مع امرأة بعمر 43 عاماً وشهدت الحرب بأكملها، وقد خسرت أخاً لها هناك.
اقتادتني خارج الطريق العام، مشينا نحو ساعة بين الجبال حتى وصلنا إلى البيت الذي استأجرته لنا. قلت إنها لو قتلتني هنا ثأراً لروح أخيها لن يلاحظها أحد.
لم أنم لثلاثة أيام خوف أن تغدر بي.
تنبّهت المرأة لعينيَّ الغائرتين، وعللَّت ذلك بفعل السهر المستمر، لكنها قالت “يحزنني أن أخبرك أنك جبان”، ثم أضافت ما الذي يخيفك؟ هل تعتقد أنني سأقتلك؟
“نحن وباختلاف المواقع والظروف غير مسؤولين عن تلك الحرب”.
عاد الماء إلى وجهي، كلامها كان مريحاً لقلبي، وشعرت أننا نتبادل الثقة الآن، يبدو أن وقت القتال قد انتهى. لا أنا ولا هي نريد التورط من جديد بمعركة أخرى. ثم ما أن حلَّ الغروب، نبتت رغبة في التحدث عن سيرة البلدين، وقد بدأنا مما تشاركنا به سابقاً، وأعني الحرب، وشرعنا نتحدث عنها بشفافية، لم نكن نسأل من الذي انتصر، كنا نعلم أننا جميعنا خسرنا في تلك الحرب، لذا شرعنا نحصي الخسارات التي تلقيناها في تلك السنين المظلمة، لم تكن الحياة سهلة في إيران، لقد كانت حياة عصيبة ومريرة، مثلما حدث معنا بالضبط. شرعت تتحدث عن تلك الذكريات السيئة، وانتهينا إلى أنهم كانوا – الأغنياء منهم فقط- يأكلون الأشكنة، والأشكنة هي مقلي البصل بالزيت ثم يضاف إليه اللبن المجفف وثوم وبطاطا والشّبت، ولكل فرد من المعزومين قطع من الخبز المجفف “اليابس” للتغميس، وكلما شعروا أن الأشكنة بدأت تنفد زادوا عليها ماءً وملحاً. وفي أحيان كثيرة تقتصر الوصفة على مقلي البصل واللبن المجفف فقط لتعذر توفر باقي المفردات.
وقالت ماذا عنكم؟
لم نكن بأفضل حال منهم، فحتى انتهاء الحرب لم يتحسّن وضعنا الاقتصادي كثيراً. شرّع أبي باستعادة مهارات الحرب وطها لنا “المحروك اصبعه” و”الخميعة”، وفي الطبقين لا تتجاوز الوصفة بقايا الخبز مع الحليب أو المرق مع الزيت.
كان أبي رجلاً محظوظاً، خطه الجميل أنقذه من الموت.
أبعد منصب “أبو القلم” والدي عن الساتر، ووفر له الوقت ليكون طاهي الوحدة العسكرية. لم يكن ليحتاج مهارة كبيرة، هو يطهو “المحروك اصبعه” و”الخميعة” فقط لا غير، هذا ما تشارك في أكله كل الجنود العراقيين.
لكن هناك استثناءً واحداً للذين أكملوا خدمتهم العسكرية في البصرة، لقد تعرّف المقاتلون الذين زاروا المحافظة التي تقع على الخليج لأول مرة على لذة الأسماك البحرية وأنواعها، التي قليلاً ما تصل بغداد ومجاوراتها من المدن.
اصطادوا “مخيط النبي”، سمكة على شكل أفعى برأس كبير مدبب يمكنه ثقبَ ساعد الصياد لو لم يعامله بحرفة. هناك “اللسان”، سمكة من دون عظام مسطحة ومدورة يصطادها الجنود بشبكة مدورة، وسمكة الزبيدي التي كانت لاصطيادها فرحة مشابهة لفرحة تحرير الأرض، لندرتها وطعمها اللذيذ، وتعلموا هناك حشي الصُبور بخلطة خليط مثروم اللومي بصرة والمعدنوس والملح والفلفل.
يذكر عن الجندي جبار، الذي كان وسط الحرب يحرس بيتاً لمسؤول كبير بالقرب من فندق الشيراتون. في البيت الذي حرسه حديقة، وفي الحديقة نخلة تنتج البرحي المُسكّر حتى وهو في مراحل نضجه الأولى عندما يكون رطباً. وعندما يُسأل جبار عن أجمل أيام حياته يجيب أنه يوم كان بالقرب من البرحية، لم يأبه لذكريات الحرب الدامية.
ذكرتُ لها الأطباق التي ارتبطت بالحروب والقتل. كنا نتحلق أنا وإياها حول موقد أمام البيت، بينما صوت الماء المنحدر من الجبل يغلف ليلنا الدافئ.
كنا نشرب الشاي المحلى بأصابع القند.
قلتُ دعينا نراجع قائمة الأكلات لكل القتلة في العالم، وصرت أقول أسماء الطغاة، فتحزر الوجبة المفضلة لكل واحد منهم، والعكس بالعكس.
قلتُ ماذا عن هتلر؟ أجابت يحب البطاطا. وماذا عن صدام حسين سألتني، فقلتُ يحب السمك المسكوف، وترامب يحب الكورن فليكس، لكن ماذا عن القتلة الصغار.. ماذا يأكلون؟ قلنا ورحنا ننصت لصوت المياه، ونحن نفتش عن الإجابة.
ماذا كان عواد بزونة يأكل؟
قاتل صغير، وقاطع طرق بزغ اسمه بعد عام 2002، بدأ بالسيطرة على قريته بالقرب من مزارع العنبر جنوب النجف، ثم سرعان ما توسعت سلطته لتشمل أرض الفرات الأوسط. يشاع أنه قام مرّة بتسليب سيارة من نوع تويوتا سوبر موديل 1985، لعائلة من بغداد، حين استقلها بعد أن قتل من فيها، تناول قضمة من بقايا أكل المغدورين.
كان عباس بزونة يمضغ ساندويش كباب العروق عندما اكتشف أن هناك طفلاً رضيعاً في المقعد الخلفي للسيارة التي سرقها. مسكه بيده اليمنى، ثم حدق في وجهه بينما هو مستمر في مضغ الكباب، ثم رماه من النافذة، في اللحظة التي أنهى آخر لقمة من سندويشته المسروقة.
في النهاية، سقط بزونة بيد الجيش الأمريكي نهاية عام 2004.
بعد أن أنهى جنود المارينز مأدبة غداء دسمة قدمها لهم موظفو ديوان المحافظة، تذوقوا كرات اللحم المحشوة بالبيض المسلوق “عين البقرة” وتفرغوا لعدنان، وبهذا الغداء يمكن إعلان نهاية حقبة قطاعي الطرق وبداية سلطة جزئية للأمريكيين على الدولة.
بعد ذلك شرعت الفلوجة بالتنسيق مع النجف في مواجهة الاحتلال الأمريكي، ومن المصادفة أن الحرب الطائفية كانت بدايتها بارتباط وطني بين السنة والشيعة حيث تبادل أهل الفلوجة والنجف الأغذية والسلاح، خسر الجيش الأمريكي العديد من جنوده في تلك المعارك، كانت حرب شوارع، لم تكن لسلطة الطيران الأمريكي فرصة بأن تحسم المعركة، فضرب الأمريكيون المدينتين في اللحظة نفسها، وقطعوا الغذاء والماء على الفلوجة لثلاثة أسابيع[1].
بعد ذلك عاد العراقيون إلى وجباتهم الطبيعية حتى في أيام الحرب الطائفية.
لكن ماذا عن السياسيين؟. لأكن صادقاً، لم أحظ بفرصة التلصص على الطبقة السياسية، لكنني حظيت بفرصة التلصّص على حمايات الطبقة تلك.
كنت أسكن في شقة وسط بغداد يقع خلفها شارع كامل احتله حراس أمنيون لمسؤول سابق بدرجة رئيس وزراء. شغلوا كل بيت في الشارع، وكنت أجلس على سطح البناية أراقب حركتهم ورتابتهم العادية، واكتشفت أنهم اعتادوا طهي التشريب.
تبدأ عملية الطهي بمعركة ومشادة كلامية في الغرفة العلية، أراقب ذلك المشهد عبر النوافذ المفتوحة، ربما تبدأ المشادة حول من يجلب الخضار واللحم من الجزار، وتنتهي بمن يطبخ الليلة، حتى يتفقوا على واحد منهم، وهو الذي سيمر عبر درج البيت إلى الشارع، فأتحول أنا إلى الجهة الأخرى من السطح مراقباً حركة المتبضع، ليعود بعد ذلك ويستعين بجدر “الفافون الكبير”، ويطهو التشريب لعشرة أشخاص تقريباً، ويمكن لأي منا أن يحزر ماذا يأكل هؤلاء، حتى لو لم يكن متلصصا مثلي قد رصد الطبخة.
كروشهم المندفعة إلى الأمام لا تفسر شيئاً غير أن ذلك أثر أكل التشريب المستمر.
والآن وصلنا لصحون “داعش” الدموية، وهنا سيبدو أننا سنتخلى عن كلمة صحون، فكثيراً ما عثر على قناصين قتلى موصولين إلى أكياس من المغذي، يقنطون في موضع صغير يمكثون فيه لأسابيع.
عندما أنهينا لعبتنا تلك، عدنا للمنزل بعد أن أطفأنا الموقد، وتوجهت إلى مطبخ البيت، ورحت أعد الباستا بصلصة البيستو وأقول في نفسي هل للغذاء سر في قدرتنا على القتال؟ لم تدخل إيطاليا في حرب منذ زمن بعيد، هل للباستا أثر في ذلك؟
وماذا عني وعما أكلته طيلة حياتي؟ هل كنت آكل طعام القتلة أم المقتولين؟
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
أنا جبان.
نبت الخوف في صدري منذ الصغر، رُبّما كانت البداية عندما سقطت الصواريخ الأمريكية عام 2003 على الفرقة الحزبيّة خلف بيتنا. لكنني لم أعترف لنفسي بذلك حتى بلغت السابعة والعشرين. ويوم فكرت بتجاوز خوفي والخروج من عزلتي، نصحوني بتجربة السفر إلى مكان بعيد.
جوازي لم يترك لي خيارات كثيرة، لذا حسمت أمري وقررت الذهاب إلى إيران. وحين كنت في الطائرة المتوجّهة إلى طهران، شعرت برعشة خفيفة، ثم انخفاض مفاجئ لحرارة الجسم، وهبوط في ضغط الدم.. لنقل إنني كنت أرتجف يومَ تذكرت أنني ذاهب لشعب بيننا وبينهم حرب استمرت لثماني سنوات، وأنهار دم.
سألت نفسي هل تجاوزوا الرغبة في الانتقام منّا، وهل تجاوزنا نحن ذلك؟
سمعتُ امرأة في الكرسي، خلفي، تعدّد أسماء أخوتها الذين قتلوا في الحرب. صارت يدي ترتجف أكثر. استعدت للحظة كل أحاديث الحرب التي طالما ردّدها أبي على مسامعنا. أتذكر مرّة أنه تحدث عن الجنود الإيرانيين الذين رموا بأنفسهم أمام الدبابات العراقية ليؤخروا سيرها نحو هدفها. تخيّلُ صوت تكسّر العظام وحده جعل جسمي يتصلب، وصارت أضلعي تضغط على رئتي، كدّت أموت من الخوف.
حين وصلت إلى طهران، استقبلتني زينب سوهرابي، مترجمة إيرانية، كنت قد اتفقت معها مسبقاً عبر الأنترنت على مرافقتي. اقلتني بسيارتها “السمند” وقد مرّرنا بالقرب من مقبرة “بهشت زهراء”. بالجانب الذي دفن فيه قتلى حرب إيران، نظرت إلى صور لشباب ربما قد قتلوا على يد أحد أقاربي البعيدين، أو واحد من أعمامي.
انزلقت بنا السيارة نحو الشمال، وصلنا بعد ذلك بأربع ساعات إلى “جالوس”، كنت مع امرأة بعمر 43 عاماً وشهدت الحرب بأكملها، وقد خسرت أخاً لها هناك.
اقتادتني خارج الطريق العام، مشينا نحو ساعة بين الجبال حتى وصلنا إلى البيت الذي استأجرته لنا. قلت إنها لو قتلتني هنا ثأراً لروح أخيها لن يلاحظها أحد.
لم أنم لثلاثة أيام خوف أن تغدر بي.
تنبّهت المرأة لعينيَّ الغائرتين، وعللَّت ذلك بفعل السهر المستمر، لكنها قالت “يحزنني أن أخبرك أنك جبان”، ثم أضافت ما الذي يخيفك؟ هل تعتقد أنني سأقتلك؟
“نحن وباختلاف المواقع والظروف غير مسؤولين عن تلك الحرب”.
عاد الماء إلى وجهي، كلامها كان مريحاً لقلبي، وشعرت أننا نتبادل الثقة الآن، يبدو أن وقت القتال قد انتهى. لا أنا ولا هي نريد التورط من جديد بمعركة أخرى. ثم ما أن حلَّ الغروب، نبتت رغبة في التحدث عن سيرة البلدين، وقد بدأنا مما تشاركنا به سابقاً، وأعني الحرب، وشرعنا نتحدث عنها بشفافية، لم نكن نسأل من الذي انتصر، كنا نعلم أننا جميعنا خسرنا في تلك الحرب، لذا شرعنا نحصي الخسارات التي تلقيناها في تلك السنين المظلمة، لم تكن الحياة سهلة في إيران، لقد كانت حياة عصيبة ومريرة، مثلما حدث معنا بالضبط. شرعت تتحدث عن تلك الذكريات السيئة، وانتهينا إلى أنهم كانوا – الأغنياء منهم فقط- يأكلون الأشكنة، والأشكنة هي مقلي البصل بالزيت ثم يضاف إليه اللبن المجفف وثوم وبطاطا والشّبت، ولكل فرد من المعزومين قطع من الخبز المجفف “اليابس” للتغميس، وكلما شعروا أن الأشكنة بدأت تنفد زادوا عليها ماءً وملحاً. وفي أحيان كثيرة تقتصر الوصفة على مقلي البصل واللبن المجفف فقط لتعذر توفر باقي المفردات.
وقالت ماذا عنكم؟
لم نكن بأفضل حال منهم، فحتى انتهاء الحرب لم يتحسّن وضعنا الاقتصادي كثيراً. شرّع أبي باستعادة مهارات الحرب وطها لنا “المحروك اصبعه” و”الخميعة”، وفي الطبقين لا تتجاوز الوصفة بقايا الخبز مع الحليب أو المرق مع الزيت.
كان أبي رجلاً محظوظاً، خطه الجميل أنقذه من الموت.
أبعد منصب “أبو القلم” والدي عن الساتر، ووفر له الوقت ليكون طاهي الوحدة العسكرية. لم يكن ليحتاج مهارة كبيرة، هو يطهو “المحروك اصبعه” و”الخميعة” فقط لا غير، هذا ما تشارك في أكله كل الجنود العراقيين.
لكن هناك استثناءً واحداً للذين أكملوا خدمتهم العسكرية في البصرة، لقد تعرّف المقاتلون الذين زاروا المحافظة التي تقع على الخليج لأول مرة على لذة الأسماك البحرية وأنواعها، التي قليلاً ما تصل بغداد ومجاوراتها من المدن.
اصطادوا “مخيط النبي”، سمكة على شكل أفعى برأس كبير مدبب يمكنه ثقبَ ساعد الصياد لو لم يعامله بحرفة. هناك “اللسان”، سمكة من دون عظام مسطحة ومدورة يصطادها الجنود بشبكة مدورة، وسمكة الزبيدي التي كانت لاصطيادها فرحة مشابهة لفرحة تحرير الأرض، لندرتها وطعمها اللذيذ، وتعلموا هناك حشي الصُبور بخلطة خليط مثروم اللومي بصرة والمعدنوس والملح والفلفل.
يذكر عن الجندي جبار، الذي كان وسط الحرب يحرس بيتاً لمسؤول كبير بالقرب من فندق الشيراتون. في البيت الذي حرسه حديقة، وفي الحديقة نخلة تنتج البرحي المُسكّر حتى وهو في مراحل نضجه الأولى عندما يكون رطباً. وعندما يُسأل جبار عن أجمل أيام حياته يجيب أنه يوم كان بالقرب من البرحية، لم يأبه لذكريات الحرب الدامية.
ذكرتُ لها الأطباق التي ارتبطت بالحروب والقتل. كنا نتحلق أنا وإياها حول موقد أمام البيت، بينما صوت الماء المنحدر من الجبل يغلف ليلنا الدافئ.
كنا نشرب الشاي المحلى بأصابع القند.
قلتُ دعينا نراجع قائمة الأكلات لكل القتلة في العالم، وصرت أقول أسماء الطغاة، فتحزر الوجبة المفضلة لكل واحد منهم، والعكس بالعكس.
قلتُ ماذا عن هتلر؟ أجابت يحب البطاطا. وماذا عن صدام حسين سألتني، فقلتُ يحب السمك المسكوف، وترامب يحب الكورن فليكس، لكن ماذا عن القتلة الصغار.. ماذا يأكلون؟ قلنا ورحنا ننصت لصوت المياه، ونحن نفتش عن الإجابة.
ماذا كان عواد بزونة يأكل؟
قاتل صغير، وقاطع طرق بزغ اسمه بعد عام 2002، بدأ بالسيطرة على قريته بالقرب من مزارع العنبر جنوب النجف، ثم سرعان ما توسعت سلطته لتشمل أرض الفرات الأوسط. يشاع أنه قام مرّة بتسليب سيارة من نوع تويوتا سوبر موديل 1985، لعائلة من بغداد، حين استقلها بعد أن قتل من فيها، تناول قضمة من بقايا أكل المغدورين.
كان عباس بزونة يمضغ ساندويش كباب العروق عندما اكتشف أن هناك طفلاً رضيعاً في المقعد الخلفي للسيارة التي سرقها. مسكه بيده اليمنى، ثم حدق في وجهه بينما هو مستمر في مضغ الكباب، ثم رماه من النافذة، في اللحظة التي أنهى آخر لقمة من سندويشته المسروقة.
في النهاية، سقط بزونة بيد الجيش الأمريكي نهاية عام 2004.
بعد أن أنهى جنود المارينز مأدبة غداء دسمة قدمها لهم موظفو ديوان المحافظة، تذوقوا كرات اللحم المحشوة بالبيض المسلوق “عين البقرة” وتفرغوا لعدنان، وبهذا الغداء يمكن إعلان نهاية حقبة قطاعي الطرق وبداية سلطة جزئية للأمريكيين على الدولة.
بعد ذلك شرعت الفلوجة بالتنسيق مع النجف في مواجهة الاحتلال الأمريكي، ومن المصادفة أن الحرب الطائفية كانت بدايتها بارتباط وطني بين السنة والشيعة حيث تبادل أهل الفلوجة والنجف الأغذية والسلاح، خسر الجيش الأمريكي العديد من جنوده في تلك المعارك، كانت حرب شوارع، لم تكن لسلطة الطيران الأمريكي فرصة بأن تحسم المعركة، فضرب الأمريكيون المدينتين في اللحظة نفسها، وقطعوا الغذاء والماء على الفلوجة لثلاثة أسابيع[1].
بعد ذلك عاد العراقيون إلى وجباتهم الطبيعية حتى في أيام الحرب الطائفية.
لكن ماذا عن السياسيين؟. لأكن صادقاً، لم أحظ بفرصة التلصص على الطبقة السياسية، لكنني حظيت بفرصة التلصّص على حمايات الطبقة تلك.
كنت أسكن في شقة وسط بغداد يقع خلفها شارع كامل احتله حراس أمنيون لمسؤول سابق بدرجة رئيس وزراء. شغلوا كل بيت في الشارع، وكنت أجلس على سطح البناية أراقب حركتهم ورتابتهم العادية، واكتشفت أنهم اعتادوا طهي التشريب.
تبدأ عملية الطهي بمعركة ومشادة كلامية في الغرفة العلية، أراقب ذلك المشهد عبر النوافذ المفتوحة، ربما تبدأ المشادة حول من يجلب الخضار واللحم من الجزار، وتنتهي بمن يطبخ الليلة، حتى يتفقوا على واحد منهم، وهو الذي سيمر عبر درج البيت إلى الشارع، فأتحول أنا إلى الجهة الأخرى من السطح مراقباً حركة المتبضع، ليعود بعد ذلك ويستعين بجدر “الفافون الكبير”، ويطهو التشريب لعشرة أشخاص تقريباً، ويمكن لأي منا أن يحزر ماذا يأكل هؤلاء، حتى لو لم يكن متلصصا مثلي قد رصد الطبخة.
كروشهم المندفعة إلى الأمام لا تفسر شيئاً غير أن ذلك أثر أكل التشريب المستمر.
والآن وصلنا لصحون “داعش” الدموية، وهنا سيبدو أننا سنتخلى عن كلمة صحون، فكثيراً ما عثر على قناصين قتلى موصولين إلى أكياس من المغذي، يقنطون في موضع صغير يمكثون فيه لأسابيع.
عندما أنهينا لعبتنا تلك، عدنا للمنزل بعد أن أطفأنا الموقد، وتوجهت إلى مطبخ البيت، ورحت أعد الباستا بصلصة البيستو وأقول في نفسي هل للغذاء سر في قدرتنا على القتال؟ لم تدخل إيطاليا في حرب منذ زمن بعيد، هل للباستا أثر في ذلك؟
وماذا عني وعما أكلته طيلة حياتي؟ هل كنت آكل طعام القتلة أم المقتولين؟