"من يحكم شهربان؟".. عدسة مكبّرة على العصابات والفساد والجرائم في المقدادية
06 تموز 2023
يقود مُتنفّذون حرب عصابات داخل المؤسسات الرسمية وفي الشوارع للسيطرة على مدينة المقدادية.. حروبٌ واغتيالات عجز رئيس الوزراء عن إيقافها.. أما المتهمون، فالأسماء المتورّطة كبيرة ولا تُحصى.. فمن يحكم شهربان إذاً؟
من حسن حظ حسين ياسين أنه كان منتبهاً عندما توقفت سيارة أمام صيدليته وامتدت من إحدى نوافذها سبطانة بندقية في وضح النهار.
سارع ياسين إلى الاختباء قبل أن تنطلق بضع رصاصات وتخترق زجاج واجهة الصيدلية لتستقر على جدرانها الداخلية، فنجا من هجوم السيارة التي انطلقت نحو جهة مجهولة.
حدث ذلك في مدينة المقدادية بمحافظة ديالى في بداية شهر نيسان الماضي.
يشغل الصيدلاني حسين ياسين وظيفة ممثل نقابة الصيادلة في المقدادية، وقد تعرض لسلسلة تهديدات قبل هذا الهجوم لرفضه منح رخصة فتح صيدلية غير مستوفية للشروط تقف خلفها جماعات متنفذة.
ويمثل ما جرى لياسين غيضاً من فيض التردي الأمني في المقدادية، حيث لا دور للشرطة ولا أي جهاز أمني آخر من أجهزة الدولة.
اسمان ومشاكل كثيرة
يتنازع اسمان على المدينة، الأول “المقدادية” وهو الاسم الرسمي والحديث، وقد أطلق عليها خلال خمسينيات القرن الماضي نسبة إلى مقداد الرفاعي أحد شيوخ الصوفية والمدفون في أطراف المدينة في القرن السادس الهجري، والثاني “شهربان”، وهو الاسم المعروف تاريخيا وشعبيا والمأخوذ عن اللغة الفارسية.
وتعيش المدينة اليوم واقعاً استثنائياً جعلها من أكثر مناطق العراق التي تعاني من ضعف نفوذ مؤسسات الدولة لصالح الجماعات المسلحة.
ساهم موقعها المميز في ذلك.
تقع المقدادية على بعد أكثر من 40 كم شمال شرق بعقوبة في منتصف الطريق الرابط بين بغداد من جهة وإقليم كردستان وإيران من جهة أخرى -تبعد عن منفذ المنذرية الحدودي 90 كم-، وبذلك أصبحت ممراً مناسباً للتهريب.
“حتى شرطي المرور لا يستطيع اتخاذ قرار في الشارع” يقول ضابط كبير في قيادة شرطة محافظة ديالى عن الأوضاع في المقدادية بعد أن أكد كثيراً على ضرورة إخفاء اسمه وعدم ذكر أي تفاصيل تسهل معرفته من قبل زملائه.
خلال الأسابيع الماضية، ركزت وسائل الإعلام المحلية والدولية على الأخبار القادمة من المدينة التي عُرفت طيلة العقود الماضية بصادراتها من الرمّان والبرتقال والرز والحنطة والشعير، لكن أخبارها في السنوات الأخيرة كانت تفوح برائحة الدم، وكان آخرها ما حصل في أحد أحيائها من استهداف مجهول المصدر لم تكشف عنه التحقيقات الحكومية حتى الآن وراح ضحيته ثمانية أفراد من عائلة واحدة تنتمي لقبيلة كبيرة تتمتع بنفوذ واسع في المدينة والمحافظة.
وتحت الضغط والخوف من رد الفعل لعائلة وعشيرة الضحايا نتيجة الحادث الذي وقع في السادس من آذار الماضي، أجرى محمد شياع السوداني رئيس مجلس الوزراء زيارة للمحافظة بعد ذلك بيومين، لم يصل فيها إلى المقدادية، وإنما اكتفى بالاجتماع بالقيادات الأمنية ومديري الدوائر في بعقوبة.
وخلال ذلك الاجتماع بثّت وسائل الإعلام تصريحات للسوداني احتوت على توبيخ ضمني للقيادات الأمنية العاجزة عن اتخاذ إجراءات حازمة تنهي الجرائم المنظمة والإرهابية في المقدادية وعموم المحافظة التي وصلت لاختطاف واغتيال بعض الأطباء، كما حصل قبل أشهر من خطف الطبيب علي الحسيني ومن ثم اغتيال اختصاصي الأمراض القلبية الدكتور أحمد طلال المدفعي وسط بعقوبة.
ومنح السوداني مهلة للقيادات الأمنية للسيطرة على الانهيار الأمني وفرض القانون، لكنها انتهت من دون الإعلان عن نتيجة تذكر سوى تنفيذ مذكرات إلقاء قبض ضد شخصيات ثانوية مقربة من الفصائل المسلحة والحشد الشعبي ومعظمهم من منظمة بدر.
وأهم تلك الشخصيات مدير استخبارات اللواء 24 في الحشد الشعبي صباح زيني، وهو شقيق النائب صلاح زيني، وقد أطلق سراحه بعد يومين من الاعتقال، إضافة إلى شخص آخر معروف بالتهريب والمتاجرة بالمخدرات يسمى حمودي حمد.
“لا أحد فوق القانون”، هكذا تحدث السوداني في ذلك الاجتماع، لكن الأحداث قبل وبعد التصريح تثبت العكس.
فبعد ذلك التصريح بأقل من شهر وقع الهجوم على صيدلية حسين ياسين في المقدادية.
سلاح يصنع المال
بالعودة إلى الضابط الذي فضّل أن نطلق عليه اسم “عبد الله العراقي”، فإنه يرى أن المدينة قبل عام 2014 كانت تعيش أوضاعاً سيئة لكنها بقدر سوء الأوضاع في بقية مناطق المحافظة نفسه، فقد وقعت فيها هجمات إرهابية كثيرة وتفجيرات كبرى راح ضحيتها الآلاف من أهالي المدينة.
أما بعد ذلك التاريخ، وتحديدا بعد تحرير أطرافها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ارتهن قرارها بشكل كامل للجماعات المسلحة والأذرع الكثيرة الممتدة منها والمستندة إلى نفوذ عائلي وعشائري.
يروي العراقي لـ”جمّار” كواليس جلسات انتخاب قائممقام جديد للمدينة عام 2018 حين اشتعل الصراع بين عائلتين تتمتعان بنفوذ مسلح حاول كل منهما الاستئثار بالمنصب على الرغم من محدودية صلاحياته.
“كانت قواتنا تحمي المجلس المحلي أثناء إحدى جلسات التصويت حين دخلت جماعة مسلحة بسيارات يحمل بعضها أرقاماً حكومية وأفشلت عقد الجلسة بعد توبيخ الحاضرين ثم تهديدهم ومصادرة هواتفهم”.
كادت المواجهة بين الجهات المتنازعة أن تشتعل، أما موقف الشرطة المحلية فقد اتسم بالهدوء وانتظار حل سياسي بين الأطراف المتنازعة.
وبقي منصب القائممقام شاغراً منذ ذلك الحين.
وتنتمي العائلتان اللتان تقاتلتا على المنصب لقبيلة بني تميم ذات النفوذ الساحق في المقدادية.
العائلة الأولى معروفة بعائلة “زيني” وينتمي لها عضو مجلس النواب صلاح زيني، أما العائلة الثانية فهي عائلة “طعيس”، وقد ارتبط اسم أحد أبرز أفرادها بتسريبات نوري المالكي رئيس مجلس الوزراء الأسبق العام الماضي، وهو سعد طعيس آمر ما يسمى لواء أئمة البقيع.
خلطة من جماعات عائلية مسلحة تستند إلى تنظيمات سياسية وحزبية تتقاسم النفوذ بينها على المدينة وتمول نفسها بمصادر كثيرة وغنية، أخطرها تهريب المخدرات والكحول والمشتقات النفطية والأدوية وفرض الإتاوات وغير ذلك.
يفيد العراقي بأن تلك الجماعات لم تقطع حبالها السرية بالجهات الحزبية الأم التي وفرت لها الشرعية القانونية في بداية ظهورها، وغالباً ما تكون منظمة بدر أو عصائب أهل الحق، لكنه يعتقد أن بعضها يرتبط بشكل مباشر بالحرس الثوري الإيراني.
ويذكر أيضاً أن زعماء تلك الجماعات المسلحة لم يكن غالبيتهم قبل عام 2014 يملكون أي تأثير أو نفوذ، فقد كانوا يعملون في مهن بسيطة ويحصلون على موارد مالية محدودة جداً.
كانت الأموال والممتلكات والمواشي والأراضي الزراعية التي تركها الأهالي بعد نزوحهم عام 2014 وما تلاه من عمليات التحرير، المصدر المالي الأول الذي مكّن تلك الجماعات من مدّ جذورها وتثبيت وجودها على الأرض.
ثم تعددت المصادر المالية بعد ذلك، مثل السيطرة على المواد الغذائية وغيرها التي تدخل عبر المدينة قادمة من إقليم كردستان أو إيران وفرض إتاوات عليها، ولاسيما المواد المهربة أو الممنوعة لأن مقدار الإتاوات عليها يكون أعلى بكثير، حتى أن مثنى التميمي محافظ ديالى -وهو ينتمي لمنظمة بدر أيضاً- قدّر قيمة تلك المبالغ بخمسة ملايين دولار يومياً.
بيد “الزعيم”
يسيطر هادي العامري زعيم منظمة بدر على القرار الأمني والإداري في المحافظة منذ عام 2014، حيث أشرف بشكل مباشر على عمليات تحرير المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش وظل ممسكاً بخيوط المحافظة حتى اللحظة، وساهم في تعيين محافظها الحالي منذ عام 2015 ودعمه للبقاء في منصبه على الرغم من محاولات الإقالة الكثيرة التي سعى لها مجلس المحافظة قبل حلّه ومن قبل أعضاء في البرلمان بعد ذلك.
في ليلة زيارته الأخيرة للمحافظة، كان السوداني قد التقى العامري في لقاء معلن فسّره المتابعون للشأن المحلي بأنه محاولة من رئيس الحكومة للحصول على صلاحيات للعمل والتحرك وتغيير بعض القيادات الأمنية في المحافظة.
لكنه لم يستطع تغيير أي من تلك القيادات واكتفى بإمهال الأجهزة الأمنية 14 يوماً للسيطرة على الانفلات الأمني واعتقال المتورطين بالجرائم الأخيرة.
مضت أكثر من شهرين على نهاية المهلة ولم يكشف عن نتائجها ولم يصدر بيان بشأن الموضوع، ويعزّز ذلك من الاعتقاد الراسخ في الأذهان بعجز مؤسسات الدولة الرسمية عن أداء مهامها، وبأن الملف الأمني والإداري في ديالى يمسك به زعيم بدر وليس غيره.
ويذهب عدنان الكناني، خبير أمني، إلى أن المقدادية واحدة من أربع مدن عراقية (بالإضافة لجرف الصخر وسنجار والطارمية) تعاني من وجود إرادات مخابراتية ودولية بشأنها وانقسامات طائفية حادة.
مسدس يحسم مزايدة
عبد الله سعد موظف يعمل في بلدية المقدادية، وهو الآخر اشترط عدم ذكر اسمه الحقيقي، حدثنا عن وجه آخر من صراع الجماعات المسلحة، وهو الاستيلاء على ممتلكات الدولة سواء من خلال شرائها أو تأجيرها، ولم يتحدّث كثيراً عن الصراع على الأملاك الكبيرة التي تملكها البلدية، بل اكتفى بسرد قصة عن صراع حصل أمام أعين الموظفين في مقر البلدية أثناء إجراء مزايدة علنية لتأجير كازينو صغير عائد للبلدية وبمبلغ لا يتجاوز مليوني دينار سنوياً.
فبينما بدأت لجنة المزايدات عملها في اليوم المحدد لإجراء المزايدة، كان شخص واحد فقط قد أكمل إجراءات الدخول فيها، إلا أن المفاجأة كانت عندما دخل شخص آخر يحمل مسدساً ويلوح به أمام اللجنة مهدداً أعضاءها بالقتل في حال المضي بإجراءات المزايدة، فيما استغل الشخص الآخر، وهو من جماعة مسلحة متنفذة أيضاً، إلزام اللجنة قانونياً بإجراء المزايدة في اليوم والوقت المحدد، وهدد باللجوء إلى هيئة النزاهة واتهام البلدية بعدم إجراء المزايدة.
“كان يوما عصيباً. فشل مدير البلدية ومدير البلديات وأعضاء اللجنة في إقناع الرجل الغاضب بالتخلي عن سلاحه. بعد دقائق رن هاتفه وأداره نحو الحاضرين وأراهم اسم المتصل، كان المحافظ، تحدث مع المحافظ بحدة عالية أيضاً ورفض التراجع” قال سعد.
ولم تنته الأزمة إلا بعد نهاية الدوام الرسمي بأكثر من ساعة، بعد أن أقنعه الحاضرون بإجراء المزايدة ثم تقديم طعن بها وإعادتها بعد أيام عدة، مستغلين ثغرة قانونية سمحت بذلك.
يؤكد سعد أن الأملاك الكبرى العائدة للبلدية غالباً مثل علاوي بيع الفواكه والخضر وساحات وقوف السيارات وساحات بيع المواشي، يتوافق عليها المتنفذون في العادة وتنتهي لصالح أحدهم، ولكن إن لم يحصل التفاهم ودخل أكثر من طرف في المزايدة العلنية، فإن الخلافات قد تصل لنتائج أسوأ مما حصل في مزايدة تأجير الكازينو.
“في بلدية المقدادية أكثر من 250 عقاراً يتم تأجيرها بعقود سنوية جميعها تقريباً لصالح الجهات المسلحة” أضاف لنا.
إمبراطورية حمودي
تحديات أخرى يواجهها العاملون في القطاع الصحي خلال عملهم في المقدادية.
يكشف “م.س” الموظف في مجال الرقابة والتفتيش أن العمل في مدن المحافظة الأخرى يعد مثالياً إذا ما قورن بما يحصل في المقدادية.
“لا يمكننا إتلاف المواد المنتهية الصلاحية في حال اكتشافها لأن الضغوط التي تمارس علينا أكثر بكثير من قابلياتنا”، يقول لـ”جمّار”.
ولهذا السبب صارت فرق الرقابة تتجنب استفزاز المخالفين عند إجراء الزيارات الروتينية للصيدليات والمذاخر والمشافي والمراكز الصحية الخاصة، إذ أن اتخاذ قرار ضد أحدهم يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
وينقل “م.س” عن زملاء له صعوبات أكثر يواجهونها في التعامل مع الصيدليات والمذاخر الوهمية وغير المجازة في المدينة والتي يستحوذ عليها المتنفذون.
أحد تلك المذاخر، وهو المذخر الأكبر والرئيسي، يملكه حمودي حمد المعتقل حالياً لدى جهاز الأمن الوطني، لكن مذخره والصيدليات غير المجازة المرتبطة له مستمرة في عملها، فلا يجرؤ أحد على إغلاقها حتى بعد اعتقاله.
ويشير أيضاً إلى أن تلك الصيدليات ليست بالضرورة أن تكون وهمية، فبالإمكان تأجير إجازة رسمية لفتحها ولكن نشاطها يكون غير رسمي، أما عدد الصيدليات المخالفة فيقترب من عشر صيدليات داخل المقدادية وحدها.
بتاريخ 12 آذار 2023 أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال شخص قال إنه “متهم بإدارة شبكة إجرامية تقوم بتهريب الأدوية المنتهية الصلاحية والأموال والمشتقات النفطية”.
ذلك الشخص هو حمودي حمد.
وحمودي هذا نجل زعيم جماعة مسلحة تابعة لعصائب أهل الحق قتل بتفجير سيارة مفخخة على مجلس عزاء كان حاضراً فيه عام 2016.
ورث حمودي نفوذ والده المقتول واستغل تدهور الأوضاع وتوسع في تجارة المخدرات والتهريب لزيادة نفوذه وأمواله.
ظهر حمودي في فيديو اعترافات وهو يقر بدوره في عمليات تهريب المواد الممنوعة، حيث يتولى تأمين نقلها من مدخل قضاء المقدادية الشرقي ويوصلها لنهاية حدود القضاء الإدارية الغربية ليسلمها لشخص آخر يكمل سلسلة التهريب تلك.
لم تشر الاعترافات إطلاقاً لموضوع الاتجار بالمخدرات، فيما عبّر مسؤولون أمنيون تحدثنا معهم عن خشيتهم من أن يكون التقليل من دور حمودي حمد في التهريب والمخدرات وقيادة جماعات مسلحة إجراء تمهيدي لإطلاق سراحه خلال الأشهر المقبلة.
تنوع مهدّد
عُرفت المدينة تاريخياً بالتنوع الديني والتمازج الثقافي والحضاري، إذ يسكنها سنة وشيعة وكرد وتركمان.
وتحتفظ المقدادية بحيٍّ ما تزال بعض بيوت اليهود قائمة فيه حتى الآن يسمى حي التوراة، كما أنها عرفت بتواجد المسيحيين والصابئة ضمن نسيجها المجتمعي السابق.
وفيها قرية تعرف شعبياً باسم الجيجان، ويقصد بها الشيشان، في إشارة لعشرات العائلات ذات الأصول القوقازية التي سكنت المقدادية قبل أكثر من قرن ونصف قرن.
كل ذلك التنوع المجتمعي والثروة الزراعية الهائلة يخضعان لسطوة سلاح الميليشيات وعصابات المخدرات، ما يجعل المقدادية على وشك فقدان أغلى ما تملك.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
من حسن حظ حسين ياسين أنه كان منتبهاً عندما توقفت سيارة أمام صيدليته وامتدت من إحدى نوافذها سبطانة بندقية في وضح النهار.
سارع ياسين إلى الاختباء قبل أن تنطلق بضع رصاصات وتخترق زجاج واجهة الصيدلية لتستقر على جدرانها الداخلية، فنجا من هجوم السيارة التي انطلقت نحو جهة مجهولة.
حدث ذلك في مدينة المقدادية بمحافظة ديالى في بداية شهر نيسان الماضي.
يشغل الصيدلاني حسين ياسين وظيفة ممثل نقابة الصيادلة في المقدادية، وقد تعرض لسلسلة تهديدات قبل هذا الهجوم لرفضه منح رخصة فتح صيدلية غير مستوفية للشروط تقف خلفها جماعات متنفذة.
ويمثل ما جرى لياسين غيضاً من فيض التردي الأمني في المقدادية، حيث لا دور للشرطة ولا أي جهاز أمني آخر من أجهزة الدولة.
اسمان ومشاكل كثيرة
يتنازع اسمان على المدينة، الأول “المقدادية” وهو الاسم الرسمي والحديث، وقد أطلق عليها خلال خمسينيات القرن الماضي نسبة إلى مقداد الرفاعي أحد شيوخ الصوفية والمدفون في أطراف المدينة في القرن السادس الهجري، والثاني “شهربان”، وهو الاسم المعروف تاريخيا وشعبيا والمأخوذ عن اللغة الفارسية.
وتعيش المدينة اليوم واقعاً استثنائياً جعلها من أكثر مناطق العراق التي تعاني من ضعف نفوذ مؤسسات الدولة لصالح الجماعات المسلحة.
ساهم موقعها المميز في ذلك.
تقع المقدادية على بعد أكثر من 40 كم شمال شرق بعقوبة في منتصف الطريق الرابط بين بغداد من جهة وإقليم كردستان وإيران من جهة أخرى -تبعد عن منفذ المنذرية الحدودي 90 كم-، وبذلك أصبحت ممراً مناسباً للتهريب.
“حتى شرطي المرور لا يستطيع اتخاذ قرار في الشارع” يقول ضابط كبير في قيادة شرطة محافظة ديالى عن الأوضاع في المقدادية بعد أن أكد كثيراً على ضرورة إخفاء اسمه وعدم ذكر أي تفاصيل تسهل معرفته من قبل زملائه.
خلال الأسابيع الماضية، ركزت وسائل الإعلام المحلية والدولية على الأخبار القادمة من المدينة التي عُرفت طيلة العقود الماضية بصادراتها من الرمّان والبرتقال والرز والحنطة والشعير، لكن أخبارها في السنوات الأخيرة كانت تفوح برائحة الدم، وكان آخرها ما حصل في أحد أحيائها من استهداف مجهول المصدر لم تكشف عنه التحقيقات الحكومية حتى الآن وراح ضحيته ثمانية أفراد من عائلة واحدة تنتمي لقبيلة كبيرة تتمتع بنفوذ واسع في المدينة والمحافظة.
وتحت الضغط والخوف من رد الفعل لعائلة وعشيرة الضحايا نتيجة الحادث الذي وقع في السادس من آذار الماضي، أجرى محمد شياع السوداني رئيس مجلس الوزراء زيارة للمحافظة بعد ذلك بيومين، لم يصل فيها إلى المقدادية، وإنما اكتفى بالاجتماع بالقيادات الأمنية ومديري الدوائر في بعقوبة.
وخلال ذلك الاجتماع بثّت وسائل الإعلام تصريحات للسوداني احتوت على توبيخ ضمني للقيادات الأمنية العاجزة عن اتخاذ إجراءات حازمة تنهي الجرائم المنظمة والإرهابية في المقدادية وعموم المحافظة التي وصلت لاختطاف واغتيال بعض الأطباء، كما حصل قبل أشهر من خطف الطبيب علي الحسيني ومن ثم اغتيال اختصاصي الأمراض القلبية الدكتور أحمد طلال المدفعي وسط بعقوبة.
ومنح السوداني مهلة للقيادات الأمنية للسيطرة على الانهيار الأمني وفرض القانون، لكنها انتهت من دون الإعلان عن نتيجة تذكر سوى تنفيذ مذكرات إلقاء قبض ضد شخصيات ثانوية مقربة من الفصائل المسلحة والحشد الشعبي ومعظمهم من منظمة بدر.
وأهم تلك الشخصيات مدير استخبارات اللواء 24 في الحشد الشعبي صباح زيني، وهو شقيق النائب صلاح زيني، وقد أطلق سراحه بعد يومين من الاعتقال، إضافة إلى شخص آخر معروف بالتهريب والمتاجرة بالمخدرات يسمى حمودي حمد.
“لا أحد فوق القانون”، هكذا تحدث السوداني في ذلك الاجتماع، لكن الأحداث قبل وبعد التصريح تثبت العكس.
فبعد ذلك التصريح بأقل من شهر وقع الهجوم على صيدلية حسين ياسين في المقدادية.
سلاح يصنع المال
بالعودة إلى الضابط الذي فضّل أن نطلق عليه اسم “عبد الله العراقي”، فإنه يرى أن المدينة قبل عام 2014 كانت تعيش أوضاعاً سيئة لكنها بقدر سوء الأوضاع في بقية مناطق المحافظة نفسه، فقد وقعت فيها هجمات إرهابية كثيرة وتفجيرات كبرى راح ضحيتها الآلاف من أهالي المدينة.
أما بعد ذلك التاريخ، وتحديدا بعد تحرير أطرافها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ارتهن قرارها بشكل كامل للجماعات المسلحة والأذرع الكثيرة الممتدة منها والمستندة إلى نفوذ عائلي وعشائري.
يروي العراقي لـ”جمّار” كواليس جلسات انتخاب قائممقام جديد للمدينة عام 2018 حين اشتعل الصراع بين عائلتين تتمتعان بنفوذ مسلح حاول كل منهما الاستئثار بالمنصب على الرغم من محدودية صلاحياته.
“كانت قواتنا تحمي المجلس المحلي أثناء إحدى جلسات التصويت حين دخلت جماعة مسلحة بسيارات يحمل بعضها أرقاماً حكومية وأفشلت عقد الجلسة بعد توبيخ الحاضرين ثم تهديدهم ومصادرة هواتفهم”.
كادت المواجهة بين الجهات المتنازعة أن تشتعل، أما موقف الشرطة المحلية فقد اتسم بالهدوء وانتظار حل سياسي بين الأطراف المتنازعة.
وبقي منصب القائممقام شاغراً منذ ذلك الحين.
وتنتمي العائلتان اللتان تقاتلتا على المنصب لقبيلة بني تميم ذات النفوذ الساحق في المقدادية.
العائلة الأولى معروفة بعائلة “زيني” وينتمي لها عضو مجلس النواب صلاح زيني، أما العائلة الثانية فهي عائلة “طعيس”، وقد ارتبط اسم أحد أبرز أفرادها بتسريبات نوري المالكي رئيس مجلس الوزراء الأسبق العام الماضي، وهو سعد طعيس آمر ما يسمى لواء أئمة البقيع.
خلطة من جماعات عائلية مسلحة تستند إلى تنظيمات سياسية وحزبية تتقاسم النفوذ بينها على المدينة وتمول نفسها بمصادر كثيرة وغنية، أخطرها تهريب المخدرات والكحول والمشتقات النفطية والأدوية وفرض الإتاوات وغير ذلك.
يفيد العراقي بأن تلك الجماعات لم تقطع حبالها السرية بالجهات الحزبية الأم التي وفرت لها الشرعية القانونية في بداية ظهورها، وغالباً ما تكون منظمة بدر أو عصائب أهل الحق، لكنه يعتقد أن بعضها يرتبط بشكل مباشر بالحرس الثوري الإيراني.
ويذكر أيضاً أن زعماء تلك الجماعات المسلحة لم يكن غالبيتهم قبل عام 2014 يملكون أي تأثير أو نفوذ، فقد كانوا يعملون في مهن بسيطة ويحصلون على موارد مالية محدودة جداً.
كانت الأموال والممتلكات والمواشي والأراضي الزراعية التي تركها الأهالي بعد نزوحهم عام 2014 وما تلاه من عمليات التحرير، المصدر المالي الأول الذي مكّن تلك الجماعات من مدّ جذورها وتثبيت وجودها على الأرض.
ثم تعددت المصادر المالية بعد ذلك، مثل السيطرة على المواد الغذائية وغيرها التي تدخل عبر المدينة قادمة من إقليم كردستان أو إيران وفرض إتاوات عليها، ولاسيما المواد المهربة أو الممنوعة لأن مقدار الإتاوات عليها يكون أعلى بكثير، حتى أن مثنى التميمي محافظ ديالى -وهو ينتمي لمنظمة بدر أيضاً- قدّر قيمة تلك المبالغ بخمسة ملايين دولار يومياً.
بيد “الزعيم”
يسيطر هادي العامري زعيم منظمة بدر على القرار الأمني والإداري في المحافظة منذ عام 2014، حيث أشرف بشكل مباشر على عمليات تحرير المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش وظل ممسكاً بخيوط المحافظة حتى اللحظة، وساهم في تعيين محافظها الحالي منذ عام 2015 ودعمه للبقاء في منصبه على الرغم من محاولات الإقالة الكثيرة التي سعى لها مجلس المحافظة قبل حلّه ومن قبل أعضاء في البرلمان بعد ذلك.
في ليلة زيارته الأخيرة للمحافظة، كان السوداني قد التقى العامري في لقاء معلن فسّره المتابعون للشأن المحلي بأنه محاولة من رئيس الحكومة للحصول على صلاحيات للعمل والتحرك وتغيير بعض القيادات الأمنية في المحافظة.
لكنه لم يستطع تغيير أي من تلك القيادات واكتفى بإمهال الأجهزة الأمنية 14 يوماً للسيطرة على الانفلات الأمني واعتقال المتورطين بالجرائم الأخيرة.
مضت أكثر من شهرين على نهاية المهلة ولم يكشف عن نتائجها ولم يصدر بيان بشأن الموضوع، ويعزّز ذلك من الاعتقاد الراسخ في الأذهان بعجز مؤسسات الدولة الرسمية عن أداء مهامها، وبأن الملف الأمني والإداري في ديالى يمسك به زعيم بدر وليس غيره.
ويذهب عدنان الكناني، خبير أمني، إلى أن المقدادية واحدة من أربع مدن عراقية (بالإضافة لجرف الصخر وسنجار والطارمية) تعاني من وجود إرادات مخابراتية ودولية بشأنها وانقسامات طائفية حادة.
مسدس يحسم مزايدة
عبد الله سعد موظف يعمل في بلدية المقدادية، وهو الآخر اشترط عدم ذكر اسمه الحقيقي، حدثنا عن وجه آخر من صراع الجماعات المسلحة، وهو الاستيلاء على ممتلكات الدولة سواء من خلال شرائها أو تأجيرها، ولم يتحدّث كثيراً عن الصراع على الأملاك الكبيرة التي تملكها البلدية، بل اكتفى بسرد قصة عن صراع حصل أمام أعين الموظفين في مقر البلدية أثناء إجراء مزايدة علنية لتأجير كازينو صغير عائد للبلدية وبمبلغ لا يتجاوز مليوني دينار سنوياً.
فبينما بدأت لجنة المزايدات عملها في اليوم المحدد لإجراء المزايدة، كان شخص واحد فقط قد أكمل إجراءات الدخول فيها، إلا أن المفاجأة كانت عندما دخل شخص آخر يحمل مسدساً ويلوح به أمام اللجنة مهدداً أعضاءها بالقتل في حال المضي بإجراءات المزايدة، فيما استغل الشخص الآخر، وهو من جماعة مسلحة متنفذة أيضاً، إلزام اللجنة قانونياً بإجراء المزايدة في اليوم والوقت المحدد، وهدد باللجوء إلى هيئة النزاهة واتهام البلدية بعدم إجراء المزايدة.
“كان يوما عصيباً. فشل مدير البلدية ومدير البلديات وأعضاء اللجنة في إقناع الرجل الغاضب بالتخلي عن سلاحه. بعد دقائق رن هاتفه وأداره نحو الحاضرين وأراهم اسم المتصل، كان المحافظ، تحدث مع المحافظ بحدة عالية أيضاً ورفض التراجع” قال سعد.
ولم تنته الأزمة إلا بعد نهاية الدوام الرسمي بأكثر من ساعة، بعد أن أقنعه الحاضرون بإجراء المزايدة ثم تقديم طعن بها وإعادتها بعد أيام عدة، مستغلين ثغرة قانونية سمحت بذلك.
يؤكد سعد أن الأملاك الكبرى العائدة للبلدية غالباً مثل علاوي بيع الفواكه والخضر وساحات وقوف السيارات وساحات بيع المواشي، يتوافق عليها المتنفذون في العادة وتنتهي لصالح أحدهم، ولكن إن لم يحصل التفاهم ودخل أكثر من طرف في المزايدة العلنية، فإن الخلافات قد تصل لنتائج أسوأ مما حصل في مزايدة تأجير الكازينو.
“في بلدية المقدادية أكثر من 250 عقاراً يتم تأجيرها بعقود سنوية جميعها تقريباً لصالح الجهات المسلحة” أضاف لنا.
إمبراطورية حمودي
تحديات أخرى يواجهها العاملون في القطاع الصحي خلال عملهم في المقدادية.
يكشف “م.س” الموظف في مجال الرقابة والتفتيش أن العمل في مدن المحافظة الأخرى يعد مثالياً إذا ما قورن بما يحصل في المقدادية.
“لا يمكننا إتلاف المواد المنتهية الصلاحية في حال اكتشافها لأن الضغوط التي تمارس علينا أكثر بكثير من قابلياتنا”، يقول لـ”جمّار”.
ولهذا السبب صارت فرق الرقابة تتجنب استفزاز المخالفين عند إجراء الزيارات الروتينية للصيدليات والمذاخر والمشافي والمراكز الصحية الخاصة، إذ أن اتخاذ قرار ضد أحدهم يؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
وينقل “م.س” عن زملاء له صعوبات أكثر يواجهونها في التعامل مع الصيدليات والمذاخر الوهمية وغير المجازة في المدينة والتي يستحوذ عليها المتنفذون.
أحد تلك المذاخر، وهو المذخر الأكبر والرئيسي، يملكه حمودي حمد المعتقل حالياً لدى جهاز الأمن الوطني، لكن مذخره والصيدليات غير المجازة المرتبطة له مستمرة في عملها، فلا يجرؤ أحد على إغلاقها حتى بعد اعتقاله.
ويشير أيضاً إلى أن تلك الصيدليات ليست بالضرورة أن تكون وهمية، فبالإمكان تأجير إجازة رسمية لفتحها ولكن نشاطها يكون غير رسمي، أما عدد الصيدليات المخالفة فيقترب من عشر صيدليات داخل المقدادية وحدها.
بتاريخ 12 آذار 2023 أعلن جهاز الأمن الوطني اعتقال شخص قال إنه “متهم بإدارة شبكة إجرامية تقوم بتهريب الأدوية المنتهية الصلاحية والأموال والمشتقات النفطية”.
ذلك الشخص هو حمودي حمد.
وحمودي هذا نجل زعيم جماعة مسلحة تابعة لعصائب أهل الحق قتل بتفجير سيارة مفخخة على مجلس عزاء كان حاضراً فيه عام 2016.
ورث حمودي نفوذ والده المقتول واستغل تدهور الأوضاع وتوسع في تجارة المخدرات والتهريب لزيادة نفوذه وأمواله.
ظهر حمودي في فيديو اعترافات وهو يقر بدوره في عمليات تهريب المواد الممنوعة، حيث يتولى تأمين نقلها من مدخل قضاء المقدادية الشرقي ويوصلها لنهاية حدود القضاء الإدارية الغربية ليسلمها لشخص آخر يكمل سلسلة التهريب تلك.
لم تشر الاعترافات إطلاقاً لموضوع الاتجار بالمخدرات، فيما عبّر مسؤولون أمنيون تحدثنا معهم عن خشيتهم من أن يكون التقليل من دور حمودي حمد في التهريب والمخدرات وقيادة جماعات مسلحة إجراء تمهيدي لإطلاق سراحه خلال الأشهر المقبلة.
تنوع مهدّد
عُرفت المدينة تاريخياً بالتنوع الديني والتمازج الثقافي والحضاري، إذ يسكنها سنة وشيعة وكرد وتركمان.
وتحتفظ المقدادية بحيٍّ ما تزال بعض بيوت اليهود قائمة فيه حتى الآن يسمى حي التوراة، كما أنها عرفت بتواجد المسيحيين والصابئة ضمن نسيجها المجتمعي السابق.
وفيها قرية تعرف شعبياً باسم الجيجان، ويقصد بها الشيشان، في إشارة لعشرات العائلات ذات الأصول القوقازية التي سكنت المقدادية قبل أكثر من قرن ونصف قرن.
كل ذلك التنوع المجتمعي والثروة الزراعية الهائلة يخضعان لسطوة سلاح الميليشيات وعصابات المخدرات، ما يجعل المقدادية على وشك فقدان أغلى ما تملك.