بعد الجزاءات حصل تفجير الكرادة: "شفت النار تقترب والناس يصرخون"
03 تموز 2023
ليست الفرحة ما أخذها الناس إلى بيوتهم في بغداد ليلة 3 تموز 2016.. فبعد أن طالت ضربات الترجيح بين إيطاليا وألمانيا في كأس اليورو، واستجمع الناس أنفاسهم، حصل انفجار جعل الكرادة داخل تعيش في حزن عميق لسنوات...
كانت الأنفاس منقطعة بعد المباراة الشاقّة التي خاضتها ألمانيا ضد إيطاليا في ربع نهائي اليورو في الثالث من تموز عام 2016. السعادة كانت بادية على وجوه مشجعي “المانشافت”.
لكن ليست الفرحة ما أخذها الناس إلى بيوتهم في بغداد تلك الليلة التي طالت فيها ضربات الترجيح بين خصمين لدودين في كرة القدم الأوروبية.
كان ألماً أخذه البعض إلى الفراش أو تابوتاً حمله آخرون وداخله فرد من العائلة أو عزيز على الفؤاد، أو حيرة على مصير إنسان.
فبعد دقائق من تسديد يوناس هكتور، المُدافع الألماني، ركلة الترجيح النهائية لصالح منتخب بلاده، هزّ انفجارٌ الكرادة الشرقيّة وسط بغداد وسُمع دويّه في مقتربات المنطقة المتنوّعة بسكانها.
اشتعلت النيران، وبقي الإعلام لأكثر من أسبوع يتحدّث عن زيادة في أعداد الضحايا من القتلى والجرحى.
من الحويجة إلى الكرادة
كانت فرقة التفخيخ في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في منطقة الحويجة بمحافظة كركوك تجرّب لأوّل مرّة طريقة تفخيخ جديدة تخلّف ضحايا أكثر ودمارا أكبر بعد انفجارها.
اختار أبو طارق وأبو فاطمة، وهم أعضاء فرقة التفخيخ في التنظيم المتطرّف في قضاء الحويجة بكركوك، سيارة هيونداي ستاريكس 12 مقعداً ليضعا المواد المتفجّرة في جوانبها، بدلاً من وضع المتفجّرات في خزان الوقود كما جرت العادة.
استخدما أيضاً في تفخيخ السيارة ألغام دبابة ومقذوفات مقاومة للطائرات.
انتقلت العجلة المفخخة من الحويجة في كركوك، ومن ثمّ إلى جبال حمرين في ديالى، ومن ثم تجوّلت في بغداد، ووصلت وسط شارع الكرادة داخل، وفق اعترافات غزوان الزوبعي، أبو عبيدة، ناقل السيارات المتفجرة لدى تنظيم “داعش”.
كانت نهاية شهر رمضان، والكرادة داخل مكتظّة بالناس، وكثيرون كانوا قد خرجوا من المقاهي منتصرين لألمانيا أو خائبين من خسارة إيطاليا بشقّ الأنفس.
انفجرت سيارة الستاريكس، وتوزّع لهب النيران من أطرافها، وارتفع إلى أكثر من عشرة أمتار.
بعد انفجار السيارة أمامه، ركض عمار الجبوري إلى مجمع هادي سنتر، وصعد إلى طابقه الثاني.
فعل كثر ما فعله الجبوري.
“كنا نخشى حدوث انفجار ثانٍ”.
لكن النيران كانت تزداد اتساعاً، ووصلت إلى مجمعي الليث وهادي سنتر، وسرعان ما تفاقمت نتيجة لوجود محال عطور في المجمعين، مليئة بمواد قابلة للاشتعال.
شاهد الجبوري النيران تُحاصر الناس داخل المجمع وتمنعهم من الخروج، وشاهد اللهب قد وصل إلى ثياب بعضهم، وقرّر إيجاد مهرب للنجاة من النيران.
“شفت النار تقترب وشفت ناس يصرخون وهم يحتركون، فكمزت من الطابق الثاني مال مول هادي سنتر على بسطية مهدمة”.
قُتِلَ في تلك الليلة نحو 324 شخصاً، وجرح 250 آخرون.
غضب في العراق
أثار تفجير الكرّادة غضب العراقيين.
وصفه الإعلام العربي والعالمي بأنّه الأكبر من ناحية عدد الضحايا بعد غزو العراق نيسان عام 2003.
تسابقت الدول على تعزية العراق، وحثّتِ الأمم المتحدة الحكومة العراقيّة على تدعيم الأمن.
آنذاك، حاول حيدر العبادي، رئيس الوزراء حينها، تعزية الناس في مكان الانفجار، فطورد بالحجارة والأحذية.
أُقيل قادة أمنيون عدّة، منهم عبد الأمير الشمري، قائد عمليات بغداد آنذاك، ووزير الداخلية في حكومة محمد شياع السوداني.
استقال محمد الغبان، وزير الداخلية حينها، واتهم العبادي القائد العام للقوات المسلحة، بعدم قراءة التقارير الأمنية.
أعلن العراق الحداد واتشحت الكرادة بالسواد.
في الأيام الأولى التي تلت الانفجار، كان من النادر عدم مشاهدة شخص يحاول وضع لافتة سوداء على الجدران الأمامية لمجمعي الليث وهادي سنتر الخارجية.
كانت الواجهتان تحتويان طبقات من اللافتات السود التي تحمل أسماء الموتى، وكانت الشموع داخل المجمعين تضفيان هالة من القدسية على ما تبقّى من هيكلهما.
لكن هناك عائلات دفنت جثث أبناءها، واضطرت لإخراجها لأنها لم تكن حقّاً جثثهم.
الحزن حزنان: دفن ونبش
كان م.ح، صاحب محل لبيع الملابس في مجمع الليث، متأكداً من موت صديقه وجاره في المجمع، وكان ينقصهم العثور على جثّته لإتمام مراسيم الدفن.
“بعد الانفجار بأيام وخلال رحلة بحثنا تم تسليمنا جثة”، قال م.ح.
لكن بعد مرور نحو شهر تلقّت العائلة اتصالاً تطالبها بنبش الأرض واستخراج الجثّة وتسليمها لعائلة أخرى.
أظهرت تحليلات الـ”DNA” أن جثّة صديق م.ح كانت موجودة في ثلاجة حفظ الموتى في الطبّ العدلي ببغداد، وأن الجثّة التي دُفنت وأقيم مجلس عزاء برحيل صاحبها، لم تكن لفرد من العائلة.
اضطرّ الأهل والأصدقاء إلى عيش ألم مضاعف.
أخذت العائلة جثّة ابنها التي خضعت لتحليل “DNA” إلى النجف لدفنها، وأعادت الجثة السابقة التي دفنتها إلى بغداد لتُسلّم إلى عائلة أخرى بقيت تلاحق مصير ابنها الذي اختفى بعد حدوث الانفجار.
بالنسبة لعائلة وحيد علوان، الخطاط البغدادي، فإنّها على مدار سنة ونصف السنة بقيت تنتظر الحصول على جثّة الأفراد العشرة الذين فقدتهم في الانفجار، وكان بينهم أطفال ونساء.
قال محمد وحيد، وهو رسام وخطاط، “لم نكن نعرف أن شقيقتيّ وأولادهن وأزواجهن كانوا في الكرادة”.
ليومين تقفّت عائلة علوان أثر المفقودين، ووجدت عجلاتهم في مرآب قريب من الانفجار.
“عرفنا أنهم لقوا حتفهم في الكرادة”.
بعد أيام من الانفجار، تسلّمت العائلة جثث زوجي الابنتين، وبعد ستة أشهر تسلمت جثث الأطفال، وبعد عام ونصف العام، تسلمت جثتي الابنتين.
قال سيف البدر، المتحدث باسم وزارة الصحة، إن “هناك جثثا إلى الآن لم تسلم بسبب عدم معرفة هويتها أو الوصول إلى ذويها.. ما زالت في دائرة الطب العدلي”.
صور قتلى الكرادة
لكن الكرادة ما تزال تستذكر قتلاها، وتضع صورهم على أعمدة الكهرباء والبسطات والمحال التجارية.
بين ساحة كهرمانة وتقاطع جامعة بغداد، علّق الناس نحو 67 صورة لأشخاص قبض الانفجار ونيرانه حياتهم.
يصطفّ أحياناً أخوّة عدة إلى جانب بعضهم، وأحياناً أشخاص منفردين بابتسامات خفيفة.
يعلو جميع هذه الصور خط أسود مائل.
على كلّ حال، أغلقت مؤسسة الشهداء ملف الكرادة، وقالت إنها عوّضت الجميع، وأنجزت معاملات أهالي القتلى ليتسلّموا مرتبات شهرية كتعويض لفقدان محبيهم.
قال صلاح السوداني، المستشار القانوني في مؤسسة الشهداء، إن “المستفيدين من الرواتب (من متضرري الكرادة) يتجاوز عددهم 300 شخص بين شهيد ومصاب ومفقود”.
“جميعهم تم منحهم راتبا شهريا ومنهم من استفاد من الحج والدراسات العليا والدراسات الاولية اضافة إلى بدل سكن والدفعة الأولى منه 10 ملايين دينار”.
تُمنح التعويضات على أساس ثلاثة تقسيمات، إذا كان للشهيد عدّة مستفيدين، فيخصص راتب شهري يبلغ مليونين اثنين ومئتي ألف دينار، وإذا كان هناك شخصان مستفيدان فإن الراتب يكون مليونا و60 ألف دينار، أما في حال كان هناك مستفيد واحد فيكون الراتب 950 ألف دينار.
“الأولوية والاستثناء لشهداء الكرادة وأيضاً ضحايا سبايكر”.
المجمّعان يعودان
عام 2017، توصّلت السلطات إلى أن الانفجار والحريق الذي تلاه جعل بنايتي مجمع الليث وهادي سنتر آيلتين للسقوط.
فضلاً عن الأسى، ترك الحدث المليء بالموت والصراخ أثراً اقتصادياً كبيراً على محمد قاسم علوان، وهو صاحب محل ألبسة في مجمع الليث.
خسر الرجل نحو 100 ألف دولار خلال ساعات، وهي مجموع مبالغ البضائع والديكورات والنقود التي التهمتها النيران.
يتكوّن مجمع الليث من ثلاثة طوابق يحتوي كل واحد منها نحو 16 محلاً، ويحتوي مجمع هادي سنتر على نحو 24 محلاً.
“الخسائر كانت متفاوتة من محل لآخر وبحسب نوع البضاعة وتصميم المحل وأيضاً عدد قطع الألبسة”.
حصل علوان على تعويض بمبلغ 6 ملايين دينار من الحكومة.
“بالنسبة لي (هذا المبلغ) 5 بالمئة فقط من المبلغ الذي خسرته جراء الانفجار”.
تكلّف مالك بناية مجمّع الليث بهدم المبنى وإعادة بنائه وفق التصميم القديم.
“تكفل الرجل بشكل كامل بالبناء ولم يأخذ أي مبلغ من أصحاب المحال”، قال علوان.
“وخفض من الإيجار الشهري” أيضاً.
لكن المجمعين لم يشهدا تعافياً اقتصادياً إلا قبل نحو عام من الآن، إذ بقيت رهبة تسيطر على الناس من زيارتهما، وفاقم إغلاق “كورونا” ومن ثم الأزمات السياسية المتلاحقة من تردّي الوضع الاقتصادي.
“لكن الوضع صار أفضل الآن”، أكد علوان.
الضحايا بلا عدالة
في 18 تشرين الأول عام 2021، أشعل سكّان الكرادة الشموع على العتبات الرخام الجديدة لمجمّع الليث التجاري، ذلك بعد أعلن رئيس الوزراء إلقاء القبض على غزوان الزوبعي المعروف بأبي عُبيدة، أحد المشاركين في التفجير.
وبعد أقلّ من أسبوع، وقف أهالي الضحايا وسط الكرادة داخل، وطالبوا بنصب مشنقة لغزوان الزوبعي أمام مكان الانفجار، وإعدامه عليها ليكون عبرة.
اعترف الزوبعي، في أكثر من مقابلة تلفزيونية من سجنه، بأنه كان مسؤولاً عن إيصال السيّارة المفخخة من الحويجة إلى جبال حمرين، لتسلك طريقها بعد ذلك إلى بغداد.
لم يقبض على أبي طارق وأبي فاطمة، مسؤولا التفخيخ في الحويجة ومرسلا الستاريكس الملغمة إلى الكرادة، ولم تعرف القوات الأمنية مصيراً لهما، ولم يعرف من شارك في إيصال السيارة إلى هدفها، بحسب مصدر أمني.
حُكم على الزوبعي بالإعدام.
لكن القضيّة لم تُسدل لأهالي ضحايا كُثر، وهم يُحيون ذكرى أولادهم كل عام.
صور عتيقة وأخرى جديدة
مرّ الزمن على بعض صور الشهداء، ولم يبق من وجوه أصحابها إلا ملامح غائرة.
لكن عائلات أخرى، تستذكر كل عام الفاجعة التي ضربتها في تلك الليلة.
على الواجهة الرئيسية لعصائر جبار أبو الشربت، وضعت صورٌ لشبّان تجاوزوا العاشرة بقليل قُتلوا في التفجير.
جمّد الزمن الشبان في الصور لكن أهلهم كبروا وحُزنهم ما يزال طرياً.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
كانت الأنفاس منقطعة بعد المباراة الشاقّة التي خاضتها ألمانيا ضد إيطاليا في ربع نهائي اليورو في الثالث من تموز عام 2016. السعادة كانت بادية على وجوه مشجعي “المانشافت”.
لكن ليست الفرحة ما أخذها الناس إلى بيوتهم في بغداد تلك الليلة التي طالت فيها ضربات الترجيح بين خصمين لدودين في كرة القدم الأوروبية.
كان ألماً أخذه البعض إلى الفراش أو تابوتاً حمله آخرون وداخله فرد من العائلة أو عزيز على الفؤاد، أو حيرة على مصير إنسان.
فبعد دقائق من تسديد يوناس هكتور، المُدافع الألماني، ركلة الترجيح النهائية لصالح منتخب بلاده، هزّ انفجارٌ الكرادة الشرقيّة وسط بغداد وسُمع دويّه في مقتربات المنطقة المتنوّعة بسكانها.
اشتعلت النيران، وبقي الإعلام لأكثر من أسبوع يتحدّث عن زيادة في أعداد الضحايا من القتلى والجرحى.
من الحويجة إلى الكرادة
كانت فرقة التفخيخ في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في منطقة الحويجة بمحافظة كركوك تجرّب لأوّل مرّة طريقة تفخيخ جديدة تخلّف ضحايا أكثر ودمارا أكبر بعد انفجارها.
اختار أبو طارق وأبو فاطمة، وهم أعضاء فرقة التفخيخ في التنظيم المتطرّف في قضاء الحويجة بكركوك، سيارة هيونداي ستاريكس 12 مقعداً ليضعا المواد المتفجّرة في جوانبها، بدلاً من وضع المتفجّرات في خزان الوقود كما جرت العادة.
استخدما أيضاً في تفخيخ السيارة ألغام دبابة ومقذوفات مقاومة للطائرات.
انتقلت العجلة المفخخة من الحويجة في كركوك، ومن ثمّ إلى جبال حمرين في ديالى، ومن ثم تجوّلت في بغداد، ووصلت وسط شارع الكرادة داخل، وفق اعترافات غزوان الزوبعي، أبو عبيدة، ناقل السيارات المتفجرة لدى تنظيم “داعش”.
كانت نهاية شهر رمضان، والكرادة داخل مكتظّة بالناس، وكثيرون كانوا قد خرجوا من المقاهي منتصرين لألمانيا أو خائبين من خسارة إيطاليا بشقّ الأنفس.
انفجرت سيارة الستاريكس، وتوزّع لهب النيران من أطرافها، وارتفع إلى أكثر من عشرة أمتار.
بعد انفجار السيارة أمامه، ركض عمار الجبوري إلى مجمع هادي سنتر، وصعد إلى طابقه الثاني.
فعل كثر ما فعله الجبوري.
“كنا نخشى حدوث انفجار ثانٍ”.
لكن النيران كانت تزداد اتساعاً، ووصلت إلى مجمعي الليث وهادي سنتر، وسرعان ما تفاقمت نتيجة لوجود محال عطور في المجمعين، مليئة بمواد قابلة للاشتعال.
شاهد الجبوري النيران تُحاصر الناس داخل المجمع وتمنعهم من الخروج، وشاهد اللهب قد وصل إلى ثياب بعضهم، وقرّر إيجاد مهرب للنجاة من النيران.
“شفت النار تقترب وشفت ناس يصرخون وهم يحتركون، فكمزت من الطابق الثاني مال مول هادي سنتر على بسطية مهدمة”.
قُتِلَ في تلك الليلة نحو 324 شخصاً، وجرح 250 آخرون.
غضب في العراق
أثار تفجير الكرّادة غضب العراقيين.
وصفه الإعلام العربي والعالمي بأنّه الأكبر من ناحية عدد الضحايا بعد غزو العراق نيسان عام 2003.
تسابقت الدول على تعزية العراق، وحثّتِ الأمم المتحدة الحكومة العراقيّة على تدعيم الأمن.
آنذاك، حاول حيدر العبادي، رئيس الوزراء حينها، تعزية الناس في مكان الانفجار، فطورد بالحجارة والأحذية.
أُقيل قادة أمنيون عدّة، منهم عبد الأمير الشمري، قائد عمليات بغداد آنذاك، ووزير الداخلية في حكومة محمد شياع السوداني.
استقال محمد الغبان، وزير الداخلية حينها، واتهم العبادي القائد العام للقوات المسلحة، بعدم قراءة التقارير الأمنية.
أعلن العراق الحداد واتشحت الكرادة بالسواد.
في الأيام الأولى التي تلت الانفجار، كان من النادر عدم مشاهدة شخص يحاول وضع لافتة سوداء على الجدران الأمامية لمجمعي الليث وهادي سنتر الخارجية.
كانت الواجهتان تحتويان طبقات من اللافتات السود التي تحمل أسماء الموتى، وكانت الشموع داخل المجمعين تضفيان هالة من القدسية على ما تبقّى من هيكلهما.
لكن هناك عائلات دفنت جثث أبناءها، واضطرت لإخراجها لأنها لم تكن حقّاً جثثهم.
الحزن حزنان: دفن ونبش
كان م.ح، صاحب محل لبيع الملابس في مجمع الليث، متأكداً من موت صديقه وجاره في المجمع، وكان ينقصهم العثور على جثّته لإتمام مراسيم الدفن.
“بعد الانفجار بأيام وخلال رحلة بحثنا تم تسليمنا جثة”، قال م.ح.
لكن بعد مرور نحو شهر تلقّت العائلة اتصالاً تطالبها بنبش الأرض واستخراج الجثّة وتسليمها لعائلة أخرى.
أظهرت تحليلات الـ”DNA” أن جثّة صديق م.ح كانت موجودة في ثلاجة حفظ الموتى في الطبّ العدلي ببغداد، وأن الجثّة التي دُفنت وأقيم مجلس عزاء برحيل صاحبها، لم تكن لفرد من العائلة.
اضطرّ الأهل والأصدقاء إلى عيش ألم مضاعف.
أخذت العائلة جثّة ابنها التي خضعت لتحليل “DNA” إلى النجف لدفنها، وأعادت الجثة السابقة التي دفنتها إلى بغداد لتُسلّم إلى عائلة أخرى بقيت تلاحق مصير ابنها الذي اختفى بعد حدوث الانفجار.
بالنسبة لعائلة وحيد علوان، الخطاط البغدادي، فإنّها على مدار سنة ونصف السنة بقيت تنتظر الحصول على جثّة الأفراد العشرة الذين فقدتهم في الانفجار، وكان بينهم أطفال ونساء.
قال محمد وحيد، وهو رسام وخطاط، “لم نكن نعرف أن شقيقتيّ وأولادهن وأزواجهن كانوا في الكرادة”.
ليومين تقفّت عائلة علوان أثر المفقودين، ووجدت عجلاتهم في مرآب قريب من الانفجار.
“عرفنا أنهم لقوا حتفهم في الكرادة”.
بعد أيام من الانفجار، تسلّمت العائلة جثث زوجي الابنتين، وبعد ستة أشهر تسلمت جثث الأطفال، وبعد عام ونصف العام، تسلمت جثتي الابنتين.
قال سيف البدر، المتحدث باسم وزارة الصحة، إن “هناك جثثا إلى الآن لم تسلم بسبب عدم معرفة هويتها أو الوصول إلى ذويها.. ما زالت في دائرة الطب العدلي”.
صور قتلى الكرادة
لكن الكرادة ما تزال تستذكر قتلاها، وتضع صورهم على أعمدة الكهرباء والبسطات والمحال التجارية.
بين ساحة كهرمانة وتقاطع جامعة بغداد، علّق الناس نحو 67 صورة لأشخاص قبض الانفجار ونيرانه حياتهم.
يصطفّ أحياناً أخوّة عدة إلى جانب بعضهم، وأحياناً أشخاص منفردين بابتسامات خفيفة.
يعلو جميع هذه الصور خط أسود مائل.
على كلّ حال، أغلقت مؤسسة الشهداء ملف الكرادة، وقالت إنها عوّضت الجميع، وأنجزت معاملات أهالي القتلى ليتسلّموا مرتبات شهرية كتعويض لفقدان محبيهم.
قال صلاح السوداني، المستشار القانوني في مؤسسة الشهداء، إن “المستفيدين من الرواتب (من متضرري الكرادة) يتجاوز عددهم 300 شخص بين شهيد ومصاب ومفقود”.
“جميعهم تم منحهم راتبا شهريا ومنهم من استفاد من الحج والدراسات العليا والدراسات الاولية اضافة إلى بدل سكن والدفعة الأولى منه 10 ملايين دينار”.
تُمنح التعويضات على أساس ثلاثة تقسيمات، إذا كان للشهيد عدّة مستفيدين، فيخصص راتب شهري يبلغ مليونين اثنين ومئتي ألف دينار، وإذا كان هناك شخصان مستفيدان فإن الراتب يكون مليونا و60 ألف دينار، أما في حال كان هناك مستفيد واحد فيكون الراتب 950 ألف دينار.
“الأولوية والاستثناء لشهداء الكرادة وأيضاً ضحايا سبايكر”.
المجمّعان يعودان
عام 2017، توصّلت السلطات إلى أن الانفجار والحريق الذي تلاه جعل بنايتي مجمع الليث وهادي سنتر آيلتين للسقوط.
فضلاً عن الأسى، ترك الحدث المليء بالموت والصراخ أثراً اقتصادياً كبيراً على محمد قاسم علوان، وهو صاحب محل ألبسة في مجمع الليث.
خسر الرجل نحو 100 ألف دولار خلال ساعات، وهي مجموع مبالغ البضائع والديكورات والنقود التي التهمتها النيران.
يتكوّن مجمع الليث من ثلاثة طوابق يحتوي كل واحد منها نحو 16 محلاً، ويحتوي مجمع هادي سنتر على نحو 24 محلاً.
“الخسائر كانت متفاوتة من محل لآخر وبحسب نوع البضاعة وتصميم المحل وأيضاً عدد قطع الألبسة”.
حصل علوان على تعويض بمبلغ 6 ملايين دينار من الحكومة.
“بالنسبة لي (هذا المبلغ) 5 بالمئة فقط من المبلغ الذي خسرته جراء الانفجار”.
تكلّف مالك بناية مجمّع الليث بهدم المبنى وإعادة بنائه وفق التصميم القديم.
“تكفل الرجل بشكل كامل بالبناء ولم يأخذ أي مبلغ من أصحاب المحال”، قال علوان.
“وخفض من الإيجار الشهري” أيضاً.
لكن المجمعين لم يشهدا تعافياً اقتصادياً إلا قبل نحو عام من الآن، إذ بقيت رهبة تسيطر على الناس من زيارتهما، وفاقم إغلاق “كورونا” ومن ثم الأزمات السياسية المتلاحقة من تردّي الوضع الاقتصادي.
“لكن الوضع صار أفضل الآن”، أكد علوان.
الضحايا بلا عدالة
في 18 تشرين الأول عام 2021، أشعل سكّان الكرادة الشموع على العتبات الرخام الجديدة لمجمّع الليث التجاري، ذلك بعد أعلن رئيس الوزراء إلقاء القبض على غزوان الزوبعي المعروف بأبي عُبيدة، أحد المشاركين في التفجير.
وبعد أقلّ من أسبوع، وقف أهالي الضحايا وسط الكرادة داخل، وطالبوا بنصب مشنقة لغزوان الزوبعي أمام مكان الانفجار، وإعدامه عليها ليكون عبرة.
اعترف الزوبعي، في أكثر من مقابلة تلفزيونية من سجنه، بأنه كان مسؤولاً عن إيصال السيّارة المفخخة من الحويجة إلى جبال حمرين، لتسلك طريقها بعد ذلك إلى بغداد.
لم يقبض على أبي طارق وأبي فاطمة، مسؤولا التفخيخ في الحويجة ومرسلا الستاريكس الملغمة إلى الكرادة، ولم تعرف القوات الأمنية مصيراً لهما، ولم يعرف من شارك في إيصال السيارة إلى هدفها، بحسب مصدر أمني.
حُكم على الزوبعي بالإعدام.
لكن القضيّة لم تُسدل لأهالي ضحايا كُثر، وهم يُحيون ذكرى أولادهم كل عام.
صور عتيقة وأخرى جديدة
مرّ الزمن على بعض صور الشهداء، ولم يبق من وجوه أصحابها إلا ملامح غائرة.
لكن عائلات أخرى، تستذكر كل عام الفاجعة التي ضربتها في تلك الليلة.
على الواجهة الرئيسية لعصائر جبار أبو الشربت، وضعت صورٌ لشبّان تجاوزوا العاشرة بقليل قُتلوا في التفجير.
جمّد الزمن الشبان في الصور لكن أهلهم كبروا وحُزنهم ما يزال طرياً.