مُزارعات بين دجلة والفرات: نزرع فيخذلنا الجفاف
15 حزيران 2023
شفاء وسندس وزاهدة، ثلاث مُزارعات غيّر الجفاف الذي يتسع من حولهن حياتهن، وعملهن تحت الشمس طيلة النهار لا يدرّ عليهن عائداً يكفي لنجاتهن.. حكاية مُزارعات بين دجلة والفرات.. يزرعن بكد، ويخذلهن الجفاف
أقصى أمنيات “شفاء” وهي تجلس القرفصاء بين نبتات حقل عائلتها أن لا تقسو الشمس عليها ريثما تتمكن من تأمين ما يغطي احتياجاتهم اليومية.
كانت شفاء (14 عاماً) طالبة في المدرسة قبل أن يعنفها أحد المدرسين ذات يوم ويدفعها إلى ترك الدراسة والتوجه نحو العمل.
وهي الآن مكلفة بحصد أصابع البامية من الحقل الواقع في ناحية المعتصم جنوبي محافظة صلاح الدين.
لم تضع الفتاة في حساباتها أن هربها من المدرسة سينقلها إلى واقع يختلف جذرياً عن توقعاتها، فقد كانت تظن أن العمل سيمنحها حياة أفضل، لكنها تعاني الآن في بداية مشوارها من تحسس وحكة في يديها بسبب ملامستها يومياً ثمار البامية.
وتشكو شفاء من أن التغيرات المناخية تلقي بظلالها مباشرة على مردودات الحقل، فالارتفاع المفرط في درجات الحرارة يقلل قدرة العاملين في الزراعة على العمل وجني الثمار، والجفاف يقلص المساحات المزروعة.
ومع أن قريتها تقع في ناحية يحاذيها نهر دجلة من الغرب ونهر الرصاصي من الشرق، إلا أن العطش يفرض سطوته هناك كما في كل مناطق العراق.
“من ترتفع درجة الحرارة ما نكدر نطلع نشتغل ولا نحوش ولا نكدر نروح نبيع” تقول شفاء لـ”جمار”.
هذه الفتاة غير مشمولة بإحصاء منظمة العمل الدولية عن النساء العاملات في العراق، لكنها تشاركهن المصاعب والمعاناة ذاتها.
واقع سيء
تفيد منظمة العمل الدولية في العراق بأن من بين 13 مليون امرأة عراقية فوق سن 15 عاماً، تعمل نحو مليون امرأة فقط.
صدرت تلك الإحصائية عام 2021.
“العديد من النساء يعملن في القطاع الزراعي وفي مصانع تجهيز الأغذية، ولاسيما في معامل معالجة التمور والطماطم” تقول مها قطاع، المنسقة القطرية لمنظمة العمل الدولية في العراق.
ويشغّل القطاع الزراعي 8.4 بالمئة من القوى العاملة في العراق، وتشغل النساء العاملات نحو 20 بالمئة من القوى العاملة الزراعية، مقارنة بخمسة بالمئة من القوى العاملة الصناعية، و13 بالمئة من القوى العاملة في قطاع الخدمات.
وتضم محافظة صلاح الدين وحدها نحو مليون دونم صالح للزراعة، والمحصول الأكثر زراعة فيها هي الحنطة ومن بعدها الشعير.
وتتركز معظم الأراضي الزراعية في مناطق الدجيل وبلد وسامراء والضلوعية والعلم.
وتشير قطاع إلى أن العاملين في الزراعة يواجهون غالباً تحديات تتعلق بتوفير ظروف عمل لائقة، حيث أن أجور عملهم منخفضة مقابل واقع عملي سيء يصل أحياناً إلى مرحلة الخطر.
ويشغل 95.8 بالمئة من العاملين في الزراعة وظائف غير منتظمة.
ويعرّض الضمان الاجتماعي المحدود للغاية للعاملين في القطاعات غير المنتظمة، المزارعين وأسرهم لخطر أكبر من الفقر يتعلق بالصدمات الاقتصادية ومخاطر دورة الحياة.
“72 بالمئة من العاملين في مجال الزراعة يتقاضون أجراً منخفضاً محسوباً بنسبة 1 على 3 من متوسط الدخل في الساعة للموظفين في الوظائف الرئيسة الأخرى” تبين قطاع.
إنفاق بلا دعم
توجد في الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي لجنة تدعى اللجنة العليا لتمكين المرأة الريفية، من المفترض أن تقدم رؤية موحدة حول قضايا المرأة الريفية، وإقرار الخطط والبرامج بما يخدم حاجاتها ومتطلباتها وغير ذلك من مهام الرعاية.
تقول يسرى العلّاق، رئيسة هذه اللجنة، إنها تنسق مع الجهات المعنية لتقديم الدعم المالي للنساء الريفيات وإعادة تفعيل صندوق الإقراض الزراعي لشمول المرأة الريفية بقروض زراعية من دون فائدة أو بفائدة قليلة، والترويج والتسويق لدعم المنتجات الزراعية المحلية، وتنظيم معارض خاصة لمنتجات النساء الريفيات ونساء الأهوار وفتح الأبواب لتسويقها، وإعداد برامج تدريب للمرأة الريفية ورفع المستوى التعليمي لها وأخذ التدابير اللازمة للحد من ظاهرة الأمية وحل مشكلة التسرب من المدارس، فضلاً عن توفير الرعاية الصحية ومتابعة احتياجاتهن من الأدوية واللقاحات والتوعية بالأمراض الانتقالية ومناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي.
لكن أكثر من عاملة في الريف أبلغن “جمّار” بأنهن لا يحصلن على أي دعم من الحكومة.
سندس واحدة من أولئك العاملات.
اضطرت سندس (42 عاماً) إلى العمل فلاحة بدلاً من زوجها الذي أصيب بالعجز ولم يعد قادراً على حرث الأرض وزراعتها.
وهي الآن تعيل زوجها وستة أبناء أكبرهم شاب عمره 22 عاماً مصاب بالكساح.
تقطن الأسرة في منزل مستأجر لا يحميها سقفه من أمطار الشتاء، لكن أفرادها يحاولون جاهدين الانتصار في صراعهم مع صعوبات الحياة.
فالأبناء حريصون على ارتياد المدارس على الرغم من أنهم يساعدون أمهم في حرث وزراعة الأرض وحصد المحاصيل عندما يعودون من مدارسهم.
“الحياة الزراعية متعبة ومؤذية للصحة” تقول سندس لـ”جمّار”.
وما أن حل الصيف حتى بدأت معاناتها تتفاقم مع الزراعة، فالمياه انحسرت إلى درجة أنها لا تتوفر لمدة تصل إلى سبعة أيام.
ويتسبب غياب الماء عن الزرع في ذبول نبتات كثيرة، وهو ما يعني خسائر في الوقت والجهد والمال.
وفي ظل التغيرات المناخية ونتائجها من جفاف وارتفاع في درجات الحرارة، يأتي مردود سندس ضئيلاً بالكاد يكفي لشراء الطعام.
“لا نستطيع شراء حتى الملابس” تضيف لنا.
وتفيد بأن الدعم الحكومي يقتصر على الفلاحين المشمولين بالخطة الزراعية ومن يملكون عقداً أو طابو زراعياً، وهو أيضاً دعم محدود لا يفي بالغرض.
لذا تضطر لشراء الأسمدة والمبيدات وبقية مستلزمات الزراعة على حسابها الخاص.
المراعي الجرداء
تقرّ العلّاق بأن النساء الريفيات يواجهن ضعفاً في التمويل، إلى جانب معاناتهن من شح المياه وارتفاع درجات الحرارة.
وكذلك تتحدث هاجر محمد حسين، منسقة مركز المعلومة للبحث والتطوير في صلاح الدين، عن قلة حصول المرأة الريفية على الموارد والفرص التي تحتاجها العاملات في الزراعة وتربية الحيوانات ليكنّ أكثر إنتاجاً.
وتشير إلى أن المرأة في الريف تواجه تحديات مناخية فتّاكة تتمثل بشح المياه وتغير المناخ مع اعتمادها على الموارد الطبيعية والإنتاج الزراعي كأساسيات للعيش.
وتتفق معها إيمان أحمد الكاظم، رئيسة مؤسسة البحتري للتنمية والثقافة، في أن مستلزمات الزراعة من أدوات وأسمدة غير متوفرة، وإن توفرت فبأسعار باهظة، علاوة على تغير المناخ وشح المياه.
وتقول لـ”جمّار” إن مياه الأمطار في الشتاء لا تكفي وحدها لري المزروعات، ما أدى لحالات نزوح من الريف إلى المدينة بنسبة 17 بالمئة بين النساء العاملات في الزراعة.
ونتج عن نزوح الأسر الريفية إلى المدينة ارتفاع معدلات عمالة الأطفال والتسول، بينما لجأن فلاحات كثيرات إلى العمل في خدمات المنازل والمحال التجارية أو إعداد الطعام الجاهز في منازلهن بغية بيعه والحصول على أرباح.
كما أن بعض النساء أصبن بأمراض نتيجة انتقالهن من الريف إلى المدينة وتغير البيئة والهواء عليهن.
ولكيلا تدخل نفسها وأسرتها في دوّامة الفاقة والمشقة، تحرص زاهدة (55 عاماً) على البقاء في قريتها ومواصلة تربية المواشي والدواجن على الرغم من كل الصعاب.
أمضت زاهدة 45 عاماً من عمرها وهي تربي الحيوانات في الريف. تزوجت وأنجبت خمسة أولاد وثلاث بنات وتوفي زوجها وهي مستمرة في مزاولة مهنتها.
لكنها مثل غيرها تعاني من تبعات التغيرات المناخية والجفاف.
بسبب تراجع المساحات الخضر نتيجة انحسار المياه، تضطر زاهدة إلى شراء الأعلاف بثمن باهظ، وهو ما دفعها إلى بيع معظم أبقارها والاحتفاظ بسبع فقط بعد أن كانت تملك 20 بقرة.
وحتى البقرات السبع المتبقيات يواجهن خطر المرض والنفوق بسبب الارتفاع المفرط في درجات الحرارة.
ومن أجل إطعامهن، تشتري زاهدة عربة التبن بـ250 ألف دينار (نحو 169 دولاراً) بينما تبيع زجاجة الحليب بسعر لا يتجاوز 1500 دينار.
ولا يتجاوز حجم مبيعاتها خمس زجاجات يومياً.
“هذا المردود لا يكفي حتى لشراء أدويتي” تقول زاهدة ذات المفاصل المنهكة من العمل لـ”جمّار”.
الأميّة أيضاً
نتيجة صعوبة ظروفهن، تبلغ نسبة النساء غير المتعلمات نحو 55 بالمئة من مجموع النساء الريفيات في عموم العراق.
“الفئات العمرية الممكن قبولها في برنامج محو الأمية تبدأ من سن 15 عاماً” قال أحمد نظير مصطفى مسؤول شعبة محو الأمية بقضاء سامراء التابعة لقسم محو الأمية في محافظة صلاح الدين.
ومن خلال دراستهن في مراكز محو الأمية، تم اكتشاف نساء ريفيات يمتلكن مواهب مثل الرسم والخط.
وبسبب التقاليد القبلية التي تمنع الفتيات من ارتياد المدارس، تغيب مدارس الإناث في أرياف العراق، إذ يقول المسؤولون إن من غير المنطقي افتتاح مدرسة كاملة بكادرها لتدريس طالبتين أو ثلاث.
ويقرّ نجم اللهيبي، العضو السابق في لجنة الزراعة النيابية، بأن السلطتين التنفيذية والتشريعية لا تمتلكان خططاً لدعم المرأة الريفية.
ويشير إلى أن عوائل ريفية كثيرة نزحت بسبب التصحر والتغير المناخي نحو إقليم كردستان وصارت تعمل لدى أصحاب المزارع هناك بأجور زهيدة بالكاد تكفي لتغطية تكاليف المعيشة.
ولا تقوى الجمعيات والمنظمات المعنية بشؤون المزارعات والمزارعين على تقديم الدعم اللازم لهم، فهي الأخرى غير مدعومة من الحكومة.
“الحكومة لا تدعمنا، وبالتالي لا نستطيع دعم الفلاح” قال لطيف خلف رئيس جمعية الفلاحين في سامراء لـ”جمّار”.
وبذلك يواجه أهل الزراعة المصاعب بإمكانياتهم الخاصة المتواضعة، فيحفرون مثلاً آبار يصل عمقها إلى 170 متراً في مناطق جزيرة صلاح الدين ليحصلوا على المياه، وهذه عملية مكلفة جداً.
ونتيجة الجفاف، يقبل المزارعون على زراعة محاصيل استراتيجية مثل الحنطة، “لأنها لا تحتاج إلى مياه كثيرة” كما يقول مروان ذياب غانم رئيس قسم الإرشاد الزراعي في مديرية زراعة صلاح الدين.
ومع غياب الأمل في تلقي العون، لم يبق أمام شفاء وسندس وزاهدة سوى شق طريق العناء بما يمتلكن من قوة وصبر، على رجاء أن يتخلى المناخ عن قسوته ويخفف عنهن ثقل الجفاف والحرارة.
* أُنتجت هذه المادة بدعم من برنامج تشِك غلوبال – مؤسسة ميدان.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
أقصى أمنيات “شفاء” وهي تجلس القرفصاء بين نبتات حقل عائلتها أن لا تقسو الشمس عليها ريثما تتمكن من تأمين ما يغطي احتياجاتهم اليومية.
كانت شفاء (14 عاماً) طالبة في المدرسة قبل أن يعنفها أحد المدرسين ذات يوم ويدفعها إلى ترك الدراسة والتوجه نحو العمل.
وهي الآن مكلفة بحصد أصابع البامية من الحقل الواقع في ناحية المعتصم جنوبي محافظة صلاح الدين.
لم تضع الفتاة في حساباتها أن هربها من المدرسة سينقلها إلى واقع يختلف جذرياً عن توقعاتها، فقد كانت تظن أن العمل سيمنحها حياة أفضل، لكنها تعاني الآن في بداية مشوارها من تحسس وحكة في يديها بسبب ملامستها يومياً ثمار البامية.
وتشكو شفاء من أن التغيرات المناخية تلقي بظلالها مباشرة على مردودات الحقل، فالارتفاع المفرط في درجات الحرارة يقلل قدرة العاملين في الزراعة على العمل وجني الثمار، والجفاف يقلص المساحات المزروعة.
ومع أن قريتها تقع في ناحية يحاذيها نهر دجلة من الغرب ونهر الرصاصي من الشرق، إلا أن العطش يفرض سطوته هناك كما في كل مناطق العراق.
“من ترتفع درجة الحرارة ما نكدر نطلع نشتغل ولا نحوش ولا نكدر نروح نبيع” تقول شفاء لـ”جمار”.
هذه الفتاة غير مشمولة بإحصاء منظمة العمل الدولية عن النساء العاملات في العراق، لكنها تشاركهن المصاعب والمعاناة ذاتها.
واقع سيء
تفيد منظمة العمل الدولية في العراق بأن من بين 13 مليون امرأة عراقية فوق سن 15 عاماً، تعمل نحو مليون امرأة فقط.
صدرت تلك الإحصائية عام 2021.
“العديد من النساء يعملن في القطاع الزراعي وفي مصانع تجهيز الأغذية، ولاسيما في معامل معالجة التمور والطماطم” تقول مها قطاع، المنسقة القطرية لمنظمة العمل الدولية في العراق.
ويشغّل القطاع الزراعي 8.4 بالمئة من القوى العاملة في العراق، وتشغل النساء العاملات نحو 20 بالمئة من القوى العاملة الزراعية، مقارنة بخمسة بالمئة من القوى العاملة الصناعية، و13 بالمئة من القوى العاملة في قطاع الخدمات.
وتضم محافظة صلاح الدين وحدها نحو مليون دونم صالح للزراعة، والمحصول الأكثر زراعة فيها هي الحنطة ومن بعدها الشعير.
وتتركز معظم الأراضي الزراعية في مناطق الدجيل وبلد وسامراء والضلوعية والعلم.
وتشير قطاع إلى أن العاملين في الزراعة يواجهون غالباً تحديات تتعلق بتوفير ظروف عمل لائقة، حيث أن أجور عملهم منخفضة مقابل واقع عملي سيء يصل أحياناً إلى مرحلة الخطر.
ويشغل 95.8 بالمئة من العاملين في الزراعة وظائف غير منتظمة.
ويعرّض الضمان الاجتماعي المحدود للغاية للعاملين في القطاعات غير المنتظمة، المزارعين وأسرهم لخطر أكبر من الفقر يتعلق بالصدمات الاقتصادية ومخاطر دورة الحياة.
“72 بالمئة من العاملين في مجال الزراعة يتقاضون أجراً منخفضاً محسوباً بنسبة 1 على 3 من متوسط الدخل في الساعة للموظفين في الوظائف الرئيسة الأخرى” تبين قطاع.
إنفاق بلا دعم
توجد في الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي لجنة تدعى اللجنة العليا لتمكين المرأة الريفية، من المفترض أن تقدم رؤية موحدة حول قضايا المرأة الريفية، وإقرار الخطط والبرامج بما يخدم حاجاتها ومتطلباتها وغير ذلك من مهام الرعاية.
تقول يسرى العلّاق، رئيسة هذه اللجنة، إنها تنسق مع الجهات المعنية لتقديم الدعم المالي للنساء الريفيات وإعادة تفعيل صندوق الإقراض الزراعي لشمول المرأة الريفية بقروض زراعية من دون فائدة أو بفائدة قليلة، والترويج والتسويق لدعم المنتجات الزراعية المحلية، وتنظيم معارض خاصة لمنتجات النساء الريفيات ونساء الأهوار وفتح الأبواب لتسويقها، وإعداد برامج تدريب للمرأة الريفية ورفع المستوى التعليمي لها وأخذ التدابير اللازمة للحد من ظاهرة الأمية وحل مشكلة التسرب من المدارس، فضلاً عن توفير الرعاية الصحية ومتابعة احتياجاتهن من الأدوية واللقاحات والتوعية بالأمراض الانتقالية ومناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي.
لكن أكثر من عاملة في الريف أبلغن “جمّار” بأنهن لا يحصلن على أي دعم من الحكومة.
سندس واحدة من أولئك العاملات.
اضطرت سندس (42 عاماً) إلى العمل فلاحة بدلاً من زوجها الذي أصيب بالعجز ولم يعد قادراً على حرث الأرض وزراعتها.
وهي الآن تعيل زوجها وستة أبناء أكبرهم شاب عمره 22 عاماً مصاب بالكساح.
تقطن الأسرة في منزل مستأجر لا يحميها سقفه من أمطار الشتاء، لكن أفرادها يحاولون جاهدين الانتصار في صراعهم مع صعوبات الحياة.
فالأبناء حريصون على ارتياد المدارس على الرغم من أنهم يساعدون أمهم في حرث وزراعة الأرض وحصد المحاصيل عندما يعودون من مدارسهم.
“الحياة الزراعية متعبة ومؤذية للصحة” تقول سندس لـ”جمّار”.
وما أن حل الصيف حتى بدأت معاناتها تتفاقم مع الزراعة، فالمياه انحسرت إلى درجة أنها لا تتوفر لمدة تصل إلى سبعة أيام.
ويتسبب غياب الماء عن الزرع في ذبول نبتات كثيرة، وهو ما يعني خسائر في الوقت والجهد والمال.
وفي ظل التغيرات المناخية ونتائجها من جفاف وارتفاع في درجات الحرارة، يأتي مردود سندس ضئيلاً بالكاد يكفي لشراء الطعام.
“لا نستطيع شراء حتى الملابس” تضيف لنا.
وتفيد بأن الدعم الحكومي يقتصر على الفلاحين المشمولين بالخطة الزراعية ومن يملكون عقداً أو طابو زراعياً، وهو أيضاً دعم محدود لا يفي بالغرض.
لذا تضطر لشراء الأسمدة والمبيدات وبقية مستلزمات الزراعة على حسابها الخاص.
المراعي الجرداء
تقرّ العلّاق بأن النساء الريفيات يواجهن ضعفاً في التمويل، إلى جانب معاناتهن من شح المياه وارتفاع درجات الحرارة.
وكذلك تتحدث هاجر محمد حسين، منسقة مركز المعلومة للبحث والتطوير في صلاح الدين، عن قلة حصول المرأة الريفية على الموارد والفرص التي تحتاجها العاملات في الزراعة وتربية الحيوانات ليكنّ أكثر إنتاجاً.
وتشير إلى أن المرأة في الريف تواجه تحديات مناخية فتّاكة تتمثل بشح المياه وتغير المناخ مع اعتمادها على الموارد الطبيعية والإنتاج الزراعي كأساسيات للعيش.
وتتفق معها إيمان أحمد الكاظم، رئيسة مؤسسة البحتري للتنمية والثقافة، في أن مستلزمات الزراعة من أدوات وأسمدة غير متوفرة، وإن توفرت فبأسعار باهظة، علاوة على تغير المناخ وشح المياه.
وتقول لـ”جمّار” إن مياه الأمطار في الشتاء لا تكفي وحدها لري المزروعات، ما أدى لحالات نزوح من الريف إلى المدينة بنسبة 17 بالمئة بين النساء العاملات في الزراعة.
ونتج عن نزوح الأسر الريفية إلى المدينة ارتفاع معدلات عمالة الأطفال والتسول، بينما لجأن فلاحات كثيرات إلى العمل في خدمات المنازل والمحال التجارية أو إعداد الطعام الجاهز في منازلهن بغية بيعه والحصول على أرباح.
كما أن بعض النساء أصبن بأمراض نتيجة انتقالهن من الريف إلى المدينة وتغير البيئة والهواء عليهن.
ولكيلا تدخل نفسها وأسرتها في دوّامة الفاقة والمشقة، تحرص زاهدة (55 عاماً) على البقاء في قريتها ومواصلة تربية المواشي والدواجن على الرغم من كل الصعاب.
أمضت زاهدة 45 عاماً من عمرها وهي تربي الحيوانات في الريف. تزوجت وأنجبت خمسة أولاد وثلاث بنات وتوفي زوجها وهي مستمرة في مزاولة مهنتها.
لكنها مثل غيرها تعاني من تبعات التغيرات المناخية والجفاف.
بسبب تراجع المساحات الخضر نتيجة انحسار المياه، تضطر زاهدة إلى شراء الأعلاف بثمن باهظ، وهو ما دفعها إلى بيع معظم أبقارها والاحتفاظ بسبع فقط بعد أن كانت تملك 20 بقرة.
وحتى البقرات السبع المتبقيات يواجهن خطر المرض والنفوق بسبب الارتفاع المفرط في درجات الحرارة.
ومن أجل إطعامهن، تشتري زاهدة عربة التبن بـ250 ألف دينار (نحو 169 دولاراً) بينما تبيع زجاجة الحليب بسعر لا يتجاوز 1500 دينار.
ولا يتجاوز حجم مبيعاتها خمس زجاجات يومياً.
“هذا المردود لا يكفي حتى لشراء أدويتي” تقول زاهدة ذات المفاصل المنهكة من العمل لـ”جمّار”.
الأميّة أيضاً
نتيجة صعوبة ظروفهن، تبلغ نسبة النساء غير المتعلمات نحو 55 بالمئة من مجموع النساء الريفيات في عموم العراق.
“الفئات العمرية الممكن قبولها في برنامج محو الأمية تبدأ من سن 15 عاماً” قال أحمد نظير مصطفى مسؤول شعبة محو الأمية بقضاء سامراء التابعة لقسم محو الأمية في محافظة صلاح الدين.
ومن خلال دراستهن في مراكز محو الأمية، تم اكتشاف نساء ريفيات يمتلكن مواهب مثل الرسم والخط.
وبسبب التقاليد القبلية التي تمنع الفتيات من ارتياد المدارس، تغيب مدارس الإناث في أرياف العراق، إذ يقول المسؤولون إن من غير المنطقي افتتاح مدرسة كاملة بكادرها لتدريس طالبتين أو ثلاث.
ويقرّ نجم اللهيبي، العضو السابق في لجنة الزراعة النيابية، بأن السلطتين التنفيذية والتشريعية لا تمتلكان خططاً لدعم المرأة الريفية.
ويشير إلى أن عوائل ريفية كثيرة نزحت بسبب التصحر والتغير المناخي نحو إقليم كردستان وصارت تعمل لدى أصحاب المزارع هناك بأجور زهيدة بالكاد تكفي لتغطية تكاليف المعيشة.
ولا تقوى الجمعيات والمنظمات المعنية بشؤون المزارعات والمزارعين على تقديم الدعم اللازم لهم، فهي الأخرى غير مدعومة من الحكومة.
“الحكومة لا تدعمنا، وبالتالي لا نستطيع دعم الفلاح” قال لطيف خلف رئيس جمعية الفلاحين في سامراء لـ”جمّار”.
وبذلك يواجه أهل الزراعة المصاعب بإمكانياتهم الخاصة المتواضعة، فيحفرون مثلاً آبار يصل عمقها إلى 170 متراً في مناطق جزيرة صلاح الدين ليحصلوا على المياه، وهذه عملية مكلفة جداً.
ونتيجة الجفاف، يقبل المزارعون على زراعة محاصيل استراتيجية مثل الحنطة، “لأنها لا تحتاج إلى مياه كثيرة” كما يقول مروان ذياب غانم رئيس قسم الإرشاد الزراعي في مديرية زراعة صلاح الدين.
ومع غياب الأمل في تلقي العون، لم يبق أمام شفاء وسندس وزاهدة سوى شق طريق العناء بما يمتلكن من قوة وصبر، على رجاء أن يتخلى المناخ عن قسوته ويخفف عنهن ثقل الجفاف والحرارة.
* أُنتجت هذه المادة بدعم من برنامج تشِك غلوبال – مؤسسة ميدان.