الإيزيديون يزرعون ولا يحصدون: "زراعة الأحسن من الماكو" في سنجار
08 حزيران 2023
يتابع خيرو عيدو إلياس بشغف عمل الآلة الحاصدة وهي تحصد ما زرع من شعير، على رغم معرفته بأن الحصاد لن يكون وفيراً، وهو يشترك مع عيسى باري في محاولة إحياء أراض يقتلها العطش والسلاح... عن تحولات سنجار و"زراعة الأحسن من الماكو" فيها..
ثلاثة أعوام على التوالي، زرع عيسى باري أرضاً بمساحة 1500 دونم بالحنطة والشعير، لكنه لم يحصد شيئاً.
تقع الأرض في قرية باري شمال مركز قضاء سنجار في محافظة نينوى، حيث تعاني أراضي هذه المنطقة منذ عقود من شح المياه وهزّات أمنية كبيرة على حدّ سواء، ما تسبّب بتراجع الزراعة فيها.
“خسارتي تجاوزت 70 مليون دينار” يقول باري الإيزيدي ذو الـ35 عاماً.
في عام 2019 تجاوز محصول الشعير في أرضه 60 طناً، أما منذ عام 2020 فلم يحصد سوى الخسارة.
وبسبب تدهور البنية الزراعية والخدمية في سنجار، لم يتمكن باري من العودة إلى منطقته بشكل نهائي، إذ بقي عدد من أفراد أسرته في مخيم كبرتو للنازحين الإيزيديين بمحافظة دهوك في إقليم كردستان، وجاء هو مع قسم من أفراد الأسرة إلى قريته بشكل مؤقت لإدامة عمله الزراعي.
وهو يأمل أن تقدم الجهات المسؤولة الخدمات وتحسّن الأوضاع ليتمكنوا من العودة.
وكان باري قد ترك قريته مع أسرته المؤلفة من 14 فرداً عقب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على سنجار في مطلع آب 2014.
وفي عام 2017 قرر العودة إلى قريته، ولكن تعذر بقاء أسرته في القرية بسبب سوء الأوضاع الأمنية وغياب الخدمات الأساسية واستمرار اثنتين من شقيقاته بالدراسة في أحد معاهد دهوك، اضطره إلى العودة للسكن في مخيم كبرتو.
لم يعد إلى قرية باري حالياً سوى 15 عائلة من أصل 50 كانت تسكنها، إذ أن الأغلبية اختارت البقاء في إقليم كردستان والعمل في الزراعة ومهن أخرى لعدم توافر مقومات المعيشة في القرية.
رقعة متوترة
يقع قضاء سنجار ذو الأغلبية الإيزيدية في منطقة جبل سنجار الذي يبلغ ارتفاعه نحو 1400 متر شمال غرب الموصل بأكثر من 100 كيلومتر، وهو محاذ للحدود العراقية السورية.
ولطالما تعرضت منطقة سنجار للملاحقات والمضايقات منذ عشرات السنين، ففي عام 1975 نفذت حكومة حزب البعث حملة ترحيل قسري بحق الإيزيديين في سنجار وأجلت مئات العوائل من 155 قرية على الأقل نحو 11 مجمعاً سكنياً بني بعضها شمالي جبل سنجار والبعض الآخر في ناحية تل عزير.
كان ذلك بتهمة مساندة الإيزيديين لقوات البيشمركة الكردية المعارضة للنظام السياسي في بغداد آنذاك.
وبعد إجلاء العوائل قسراً نحو المجمعات السكنية، جُريف المنازل في سنجار وأُحرقت الأراضي الزراعية لقطع سبيل العودة أمام المُرحّلين.
“تمت مصادرة آلاف الدوانم من الأراضي الزراعية التابعة لناحيتي القحطانية والشمال في سنجار على الحدود العراقية السورية في عهد نظام صدام حسين، وما زال مصير هذه المساحات مجهولاً حتى اليوم” قال فهد حامد قائممقام قضاء سنجار لـ”جمّار”.
وبعد سقوط النظام السابق عام 2003 حاول الإيزيديون المرحّلون العودة إلى موطنهم، لكنهم وجدوه محطماً لا يصلح للعيش، فاختار كثير منهم البقاء في المجمعات.
واستمرت رداءة الأوضاع في تلك المنطقة حتى حلت الكارثة الكبرى في الثالث من آب 2014 عندما هاجم مسلحون من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قرى الإيزيديين في سنجار وسهل نينوى بعد فرار القوات العراقية الحكومية والكردية.
قتل التنظيم المتشدد ما لا يقل عن 1200 إيزيدي في تلك الهجمة واختطف وسبى أكثر من ستة آلاف امرأة إيزيدية، ما حذا بالأمم المتحدة إلى عدّ ما جرى جريمة إبادة جماعية.
بقيت المنطقة بيد “داعش” حتى تشرين الثاني 2015 حين استعادتها قوات البيشمركة الكردية بمشاركة مقاتلين من الإيزيديين وحزب العمال الكردستاني وبدعم جوي من قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
منذ ذلك التاريخ اتجهت الأوضاع في سنجار نحو مزيد من التعقيد.
سيطرت على القضاء ميليشيا إيزيدية تدعى “قوات حماية سنجار” واختصارها “اليبشة”، وهي موالية لحزب العمال الكردستاني المعادي للحكومة التركية والحليف لإيران والمصنف على لائحة الإرهاب الدولي.
وأحكمت “اليبشة” قبضتها على سنجار في إطار تفاهمات مع جماعات مسلحة عراقية موالية لإيران تمتلك نفوذاً أيضاً في القضاء منها “النجباء” و”كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق”.
في 9 تشرين الأول 2020، أبرمت حكومة مصطفى الكاظمي رئيس مجلس الوزراء السابق اتفاقاً مع حكومة إقليم كردستان يقضي بتطبيع الأوضاع في سنجار.
وقد تضمن الاتفاق إدارة الملف الأمني في سنجار بواسطة الحكومة الاتحادية وبالتنسيق مع أربيل، على أن يدار الملف الخدمي في القضاء بواسطة الحكومة المحلية في نينوى.
كما تضمن إخراج عناصر حزب العمال وسائر الجماعات المسلحة من القضاء وتسليمه للجيش والشرطة الاتحادية.
بعد شهرين من الاتفاق دخلت قوات من الجيش إلى سنجار واتفقت مع مسلحي “اليبشة” على تسليم مواضعهم داخل المدينة والانسحاب إلى أطرافها.
في ذلك الحين، قال متحدث باسم اليبشة إن هذه القوة ستندمج في قوات الحشد الشعبي تحت مسمى الفوج 80″.
وقد حصل ذلك بالفعل.
لكن انسحاب “اليبشة” لم يكن سوى حركة شكلية على ما يبدو، إذ أنها بقيت مسيطرة مع حزب العمال على سنجار.
ولا تتسم العلاقة بين الجيش و”اليبشة” بالود، ففي مطلع أيار 2022 اندلعت اشتباكات بين الطرفين أدت إلى نزوح أكثر من أربعة آلاف مدني من سنجار نحو دهوك.
وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن أسباب اندلاع الاشتباكات، فقد اتهم الجيش “اليبشة” في حينها بإغلاق طرق ونصب حواجز ومنع حركة المدنيين شمالي القضاء، بينما اتهمته “اليبشة” بأنه يريد السيطرة على المدينة وطردها منها.
وعمّ الهدوء بعد ذلك بأيام قليلة من دون أن يطرأ تغيير على الخريطة الأمنية هناك.
يقول كريم شمو، عضو المجلس المحلي في مدينة سنجار، إن وجود الجيش العراقي يمكن اعتباره “لحفظ ماء وجه الحكومة لا أكثر”، لأن انتشاره محدود، وهناك مناطق لا يستطيع دخولها بسبب رفض حزب العمال واليبشة.
ولم يُنفذ اتفاق سنجار حتى الآن.
هذه التوترات القديمة والجديدة داخل سنجار ضيّقت الخناق على الزراعة مثلما ضيّقته على بقية نشاطات السكان وحياتهم الاعتيادية.
ونتجت عن المعارك والقلاقل هناك مشكلات جمة أدت إلى تدهور واقع المياه.
خسارة كاملة
كان أغلب الإيزيديين في سنجار يعملون في الزراعة التي تعد المصدر الرئيس لمعيشتهم حتى قبل سيطرة “داعش” على منطقتهم، وهم يمتلكون خبرة جيدة في مختلف المجالات الزراعية.
غير أن القضاء شهد خلال الأعوام الثلاثة الماضية موجة جفاف حادة أثرت على قطاع الزراعة ومصادر المياه بشكل ملحوظ، فضلاً عن أن سنجار تقع في منطقة دون الخط المطري وغير مضمونة الأمطار، إذ هطلت أمطار كميتها 242 ملم في موسم 2020-2021 و232 ملم في موسم 2021-2022 و260 ملم حتى نهاية نيسان من الموسم الحالي.
وهذه الأرقام تعد منخفضة في مقاييس هطول الأمطار.
قال ياسين جعفر محسن، خبير زراعي، لـ”جمّار” إن مؤشرات الجفاف اجتاحت المنطقة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، الا أنها لم تكن شديدة مثل الآن.
ويعتمد الإيزيديون في سنجار بنسبة 70 بالمئة على الزراعة التي تراجعت خلال العامين الماضيين بنسبة 50 بالمئة نتيجة قلة الأمطار، وفقاً لفهد حامد قائممقام سنجار.
“نسبة خسارة المزارعين الإيزيديين بلغت 100 بالمئة بسبب الجفاف” قال حامد لـ”جمّار”.
كانت أغلب القرى الإيزيدية المحيطة بسنجار تعتمد على الينابيع، وكان يوجد فيها أكثر من 50 ينبوعاً تكفي لسقي الزرع، لكنها جفّت تباعاً ليصل عددها إلى أقل من عشرة في الوقت الراهن.
أما الآبار فقد تعرضت هي الأخرى للدمار والتخريب على يد “داعش” و”المجرمين والمخربين” كما يعبّر حامد، ولم يبق منها سوى أقل من نصفها بعد أن كانت تسقي آلاف الدوانم التي تنتج أطناناً من المحاصيل الزراعية المتنوعة.
ويوجد نحو 400 بئر ارتوازي في حدود شعبة زراعة سنجار تعود جميعها للمزارعين الإيزيديين، وتعرض ما بین 150 و200 بئر منها للدمار جراء هجمات مسلحي “داعش” على المنطقة والعمليات العسكرية وعمليات التخريب والسرقة التي طالت المكائن وآلات سحب المياه والمحطات الكهربائية ومنازل المزارعين، ما تسببت في تعطل الآبار وخروجها عن الخدمة.
“كذلك تعرضت البساتين والأراضي الزراعية للتدمير، كما تعرضت منازل المزارعين المبنية في المزارع للتدمير وانقطاع التيار الكهربائي عنها بسبب تدمير المحولات الكهربائية وسرقتها” قال شرف نايف رشوكا مدير زراعة سنجار.
وبادرت منظمات إنسانية إلى تقديم مساعدات لترميم عدد من الآبار ونصب ألواح طاقة شمسية لتشغيلها، فضلاً عن توزيع بيوت بلاستيكية وسماد كيمياوي ومبيدات بين الفلاحين المتواجدين حالياً في سنجار.
وتعمل حالياً ثمانية آبار في مناطق تل بنات والحاتمية جنوبي سنجار بواسطة الطاقة الشمسية بعدما تم تأهيلها عقب تعرضها للخراب وقطع التيار الكهربائي عنها بسبب احتلال مسلحي “داعش” للمنطقة.
وقاد كل ذلك إلى تفشي البطالة بين المزارعين الإيزيديين بنسبة تصل إلى 80 بالمئة.
وتشير مصادر اتحاد فلاحي منقطة سنجار إلى وجود أكثر من 570 مزارعاً إيزيدياً ومسلماً مسجلين لدى الاتحاد، إلا أن أغلبهم ما زلوا نازحين.
ويفيد مدير زراعة سنجار بأن أكثر من 75 بالمئة من سكان المنطقة ما زالوا نازحين بسبب تدمير الآبار الارتوازية ومزارعهم وبساتينهم.
خنادق الحرب
خلال المعارك التي وقعت في المنطقة أقيم العديد من الخنادق والسواتر من قبل مسلحي “داعش” والقوات الأمنية في الأراضي الزراعية.
“عرض بعض تلك الخنادق يصل إلى خمسة أمتار” قال أحمد عبد الله ماسي، مسؤول اتحاد الفلاحين في سنجار.
وفي المنطقة الواقعة ما بين قريتي أم الذيبان وسينو شرقي سنجار فقط، خسر المزارعون نحو 2500 دونم بسبب السواتر والخنادق.
وتُمنع الجهات الأمنية من إزالة تلك السواتر والخنادق لأسباب غير معروفة.
ولكن على الرغم من ذلك، يلقي ماسي باللائمة على المزارعين النازحين.
“الأوضاع في سنجار مستقرة أمنياً وليس لديهم حجة لعدم العودة” يقول لـ”جمّار”.
ويظن أن بإمكان الأجهزة القضائية والحكومية اتخاذ إجراءات لمعالجة أي اعتداءات أو تجاوزات قد يتعرض لها المزارعون والفلاحون عند عودتهم، فيما يتهم “وسائل إعلام مغرضة بمحاولة إثارة المشاكل بين أهالي سنجار”.
وتقدر المساحة الكلية للأراضي الزراعية في سنجار بأكثر من 720 ألف دونم، وهناك نحو 360 ألف دونم منها مخصصة لبساتين يحتوي أغلبها على أشجار التين والزيتون وفواكه أخرى.
ويبين رشوكا أنه قبل 20 عاما كان كل دونم من الأراضي المزروعة بمادة الشعير والحنطة ينتج ما بين 500 إلى 700 كليوغرام، أما حالياً فيبلغ إنتاج كل دونم 300-500 كيلوغرام.
وبحسب مصادر زراعية مطلعة، لم تتجاوز الخطة الزراعية للأعوام 2020 و2021 و2022 زراعة مساحة 340 ألف دونم من الأراضي المخصصة لزراعة الحنطة والشعير والبالغة مساحتها أكثر من 360 ألف دونم، وذلك بسبب الجفاف.
ويقول محسن إن موسم حصاد 2020-2021 شهد تسويق 15 ألف طن من القمح والشعير من محصول المزارعين في سنجار، وفي الموسم 2021-2022 تم تسويق 20 ألف طن، بينما يتوقع أن يسجل الموسم الحالي نحو 30 ألف طن.
ويشير إلى أن البنية الزراعية في سنجار ضعيفة جداً بسبب الجفاف وآثار سيطرة مسلحي “داعش” التي تسببت في تدمير الزراعة والآبار والينابيع والجداول وحتى الآليات الزراعية.
ويشدد على ضرورة اتباع الطرق الحديثة في العمل الزراعي، ومنها استخدام المرشات في زراعة القمح والشعير.
ويقترح متخصصون إنشاء سدود للحصاد المائي واستثمار المياه الجوفية بشكل عقلاني حلاً للمحافظة على المساحات المزروعة والاستقرار الاجتماعي للسكان.
“جبل سنجار يمتلك خزيناً كبيراً وهائلاً من المياه الجوفية، وهناك إمكانية للحصول على الماء من حفر آبار إلى أعماق تتجاوز 120 متراً” يقول رمضان حمزة الخبير في السياسات المائية لـ”جمّار”.
ويشير إلى كثرة الوديان التي تشجع على إنشاء مئات من سدود الحصاد المائي في المنطقة.
لكن المزارعين لا يستطيعون وحدهم القيام بكل ذلك وإعادة الحياة إلى الزراعة بجهودهم الذاتية ومن دون مساعدة الدولة.
“الوضع الزراعي بحاجة إلى إمكانيات كبيرة وتوفير مستلزمات وآلات زراعية وتقديم الدعم للفلاحين من خلال توفير البذور والمبيدات والأسمدة والوقود” يقول حامد ويضيف في الوقت ذاته أنه “لا يوجد دعم حقيقي للمزارعين من قبل الدولة، وهناك إهمال من قبل الجهات المعنية”.
ومن صور الإهمال الحكومي للزراعة في سنجار، تدمير ستة آلاف دونم من غابات الصنوبر أنشئت في سبعينيات القرن الماضي، إذ تعرضت أشجار هذه الغابات البالغ عددها نحو مليوني شجرة للقطع والاقتلاع بعد عام 2005 لاستخدامها حطباً من دون تدخل حكومي لإنقاذها.
أحسن من الـ”ماكو“
يتابع المزارع الإيزيدي خيرو عيدو إلياس (50 سنة) بجد وشغف عمل الآلة الحاصدة وهي تحصد ما زرع من شعير في حقله الواقع بمنطقة تل قصب جنوبي سنجار.
ومع أن كمية المحصول دون المستوى المطلوب بكثير، إلا أن إلياس يبدي الارتياح إزاءها بعد ثلاثة مواسم من القحط والجفاف.
“أحسن من الماكو” يقول إلياس لـ”جمّار”.
وبسبب الجفاف، ارتفعت تكاليف مصاريف زراعة المحصول، إذ بلغ سعر الطن الواحد لبذور الشعير 900 ألف دينار، وسعر اللتر الواحد من المحروقات نحو 900 دينار.
كما أن أجرة الآلة الحاصدة تبلغ 140 ألف دينار لكل عشرة دوانم، فضلاً عن تكاليف الأسمدة والمبيدات والمستلزمات الأخرى.
“ومع كل هذه التكاليف لا نحصل على دعم كاف من الحكومة” يضيف إلياس.
/
* أُنتجت هذه المادة بدعم من برنامج تشِك غلوبال – مؤسسة ميدان.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
دكتاتورية وذكورية: التمثيل النسائي في البرلمان العراقي
08 أكتوبر 2024
العلاقات العراقية الصينية: محصلة الماضي والحاضر ورهان المستقبل
06 أكتوبر 2024
معضلة الزعامة الدينية عند سنة العراق: لماذا لم يصنعوا مرجعية؟
04 أكتوبر 2024
الرئيس الإيراني في بغداد: زيارة بزشكيان "السياحية" إلى العراق
01 أكتوبر 2024
ثلاثة أعوام على التوالي، زرع عيسى باري أرضاً بمساحة 1500 دونم بالحنطة والشعير، لكنه لم يحصد شيئاً.
تقع الأرض في قرية باري شمال مركز قضاء سنجار في محافظة نينوى، حيث تعاني أراضي هذه المنطقة منذ عقود من شح المياه وهزّات أمنية كبيرة على حدّ سواء، ما تسبّب بتراجع الزراعة فيها.
“خسارتي تجاوزت 70 مليون دينار” يقول باري الإيزيدي ذو الـ35 عاماً.
في عام 2019 تجاوز محصول الشعير في أرضه 60 طناً، أما منذ عام 2020 فلم يحصد سوى الخسارة.
وبسبب تدهور البنية الزراعية والخدمية في سنجار، لم يتمكن باري من العودة إلى منطقته بشكل نهائي، إذ بقي عدد من أفراد أسرته في مخيم كبرتو للنازحين الإيزيديين بمحافظة دهوك في إقليم كردستان، وجاء هو مع قسم من أفراد الأسرة إلى قريته بشكل مؤقت لإدامة عمله الزراعي.
وهو يأمل أن تقدم الجهات المسؤولة الخدمات وتحسّن الأوضاع ليتمكنوا من العودة.
وكان باري قد ترك قريته مع أسرته المؤلفة من 14 فرداً عقب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على سنجار في مطلع آب 2014.
وفي عام 2017 قرر العودة إلى قريته، ولكن تعذر بقاء أسرته في القرية بسبب سوء الأوضاع الأمنية وغياب الخدمات الأساسية واستمرار اثنتين من شقيقاته بالدراسة في أحد معاهد دهوك، اضطره إلى العودة للسكن في مخيم كبرتو.
لم يعد إلى قرية باري حالياً سوى 15 عائلة من أصل 50 كانت تسكنها، إذ أن الأغلبية اختارت البقاء في إقليم كردستان والعمل في الزراعة ومهن أخرى لعدم توافر مقومات المعيشة في القرية.
رقعة متوترة
يقع قضاء سنجار ذو الأغلبية الإيزيدية في منطقة جبل سنجار الذي يبلغ ارتفاعه نحو 1400 متر شمال غرب الموصل بأكثر من 100 كيلومتر، وهو محاذ للحدود العراقية السورية.
ولطالما تعرضت منطقة سنجار للملاحقات والمضايقات منذ عشرات السنين، ففي عام 1975 نفذت حكومة حزب البعث حملة ترحيل قسري بحق الإيزيديين في سنجار وأجلت مئات العوائل من 155 قرية على الأقل نحو 11 مجمعاً سكنياً بني بعضها شمالي جبل سنجار والبعض الآخر في ناحية تل عزير.
كان ذلك بتهمة مساندة الإيزيديين لقوات البيشمركة الكردية المعارضة للنظام السياسي في بغداد آنذاك.
وبعد إجلاء العوائل قسراً نحو المجمعات السكنية، جُريف المنازل في سنجار وأُحرقت الأراضي الزراعية لقطع سبيل العودة أمام المُرحّلين.
“تمت مصادرة آلاف الدوانم من الأراضي الزراعية التابعة لناحيتي القحطانية والشمال في سنجار على الحدود العراقية السورية في عهد نظام صدام حسين، وما زال مصير هذه المساحات مجهولاً حتى اليوم” قال فهد حامد قائممقام قضاء سنجار لـ”جمّار”.
وبعد سقوط النظام السابق عام 2003 حاول الإيزيديون المرحّلون العودة إلى موطنهم، لكنهم وجدوه محطماً لا يصلح للعيش، فاختار كثير منهم البقاء في المجمعات.
واستمرت رداءة الأوضاع في تلك المنطقة حتى حلت الكارثة الكبرى في الثالث من آب 2014 عندما هاجم مسلحون من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” قرى الإيزيديين في سنجار وسهل نينوى بعد فرار القوات العراقية الحكومية والكردية.
قتل التنظيم المتشدد ما لا يقل عن 1200 إيزيدي في تلك الهجمة واختطف وسبى أكثر من ستة آلاف امرأة إيزيدية، ما حذا بالأمم المتحدة إلى عدّ ما جرى جريمة إبادة جماعية.
بقيت المنطقة بيد “داعش” حتى تشرين الثاني 2015 حين استعادتها قوات البيشمركة الكردية بمشاركة مقاتلين من الإيزيديين وحزب العمال الكردستاني وبدعم جوي من قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
منذ ذلك التاريخ اتجهت الأوضاع في سنجار نحو مزيد من التعقيد.
سيطرت على القضاء ميليشيا إيزيدية تدعى “قوات حماية سنجار” واختصارها “اليبشة”، وهي موالية لحزب العمال الكردستاني المعادي للحكومة التركية والحليف لإيران والمصنف على لائحة الإرهاب الدولي.
وأحكمت “اليبشة” قبضتها على سنجار في إطار تفاهمات مع جماعات مسلحة عراقية موالية لإيران تمتلك نفوذاً أيضاً في القضاء منها “النجباء” و”كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق”.
في 9 تشرين الأول 2020، أبرمت حكومة مصطفى الكاظمي رئيس مجلس الوزراء السابق اتفاقاً مع حكومة إقليم كردستان يقضي بتطبيع الأوضاع في سنجار.
وقد تضمن الاتفاق إدارة الملف الأمني في سنجار بواسطة الحكومة الاتحادية وبالتنسيق مع أربيل، على أن يدار الملف الخدمي في القضاء بواسطة الحكومة المحلية في نينوى.
كما تضمن إخراج عناصر حزب العمال وسائر الجماعات المسلحة من القضاء وتسليمه للجيش والشرطة الاتحادية.
بعد شهرين من الاتفاق دخلت قوات من الجيش إلى سنجار واتفقت مع مسلحي “اليبشة” على تسليم مواضعهم داخل المدينة والانسحاب إلى أطرافها.
في ذلك الحين، قال متحدث باسم اليبشة إن هذه القوة ستندمج في قوات الحشد الشعبي تحت مسمى الفوج 80″.
وقد حصل ذلك بالفعل.
لكن انسحاب “اليبشة” لم يكن سوى حركة شكلية على ما يبدو، إذ أنها بقيت مسيطرة مع حزب العمال على سنجار.
ولا تتسم العلاقة بين الجيش و”اليبشة” بالود، ففي مطلع أيار 2022 اندلعت اشتباكات بين الطرفين أدت إلى نزوح أكثر من أربعة آلاف مدني من سنجار نحو دهوك.
وتبادل الطرفان الاتهامات بشأن أسباب اندلاع الاشتباكات، فقد اتهم الجيش “اليبشة” في حينها بإغلاق طرق ونصب حواجز ومنع حركة المدنيين شمالي القضاء، بينما اتهمته “اليبشة” بأنه يريد السيطرة على المدينة وطردها منها.
وعمّ الهدوء بعد ذلك بأيام قليلة من دون أن يطرأ تغيير على الخريطة الأمنية هناك.
يقول كريم شمو، عضو المجلس المحلي في مدينة سنجار، إن وجود الجيش العراقي يمكن اعتباره “لحفظ ماء وجه الحكومة لا أكثر”، لأن انتشاره محدود، وهناك مناطق لا يستطيع دخولها بسبب رفض حزب العمال واليبشة.
ولم يُنفذ اتفاق سنجار حتى الآن.
هذه التوترات القديمة والجديدة داخل سنجار ضيّقت الخناق على الزراعة مثلما ضيّقته على بقية نشاطات السكان وحياتهم الاعتيادية.
ونتجت عن المعارك والقلاقل هناك مشكلات جمة أدت إلى تدهور واقع المياه.
خسارة كاملة
كان أغلب الإيزيديين في سنجار يعملون في الزراعة التي تعد المصدر الرئيس لمعيشتهم حتى قبل سيطرة “داعش” على منطقتهم، وهم يمتلكون خبرة جيدة في مختلف المجالات الزراعية.
غير أن القضاء شهد خلال الأعوام الثلاثة الماضية موجة جفاف حادة أثرت على قطاع الزراعة ومصادر المياه بشكل ملحوظ، فضلاً عن أن سنجار تقع في منطقة دون الخط المطري وغير مضمونة الأمطار، إذ هطلت أمطار كميتها 242 ملم في موسم 2020-2021 و232 ملم في موسم 2021-2022 و260 ملم حتى نهاية نيسان من الموسم الحالي.
وهذه الأرقام تعد منخفضة في مقاييس هطول الأمطار.
قال ياسين جعفر محسن، خبير زراعي، لـ”جمّار” إن مؤشرات الجفاف اجتاحت المنطقة في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، الا أنها لم تكن شديدة مثل الآن.
ويعتمد الإيزيديون في سنجار بنسبة 70 بالمئة على الزراعة التي تراجعت خلال العامين الماضيين بنسبة 50 بالمئة نتيجة قلة الأمطار، وفقاً لفهد حامد قائممقام سنجار.
“نسبة خسارة المزارعين الإيزيديين بلغت 100 بالمئة بسبب الجفاف” قال حامد لـ”جمّار”.
كانت أغلب القرى الإيزيدية المحيطة بسنجار تعتمد على الينابيع، وكان يوجد فيها أكثر من 50 ينبوعاً تكفي لسقي الزرع، لكنها جفّت تباعاً ليصل عددها إلى أقل من عشرة في الوقت الراهن.
أما الآبار فقد تعرضت هي الأخرى للدمار والتخريب على يد “داعش” و”المجرمين والمخربين” كما يعبّر حامد، ولم يبق منها سوى أقل من نصفها بعد أن كانت تسقي آلاف الدوانم التي تنتج أطناناً من المحاصيل الزراعية المتنوعة.
ويوجد نحو 400 بئر ارتوازي في حدود شعبة زراعة سنجار تعود جميعها للمزارعين الإيزيديين، وتعرض ما بین 150 و200 بئر منها للدمار جراء هجمات مسلحي “داعش” على المنطقة والعمليات العسكرية وعمليات التخريب والسرقة التي طالت المكائن وآلات سحب المياه والمحطات الكهربائية ومنازل المزارعين، ما تسببت في تعطل الآبار وخروجها عن الخدمة.
“كذلك تعرضت البساتين والأراضي الزراعية للتدمير، كما تعرضت منازل المزارعين المبنية في المزارع للتدمير وانقطاع التيار الكهربائي عنها بسبب تدمير المحولات الكهربائية وسرقتها” قال شرف نايف رشوكا مدير زراعة سنجار.
وبادرت منظمات إنسانية إلى تقديم مساعدات لترميم عدد من الآبار ونصب ألواح طاقة شمسية لتشغيلها، فضلاً عن توزيع بيوت بلاستيكية وسماد كيمياوي ومبيدات بين الفلاحين المتواجدين حالياً في سنجار.
وتعمل حالياً ثمانية آبار في مناطق تل بنات والحاتمية جنوبي سنجار بواسطة الطاقة الشمسية بعدما تم تأهيلها عقب تعرضها للخراب وقطع التيار الكهربائي عنها بسبب احتلال مسلحي “داعش” للمنطقة.
وقاد كل ذلك إلى تفشي البطالة بين المزارعين الإيزيديين بنسبة تصل إلى 80 بالمئة.
وتشير مصادر اتحاد فلاحي منقطة سنجار إلى وجود أكثر من 570 مزارعاً إيزيدياً ومسلماً مسجلين لدى الاتحاد، إلا أن أغلبهم ما زلوا نازحين.
ويفيد مدير زراعة سنجار بأن أكثر من 75 بالمئة من سكان المنطقة ما زالوا نازحين بسبب تدمير الآبار الارتوازية ومزارعهم وبساتينهم.
خنادق الحرب
خلال المعارك التي وقعت في المنطقة أقيم العديد من الخنادق والسواتر من قبل مسلحي “داعش” والقوات الأمنية في الأراضي الزراعية.
“عرض بعض تلك الخنادق يصل إلى خمسة أمتار” قال أحمد عبد الله ماسي، مسؤول اتحاد الفلاحين في سنجار.
وفي المنطقة الواقعة ما بين قريتي أم الذيبان وسينو شرقي سنجار فقط، خسر المزارعون نحو 2500 دونم بسبب السواتر والخنادق.
وتُمنع الجهات الأمنية من إزالة تلك السواتر والخنادق لأسباب غير معروفة.
ولكن على الرغم من ذلك، يلقي ماسي باللائمة على المزارعين النازحين.
“الأوضاع في سنجار مستقرة أمنياً وليس لديهم حجة لعدم العودة” يقول لـ”جمّار”.
ويظن أن بإمكان الأجهزة القضائية والحكومية اتخاذ إجراءات لمعالجة أي اعتداءات أو تجاوزات قد يتعرض لها المزارعون والفلاحون عند عودتهم، فيما يتهم “وسائل إعلام مغرضة بمحاولة إثارة المشاكل بين أهالي سنجار”.
وتقدر المساحة الكلية للأراضي الزراعية في سنجار بأكثر من 720 ألف دونم، وهناك نحو 360 ألف دونم منها مخصصة لبساتين يحتوي أغلبها على أشجار التين والزيتون وفواكه أخرى.
ويبين رشوكا أنه قبل 20 عاما كان كل دونم من الأراضي المزروعة بمادة الشعير والحنطة ينتج ما بين 500 إلى 700 كليوغرام، أما حالياً فيبلغ إنتاج كل دونم 300-500 كيلوغرام.
وبحسب مصادر زراعية مطلعة، لم تتجاوز الخطة الزراعية للأعوام 2020 و2021 و2022 زراعة مساحة 340 ألف دونم من الأراضي المخصصة لزراعة الحنطة والشعير والبالغة مساحتها أكثر من 360 ألف دونم، وذلك بسبب الجفاف.
ويقول محسن إن موسم حصاد 2020-2021 شهد تسويق 15 ألف طن من القمح والشعير من محصول المزارعين في سنجار، وفي الموسم 2021-2022 تم تسويق 20 ألف طن، بينما يتوقع أن يسجل الموسم الحالي نحو 30 ألف طن.
ويشير إلى أن البنية الزراعية في سنجار ضعيفة جداً بسبب الجفاف وآثار سيطرة مسلحي “داعش” التي تسببت في تدمير الزراعة والآبار والينابيع والجداول وحتى الآليات الزراعية.
ويشدد على ضرورة اتباع الطرق الحديثة في العمل الزراعي، ومنها استخدام المرشات في زراعة القمح والشعير.
ويقترح متخصصون إنشاء سدود للحصاد المائي واستثمار المياه الجوفية بشكل عقلاني حلاً للمحافظة على المساحات المزروعة والاستقرار الاجتماعي للسكان.
“جبل سنجار يمتلك خزيناً كبيراً وهائلاً من المياه الجوفية، وهناك إمكانية للحصول على الماء من حفر آبار إلى أعماق تتجاوز 120 متراً” يقول رمضان حمزة الخبير في السياسات المائية لـ”جمّار”.
ويشير إلى كثرة الوديان التي تشجع على إنشاء مئات من سدود الحصاد المائي في المنطقة.
لكن المزارعين لا يستطيعون وحدهم القيام بكل ذلك وإعادة الحياة إلى الزراعة بجهودهم الذاتية ومن دون مساعدة الدولة.
“الوضع الزراعي بحاجة إلى إمكانيات كبيرة وتوفير مستلزمات وآلات زراعية وتقديم الدعم للفلاحين من خلال توفير البذور والمبيدات والأسمدة والوقود” يقول حامد ويضيف في الوقت ذاته أنه “لا يوجد دعم حقيقي للمزارعين من قبل الدولة، وهناك إهمال من قبل الجهات المعنية”.
ومن صور الإهمال الحكومي للزراعة في سنجار، تدمير ستة آلاف دونم من غابات الصنوبر أنشئت في سبعينيات القرن الماضي، إذ تعرضت أشجار هذه الغابات البالغ عددها نحو مليوني شجرة للقطع والاقتلاع بعد عام 2005 لاستخدامها حطباً من دون تدخل حكومي لإنقاذها.
أحسن من الـ”ماكو“
يتابع المزارع الإيزيدي خيرو عيدو إلياس (50 سنة) بجد وشغف عمل الآلة الحاصدة وهي تحصد ما زرع من شعير في حقله الواقع بمنطقة تل قصب جنوبي سنجار.
ومع أن كمية المحصول دون المستوى المطلوب بكثير، إلا أن إلياس يبدي الارتياح إزاءها بعد ثلاثة مواسم من القحط والجفاف.
“أحسن من الماكو” يقول إلياس لـ”جمّار”.
وبسبب الجفاف، ارتفعت تكاليف مصاريف زراعة المحصول، إذ بلغ سعر الطن الواحد لبذور الشعير 900 ألف دينار، وسعر اللتر الواحد من المحروقات نحو 900 دينار.
كما أن أجرة الآلة الحاصدة تبلغ 140 ألف دينار لكل عشرة دوانم، فضلاً عن تكاليف الأسمدة والمبيدات والمستلزمات الأخرى.
“ومع كل هذه التكاليف لا نحصل على دعم كاف من الحكومة” يضيف إلياس.
/
* أُنتجت هذه المادة بدعم من برنامج تشِك غلوبال – مؤسسة ميدان.