عن "حبيبات" ما بعد 2003.. أدلجة البنات باسم الدين
30 أيار 2023
هكذا نشأ جيل من البنات بعد عام 2003، بات معياره ومعيار أهله الحشمة المبالغ فيها، وصار تجاوز الامتياز في التفوّق الدراسي، ليصبح التنافس على حفظ القرآن والإنشاد والتحجّب.. كيف نشأت "حبيبات" في ظلّ تحوّلات سياسية واجتماعية كبرى؟
النجف، 2004.
علي علي مولى علي علي مولى
حبُ عليٍّ فوز الشيعي غدا / فأمدد لي في يوم حسابي يدا
إن صلاتي ثم صيامي إذا / لم يشفع لي حيدر راحت سُدى
قالوا الرابع قلنا الأول “علي” / نصاً عنه في القرآن نزل
تمت فيهم نعمة من ربــنا / والدين بفضل الكرار اكتمل
أتذكر كيف كان صوت “حبيبة” الطفلة ذات الوجه الملائكي يعلو بالنشيد الذي تحفظه غيباً، وكيف تنشد بثقة عالية بباحة المدرسة في وسطنا نحن الطالبات البنات وأمام ضيوف المدرسة كلما حلّوا.
وجه حبيبة بات وجهاً دعائياً ارتأت الإدارة المدرسية أن تحمل صاحبته مهمة أن تكون قدوة للفتاة المسلمة، التي ترفع مستوى طالباتها “الشيعيات” ممن كن تحت سن التكليف الشرعي أي دون سن التاسعة من العمر. الطالبة التي يتوجّب عليها أن تتنقل بعدها من مدرستها الى مدارس أخرى صانعة من الراغبات بالتشبه بها نسخاً قادرة على التأثير في محيطهن.
الطالبة التي يُمَهّد لها منذ صغرها ليصير الإسلام السياسي ومظلومية الطائفة الشيعية طريقة تفكير لديّ ولدى جيلها.
“حبيبات” ما بعد 2003
حبيبة هي واحدة من بنات كثر من أصول إيرانية أفغانية كنّ قدمن إلى النجف مع أسرهن عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، حيث كان آباؤهن طلاباً في الحوزة العلمية التي تتكفل بمصاريفهم ومصاريف عائلاتهم بالكامل، مقابل تعلمهم العلم الشيعي ونشره.
في النجف، معقل عرّابي الإسلام السياسي والمراهنين على انتصاره، ازداد عدد طلبة الحوزة العلمية بعد عام 2003 متقاطرين من كل حدب وصوب. انزرع صغارهم من الجنسيات الأفغانية والإيرانية والباكستانية والبهرة بين التلميذات والتلامذة، فبهروا أقرانهم من العراقيين بلسانهم الذي يتنقل منساباً بين العربية الفصيحة وبين الفارسية والأفغانية بشكل بارع، مثيراً غيرة تلامذة أنهكهم الحصار لسنوات وأنهك تعليمهم وتعليم أهلهم.
أثار هؤلاء الطلاب إعجاب المعلمات أيضاً، ما دفع بكثر منهم إلى الاختلاء بالطالبات بحثاً عن إجابة عن استفسار ديني أو طلب مشورة دينية، كون الصغيرات كن قد درسن العلم الديني منذ الصغر في حين المعلمات كن على “جهالة” دينية.
أبرزت المعلمات “الحبيبات” في طابور الصباح ما دفع التلميذات العراقيات اللواتي كن ينشدن قصائد مدح صدام حسين قبل الاحتلال أو ترديد بعض من خطبه أو قراءة نشيد وطني إلى الوراء، فسادت حالة من الخيبة والغيرة بسبب وجود معايير جديدة للتنافس لم يختبرنها سابقاً.
كما دفعت المعلمات بالصغيرات ليتصدرن نشاطات مديرية التربية من شعر أو خطابة أو تلاوة وحفظ القرآن الذي برعن فيه، مقابل تراجع الاهتمام بأهمية نشاطات كالرسم والرياضة والأعمال اليدوية، التي برعت الطالبات الأخريات فيها.
شكّل هذا التمايز بين “الحبيبات” والفتيات الصغيرات ضغطاً على الأخيرات للحصول على المهارات والعلم الديني للحبيبات ذاته. وما هي إلا شهور قليلة بعد الاحتلال حتى فُتحت معاهد التقوية الدراسية، التي تبين لاحقاً أنها معاهد تُعلِم الفتيات التعاليم الدينية الشيعية وتبرز التفاوت بين الطائفتين الشيعية والسنية.
خلف واجهة التعليم تلك، تعلّمت البنات الحفظ والتلاوة كما تلقين مهارات الحبيبات في ارتداء ملابسهن، فانتشر الحجاب الإيراني بين الطفلات كحجاب يتم ارتداؤه أثناء الدوام وخارجه، واللبس البنجابي بين اليافعات والطفلات كلبس مميز و”مستور” خارج الدوام المدرسي. ثم سرعان ما بدأت سردية مظلومية الشيعة بالظهور في المجتمع لتتزايد مع مرور الوقت وتسود حتى بين الطفلات أنفسهن، فبدأن بتوجيه إحداهن الأخرى حول حشمة اللبس أو استخدام الإكسسوار والعطور أو مشاهدة مسلسلات معينة.
هكذا نشأ جيل من البنات وخاصة في المدن ذات القدسية الدينية بعد 2003، بات معياره ومعيار أهله الحشمة المبالغ بها، وحيث تجاوز الامتياز في التحصيل العلمي التفوق الدراسي، ليصبح التنافس على من تحفظ من القرآن أكثر لما يترتب على ذلك من جوائز مدرسية ورضا وقبول أسري.
معاهد المبلغات
عقب اتساع الطلب على العلم الديني بين الطفلات والنساء افتتحت لاحقاً معاهد المبلغات أو الداعيات الدينية، التي لم توار هدفها على أنه تدريسي، ومنها معهد الزهراء في النجف، ومجمع المبلغات الرساليات في الكاظمية. إلى جانب هذه، هناك المعاهد التي تؤسسها العتبات الدينية، كالعتبة الحسينية، ومنها المعهد العالي الاسلامي ومعهد العقيلة زينب، والتي تتكفل بمهرجانات التحجيب الشعائري باسم حفلات التكليف.
والتحجيب لم يتحول الى طقس احتفالي عند الشيعة الاثني عشرية إلا بعد عام 2003.
سبق افتتاح هذه المعاهد إرسال داعيات إلى المدارس من قبل الحوزة أو الأجنحة النسوية من أحزاب الاسلام السياسي، حيث وجهت المدارس بتخصيص ساعة أو أكثر من الوقت المخصص للدراسة لبث مواعظهن بين الصغيرات، وتخصيص وقت آخر للمعلمات لأحكام الأدلجة بينهن.
لكن لم يُعتمد على هؤلاء المبلغات لفترة طويلة بعد افتتاح معاهد المبلغات المتعلمات، فالأخيرات قُدّمن على أنهن ذوات الوجوه الشابة والمتحدثات بلغة الفئة المستهدفة نفسها، ما يجعل الاستقطاب أجدى وأسرع لمعاهد صناعة الحبيبات.
بذلك تحولت معاهد المبلغات إلى وجهة للفتيات اللواتي حاولن اختصار الرحلة الدراسية، فكن يلتحقن بتلك المؤسسات بعد التخرج من الدراسة المتوسطة، لأنه كان يضمن لهن الحصول على عمل مأجور، فيما لم يشكل اعتراف الدولة بشهادات تلك المؤسسات من عدمه أي فارق. عادة ما تمول العتبات الدينية هذه المعاهد، والتي تموَّل بدورها بشكل أساسي من الوقف الشيعي، موفرة مغريات للدراسة فيها مثل السفرات الترفيهية، والهدايا الشهرية، ووسائل النقل المجانية، والأقسام الداخلية الآمنة والمريحة والمجانية.
وفرت إذن تلك الدراسات دخلاً ومركزاً اجتماعياً لمن يحصل عليها ولذلك التحقت بها كثيرات.
صناعة الحبيبات المنزلية
لم تقتصر التربية الدينية على المدارس بل دخلت بيوتنا أيضاً.
فما بين دعاء الأمهات يوم الجمعة “يا رب عدي هذا اليوم على خير” خوفاً من حدوث انفجارات بأماكن تجمع المصلين، وبين المقارنات بين خطب الأئمة الشيعة وخطب الأئمة السنة، كانت الأمهات يرددن عند نشرة الثامنة مساءً مطمئنات “الحمد لله اليوم استشهد ألف شخص بس..”. كنا نحن الصغار منصتين لأحاديث الكبار لتي كانت تنبئ بأن القتل الذي ساد في تلك الفترة وشهدناه كأطفال لن ينتهي قريباً.
وفي يوم الأحد، حينما نعود إلى المدارس، كنا مشحونات بالأفكار والتساؤلات والإجابات المنسوخة من ألسنة الأهالي لتضرم النار بين الفتيات الصغيرات وهن يناقشنها، كما لو كانت قضاياهن هن. كما نسخن تصرف الآباء والأمهات عند الاختلاف بالرأي، وهو القطيعة فتقول مجموعة “ذني حكيميات (نسبة الى بيت الحكيم) جايين بس علمود الفلوس.. أمس مع سجون الأسرى واليوم مع المحتل”، فيما تقول المجموعة الاخرى تقول “ذني مع مقتدى الصدر هو عاش بيننا ومن رفض المحتل ونذر حياته لهذا الغرض”.
في وسط كل هذا، كان سؤال لا يحمل إجابة يحضرنا: ما معنى أن تكون طفلة صغيرة ملزمة بضغط الأقران على اختيار توجه معين -مهدوية، حكيمية، صدرية- لتكون حاضرة بين الأخريات ومقبولة في جلساتهن بين الدروس؟
عاشت البنات في تلك الأيام ولسنوات تلت ما بين أهل تغيروا في فترة وجيزة إلى محبين محبة جارفة للأئمة الاثني عشر ويؤمنون بآخرٍ حي لآخر الزمان، وبين مدارس تلزمهن بحفظ دعاء خروجه لإنقاذ الأمة وقراءته في كل طابور صباح مدرسي. عشن وسط أهل كانت رغبتهم إما بتحجيبهن أو تزويجهن خوفاً من عدم الأمان أو لضمان مستقبلهن بسبب ضبابية الوضع في العراق. عشن وسط عدد متزايد من الطفلات المتزوجات على مقاعد الدراسة ليغادرنها بعد شهور معدودة، وبين شابات ارتدين النقاب بعد زواجهن مباشرة عاكسات لهن شكل الحياة المقبلة.
في وسط كل هذا كانت تكمن حيرة الصغيرات ومعاركهن التي يصعُب التعبير عنها.
في الشوارع في الأفراح وعبر السي دي
لم يكن التحشيد العاطفي مجدياً دون تمرير رسائله بالعلن وباستمرار ليصبح جزءاً من باطننا بشكل غير شعوري.
هكذا ساهمت مكبرات الصوت التي انتشرت في الأسواق لتصدح بأسطورية “قيادة” مقتدى الصدر، والأناشيد الحماسية لكبير أعمال الدعاية الخاص بالإسلام السياسي الملا باسم الكربلائي، والرغبة ببوح الشوق الديني الذي كان مكتوماً لثلاثين عاماً مضت.
خلقت حالة من الضجيج الدائم مع عدم إمكانية الاعتراض عليها، حيث بات الحيز العام مملوكاً من موالين لمقتدى الصدر أو أعضاء في جيش المهدي -قبل أن يُجَمّد أو يتحول الى سرايا السلام- وهم الذين استملكوا السلاح والسلطة في ظل دولة شبه خالية من السلطة.
دوّت الشوارع بأناشيد حماسية طائفية أو تمجد بالقائد والمذهب، لتتحول بعد فترة إلى موسيقى مسموح بها في الأعراس أو الأفراح عامة، والتي تزامنت مع دخول جهاز السي دي إلى العراق.
بيعت في تلك الأيام عشرات الأقراص التي تحوي ما يشبع فضول الناس حول الطريقة التي أدار بها صدام حسين سجونه وعامل مناوئيه. صُبّ التركيز على هذه الأقراص دون غيرها وظهر ما قام به صدام حسين.
كانت العائلات تعرض تلك الأشرطة التي بينت حياة الرفاه التي كان يعيشها صدام وأسرته في قصورهم، وفي الوقت ذاته، تعرض أبشع طرق التعذيب وأشنع صور إذلال الذات عندما يطلب كبار السن أو الشباب الصفح من الرئيس، ممثلاً بضباطه وهم يتلذذون بهذا التعذيب والاذلال. أشرطة وقصص متداولة تروي مأساة رجال أُعدُموا وهم صيام أو منعوهم من الصلاة أو أجبروهم على سب الأئمة، وغيرها من القصص التي تعزز عدائية النظام السابق للمذهب الشيعي دون غيره.. ترافقها أغانِ تصويرية لردات ملا باسم الكربلائي عن مظلومية الطائفة.
كطفلة لم يكن في مخيلتي حينها سوى سؤال واحد: لماذا قاموا بالتصوير..؟ فيرد أحد أعمامي “حتى من يراووها لصدام يكللهم عفية”.
لم أكن بالنضج الكافي آنذاك لأسأل عوضاً عن ذلك السؤال الذي أجده أهم الآن: لماذا نشاهدها؟ ولمصلحة من كان يجب أن نشاهدها وكأنها فيلم كوميدي عائلي؟!
سردية الظلمة والنور
عمدت السلطة الدينية التي حكمتنا بعد 2003 على تثبيت سردية وجود حياة من “الجهالة” بسبب “التجهيل الديني العمد” من قبل النظام السابق قبل 2003، وبين عالم النور او”تفتُح العيون” كما درج على وصفها بعد 2003.
هي سردية احتاجت الكثير من الجهد لترسيخها لدى الجيل الناشئ، وتحديداً البنات؛ حاملات هوية دولة ما بعد الاحتلال بالحجاب وامتلاء صدورهن بالدين، ليس فقط كعقيدة وإنما أيضاً كطريقة تفكير. فالأدلجة الإسلاموية كانت منظمة وذكية إذ لم تجعل الشباب هدفها الأولي، بل الناشئة من الأطفال، والصغيرات بشكل خاص كأمهات مربيات.
لم يعايش هذا الجيل المستهدف النظام السابق ولم يتذوق مرارته، فباتت تلك مهمة الأدلجة الإسلاموية بما تملك من سلطة في مجال الدعاية من إعلام وخطباء دين من المؤثرين وتواصل مباشر في المدارس والمبالغة بشحن الناس بالعاطفة عند حدوث المناسبات الدينية وإبراز قادة الإسلام السياسي كمنقذين أو محررين.
حنق جيل أطفال ما بعد 2003 على نظام لم يشهده ولم يكن قد وصل آنذاك إلى مستوى تعليمي قادر معه أن يقرأ عنه، وحتى عندما بلغ تلك المرحلة كان لا يملك التفكير الحر والمستقل بما يكفي ليفهم أن “القادة” لم يشكلوا معارضة للنظام السابق بأي شكل من الأشكال، وما سؤالهم عن رواتبهم أمام بول بريمر سوى تجسيد لشكل الإدارة السياسية المستقبلية للبلاد.
لم يتخلَ هؤلاء عن دور الضحية رغم امتلاكهم السلطة وأجبروا الجميع على العيش ضمنه عبر الأدلجة. بمرور الوقت أصبح البحث عن الفردانية هو الحل لدى معظم أفراد هذا الجيل، وسيطرت اللامبالاة على غالبيتهم، لدرجة مكنت أصحاب السلطة السياسية من الحكم لعشرين سنة متواصلة.
ومنكم/ن نستفيد ونتعلم
هل لديكم/ن ملاحظة أو تعليق على محتوى جُمّار؟ هل وجدتم/ن أي معلومة خاطئة أو غير دقيقة تحتاج تصويباً؟ هل تجدون/ن اللغة المستعملة في المقالة مهينة أو مسيئة أو مميزة ضد مجموعة ما على أساس ديني/ طائفي/ جندري/ طبقي/ جغرافي أو غيره؟ الرجاء التواصل معنا عبر - editor@jummar.media
اقرأ ايضاً
النجف، 2004.
علي علي مولى علي علي مولى
حبُ عليٍّ فوز الشيعي غدا / فأمدد لي في يوم حسابي يدا
إن صلاتي ثم صيامي إذا / لم يشفع لي حيدر راحت سُدى
قالوا الرابع قلنا الأول “علي” / نصاً عنه في القرآن نزل
تمت فيهم نعمة من ربــنا / والدين بفضل الكرار اكتمل
أتذكر كيف كان صوت “حبيبة” الطفلة ذات الوجه الملائكي يعلو بالنشيد الذي تحفظه غيباً، وكيف تنشد بثقة عالية بباحة المدرسة في وسطنا نحن الطالبات البنات وأمام ضيوف المدرسة كلما حلّوا.
وجه حبيبة بات وجهاً دعائياً ارتأت الإدارة المدرسية أن تحمل صاحبته مهمة أن تكون قدوة للفتاة المسلمة، التي ترفع مستوى طالباتها “الشيعيات” ممن كن تحت سن التكليف الشرعي أي دون سن التاسعة من العمر. الطالبة التي يتوجّب عليها أن تتنقل بعدها من مدرستها الى مدارس أخرى صانعة من الراغبات بالتشبه بها نسخاً قادرة على التأثير في محيطهن.
الطالبة التي يُمَهّد لها منذ صغرها ليصير الإسلام السياسي ومظلومية الطائفة الشيعية طريقة تفكير لديّ ولدى جيلها.
“حبيبات” ما بعد 2003
حبيبة هي واحدة من بنات كثر من أصول إيرانية أفغانية كنّ قدمن إلى النجف مع أسرهن عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، حيث كان آباؤهن طلاباً في الحوزة العلمية التي تتكفل بمصاريفهم ومصاريف عائلاتهم بالكامل، مقابل تعلمهم العلم الشيعي ونشره.
في النجف، معقل عرّابي الإسلام السياسي والمراهنين على انتصاره، ازداد عدد طلبة الحوزة العلمية بعد عام 2003 متقاطرين من كل حدب وصوب. انزرع صغارهم من الجنسيات الأفغانية والإيرانية والباكستانية والبهرة بين التلميذات والتلامذة، فبهروا أقرانهم من العراقيين بلسانهم الذي يتنقل منساباً بين العربية الفصيحة وبين الفارسية والأفغانية بشكل بارع، مثيراً غيرة تلامذة أنهكهم الحصار لسنوات وأنهك تعليمهم وتعليم أهلهم.
أثار هؤلاء الطلاب إعجاب المعلمات أيضاً، ما دفع بكثر منهم إلى الاختلاء بالطالبات بحثاً عن إجابة عن استفسار ديني أو طلب مشورة دينية، كون الصغيرات كن قد درسن العلم الديني منذ الصغر في حين المعلمات كن على “جهالة” دينية.
أبرزت المعلمات “الحبيبات” في طابور الصباح ما دفع التلميذات العراقيات اللواتي كن ينشدن قصائد مدح صدام حسين قبل الاحتلال أو ترديد بعض من خطبه أو قراءة نشيد وطني إلى الوراء، فسادت حالة من الخيبة والغيرة بسبب وجود معايير جديدة للتنافس لم يختبرنها سابقاً.
كما دفعت المعلمات بالصغيرات ليتصدرن نشاطات مديرية التربية من شعر أو خطابة أو تلاوة وحفظ القرآن الذي برعن فيه، مقابل تراجع الاهتمام بأهمية نشاطات كالرسم والرياضة والأعمال اليدوية، التي برعت الطالبات الأخريات فيها.
شكّل هذا التمايز بين “الحبيبات” والفتيات الصغيرات ضغطاً على الأخيرات للحصول على المهارات والعلم الديني للحبيبات ذاته. وما هي إلا شهور قليلة بعد الاحتلال حتى فُتحت معاهد التقوية الدراسية، التي تبين لاحقاً أنها معاهد تُعلِم الفتيات التعاليم الدينية الشيعية وتبرز التفاوت بين الطائفتين الشيعية والسنية.
خلف واجهة التعليم تلك، تعلّمت البنات الحفظ والتلاوة كما تلقين مهارات الحبيبات في ارتداء ملابسهن، فانتشر الحجاب الإيراني بين الطفلات كحجاب يتم ارتداؤه أثناء الدوام وخارجه، واللبس البنجابي بين اليافعات والطفلات كلبس مميز و”مستور” خارج الدوام المدرسي. ثم سرعان ما بدأت سردية مظلومية الشيعة بالظهور في المجتمع لتتزايد مع مرور الوقت وتسود حتى بين الطفلات أنفسهن، فبدأن بتوجيه إحداهن الأخرى حول حشمة اللبس أو استخدام الإكسسوار والعطور أو مشاهدة مسلسلات معينة.
هكذا نشأ جيل من البنات وخاصة في المدن ذات القدسية الدينية بعد 2003، بات معياره ومعيار أهله الحشمة المبالغ بها، وحيث تجاوز الامتياز في التحصيل العلمي التفوق الدراسي، ليصبح التنافس على من تحفظ من القرآن أكثر لما يترتب على ذلك من جوائز مدرسية ورضا وقبول أسري.
معاهد المبلغات
عقب اتساع الطلب على العلم الديني بين الطفلات والنساء افتتحت لاحقاً معاهد المبلغات أو الداعيات الدينية، التي لم توار هدفها على أنه تدريسي، ومنها معهد الزهراء في النجف، ومجمع المبلغات الرساليات في الكاظمية. إلى جانب هذه، هناك المعاهد التي تؤسسها العتبات الدينية، كالعتبة الحسينية، ومنها المعهد العالي الاسلامي ومعهد العقيلة زينب، والتي تتكفل بمهرجانات التحجيب الشعائري باسم حفلات التكليف.
والتحجيب لم يتحول الى طقس احتفالي عند الشيعة الاثني عشرية إلا بعد عام 2003.
سبق افتتاح هذه المعاهد إرسال داعيات إلى المدارس من قبل الحوزة أو الأجنحة النسوية من أحزاب الاسلام السياسي، حيث وجهت المدارس بتخصيص ساعة أو أكثر من الوقت المخصص للدراسة لبث مواعظهن بين الصغيرات، وتخصيص وقت آخر للمعلمات لأحكام الأدلجة بينهن.
لكن لم يُعتمد على هؤلاء المبلغات لفترة طويلة بعد افتتاح معاهد المبلغات المتعلمات، فالأخيرات قُدّمن على أنهن ذوات الوجوه الشابة والمتحدثات بلغة الفئة المستهدفة نفسها، ما يجعل الاستقطاب أجدى وأسرع لمعاهد صناعة الحبيبات.
بذلك تحولت معاهد المبلغات إلى وجهة للفتيات اللواتي حاولن اختصار الرحلة الدراسية، فكن يلتحقن بتلك المؤسسات بعد التخرج من الدراسة المتوسطة، لأنه كان يضمن لهن الحصول على عمل مأجور، فيما لم يشكل اعتراف الدولة بشهادات تلك المؤسسات من عدمه أي فارق. عادة ما تمول العتبات الدينية هذه المعاهد، والتي تموَّل بدورها بشكل أساسي من الوقف الشيعي، موفرة مغريات للدراسة فيها مثل السفرات الترفيهية، والهدايا الشهرية، ووسائل النقل المجانية، والأقسام الداخلية الآمنة والمريحة والمجانية.
وفرت إذن تلك الدراسات دخلاً ومركزاً اجتماعياً لمن يحصل عليها ولذلك التحقت بها كثيرات.
صناعة الحبيبات المنزلية
لم تقتصر التربية الدينية على المدارس بل دخلت بيوتنا أيضاً.
فما بين دعاء الأمهات يوم الجمعة “يا رب عدي هذا اليوم على خير” خوفاً من حدوث انفجارات بأماكن تجمع المصلين، وبين المقارنات بين خطب الأئمة الشيعة وخطب الأئمة السنة، كانت الأمهات يرددن عند نشرة الثامنة مساءً مطمئنات “الحمد لله اليوم استشهد ألف شخص بس..”. كنا نحن الصغار منصتين لأحاديث الكبار لتي كانت تنبئ بأن القتل الذي ساد في تلك الفترة وشهدناه كأطفال لن ينتهي قريباً.
وفي يوم الأحد، حينما نعود إلى المدارس، كنا مشحونات بالأفكار والتساؤلات والإجابات المنسوخة من ألسنة الأهالي لتضرم النار بين الفتيات الصغيرات وهن يناقشنها، كما لو كانت قضاياهن هن. كما نسخن تصرف الآباء والأمهات عند الاختلاف بالرأي، وهو القطيعة فتقول مجموعة “ذني حكيميات (نسبة الى بيت الحكيم) جايين بس علمود الفلوس.. أمس مع سجون الأسرى واليوم مع المحتل”، فيما تقول المجموعة الاخرى تقول “ذني مع مقتدى الصدر هو عاش بيننا ومن رفض المحتل ونذر حياته لهذا الغرض”.
في وسط كل هذا، كان سؤال لا يحمل إجابة يحضرنا: ما معنى أن تكون طفلة صغيرة ملزمة بضغط الأقران على اختيار توجه معين -مهدوية، حكيمية، صدرية- لتكون حاضرة بين الأخريات ومقبولة في جلساتهن بين الدروس؟
عاشت البنات في تلك الأيام ولسنوات تلت ما بين أهل تغيروا في فترة وجيزة إلى محبين محبة جارفة للأئمة الاثني عشر ويؤمنون بآخرٍ حي لآخر الزمان، وبين مدارس تلزمهن بحفظ دعاء خروجه لإنقاذ الأمة وقراءته في كل طابور صباح مدرسي. عشن وسط أهل كانت رغبتهم إما بتحجيبهن أو تزويجهن خوفاً من عدم الأمان أو لضمان مستقبلهن بسبب ضبابية الوضع في العراق. عشن وسط عدد متزايد من الطفلات المتزوجات على مقاعد الدراسة ليغادرنها بعد شهور معدودة، وبين شابات ارتدين النقاب بعد زواجهن مباشرة عاكسات لهن شكل الحياة المقبلة.
في وسط كل هذا كانت تكمن حيرة الصغيرات ومعاركهن التي يصعُب التعبير عنها.
في الشوارع في الأفراح وعبر السي دي
لم يكن التحشيد العاطفي مجدياً دون تمرير رسائله بالعلن وباستمرار ليصبح جزءاً من باطننا بشكل غير شعوري.
هكذا ساهمت مكبرات الصوت التي انتشرت في الأسواق لتصدح بأسطورية “قيادة” مقتدى الصدر، والأناشيد الحماسية لكبير أعمال الدعاية الخاص بالإسلام السياسي الملا باسم الكربلائي، والرغبة ببوح الشوق الديني الذي كان مكتوماً لثلاثين عاماً مضت.
خلقت حالة من الضجيج الدائم مع عدم إمكانية الاعتراض عليها، حيث بات الحيز العام مملوكاً من موالين لمقتدى الصدر أو أعضاء في جيش المهدي -قبل أن يُجَمّد أو يتحول الى سرايا السلام- وهم الذين استملكوا السلاح والسلطة في ظل دولة شبه خالية من السلطة.
دوّت الشوارع بأناشيد حماسية طائفية أو تمجد بالقائد والمذهب، لتتحول بعد فترة إلى موسيقى مسموح بها في الأعراس أو الأفراح عامة، والتي تزامنت مع دخول جهاز السي دي إلى العراق.
بيعت في تلك الأيام عشرات الأقراص التي تحوي ما يشبع فضول الناس حول الطريقة التي أدار بها صدام حسين سجونه وعامل مناوئيه. صُبّ التركيز على هذه الأقراص دون غيرها وظهر ما قام به صدام حسين.
كانت العائلات تعرض تلك الأشرطة التي بينت حياة الرفاه التي كان يعيشها صدام وأسرته في قصورهم، وفي الوقت ذاته، تعرض أبشع طرق التعذيب وأشنع صور إذلال الذات عندما يطلب كبار السن أو الشباب الصفح من الرئيس، ممثلاً بضباطه وهم يتلذذون بهذا التعذيب والاذلال. أشرطة وقصص متداولة تروي مأساة رجال أُعدُموا وهم صيام أو منعوهم من الصلاة أو أجبروهم على سب الأئمة، وغيرها من القصص التي تعزز عدائية النظام السابق للمذهب الشيعي دون غيره.. ترافقها أغانِ تصويرية لردات ملا باسم الكربلائي عن مظلومية الطائفة.
كطفلة لم يكن في مخيلتي حينها سوى سؤال واحد: لماذا قاموا بالتصوير..؟ فيرد أحد أعمامي “حتى من يراووها لصدام يكللهم عفية”.
لم أكن بالنضج الكافي آنذاك لأسأل عوضاً عن ذلك السؤال الذي أجده أهم الآن: لماذا نشاهدها؟ ولمصلحة من كان يجب أن نشاهدها وكأنها فيلم كوميدي عائلي؟!
سردية الظلمة والنور
عمدت السلطة الدينية التي حكمتنا بعد 2003 على تثبيت سردية وجود حياة من “الجهالة” بسبب “التجهيل الديني العمد” من قبل النظام السابق قبل 2003، وبين عالم النور او”تفتُح العيون” كما درج على وصفها بعد 2003.
هي سردية احتاجت الكثير من الجهد لترسيخها لدى الجيل الناشئ، وتحديداً البنات؛ حاملات هوية دولة ما بعد الاحتلال بالحجاب وامتلاء صدورهن بالدين، ليس فقط كعقيدة وإنما أيضاً كطريقة تفكير. فالأدلجة الإسلاموية كانت منظمة وذكية إذ لم تجعل الشباب هدفها الأولي، بل الناشئة من الأطفال، والصغيرات بشكل خاص كأمهات مربيات.
لم يعايش هذا الجيل المستهدف النظام السابق ولم يتذوق مرارته، فباتت تلك مهمة الأدلجة الإسلاموية بما تملك من سلطة في مجال الدعاية من إعلام وخطباء دين من المؤثرين وتواصل مباشر في المدارس والمبالغة بشحن الناس بالعاطفة عند حدوث المناسبات الدينية وإبراز قادة الإسلام السياسي كمنقذين أو محررين.
حنق جيل أطفال ما بعد 2003 على نظام لم يشهده ولم يكن قد وصل آنذاك إلى مستوى تعليمي قادر معه أن يقرأ عنه، وحتى عندما بلغ تلك المرحلة كان لا يملك التفكير الحر والمستقل بما يكفي ليفهم أن “القادة” لم يشكلوا معارضة للنظام السابق بأي شكل من الأشكال، وما سؤالهم عن رواتبهم أمام بول بريمر سوى تجسيد لشكل الإدارة السياسية المستقبلية للبلاد.
لم يتخلَ هؤلاء عن دور الضحية رغم امتلاكهم السلطة وأجبروا الجميع على العيش ضمنه عبر الأدلجة. بمرور الوقت أصبح البحث عن الفردانية هو الحل لدى معظم أفراد هذا الجيل، وسيطرت اللامبالاة على غالبيتهم، لدرجة مكنت أصحاب السلطة السياسية من الحكم لعشرين سنة متواصلة.