ولادة مدينة الثورة واستمرار الاحتجاج الشعبي في العراق
16 مايو 2023
جادل هذا المقال بأن المهاجرين الذين جاؤوا إلى بغداد بين أوائل ومنتصف القرن العشرين شكّلوا طبقة مدنية دنيا صامدة، نظمت بشكل جماعي حركات سياسية محلية وجماهيرية أدت مطالبها إلى تحسين الأجور والتخطيط الحضري ومشاريع الإسكان.. عن ولادة "الثورة" وتاريخ وحاضر أهلها..
بعد عام واحد من ثورة تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق، دشّنت حكومة عبد الكريم قاسم الجمهورية مدينة الثورة (المعروفة اليوم باسم مدينة الصدر) كحيٍّ في ضواحي شمال شرق بغداد. كانت مدينة الثورة تحتوي على خمسة أو ستة قطاعات في المخطط الأصلي، لكنها تضم اليوم ما يقارب المئة قطاع، وعلى الرغم من اختلاف التقديرات بهذا الصدد، إلا أنها تشكل موطناً لأكثر من 2.5 مليون شخص.
يُنظر إلى بناء مدينة الثورة على نطاق واسع في العراق على أنه عمل بطولي قام به قاسم: بناء مستوطنة سكنية نموذجية لاستيعاب آلاف المهاجرين الريفيين الذين كانوا يُعرَفون حتى ذلك الحين باسم “سكان الصريفة”، والذين كانوا يعيشون في أكواخ من القصب والطوب اللبن. أصبح المشروع رمزاً لعراق حديث وحضري، ولا يزال يشار إليه كنموذج لما يمكن أن تحققه التنمية الموجهة من قبل الحكومة في العراق.
لم تكن ولادة مدينة الثورة نتيجة فعل خير ناجم عن زعيم شعبوي، ولا يمكن أن تُعدّ نموذجاً لمشاريع تنموية موجهة من الأعلى نحو الأدنى في العراق. يجادل هذا المقال بأن المهاجرين الذين جاؤوا إلى بغداد بين أوائل ومنتصف القرن العشرين، وبشكل أساسي من المحافظات الجنوبية الشرقية، قد شكلوا طبقة مدنية / حضرية دُنيا صامدة والتي على مدى العقود الثمانية الماضية قد نظمت بشكل جماعي حركات سياسية محلية وجماهيرية أدت مطالبها إلى تحسين الأجور والتخطيط الحضري ومشاريع الإسكان – بما في ذلك داخل مدينة الثورة-. وعلى الرغم من أن مدينة الثورة أنشئت استجابة لتنظيمات العمال وإضراباتهم واحتجاجاتهم على مدى سنوات، إلا أنها لم تصمم بالتعاون مع أولئك الذين سيقيمون هناك في نهاية المطاف.
تميّز إنشاء مدينة الثورة في الواقع بنزع عنيف لملكية الأراضي في ضواحي بغداد، ما أدى إلى نزوح جماعي للمزارعين الريفيين إلى العاصمة. كما أدى افتقار هذا الحي إلى الخدمات الأساسية، مثل شبكات المياه والكهرباء والنقل، إلى تفاقم عدم المساواة الاقتصادية وترسخ أنماط الفصل الجغرافي الطبقي. أدى هذا الحرمان ونزع الملكية إلى أن تصبح مدينة الثورة مركزاً صامدا للحركات الاجتماعية الجماهيرية. وما فتئ ذلك مستمراً حتى يومنا هذا، كما كان الحال عندما انضم كثير من سكان مدينة الصدر للاحتجاجات في تشرين الأول 2019 التي عمّت جميع أنحاء البلاد، ضد النخبة السياسية الفاسدة في البلاد والمطالبة بوظائف وأجور أفضل، مياه نظيفة، كهرباء، وإسكان، فضلاً عن إعادة هيكلة النظام السياسي ما بعد 2003.
تشكيل طبقة دُنيا حضرية: “عمرنة” بغداد
تميّز القرن العشرون في العراق بنزوح جماعيّ كبير، حيث انتقل آلاف المزارعين من الريف، وخاصة من جنوب شرق العراق، إلى المدن هروباً من الظروف القاسية في محافظات مثل العمارة والكوت. كان فقر وجوع المهاجرين شديدين لدرجة أنهم غالباً ما كانوا يأكلون التمر مع البذور لأنهم لم يكونوا ليستغنوا على أي شيء ذي قيمة غذائية. على الرغم من أن الهجرة الداخلية زادت خلال فترة سلطة الانتداب البريطاني على العراق (1921-1932)، فقد وصلت معدلاتها إلى ذروتها في الخمسينات، إذ قدّر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الهلالي أن الهجرة من محافظة العمارة إلى بغداد كانت بمعدل “عشر شاحنات في اليوم الواحد”.1 أشار سكان بغداد المخضرمون باستخفاف إلى هؤلاء المهاجرين باسم الشروگ (“الشروگيون”، الجمع العامي شروگية)، وهو مصطلح عزز شكلاً من أشكال التمييز الجغرافي. وقد وصف المؤرخ حنا بطاطو هذه الظاهرة على أنها “عمرنة” بغداد أو تحوّل بغداد إلى العمْارة.2
كان هذا النزوح الجماعي من الريف محورياً في خلق طبقة دُنيا حضرية في المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة قبل ثورة 1958. كان الفصل الجغرافي بين الطبقات واضحاً بصرياً، حيث قام المهاجرون بتكييف حصيرة القصب المعتادة والهندسة المعمارية من الطوب اللبن المستخدمة في جنوب شرق العراق مع الظروف المادية والمناخية والهيدروليكية في العاصمة. تمت الإشارة إلى هذه المساكن بشكل غير دقيق في الاختزال البيروقراطي على أنها مستوطنات “الصرائف” – بما يعني تقريباً أكواخ القصب – دليلاً على عدم ثباتها. وكان يشار إلى سكانها باسم سكان الصريفة في المنشورات الحكومية والصحفية التي تصدر عادة باللغة الإنجليزية. يصور هذا المصطلح العربي-الإنجليزي الهجين والغريب المهاجرين الريفيين على أنهم في الأساس طبقة اجتماعية حضرية جديدة. كما أنه يماثل بشكل مباشر مصطلح “سكان الأحياء الفقيرة” (Slum-Dweller) المستخدم في أوروبا وأمريكا الشمالية.
استخدم المهاجرون الريفيون -سواء الذين هاجروا طواعية أو مَنْ نُزِعت منهم منازلهم بالقوة- استراتيجيات احتلال الأراضي في العاصمة لإنشاء مدينة معقدة ومتنامية حيث يمكن للفرد العثور على قطعة أرض بمساعدة الأقارب والجيران، وبناء مسكن يلبي احتياجاتهم الأساسية للمأوى. حكمت مجموعة من الممارسات العرفية ترتيبات حيازة الأراضي بين مؤسسات الدولة ومُلّاك الأراضي من الأفراد والأسر المهاجرة. وجدت أنظمة راسخة للمساعدة المتبادلة بين السكان، كما سمح الشكل المعماري لغرف القصب والطوب اللبن المتجمعة حول ساحات مشتركة لمرافق الغسيل والطهي بتسهيل ترتيبات المعيشة وبناء أو هدم الغرف عند وصول أفراد مهاجرين جدد أو مغادرتهم أو ولادة الأطفال.3



وخلافاً للتأكيدات القائلة بأن المهاجرين كانوا تقليديين وغير مواكبين للحداثة، فإنهم لم يكونوا مجموعة متشابهة. تردّد الكثير منهم على دور السينما والمقاهي، إضافة إلى المشاركة في أشكال متعدّدة من الارتباط الرومنسي والجنسي، بما في ذلك زيارة بيوت الدعارة. على الرغم من أن النساء المهاجرات ربما لم يرتدين بدلات التنورة العصرية، إلا أنهن كن منخرطات بشكل كبير في النشاط الاقتصادي: فقد كن عنصراً أساسياً في إنتاج الألبان ومشتقاتها، على سبيل المثال، وذهبن مع أطفالهن وحيواناتهن إلى الأحياء الغنية كل صباح لبيع الحليب الطازج وغيرها من المواد.
غالباً ما تضمنت مستوطنات المهاجرين مناطق منفصلة، ولكنها متداخلة، للاستخدامات السكنية والتجارية ولتربية الحيوانات. فالمهاجرون من الأهوار الجنوبية الشرقية، على سبيل المثال، غالباً ما يسكنون مناطق مختلفة عن مناطق توطين المهاجرين الأخرى. تميّزت هذه المناطق بأحواش مفتوحة كبيرة وبناء معماري مصنوع من التراب (بنية أرضية)، وبيوت من حصائر القصب، وبرك خوض قريبة للجاموس – كلها تتحدى التصنيفات الصارمة لما يعتبر على أنه مناطق حضرية مقابل الريفية. استخدمت هذه العائلات السهول الفيضية وقنوات المياه والخنادق المحفورة لإعادة إنشاء السمات البيئية للأراضي الرطبة التي تركوها وراءهم والتي تدعم سبل عيشهم التي ترتكز على الجاموس، في العاصمة. نتيجة لذلك، شكل الجاموس وسيارة الشيفروليه، جنبا إلى جنب، مع حصائر القصب والإسمنت، المنظر الطبيعي لعاصمة تتمدّن سريعاً.
ومع ذلك، استمرّ عدم المساواة الاقتصادية بين أولئك الذين يعيشون في مستوطنات المهاجرين وأولئك الذين يعيشون في فيلات في ضواحي بغداد الجديدة في النمو، وساهم في خلق ثقافة التنظيم الجماعي بين سكان العاصمة الأشد فقراً.
شكلت الإضرابات العمالية الحركات السياسية العراقية بعد الاستقلال وأثرت أيضاً في التحوّل المكاني لمدينة بغداد، حيث طالب العمال عام 1940 بخفض بدلات الإيجار، ونقل مجانيّ، والحق في إشغال الأرض، فضلاً عن أنظمة أكثر ديمومة للإسكان. وكثيراً ما لبَّت السلطات هذه المطالب، لأن العمال المضربين كانوا قادرين على إلحاق الضرر بالاقتصاد العراقي من خلال شلّ نشاط الشركات والبنية التحتية الرئيسية، مثل مصانع الطوب وشركات النفط والسكك الحديدية وشركات النسيج. كان المزارعون والمهاجرون الريفيون أعضاء أساسيين وذوي رتب منخفضة في الجيش والشرطة والخدمة المدنية وكانوا يعملون بأعداد كبيرة في صناعات البناء والألبان والنخيل والشحن والنفط: لقد كانوا البنية التحتية البشرية التي بنت الدولة العراقية ودعمتها.
في تشرين الثاني عام 1952، تحوّلت سلسلة من الإضرابات الصغيرة إلى حركة احتجاج ضخمة، تُذكر في تاريخ العراق باسم الانتفاضة. كانت الانتفاضة انتصاراً للجماهير المحتجّة لأنها أدت إلى إضفاء ضوابط على سقوف الأسعار وإلغاء ضرائب الاستهلاك على الفواكه والخضراوات. في محاولة لاسترضاء الطلاب المحتجّين، أُلغيت الرسوم الدراسية الجامعية أيضاً. كما خفّضت الحكومة رسوم الاستيراد من 40 إلى 10 بالمئة على المواد التي يستهلكها المهاجرون الريفيون بكثافة، مثل الشاي والسكر والسلع القطنية.4 بدأ طلاب المدارس الابتدائية ذوو الدخل المنخفض في تلقي الطعام والملابس مجاناً، بينما تلقى جميع الطلاب كتباً ومستلزمات قرطاسية مجانية. كانت معظم هذه التنازلات موجهة إلى الطبقات الأكثر فقراً في بغداد، ما يعكسُ تخوّفَ النخبةِ الحاكمة العراقية من الإمكانات الثورية للمهاجرين في العاصمة، الذين شبهت النخبة الحاكمة ظروفهم المادية بالبروليتاريا الرثة (الفئات الدنيا) في فرنسا عام 1789.
مجلس الإعمار والتصميم الحضري
في عام 1950، أنشأ البرلمان العراقي مجلس الإعمار لإدارة 70 بالمئة من عائدات امتيازات النفط العراقية وتصميم والإشراف على تنفيذ جميع مشاريع التنمية، مثل السدود الكهرومائية والطرق ومشاريع الري. وأنشأ المجلس هيكلا ماليا موازيا للمؤسسات الحكومية العراقية، بالنظر إلى أن عائدات النفط ستودع في الحساب المنفصل لمجلس الاعمار في المصرف الأهلي العراقي5. على الرغم من أن المجلس كان يرأسه رئيس الوزراء، إلا أنه كان يتألف أيضاً من عشرة أعضاء معيّنين وثلاثة أعضاء بحكم مناصبهم. كان الأعضاء إلى حدٍّ كبير من المسؤولين في الحكومة وخبراء القطاع الخاص (غالباً ما كانوا مستشارين بريطانيين وأمريكيين) قادوا أربعة أقسام فنية تغطي الري والصناعة والنقل والتنمية الزراعية. وبالنظر إلى هذه التشكيلة، سمح إنشاء المجلس بالاستيلاء على عائدات النفط العراقي من قبل الشركات البريطانية والأمريكية التي سعت إلى الحصول على مركز تفضيلي كمتعاقدين بتنفيذ مشاريع الاستثمار الرأسمالي الضخمة للمجلس، مثل خطط السيطرة على الفيضانات.
في عام 1956، تم الانتهاء من مخطط وادي الثرثار الذي كان أحد أولويات المجلس للسيطرة على الفيضانات. وكاد المشروع أن يقضي على التهديد الوجودي للفيضانات الدائمة التي ابتليت بها بغداد لقرونٍ عدة. كان الهدف من المشروع هو توفير 125000 كيلوواط من الطاقة الكهربائية وري 200000 إلى 300000 فدان من الأراضي. كما سمح بالتوسع الشرقي للعاصمة، والذي كان قبل المشروع قد اقتصر على حدود نظام معقد من سدود الفيضانات. كما هو متوقع، في منتصف الخمسينات مباشرة، قبل الانتهاء من مشروع وادي الثرثار، عيَّن مجلس التنمية العراقي وأمين بغداد شركتين منفصلتين للتخطيط الحضري لإنشاء المخطط العام للمدينة، متطلعين الى التوسع الجانبي لبغداد.
بموازاة ذلك، وفي عام 1954 جرى تعيين مينوبريو وسبينسلي وماكفارلين، وهم استشاريون بريطانيون للهندسة المعمارية وتخطيط المدن يعرفون باختصار (MSM)، لتطوير خطة رئيسية للعاصمة.
وصفت خطة MSM مستوطنات المهاجرين المصنوعة من القصب ومن الطوب اللبن على أنها “مشكلة اجتماعية إنسانية” لا يمكن معالجتها ببساطة من خلال نهج تكنوقراطي للبنية التحتية المادية للمدينة:
إن توفير طرق جديدة لحركة المرور سيحل مشكلة ميكانيكية في الأساس. ولكن توفير منازل جديدة، وتطهير المناطق الفقيرة، وتخفيف الاكتظاظ المفرط، هي في المقام الأول مشكلة اجتماعية إنسانية. مهما أصبحت المدينة فعّالة ميكانيكياً، مهما كانت مبانيها الجديدة مهيبة، ما لم يكن من الممكن تحسين ظروف الإسكان بشكل جذري، فإنها ستكون مجرد واجهة وخدعة، تخفي قرحة ستظهر يوماً ما على شكل سخط واضطرابات اجتماعية6.
(تم استكمال عملية التخطيط العامة لـMSM بخطط رئيسية لاحقة تم تطويرها في عام 1957 من قبل Doxiadis Associates وفي السبعينيات من قبل Polservice)
وهكذا كان المستقبل السياسي لبغداد مبنياً على النزوح الجماعي وإعادة توطين مستوطنات المهاجرين، وخاصة تلك الواقعة خلف سد الفيضان الشرقي الذي سيصبح عقاراً رئيسياً لتوسيع ضواحي بغداد بعد الانتهاء من مشروع وادي الثرثار. وجادل MSM بأن تحسين ظروف السكن في بغداد والاستقرار السياسي في المدينة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً.
دوكسياديس والبرنامج الوطني للإسكان
اتفق المستشارون الأجانب في مجلس الإعمار، مثل عضو البرلمان البريطاني السابق ومن أوائل المدافعين عن حكومة وحدوية أوروبية اللورد آرثر سالتر، على أنه من الضروري تمويل مشاريع الإسكان لتخفيف الاضطرابات الاجتماعية بين الطبقات “الخطيرة سياسيا” من السكان – أي المهاجرين الريفيين:
هناك استياء قوي وواسع النطاق ضد مجلس الإعمار بين العديد من فئات السكان (وخاصة تلك التي من المرجّح أن تتأثر بالدعاية التخريبية وأن تكون خطيرة سياسيا)… لذلك هناك دافع قوي للإنفاق الكبير من النوع الذي سيحقق فوائد سريعة ومرئية، من بينها السكن، وأنظمة المياه النقية، والمساعدة التفصيلية والفورية للزراعة وتربية الحيوانات.7
لذلك في عام 1955، وهو العام نفسه، الذي نشر فيه سالتر كتابه “تنمية العراق: خطة عمل”، قرّر المجلس توظيف المهندس المعماري اليوناني ومخطط المدن كونستانتينوس أ. دوكسياديس للقضاء على جميع منازل حصير القصب ومنازل الطوب اللبن في بغداد وفي جميع أنحاء العراق كجزء من برنامج إسكان وطني طموح. كما أضاف المجلس قسماً فنياً خامساً مخصصاً للإسكان، والذي سيشرف عليه Doxiadis Associates (DA) ويقدم المشورة بشأن تصميم المساكن وحيازة الأراضي، والمواد، والعمالة، والتمويل.



بدأ برنامج الإسكان بخطة خمسية تسمى البرنامج التأسيسي المبدئي (1956-1962) استهدفت 256000 أسرة. امتدَّ برنامج الإسكان الشامل لمدة خمسة وعشرين عاماً وكان يسمى البرنامج العظيم. من أجل بناء منازل جديدة للمهاجرين الريفيين، تعيّن على DA تهجير “سكان الصريفة” من الأراضي التي يشغلونها. لكن هذا التهجير جاء مع وعد بإعادة توطين المهاجرين على الأرض نفسها أو على أراضٍ قريبة، إما في منازل من الطوب والإسمنت بنتها الدولة أو على قطع أرض يمتلكونها ويمكنهم بناء مساكنهم الجديدة عليها ويتم دمج حياتهم في حيٍّ تتوفر فيه خدمات كاملة بمركز مجتمعي ومدرسة ابتدائية وحديقة عامة وروضة أطفال. أيضا سيكون هناك بعض أماكن الإقامة للعائلات التي تربّي الماشية، على الرغم من أن حركة المشاة سيتم فصلها عن حركة الحيوانات.
قبيل ثورة 14 تموز 1958 بستة عشر شهراً، وتحديداً في 16 آذار 1957، أعطى المجلس أخيرا إذناً لـ DA لدراسة مشروع إزالة الأحياء الفقيرة في شرق بغداد. كان الهدف الأساسي لهذا المشروع هو “توفير الفرص لسكان الصريفة الذين يعيشون خارج السد [الشرقي] لبغداد”. وأدرك دوكسياديس أن مسألة أراضي المدينة كانت في صميم عدم التساوي في الظروف المادية والسكنية في بغداد وستكون العائق الرئيسي أمام تنفيذ أي مخطط للإسكان. وشكل ذلك تحدياً خاصاً، لأن الاستحواذ على الأراضي لمشاريع إسكان ذوي الدخل المنخفض التي تموّلها الدولة كان مبنياً على حسابات سياسية بحتة. على سبيل المثال، عندما تمكنت شركة دوكسياديس من تأمين قطعة أرض يمكن من خلالها إعادة توطين المهاجرين ذوي الدخل المنخفض الذين كان من المقرر هدم مساكنهم، احتجت إدارة شرطة بغداد على القرار، بحجة أنه ينبغي تخصيص تلك الأرض بدلاً من ذلك لإسكان الشرطة. وبالتالي، كان الموقع المقترح لمشروع الإسكان في شرق بغداد موضع خلاف كبير، وتم دفعه في نهاية المطاف إلى الشمال الشرقي، بعيداً عن نظر الأسر ذات الدخل المتوسط والمرتفع – وحيث كان الوصول إلى الطرق المعبدة، أو شبكات النقل بالحافلات، أمراً صعباً، كان أيضاً وصول الكهرباء والمياه ضئيلاً.
بينما كانت إجراءات الاستحواذ على الأراضي لتطوير شرق بغداد قيد الحل، وهو أمر لن يتحقق لغاية أيلول 1958 -والذي، ودون علم الـDA آنذاك فقد حل بعد الثورة- ركزت الشركة على تنفيذ مخطط الإسكان التجريبي المكون من 120 منزلاً في غرب بغداد. كان هذا المشروع السكني للأسر ذات الدخل المنخفض التي يتراوح دخلها الشهري بين 20 و40 ديناراً عراقياً (حوالي 26 إلى 53 دولاراً أمريكياً). شريحة الدخل هذه وحدها استبعدت معظم “سكان الصريفة” من التقدّم بطلب للحصول على خطة الإسكان، إلى جانب المؤهلات الإضافية المطلوبة والتي تنص على أنه كان ينبغي أن يكون المتقدمون بالطلب مقيمين في العاصمة لمدة خمس سنوات على الأقل. علاوة على ذلك، تم تخصيص هذه المنازل للمسؤولين والموظفين العاملين في مختلف الوزارات في العراق.
ولكن على الرغم من أن هذه المنازل في مخطط تنمية غرب بغداد لم تكن مخصصة لـ “سكان الصريفة”، الذين ستتم إعادة توطينهم كجزء من مشروع إزالة الأحياء الفقيرة في شرق بغداد على المدى الطويل، كان من المفترض أن ينتج عن هذا المشروع دروسا وتوجيهات لأفضل الممارسات لكي يتم الاستفادة منها في تطوير مدينة الثورة. وكان مشروع غرب بغداد بمثابة مشروع تجريبي كان عليه أن يبين أن فعالية مشاريع الإسكان تستحق التكلفة السياسية لتهجير المهاجرين الريفيين ضد إرادتهم. في رسالة مؤرخة في 5 كانون الثاني 1959، قدم مساعد مهندس مقيم ملاحظاته عن الطرق التي قام بها أصحاب المنازل الجدد بتكييف وتعديل التصميم المعماري في غرب بغداد ليناسب احتياجاتهم. لقد ذكر، على سبيل المثال، أن السكان أضافوا أفران “تنور” لطهي الخبز على الأسطح، وأن الملابس والأطباق كانت تغسل في الشوارع بدلاً من الأفنية كما أراد المهندسون المعماريون. كما أشار إلى أن الحواجز المطلة على الساحات المجتمعية قد تم تعديلها من قبل السكان لتناسب احتياجاتهم، وأن المقاعد الإسمنتية والنوافير كانت في حالة سيئة.8
عندما وصل دوكسياديس لأول مرة إلى بغداد، كان قد انتقد مشاريع الإسكان السابقة التي بنتها وزارة الشؤون الاجتماعية لكونها سيئة التصميم، بناء على قيام السكان بإضافات إلى منازلهم. ربما كان مخطط الإسكان في غرب بغداد بحاجة أيضاً إلى تصميم أفضل يستجيب لاحتياجات الناس ورغباتهم الفعلية. أعطى مقال لكاتب مجهول نشر في مجلة المهندسين المعماريين في عام 1960 صوتا لمثل هذا النقد، حيث قيم عمل دوكسياديس غرب بغداد في ضوء محاضرته في المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين:
هل سبق له (دوكسياديس) أن وضع نفسه حقاً في موقف الرجل الذي يعيش في نسخة غرب بغداد التي صممها؟ يجب أن نصمم مناطق للأشخاص تعكس تنوعهم وخصوصيتهم وحاجتهم إلى الارتباط بمكان مألوف. الدكتور دوكسياديس لديه إطلالة على البارثينون من مكتبه. من واجبه الأخلاقي أن يوفر ما يعادل لذلك لـ(علي) الذي يسكن في هذا الحي من بغداد. وإلا فهو نبي كذاب آخر مثل بقيتهم. هل من المبالغة أن نطلب هذا من مهنة تفكر كثيرا وتعيش قليلا جداً؟9



يقع حي الثورة في الزاوية اليمنى العليا من خريطة حافلات مدينة بغداد هذه. مديرية النقل العام، بغداد، العراق، 1961
التطوير غير المكتمل لمدينة الثورة
بعد ثورة تموز عام 1958، واصلت حكومة عبد الكريم قاسم مشاريع الإسكان التابعة لمجلس التنمية ودوكسياديس، على الرغم من أن قاسم عيَّن مهندسين معماريين عراقيين، مثل رفعة الجادرجي وقحطان المدفعي، لقيادة المشاريع والإشراف عليها. وفي العام التالي، عندما نُفذت خطة تنمية شرق بغداد أخيراً، بُني 911 منزلاً فقط، ووُزعت على المهاجرين الريفيين ذوي الدخل المنخفض الذين خدموا كموظفين مدنيين. قُسمت بقية الأراضي المصادرة إلى قطع أراض مساحتها 144 متراً مربعاً ووُزعت على المهاجرين مقابل رسوم رمزية. أصدرت الحكومة تعليمات لسكان مدينة الثورة الجدد أن بإمكانهم بناء مساكن من القصب والطوب اللبن مؤقتاً على قطع أراضيهم الجديدة، لكن سيطلب منهم في النهاية بناء منازل من الطوب وفقاً “للتصاميم البسيطة” التي أعدتها سلطات الدولة.10
كان الهدف من اختيار قاسم للتسمية الثورية “مدينة الثورة” هو إحياء ذكرى نهاية حكم الملكية الهاشمية التي نصبتها بريطانيا والتي استمرت سبعة وثلاثين عاماً. والأهم من ذلك، أشاد الاسم بالسكان الأوائل في مدينة الثورة: المهاجرون الريفيون الذين أسفر نشاطهم لعقود من إضرابات واحتجاجات – والتي غالباً ما كانت بالتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي – إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للعاصمة بشكل جذري، وقلب التيار ضد النظام الملكي، كما بنى دعماً شعبياً لحكومة قاسم. ومع ذلك، نفذت حكومة قاسم أيضاً عدداً من التدابير المناهضة للهجرة.
وهكذا، في عام 1961، أصدرت الدولة توجيهاً يحظر استخدام القصب والطوب اللبن داخل الحدود البلدية للعاصمة وفرضت إزالة جميع هذه المستوطنات من العاصمة في أوائل عام 1963.
بحلول نهاية عام 1963، قامت السلطات المحلية، بمساعدة عسكرية في كثير من الأحيان لإخضاع أولئك الذين قاوموا، بنقل ما يقدر بنحو 55000 مهاجر إلى مستوطنات مخططة حديثاً. وعلى الرغم من دعمه الظاهري للمهاجرين، كانت أولوية قاسم الرئيسية هي توفير السكن لأولئك المهاجرين الذين عززوا المؤسسات التأديبية للدولة من خلال الخدمة في الجيش أو الشرطة، مما أدى إلى خفض قيمة المهاجرين الذين لم يتم توظيفهم بشكل مباشر من قبل الدولة.11
وخلافاً لاحتياجات المهاجرين وتفضيلاتهم، كانت مدينة الثورة تقع بعيداً عن الحيّ التجاري المركزي في بغداد، حيث كان يعمل العديد من سكان المستوطنة. كما أوصت شركة دوكسياديس أسوشيتس بإنشاء قناة عسكرية جديدة شرق نهر دجلة لغرض إعادة خلق الظروف المناخية الخاصة للنهر. ومع ذلك، كما فعل سد الفيضان الشرقي، فإن القناة خلقت عن غير قصد حاجزاً نفسياً ومادياً كبيراً وحددت مدينة الثورة كمنطقة فقيرة أخرى مقارنة بالعاصمة. وسيرافق القناة في وقت لاحق طريق سريع رئيسي يزيد من تعزيز الفجوة. على الرغم من أن إعادة توزيع قطع الأراضي والمساكن التي بالكاد تم تطويرها قد أفادت مادياً المهاجرين الأوائل الذين استقروا في مدينة الثورة، إلا أن الموجات اللاحقة من المهاجرين اضطرت إلى الاعتماد مرة أخرى على استراتيجيات احتلال الأراضي والبناء المستقل لإيجاد مكان لأنفسهم في العاصمة. توسعت مدينة الثورة اليوم إلى ما يقارب المئة قطاع، وأصبحت هي نفسها بمثابة مركز لعدد من المستوطنات غير الرسمية التي رحبت بالنازحين بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. 12
في 8 شباط 1963، قام ائتلاف من البعثيين والقوميين العرب بانقلاب ضد الحكومة الجمهورية، ما أدى إلى إعدام قاسم وتعيين اللواء أحمد حسن البكر رئيس وزراء العراق. كانت مدينة الثورة واحدة من المناطق الرئيسية التي قاومت الانقلاب، وربما يرجع ذلك جزئياً إلى ولاء سكانها لقاسم المخلوع، وأهملت حكومة بكر ونظام البعث اللاحق في عهد صدام حسين إلى حد كبير صيانة مدينة الثورة وتطويرها. المراكز المجتمعية وتوافر مياه الشرب وخدمات جمع القمامة وشبكات الطرق والمدارس والحدائق والحافلات التي وعدت بها خطة DA إما استغرقت عقوداً لإنجازها أو لم تتحقق أبداً.
بعد أكثر من عقدين من إنشائها، كانت ظروف مدينة الثورة سيئة لدرجة أن صدام حسين كلف المهندس المعماري العراقي معاذ الآلوسي بإجراء عملية إزالة الأحياء الفقيرة هناك وغير تسميّة مدينة الثورة إلى مدينة صدام. وصف الآلوسي مدينة صدام بأنها تحتوي على مساحات شاسعة من الإعمار منخفض الارتفاع وعالي الكثافة مع أزقة ضيقة وطرق مسدودة ومنازل اسمنتية رمادية. وعلى النقيض من ممارسات التخطيط الحداثي الطموحة للحكومتين الملكية والجمهورية، كان النهج البعثي هو تمويل عملية “المساعدة الذاتية” حيث يكون السكان مسؤولين عن تحسين (أي التنظيف والطلاء وكنس) المباني الخاصة بهم. وعلى الرغم من أن بلدية بغداد وفرت بعض الموارد الأساسية، إلا أن الإشراف الفني كان محدوداً، وكانت العملية لا مركزية إلى حد كبير. وقد أسفرت عملية التحسين الطفيفة هذه عن بعض التحسن التدريجي، لكن الافتقار المستمر منذ عقود إلى الاستثمار العام في البنية التحتية لا يزال أمراً تعاني منه مدينة الثورة / مدينة صدام / مدينة الصدر حتى يومنا هذا.
هذا العجز المؤسساتي وعجز البنية التحتية المستمر في مدينة الثورة، إلى جانب الانفصال الجغرافي عن وسط بغداد، خلق فرصة لشبكات المساعدة المتبادلة بين سكان المدينتين، فضلاً عن انتشار المنظمات الدينية الخيرية. بدلاً من المراكز المجتمعية والمساجد التي بنتها الدولة، بدأت المراكز الدينية الصغيرة والحسينيات13 في الانتشار في مدينة الثورة. كما بدأت جمعيات الرعاية الاجتماعية الشيعية و”الوكالات” (شبكات غير رسمية لجامعي الخمس) في سد الفجوة بتقديم الخدمات في مدينة الثورة.
يستمر هذا النمط من الإهمال حتى يومنا هذا. لم يقتصر الأمر على عدم معالجة مطالب المزارعين المظلومين من جنوب شرق العراق وأحفادهم بشكل كامل، بل قد تبدّلت المطالب أيضاً وتضاعفت بمرور الوقت حتى تجسيدها الأخير في ثورة تشرين 2019.
وعلى الرغم من أن المهاجرين الريفيين وأحفادهم قد هُمشوا ودُفعوا إلى الأطراف، إلا أنهم حولوا المستوطنات الطرفية إلى مواقع أساسية للمقاومة، ووفروا قواعد شعبية لدعم الشيوعيين والقوميين، وفي وقت لاحق، الإسلاميين الشيعة. كما كان التنظيم الذاتي هو المبدأ السائد في مستوطنات القصب والطوب اللبن، عليه فإن مدينة الثورة، ربما بدافع الضرورة، لا تزال مساحة للتنظيم الجماعي والمعارضة السياسية. وبالتالي، لا يمكن فهم التعبئة الشعبية في بغداد اليوم من خلال التركيز فقط على فترة ما بعد 2003 أو على الطائفية. بل تشكل هذه الحركات جزءاً من تاريخ أطول من الاحتجاجات في العراق مرتبط بالوعود غير المحققة لجهود التخطيط الاقتصادي والمكاني من الأعلى إلى الأسفل، والتي أثرت بشكل كبير على سكان بغداد الأكثر فقراً بالتحديد على مدى القرن الماضي.
استنتاج
ما أسماه المؤرخ حنا بطاطو “عمرنة” بغداد وخلق طبقة دُنيا حضرية قد حول بشكل أساسي المسار السياسي للعراق. أعادت تدخلات التخطيط الحضري تشكيل أنماط سابقة من الاستيطان على أسس طبقية أو عشائرية أو دينية، إلى أنماط يزعم أنها علمانية قائمة على أساس الفصل الطبقي القائم على فئات الدخل، والتي رسّخت عدم المساواة الاقتصادية جنباً إلى جنب مع المشهد الإسمنتي المتزايد في العاصمة. في كل من المخيلة الشعبية والنخبوية، لا تزال مستوطنات الصرائف التي تحوّلت إلى أحياء فقيرة حضرية موقعا للديستوبيا، تتسم بكونها منفصلة وأدنى. علاوة على ذلك، لا تزال مدينة الثورة/مدينة صدام/مدينة الصدر موقعاً للاحتجاج الشعبي، مما يشكل تحدياً لديناميكية قوية موجهة من المركز إلى الأطراف. وبهذه الطريقة، أصبح النسيج الحضري لمدينة الثورة/مدينة صدام/مدينة الصدر تجسيداً مادياً مجزأ لهوية وطنية عراقية غير ملموسة.
تتمثل إحدى طرق التغلب على هذا الانقسام في الاستماع مرة أخرى إلى الأصوات في الشارع: بدلاً من قمع المتظاهرين أو استمالة مطالبهم المادية، يمكن للحكومة العراقية أن تختار إعادة توزيع السلطة والثروة على مواطنيها المحرومين، الذين بنت حياتهم وعملهم الدولة العراقية. ونظراً للمأزق السياسي في العراق اليوم، فإن هذا المسار قد يكسر أخيراً حلقات السلب من الملكية والصراع السياسي لأجيال متعددة في البلاد.
اقرأ ايضاً
بعد عام واحد من ثورة تموز 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق، دشّنت حكومة عبد الكريم قاسم الجمهورية مدينة الثورة (المعروفة اليوم باسم مدينة الصدر) كحيٍّ في ضواحي شمال شرق بغداد. كانت مدينة الثورة تحتوي على خمسة أو ستة قطاعات في المخطط الأصلي، لكنها تضم اليوم ما يقارب المئة قطاع، وعلى الرغم من اختلاف التقديرات بهذا الصدد، إلا أنها تشكل موطناً لأكثر من 2.5 مليون شخص.
يُنظر إلى بناء مدينة الثورة على نطاق واسع في العراق على أنه عمل بطولي قام به قاسم: بناء مستوطنة سكنية نموذجية لاستيعاب آلاف المهاجرين الريفيين الذين كانوا يُعرَفون حتى ذلك الحين باسم “سكان الصريفة”، والذين كانوا يعيشون في أكواخ من القصب والطوب اللبن. أصبح المشروع رمزاً لعراق حديث وحضري، ولا يزال يشار إليه كنموذج لما يمكن أن تحققه التنمية الموجهة من قبل الحكومة في العراق.
لم تكن ولادة مدينة الثورة نتيجة فعل خير ناجم عن زعيم شعبوي، ولا يمكن أن تُعدّ نموذجاً لمشاريع تنموية موجهة من الأعلى نحو الأدنى في العراق. يجادل هذا المقال بأن المهاجرين الذين جاؤوا إلى بغداد بين أوائل ومنتصف القرن العشرين، وبشكل أساسي من المحافظات الجنوبية الشرقية، قد شكلوا طبقة مدنية / حضرية دُنيا صامدة والتي على مدى العقود الثمانية الماضية قد نظمت بشكل جماعي حركات سياسية محلية وجماهيرية أدت مطالبها إلى تحسين الأجور والتخطيط الحضري ومشاريع الإسكان – بما في ذلك داخل مدينة الثورة-. وعلى الرغم من أن مدينة الثورة أنشئت استجابة لتنظيمات العمال وإضراباتهم واحتجاجاتهم على مدى سنوات، إلا أنها لم تصمم بالتعاون مع أولئك الذين سيقيمون هناك في نهاية المطاف.
تميّز إنشاء مدينة الثورة في الواقع بنزع عنيف لملكية الأراضي في ضواحي بغداد، ما أدى إلى نزوح جماعي للمزارعين الريفيين إلى العاصمة. كما أدى افتقار هذا الحي إلى الخدمات الأساسية، مثل شبكات المياه والكهرباء والنقل، إلى تفاقم عدم المساواة الاقتصادية وترسخ أنماط الفصل الجغرافي الطبقي. أدى هذا الحرمان ونزع الملكية إلى أن تصبح مدينة الثورة مركزاً صامدا للحركات الاجتماعية الجماهيرية. وما فتئ ذلك مستمراً حتى يومنا هذا، كما كان الحال عندما انضم كثير من سكان مدينة الصدر للاحتجاجات في تشرين الأول 2019 التي عمّت جميع أنحاء البلاد، ضد النخبة السياسية الفاسدة في البلاد والمطالبة بوظائف وأجور أفضل، مياه نظيفة، كهرباء، وإسكان، فضلاً عن إعادة هيكلة النظام السياسي ما بعد 2003.
تشكيل طبقة دُنيا حضرية: “عمرنة” بغداد
تميّز القرن العشرون في العراق بنزوح جماعيّ كبير، حيث انتقل آلاف المزارعين من الريف، وخاصة من جنوب شرق العراق، إلى المدن هروباً من الظروف القاسية في محافظات مثل العمارة والكوت. كان فقر وجوع المهاجرين شديدين لدرجة أنهم غالباً ما كانوا يأكلون التمر مع البذور لأنهم لم يكونوا ليستغنوا على أي شيء ذي قيمة غذائية. على الرغم من أن الهجرة الداخلية زادت خلال فترة سلطة الانتداب البريطاني على العراق (1921-1932)، فقد وصلت معدلاتها إلى ذروتها في الخمسينات، إذ قدّر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الهلالي أن الهجرة من محافظة العمارة إلى بغداد كانت بمعدل “عشر شاحنات في اليوم الواحد”.1 أشار سكان بغداد المخضرمون باستخفاف إلى هؤلاء المهاجرين باسم الشروگ (“الشروگيون”، الجمع العامي شروگية)، وهو مصطلح عزز شكلاً من أشكال التمييز الجغرافي. وقد وصف المؤرخ حنا بطاطو هذه الظاهرة على أنها “عمرنة” بغداد أو تحوّل بغداد إلى العمْارة.2
كان هذا النزوح الجماعي من الريف محورياً في خلق طبقة دُنيا حضرية في المدن الكبرى مثل بغداد والبصرة قبل ثورة 1958. كان الفصل الجغرافي بين الطبقات واضحاً بصرياً، حيث قام المهاجرون بتكييف حصيرة القصب المعتادة والهندسة المعمارية من الطوب اللبن المستخدمة في جنوب شرق العراق مع الظروف المادية والمناخية والهيدروليكية في العاصمة. تمت الإشارة إلى هذه المساكن بشكل غير دقيق في الاختزال البيروقراطي على أنها مستوطنات “الصرائف” – بما يعني تقريباً أكواخ القصب – دليلاً على عدم ثباتها. وكان يشار إلى سكانها باسم سكان الصريفة في المنشورات الحكومية والصحفية التي تصدر عادة باللغة الإنجليزية. يصور هذا المصطلح العربي-الإنجليزي الهجين والغريب المهاجرين الريفيين على أنهم في الأساس طبقة اجتماعية حضرية جديدة. كما أنه يماثل بشكل مباشر مصطلح “سكان الأحياء الفقيرة” (Slum-Dweller) المستخدم في أوروبا وأمريكا الشمالية.
استخدم المهاجرون الريفيون -سواء الذين هاجروا طواعية أو مَنْ نُزِعت منهم منازلهم بالقوة- استراتيجيات احتلال الأراضي في العاصمة لإنشاء مدينة معقدة ومتنامية حيث يمكن للفرد العثور على قطعة أرض بمساعدة الأقارب والجيران، وبناء مسكن يلبي احتياجاتهم الأساسية للمأوى. حكمت مجموعة من الممارسات العرفية ترتيبات حيازة الأراضي بين مؤسسات الدولة ومُلّاك الأراضي من الأفراد والأسر المهاجرة. وجدت أنظمة راسخة للمساعدة المتبادلة بين السكان، كما سمح الشكل المعماري لغرف القصب والطوب اللبن المتجمعة حول ساحات مشتركة لمرافق الغسيل والطهي بتسهيل ترتيبات المعيشة وبناء أو هدم الغرف عند وصول أفراد مهاجرين جدد أو مغادرتهم أو ولادة الأطفال.3



وخلافاً للتأكيدات القائلة بأن المهاجرين كانوا تقليديين وغير مواكبين للحداثة، فإنهم لم يكونوا مجموعة متشابهة. تردّد الكثير منهم على دور السينما والمقاهي، إضافة إلى المشاركة في أشكال متعدّدة من الارتباط الرومنسي والجنسي، بما في ذلك زيارة بيوت الدعارة. على الرغم من أن النساء المهاجرات ربما لم يرتدين بدلات التنورة العصرية، إلا أنهن كن منخرطات بشكل كبير في النشاط الاقتصادي: فقد كن عنصراً أساسياً في إنتاج الألبان ومشتقاتها، على سبيل المثال، وذهبن مع أطفالهن وحيواناتهن إلى الأحياء الغنية كل صباح لبيع الحليب الطازج وغيرها من المواد.
غالباً ما تضمنت مستوطنات المهاجرين مناطق منفصلة، ولكنها متداخلة، للاستخدامات السكنية والتجارية ولتربية الحيوانات. فالمهاجرون من الأهوار الجنوبية الشرقية، على سبيل المثال، غالباً ما يسكنون مناطق مختلفة عن مناطق توطين المهاجرين الأخرى. تميّزت هذه المناطق بأحواش مفتوحة كبيرة وبناء معماري مصنوع من التراب (بنية أرضية)، وبيوت من حصائر القصب، وبرك خوض قريبة للجاموس – كلها تتحدى التصنيفات الصارمة لما يعتبر على أنه مناطق حضرية مقابل الريفية. استخدمت هذه العائلات السهول الفيضية وقنوات المياه والخنادق المحفورة لإعادة إنشاء السمات البيئية للأراضي الرطبة التي تركوها وراءهم والتي تدعم سبل عيشهم التي ترتكز على الجاموس، في العاصمة. نتيجة لذلك، شكل الجاموس وسيارة الشيفروليه، جنبا إلى جنب، مع حصائر القصب والإسمنت، المنظر الطبيعي لعاصمة تتمدّن سريعاً.
ومع ذلك، استمرّ عدم المساواة الاقتصادية بين أولئك الذين يعيشون في مستوطنات المهاجرين وأولئك الذين يعيشون في فيلات في ضواحي بغداد الجديدة في النمو، وساهم في خلق ثقافة التنظيم الجماعي بين سكان العاصمة الأشد فقراً.
شكلت الإضرابات العمالية الحركات السياسية العراقية بعد الاستقلال وأثرت أيضاً في التحوّل المكاني لمدينة بغداد، حيث طالب العمال عام 1940 بخفض بدلات الإيجار، ونقل مجانيّ، والحق في إشغال الأرض، فضلاً عن أنظمة أكثر ديمومة للإسكان. وكثيراً ما لبَّت السلطات هذه المطالب، لأن العمال المضربين كانوا قادرين على إلحاق الضرر بالاقتصاد العراقي من خلال شلّ نشاط الشركات والبنية التحتية الرئيسية، مثل مصانع الطوب وشركات النفط والسكك الحديدية وشركات النسيج. كان المزارعون والمهاجرون الريفيون أعضاء أساسيين وذوي رتب منخفضة في الجيش والشرطة والخدمة المدنية وكانوا يعملون بأعداد كبيرة في صناعات البناء والألبان والنخيل والشحن والنفط: لقد كانوا البنية التحتية البشرية التي بنت الدولة العراقية ودعمتها.
في تشرين الثاني عام 1952، تحوّلت سلسلة من الإضرابات الصغيرة إلى حركة احتجاج ضخمة، تُذكر في تاريخ العراق باسم الانتفاضة. كانت الانتفاضة انتصاراً للجماهير المحتجّة لأنها أدت إلى إضفاء ضوابط على سقوف الأسعار وإلغاء ضرائب الاستهلاك على الفواكه والخضراوات. في محاولة لاسترضاء الطلاب المحتجّين، أُلغيت الرسوم الدراسية الجامعية أيضاً. كما خفّضت الحكومة رسوم الاستيراد من 40 إلى 10 بالمئة على المواد التي يستهلكها المهاجرون الريفيون بكثافة، مثل الشاي والسكر والسلع القطنية.4 بدأ طلاب المدارس الابتدائية ذوو الدخل المنخفض في تلقي الطعام والملابس مجاناً، بينما تلقى جميع الطلاب كتباً ومستلزمات قرطاسية مجانية. كانت معظم هذه التنازلات موجهة إلى الطبقات الأكثر فقراً في بغداد، ما يعكسُ تخوّفَ النخبةِ الحاكمة العراقية من الإمكانات الثورية للمهاجرين في العاصمة، الذين شبهت النخبة الحاكمة ظروفهم المادية بالبروليتاريا الرثة (الفئات الدنيا) في فرنسا عام 1789.
مجلس الإعمار والتصميم الحضري
في عام 1950، أنشأ البرلمان العراقي مجلس الإعمار لإدارة 70 بالمئة من عائدات امتيازات النفط العراقية وتصميم والإشراف على تنفيذ جميع مشاريع التنمية، مثل السدود الكهرومائية والطرق ومشاريع الري. وأنشأ المجلس هيكلا ماليا موازيا للمؤسسات الحكومية العراقية، بالنظر إلى أن عائدات النفط ستودع في الحساب المنفصل لمجلس الاعمار في المصرف الأهلي العراقي5. على الرغم من أن المجلس كان يرأسه رئيس الوزراء، إلا أنه كان يتألف أيضاً من عشرة أعضاء معيّنين وثلاثة أعضاء بحكم مناصبهم. كان الأعضاء إلى حدٍّ كبير من المسؤولين في الحكومة وخبراء القطاع الخاص (غالباً ما كانوا مستشارين بريطانيين وأمريكيين) قادوا أربعة أقسام فنية تغطي الري والصناعة والنقل والتنمية الزراعية. وبالنظر إلى هذه التشكيلة، سمح إنشاء المجلس بالاستيلاء على عائدات النفط العراقي من قبل الشركات البريطانية والأمريكية التي سعت إلى الحصول على مركز تفضيلي كمتعاقدين بتنفيذ مشاريع الاستثمار الرأسمالي الضخمة للمجلس، مثل خطط السيطرة على الفيضانات.
في عام 1956، تم الانتهاء من مخطط وادي الثرثار الذي كان أحد أولويات المجلس للسيطرة على الفيضانات. وكاد المشروع أن يقضي على التهديد الوجودي للفيضانات الدائمة التي ابتليت بها بغداد لقرونٍ عدة. كان الهدف من المشروع هو توفير 125000 كيلوواط من الطاقة الكهربائية وري 200000 إلى 300000 فدان من الأراضي. كما سمح بالتوسع الشرقي للعاصمة، والذي كان قبل المشروع قد اقتصر على حدود نظام معقد من سدود الفيضانات. كما هو متوقع، في منتصف الخمسينات مباشرة، قبل الانتهاء من مشروع وادي الثرثار، عيَّن مجلس التنمية العراقي وأمين بغداد شركتين منفصلتين للتخطيط الحضري لإنشاء المخطط العام للمدينة، متطلعين الى التوسع الجانبي لبغداد.
بموازاة ذلك، وفي عام 1954 جرى تعيين مينوبريو وسبينسلي وماكفارلين، وهم استشاريون بريطانيون للهندسة المعمارية وتخطيط المدن يعرفون باختصار (MSM)، لتطوير خطة رئيسية للعاصمة.
وصفت خطة MSM مستوطنات المهاجرين المصنوعة من القصب ومن الطوب اللبن على أنها “مشكلة اجتماعية إنسانية” لا يمكن معالجتها ببساطة من خلال نهج تكنوقراطي للبنية التحتية المادية للمدينة:
إن توفير طرق جديدة لحركة المرور سيحل مشكلة ميكانيكية في الأساس. ولكن توفير منازل جديدة، وتطهير المناطق الفقيرة، وتخفيف الاكتظاظ المفرط، هي في المقام الأول مشكلة اجتماعية إنسانية. مهما أصبحت المدينة فعّالة ميكانيكياً، مهما كانت مبانيها الجديدة مهيبة، ما لم يكن من الممكن تحسين ظروف الإسكان بشكل جذري، فإنها ستكون مجرد واجهة وخدعة، تخفي قرحة ستظهر يوماً ما على شكل سخط واضطرابات اجتماعية6.
(تم استكمال عملية التخطيط العامة لـMSM بخطط رئيسية لاحقة تم تطويرها في عام 1957 من قبل Doxiadis Associates وفي السبعينيات من قبل Polservice)
وهكذا كان المستقبل السياسي لبغداد مبنياً على النزوح الجماعي وإعادة توطين مستوطنات المهاجرين، وخاصة تلك الواقعة خلف سد الفيضان الشرقي الذي سيصبح عقاراً رئيسياً لتوسيع ضواحي بغداد بعد الانتهاء من مشروع وادي الثرثار. وجادل MSM بأن تحسين ظروف السكن في بغداد والاستقرار السياسي في المدينة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً.
دوكسياديس والبرنامج الوطني للإسكان
اتفق المستشارون الأجانب في مجلس الإعمار، مثل عضو البرلمان البريطاني السابق ومن أوائل المدافعين عن حكومة وحدوية أوروبية اللورد آرثر سالتر، على أنه من الضروري تمويل مشاريع الإسكان لتخفيف الاضطرابات الاجتماعية بين الطبقات “الخطيرة سياسيا” من السكان – أي المهاجرين الريفيين:
هناك استياء قوي وواسع النطاق ضد مجلس الإعمار بين العديد من فئات السكان (وخاصة تلك التي من المرجّح أن تتأثر بالدعاية التخريبية وأن تكون خطيرة سياسيا)… لذلك هناك دافع قوي للإنفاق الكبير من النوع الذي سيحقق فوائد سريعة ومرئية، من بينها السكن، وأنظمة المياه النقية، والمساعدة التفصيلية والفورية للزراعة وتربية الحيوانات.7
لذلك في عام 1955، وهو العام نفسه، الذي نشر فيه سالتر كتابه “تنمية العراق: خطة عمل”، قرّر المجلس توظيف المهندس المعماري اليوناني ومخطط المدن كونستانتينوس أ. دوكسياديس للقضاء على جميع منازل حصير القصب ومنازل الطوب اللبن في بغداد وفي جميع أنحاء العراق كجزء من برنامج إسكان وطني طموح. كما أضاف المجلس قسماً فنياً خامساً مخصصاً للإسكان، والذي سيشرف عليه Doxiadis Associates (DA) ويقدم المشورة بشأن تصميم المساكن وحيازة الأراضي، والمواد، والعمالة، والتمويل.



بدأ برنامج الإسكان بخطة خمسية تسمى البرنامج التأسيسي المبدئي (1956-1962) استهدفت 256000 أسرة. امتدَّ برنامج الإسكان الشامل لمدة خمسة وعشرين عاماً وكان يسمى البرنامج العظيم. من أجل بناء منازل جديدة للمهاجرين الريفيين، تعيّن على DA تهجير “سكان الصريفة” من الأراضي التي يشغلونها. لكن هذا التهجير جاء مع وعد بإعادة توطين المهاجرين على الأرض نفسها أو على أراضٍ قريبة، إما في منازل من الطوب والإسمنت بنتها الدولة أو على قطع أرض يمتلكونها ويمكنهم بناء مساكنهم الجديدة عليها ويتم دمج حياتهم في حيٍّ تتوفر فيه خدمات كاملة بمركز مجتمعي ومدرسة ابتدائية وحديقة عامة وروضة أطفال. أيضا سيكون هناك بعض أماكن الإقامة للعائلات التي تربّي الماشية، على الرغم من أن حركة المشاة سيتم فصلها عن حركة الحيوانات.
قبيل ثورة 14 تموز 1958 بستة عشر شهراً، وتحديداً في 16 آذار 1957، أعطى المجلس أخيرا إذناً لـ DA لدراسة مشروع إزالة الأحياء الفقيرة في شرق بغداد. كان الهدف الأساسي لهذا المشروع هو “توفير الفرص لسكان الصريفة الذين يعيشون خارج السد [الشرقي] لبغداد”. وأدرك دوكسياديس أن مسألة أراضي المدينة كانت في صميم عدم التساوي في الظروف المادية والسكنية في بغداد وستكون العائق الرئيسي أمام تنفيذ أي مخطط للإسكان. وشكل ذلك تحدياً خاصاً، لأن الاستحواذ على الأراضي لمشاريع إسكان ذوي الدخل المنخفض التي تموّلها الدولة كان مبنياً على حسابات سياسية بحتة. على سبيل المثال، عندما تمكنت شركة دوكسياديس من تأمين قطعة أرض يمكن من خلالها إعادة توطين المهاجرين ذوي الدخل المنخفض الذين كان من المقرر هدم مساكنهم، احتجت إدارة شرطة بغداد على القرار، بحجة أنه ينبغي تخصيص تلك الأرض بدلاً من ذلك لإسكان الشرطة. وبالتالي، كان الموقع المقترح لمشروع الإسكان في شرق بغداد موضع خلاف كبير، وتم دفعه في نهاية المطاف إلى الشمال الشرقي، بعيداً عن نظر الأسر ذات الدخل المتوسط والمرتفع – وحيث كان الوصول إلى الطرق المعبدة، أو شبكات النقل بالحافلات، أمراً صعباً، كان أيضاً وصول الكهرباء والمياه ضئيلاً.
بينما كانت إجراءات الاستحواذ على الأراضي لتطوير شرق بغداد قيد الحل، وهو أمر لن يتحقق لغاية أيلول 1958 -والذي، ودون علم الـDA آنذاك فقد حل بعد الثورة- ركزت الشركة على تنفيذ مخطط الإسكان التجريبي المكون من 120 منزلاً في غرب بغداد. كان هذا المشروع السكني للأسر ذات الدخل المنخفض التي يتراوح دخلها الشهري بين 20 و40 ديناراً عراقياً (حوالي 26 إلى 53 دولاراً أمريكياً). شريحة الدخل هذه وحدها استبعدت معظم “سكان الصريفة” من التقدّم بطلب للحصول على خطة الإسكان، إلى جانب المؤهلات الإضافية المطلوبة والتي تنص على أنه كان ينبغي أن يكون المتقدمون بالطلب مقيمين في العاصمة لمدة خمس سنوات على الأقل. علاوة على ذلك، تم تخصيص هذه المنازل للمسؤولين والموظفين العاملين في مختلف الوزارات في العراق.
ولكن على الرغم من أن هذه المنازل في مخطط تنمية غرب بغداد لم تكن مخصصة لـ “سكان الصريفة”، الذين ستتم إعادة توطينهم كجزء من مشروع إزالة الأحياء الفقيرة في شرق بغداد على المدى الطويل، كان من المفترض أن ينتج عن هذا المشروع دروسا وتوجيهات لأفضل الممارسات لكي يتم الاستفادة منها في تطوير مدينة الثورة. وكان مشروع غرب بغداد بمثابة مشروع تجريبي كان عليه أن يبين أن فعالية مشاريع الإسكان تستحق التكلفة السياسية لتهجير المهاجرين الريفيين ضد إرادتهم. في رسالة مؤرخة في 5 كانون الثاني 1959، قدم مساعد مهندس مقيم ملاحظاته عن الطرق التي قام بها أصحاب المنازل الجدد بتكييف وتعديل التصميم المعماري في غرب بغداد ليناسب احتياجاتهم. لقد ذكر، على سبيل المثال، أن السكان أضافوا أفران “تنور” لطهي الخبز على الأسطح، وأن الملابس والأطباق كانت تغسل في الشوارع بدلاً من الأفنية كما أراد المهندسون المعماريون. كما أشار إلى أن الحواجز المطلة على الساحات المجتمعية قد تم تعديلها من قبل السكان لتناسب احتياجاتهم، وأن المقاعد الإسمنتية والنوافير كانت في حالة سيئة.8
عندما وصل دوكسياديس لأول مرة إلى بغداد، كان قد انتقد مشاريع الإسكان السابقة التي بنتها وزارة الشؤون الاجتماعية لكونها سيئة التصميم، بناء على قيام السكان بإضافات إلى منازلهم. ربما كان مخطط الإسكان في غرب بغداد بحاجة أيضاً إلى تصميم أفضل يستجيب لاحتياجات الناس ورغباتهم الفعلية. أعطى مقال لكاتب مجهول نشر في مجلة المهندسين المعماريين في عام 1960 صوتا لمثل هذا النقد، حيث قيم عمل دوكسياديس غرب بغداد في ضوء محاضرته في المعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين:
هل سبق له (دوكسياديس) أن وضع نفسه حقاً في موقف الرجل الذي يعيش في نسخة غرب بغداد التي صممها؟ يجب أن نصمم مناطق للأشخاص تعكس تنوعهم وخصوصيتهم وحاجتهم إلى الارتباط بمكان مألوف. الدكتور دوكسياديس لديه إطلالة على البارثينون من مكتبه. من واجبه الأخلاقي أن يوفر ما يعادل لذلك لـ(علي) الذي يسكن في هذا الحي من بغداد. وإلا فهو نبي كذاب آخر مثل بقيتهم. هل من المبالغة أن نطلب هذا من مهنة تفكر كثيرا وتعيش قليلا جداً؟9



يقع حي الثورة في الزاوية اليمنى العليا من خريطة حافلات مدينة بغداد هذه. مديرية النقل العام، بغداد، العراق، 1961
التطوير غير المكتمل لمدينة الثورة
بعد ثورة تموز عام 1958، واصلت حكومة عبد الكريم قاسم مشاريع الإسكان التابعة لمجلس التنمية ودوكسياديس، على الرغم من أن قاسم عيَّن مهندسين معماريين عراقيين، مثل رفعة الجادرجي وقحطان المدفعي، لقيادة المشاريع والإشراف عليها. وفي العام التالي، عندما نُفذت خطة تنمية شرق بغداد أخيراً، بُني 911 منزلاً فقط، ووُزعت على المهاجرين الريفيين ذوي الدخل المنخفض الذين خدموا كموظفين مدنيين. قُسمت بقية الأراضي المصادرة إلى قطع أراض مساحتها 144 متراً مربعاً ووُزعت على المهاجرين مقابل رسوم رمزية. أصدرت الحكومة تعليمات لسكان مدينة الثورة الجدد أن بإمكانهم بناء مساكن من القصب والطوب اللبن مؤقتاً على قطع أراضيهم الجديدة، لكن سيطلب منهم في النهاية بناء منازل من الطوب وفقاً “للتصاميم البسيطة” التي أعدتها سلطات الدولة.10
كان الهدف من اختيار قاسم للتسمية الثورية “مدينة الثورة” هو إحياء ذكرى نهاية حكم الملكية الهاشمية التي نصبتها بريطانيا والتي استمرت سبعة وثلاثين عاماً. والأهم من ذلك، أشاد الاسم بالسكان الأوائل في مدينة الثورة: المهاجرون الريفيون الذين أسفر نشاطهم لعقود من إضرابات واحتجاجات – والتي غالباً ما كانت بالتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي – إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للعاصمة بشكل جذري، وقلب التيار ضد النظام الملكي، كما بنى دعماً شعبياً لحكومة قاسم. ومع ذلك، نفذت حكومة قاسم أيضاً عدداً من التدابير المناهضة للهجرة.
وهكذا، في عام 1961، أصدرت الدولة توجيهاً يحظر استخدام القصب والطوب اللبن داخل الحدود البلدية للعاصمة وفرضت إزالة جميع هذه المستوطنات من العاصمة في أوائل عام 1963.
بحلول نهاية عام 1963، قامت السلطات المحلية، بمساعدة عسكرية في كثير من الأحيان لإخضاع أولئك الذين قاوموا، بنقل ما يقدر بنحو 55000 مهاجر إلى مستوطنات مخططة حديثاً. وعلى الرغم من دعمه الظاهري للمهاجرين، كانت أولوية قاسم الرئيسية هي توفير السكن لأولئك المهاجرين الذين عززوا المؤسسات التأديبية للدولة من خلال الخدمة في الجيش أو الشرطة، مما أدى إلى خفض قيمة المهاجرين الذين لم يتم توظيفهم بشكل مباشر من قبل الدولة.11
وخلافاً لاحتياجات المهاجرين وتفضيلاتهم، كانت مدينة الثورة تقع بعيداً عن الحيّ التجاري المركزي في بغداد، حيث كان يعمل العديد من سكان المستوطنة. كما أوصت شركة دوكسياديس أسوشيتس بإنشاء قناة عسكرية جديدة شرق نهر دجلة لغرض إعادة خلق الظروف المناخية الخاصة للنهر. ومع ذلك، كما فعل سد الفيضان الشرقي، فإن القناة خلقت عن غير قصد حاجزاً نفسياً ومادياً كبيراً وحددت مدينة الثورة كمنطقة فقيرة أخرى مقارنة بالعاصمة. وسيرافق القناة في وقت لاحق طريق سريع رئيسي يزيد من تعزيز الفجوة. على الرغم من أن إعادة توزيع قطع الأراضي والمساكن التي بالكاد تم تطويرها قد أفادت مادياً المهاجرين الأوائل الذين استقروا في مدينة الثورة، إلا أن الموجات اللاحقة من المهاجرين اضطرت إلى الاعتماد مرة أخرى على استراتيجيات احتلال الأراضي والبناء المستقل لإيجاد مكان لأنفسهم في العاصمة. توسعت مدينة الثورة اليوم إلى ما يقارب المئة قطاع، وأصبحت هي نفسها بمثابة مركز لعدد من المستوطنات غير الرسمية التي رحبت بالنازحين بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. 12
في 8 شباط 1963، قام ائتلاف من البعثيين والقوميين العرب بانقلاب ضد الحكومة الجمهورية، ما أدى إلى إعدام قاسم وتعيين اللواء أحمد حسن البكر رئيس وزراء العراق. كانت مدينة الثورة واحدة من المناطق الرئيسية التي قاومت الانقلاب، وربما يرجع ذلك جزئياً إلى ولاء سكانها لقاسم المخلوع، وأهملت حكومة بكر ونظام البعث اللاحق في عهد صدام حسين إلى حد كبير صيانة مدينة الثورة وتطويرها. المراكز المجتمعية وتوافر مياه الشرب وخدمات جمع القمامة وشبكات الطرق والمدارس والحدائق والحافلات التي وعدت بها خطة DA إما استغرقت عقوداً لإنجازها أو لم تتحقق أبداً.
بعد أكثر من عقدين من إنشائها، كانت ظروف مدينة الثورة سيئة لدرجة أن صدام حسين كلف المهندس المعماري العراقي معاذ الآلوسي بإجراء عملية إزالة الأحياء الفقيرة هناك وغير تسميّة مدينة الثورة إلى مدينة صدام. وصف الآلوسي مدينة صدام بأنها تحتوي على مساحات شاسعة من الإعمار منخفض الارتفاع وعالي الكثافة مع أزقة ضيقة وطرق مسدودة ومنازل اسمنتية رمادية. وعلى النقيض من ممارسات التخطيط الحداثي الطموحة للحكومتين الملكية والجمهورية، كان النهج البعثي هو تمويل عملية “المساعدة الذاتية” حيث يكون السكان مسؤولين عن تحسين (أي التنظيف والطلاء وكنس) المباني الخاصة بهم. وعلى الرغم من أن بلدية بغداد وفرت بعض الموارد الأساسية، إلا أن الإشراف الفني كان محدوداً، وكانت العملية لا مركزية إلى حد كبير. وقد أسفرت عملية التحسين الطفيفة هذه عن بعض التحسن التدريجي، لكن الافتقار المستمر منذ عقود إلى الاستثمار العام في البنية التحتية لا يزال أمراً تعاني منه مدينة الثورة / مدينة صدام / مدينة الصدر حتى يومنا هذا.
هذا العجز المؤسساتي وعجز البنية التحتية المستمر في مدينة الثورة، إلى جانب الانفصال الجغرافي عن وسط بغداد، خلق فرصة لشبكات المساعدة المتبادلة بين سكان المدينتين، فضلاً عن انتشار المنظمات الدينية الخيرية. بدلاً من المراكز المجتمعية والمساجد التي بنتها الدولة، بدأت المراكز الدينية الصغيرة والحسينيات13 في الانتشار في مدينة الثورة. كما بدأت جمعيات الرعاية الاجتماعية الشيعية و”الوكالات” (شبكات غير رسمية لجامعي الخمس) في سد الفجوة بتقديم الخدمات في مدينة الثورة.
يستمر هذا النمط من الإهمال حتى يومنا هذا. لم يقتصر الأمر على عدم معالجة مطالب المزارعين المظلومين من جنوب شرق العراق وأحفادهم بشكل كامل، بل قد تبدّلت المطالب أيضاً وتضاعفت بمرور الوقت حتى تجسيدها الأخير في ثورة تشرين 2019.
وعلى الرغم من أن المهاجرين الريفيين وأحفادهم قد هُمشوا ودُفعوا إلى الأطراف، إلا أنهم حولوا المستوطنات الطرفية إلى مواقع أساسية للمقاومة، ووفروا قواعد شعبية لدعم الشيوعيين والقوميين، وفي وقت لاحق، الإسلاميين الشيعة. كما كان التنظيم الذاتي هو المبدأ السائد في مستوطنات القصب والطوب اللبن، عليه فإن مدينة الثورة، ربما بدافع الضرورة، لا تزال مساحة للتنظيم الجماعي والمعارضة السياسية. وبالتالي، لا يمكن فهم التعبئة الشعبية في بغداد اليوم من خلال التركيز فقط على فترة ما بعد 2003 أو على الطائفية. بل تشكل هذه الحركات جزءاً من تاريخ أطول من الاحتجاجات في العراق مرتبط بالوعود غير المحققة لجهود التخطيط الاقتصادي والمكاني من الأعلى إلى الأسفل، والتي أثرت بشكل كبير على سكان بغداد الأكثر فقراً بالتحديد على مدى القرن الماضي.
استنتاج
ما أسماه المؤرخ حنا بطاطو “عمرنة” بغداد وخلق طبقة دُنيا حضرية قد حول بشكل أساسي المسار السياسي للعراق. أعادت تدخلات التخطيط الحضري تشكيل أنماط سابقة من الاستيطان على أسس طبقية أو عشائرية أو دينية، إلى أنماط يزعم أنها علمانية قائمة على أساس الفصل الطبقي القائم على فئات الدخل، والتي رسّخت عدم المساواة الاقتصادية جنباً إلى جنب مع المشهد الإسمنتي المتزايد في العاصمة. في كل من المخيلة الشعبية والنخبوية، لا تزال مستوطنات الصرائف التي تحوّلت إلى أحياء فقيرة حضرية موقعا للديستوبيا، تتسم بكونها منفصلة وأدنى. علاوة على ذلك، لا تزال مدينة الثورة/مدينة صدام/مدينة الصدر موقعاً للاحتجاج الشعبي، مما يشكل تحدياً لديناميكية قوية موجهة من المركز إلى الأطراف. وبهذه الطريقة، أصبح النسيج الحضري لمدينة الثورة/مدينة صدام/مدينة الصدر تجسيداً مادياً مجزأ لهوية وطنية عراقية غير ملموسة.
تتمثل إحدى طرق التغلب على هذا الانقسام في الاستماع مرة أخرى إلى الأصوات في الشارع: بدلاً من قمع المتظاهرين أو استمالة مطالبهم المادية، يمكن للحكومة العراقية أن تختار إعادة توزيع السلطة والثروة على مواطنيها المحرومين، الذين بنت حياتهم وعملهم الدولة العراقية. ونظراً للمأزق السياسي في العراق اليوم، فإن هذا المسار قد يكسر أخيراً حلقات السلب من الملكية والصراع السياسي لأجيال متعددة في البلاد.